الخميس، 23 أبريل 2015

حضور بول ريكور

عبد السلام محمد طويل

يكتسي الكتاب موضوع القراءة حضور بول ريكور أهمية خاصة بالنظر إلى الاعتبارات التالية :
أولا : أن هذا الكتاب ، بغض النظر عن طابعه الاحتفائي ، يمثل نموذجا جيدا لعملية التواصل والتفاعل الثقافي والفلسفي بين العالمين العربي والغربي ، وهو تواصل موصول عبر نصف قرن وليس استجابة فورية لما يجري من حديث إيديولوجي حول صراع أو حوار الحضارات أو الثقافات.
ثانيا : أن المشروع الفلسفي لبول ريكور يعد من أكثر المشاريع الفكرية الغربية صلة بواقع الثقافة العربية الإسلامية من حيث اشتغاله أساسا على التأويل وتحليل الخطاب، والقضايا الانطولوجية . وهو ما قد يسعف المجتمع العربي بصدد سعيه لتجديد مختلف مظاهر وأنماط خطابه الثقافي دينية كانت أو غير دينية .. وكذلك من حيث موقفه المتوازن فيما يتصل بإشكالية العلاقة بين الحداثة والتراث ، وكذا رؤيته الإيجابية للدين والظاهرة الدينية .. وهو بهذا يؤسس لنزعة إنسانية كونية بالغة الانفتاح والتسامح . فضلا عن قيامه على منظور منهجي ومعرفي ينطلق من حتمية التفاعل بين مختلف فروع المعرفة الإنسانية والاجتماعية للوصول إلى إجابات مرضية حول الأسئلة الأنطولوجية الكبري .
وابتداء يمكن تصنيف أبحاث هذا المؤلف الجماعي من حيث طريقة وخلفية المقاربة إلى نمطين رئيسيين : نمط يغلب عليه الطابع الاحتفائي التكريمي وهو ما ينسجم مع مناسبة إصدار هذا الكتاب من طرف مجموعة من أساتذة الفلسفة في الوطن العربي تتلمذوا خلال الخمسينات والستينات على يد بول ريكور واستمر اهتمامهم وتواصلهم قائما مع مشروعه الفلسفي ، ومن هنا ينبع احتفائهم به إلى جانب باحثين فرنسيين أخرين وعلى رأسهم بول ريكور(1) . ونمط يغلب عليه الطابع التحليلي المقارن .. وسوف تركز هذه القراءة بشكل أساسي على أنماط التواصل والتأثير والتأثر المعرفي بين بول ريكور وفلسفته من جهة ، وبين الباحثين الذين قدموا أوراقا حول كتاباته .
وقبل ذلك يبدو من المفيد منهجيا تزويد القارئ بخلفية معرفية عامة عن بعض أهم أفكار واجتهادات بول ريكور موضوع هذا الكتاب ..
1.     نجد لدى بول ريكور  تمييزا بين نوعين من الزمانية ، فمن جهة أولى هناك زمانية الوجود في العالم مع الآخرين ، ومن جهة ثانية هناك الزمانية العميقة التي يكمن مضمونها في محاولة حل لغز الموت والأبدية .
2.     التاريخية لديه تقوم على استدعاء الزمان للتفكير في الوجود ، ولكن ليس الوجود الفردي ، بل الوجود في العالم ومع الأخرين بكل غناه الدلالي والتأويلي .
3.     يمثل السرد لديه منزلة أنطولوجية ، ويتحول إلى مصدر أولي من مصادر المعرفة بالذات وبالعالم . والنص السردي مهما كان النوع الذي يتمظهر فيه سواء كان أسطورة أو قصة أو رواية ينطوي على أفقين : أفق التجربة وهو أفق يتجه نحو الماضي ، وأفق التوقع وهو الأفق المستقبلي .
4.     يميز  بول ريكور بين نوعين من التأويلية : تأويلية الشك ويمثلها كل من ماركس ونيتشه وفرويد .. وتأويلية الإثبات التي يمثلها بولتمان وتيار لاهوت التحرير. ورغم الصراع القائم بين التأويليتن إلا أن  بول ريكور يحرص على التقريب بل والتكامل بينهما . وفي هذا الإطار ومن وجهة نظر هيرمينوطيقية يذهب  بول ريكور  إلى أن للنص معنى مختلف عن المعنى الذي يعرفه التحليل البنيوي فيما يستعيره من اللسانيات ، فهو ( أي النص ) وساطة بين الإنسان والعالم ، بين الإنسان و الإنسان ، بين الإنسان ونفسه فالوساطة بين الإنسان والعالم هو ما يدعوه  بول ريكور  بالمرجعية ، أو ما الوساطة بين الناس فينعتها بالاتصالية ، في حين أن الوساطة بين الإنسان ونفسه فينعته بالفهم الذاتي . ومن هذا المنطلق فإن العمل الأدبي يشمل هذه العناصر الثلاثة ، المرجعية ، والاتصالية ، والفهم الذاتي .
5.     تتلاشى المسافة بين الابداع  والحياة لدى  بول ريكور ، من منطلق أن القراءة تعد طريقة للعيش في البنية الخيالية للنص الإبداعي ، وبهذا المعنى يذهب  بول ريكور إلى أن القصص تروى ، ولكنها أيضا تعاش على نحو متخيل ، أكثر من ذلك فإنه يتحدث عن "الهوية السردية"  التي تشكلنا على اعتبار أن الهوية أو الذاتية ليست عبارة عن سلسلة أحداث مفككة ، كما أنها ليست عبارة عن جوهر ثابت عصي عن التطور ، فالهوية لديه تستمد وجودها أساسا من التأليف السردي في حركيته.
6.     يكتسب التراث أهمية خاصة لدى  بول ريكور وفي هذا يقول : "إن الفرد باعتناقه التراث وتفعيله وإعادة تأويله ، يكون قد اتخذ من التراث نفسه غاية له ، حيث يفهم التراث بأنه ما يستغرق أجيالا ، ويمتد إلى ما وراء حياة المشاركين في ذلك التراث وميلادهم وموتهم . وانطلاقا من هذا الوعي بأهمية التراث يحذر  بول ريكور من الاستهتار المعاصر بالتراث ويرفض النزوع إلى تجاوز التراث ، أو القطيعة معه باعتباره شيئا مكتملا في ذاته وعصيا من التغيير ، بل يدعو على العكس من ذلك ، إلى الانفتاح على الماضي بغية إعادة إحياء ما لم يكتمل حتى الأن من ممكناته ، أنطلاقا من أن التراثية تعني أن المسافة التي تفصلنا عن الماضي ليست فاصلا ميتا بل هي "تحويل إبداعي للمعنى" علما أن ريكور يميز بين التراثية والتقاليد والتراث ، فإذا كانت التراثية مفهوم شكلي وإجرائي ، فإن التقاليد تؤدي وظيفة مفهوم مادي لمحتويات التراث . وبغض النظر عن التداخل الغامض بين هذه المفاهيم إلا أن ما يهمنا هنا هو تأكيد بول ريكور أن التراث ليس بنية عقائدية راسخة وإنما جدل متواصل من الاستمرار والانقطاع يتكون من تقاليد وقيم متناسقة مختلفة وأزمات داخلية ، وانقطاعات  ومرجعيات  وانشقاقات ، وما أن نسلم بذلك حتى نكتشف بأن في التراث بعد جوهري للمسافة وهي المسافة التي تدعو باستمرار إلى التأويل النقدي .  وتتأكد مرجعية التراث لدى  بول ريكور بشكل لا يقبل الشك حينما نجده يعتبر أن كل عمل يعد إنتاجا أصيلا وكينونة في عالم الخطاب ، لكن العكس لا يقل عن ذلك صدقا فالابتكار سلوك تحكمه القواعد ، لأن عمل الخيال لا يأتي من فراغ ، فهو يرتبط بشكل أو بأخر بالنماذج التي يوفرها التراث أكثر من ذلك فإن خيال الفنان الإبداعي لا يستطيع الاتصال بالاخرين ما لم يشترك معهم بموروث جماعي ، وفي هذا الإطار نجده ينتقد إهمال كانط Kant  للأبعاد الاجتماعية والتاريخية للخيال الإبداعي .
7.     لا يمكن الوصول إلى أنطولوجية الوجود الإنساني لدى ريكور إلا عبر اللغة ولذلك نجده يعترض بشدة على هيدجر بدعوى أنه ينتقل إلى وصف الوجود بسرعة بالغة ودون الاستفادة من مختلف الوسائط  و كذلك دون تحضير منهجي كاف ، فضلا عن ذلك فإن هيدجر حينما  يتوجه رأسا لمعالجة القضايا الوجودية ، يترك نفسه بلا وسيلة تفصل بين نزاع التأويلات المختلفة . وهو ما حدى  بول ريكور للتأكيد على أن إدراك إنطولوجية الوجود الإنساني يتعذر أن يتم دون الانعطاف على اللغة ، عبر تحرير الرموز والنصوص التي تشهد على ذلك الوجود ، ولهذا فإن بول ريكور من خلال كتابه "الزمان والسرد" لا يكون مجرد امتداد لمشروع هيدجر وأنما يمثل أكثر من ذلك عنصر تصويب وتصحيح للموضوعات المركزية لكتاب هيدجر حول "الوجود والزمان" حيث أسعفه بتطبيقات أدبية وزوده بدقة تحليلية وبعد اجتماعي واضح .
8.     يمثل الخيال والزمان والإمكان العناصر التكوينية الأساسية في كل من الأنثروبولوجية الفلسفية لدى  بول ريكور وتحديدا تفكيره في الوجود الإنساني والهيرمونيطيقي أو التاويلية أي تفكيره في النصوص .
9.     الوجود في التاريخ يعني حسب ريكور أن الفعل هو العناء والعناء هو الفعل(2).
بعد هذه الإطلالة العامة على فكر  بول ريكور من داخل الكتاب موضوع القراءة زمن خارجه ، نعود إلى أهم ما جاء في أبحاثه من أفكار وقضايا. وتكون البداية بدراسة عبد الوهاب بو حديبة بعنوان "ذكريات" Sauvenirs  بعد أن يتتبع الباحث مختلف مراحل علاقته المعرفية والإنسانية ببول ريكور يقف بشكل مركز على أول رسالة تحفيزية تلقاها من أستاذه تدعو لضرورة الحضور في التاريخ مسلحين بقيم السلام في مواجهة كل أشكال العنف ولا شك أن القيمة التاريخية لهذ الرسالة تنبع من أن تونس أنذاك ، (بلد الطالب) كانت لا تزال مستعمرة من طرف فرنسا (دولة الأستاذ) !
      غير إن قوة الإلهام الفلسفي التي مثلتها كتابات ريكور لبوحديبة وغيره لم تتوقف عند مرحلة التكوين الجامعي التي تزامنت مع مرحلة الاستعمار وانما استمرت الى ما بعد الاستقلال ، وفى هذا الإطار نجد بوحديبة يقول : " لقد كنت استمد القوة من فكرة اتتنى من بول ريكور الذى قال لى انه بامكانى ان اساهم بجهودى المتواضعة ليست فى محو فظائع زماننا وانما على الاقل ، فى كشف الجلادين ، وهو ما يشكل شحنة معرفية ونفسية امدت بوحديبة، بعد ذلك بارادة الالتزام والنضال فى مجال الحريات العامة وحقوق الإنسان
هذا على مستوى الالتزام بالقضايا العامة أما أهم ما تعلمه بوحديبة من بول ريكور معرفيا، فيتمثل فى استيعابه ان التحليل الأكثر حيوية ونجاعة هو تحليل للأعماق analyse de profondeurs  ، العمق النفسي الذي بلوره ريكور من خلال فرويد والعمق الاجتماعي  الذي بلوره من خلال ماركس ، والعمق الروحي كما حلله نيتشيه .. غير ان بوحديبة يخلص الى انه فى المحصلة الأخيرة ليس هناك إلا عمق واحد هو العمق الفلسفي
غير أن ما يكتسب قيمة وأهمية كبرى فيما تعلمه بوحدبية من بول ريكور هو أن الإنسان كى يجد ذاته لابد من ان يتحقق عبر تحقيق كينونته اما الربيع الميمون ، فقد حاول الوقوف على اهم المحطات فى المسار الفلسفي لريكور ؛ فبعد اعمال هذا الاخير حول فينومينولوجيا إدموند هوسرل ووجودية غابرييل مارسيل Gabriel Marcel  وكارل ياسبرز kanp japens  حاول بول ريكور جاهدا تحديد مفهوم القابلية للخطا ، او الخطيئة la faillibilite  فى الجزء الثانى من مؤلفه فلسفة الارادة ، الذى سيوجه كل ابحاثه اللاحقة، بعد ان درس فى الجزء الاول من نفس الكتاب : الارادى والاارادى ، ليعالج فى الجزء الثالث رمزية الشر la symbolique du mal  فمن خلال تاملنا فى المفاهيم والمقولات التى درسها ريكور فى هذا المؤلف نلا خط أن الإنسان لديه ليس كائنا  بسيطا etre simple  وانما كائن خاضع دوما لقطبى الارادى واللاارادى ، وهذان القطبان هما اللذان سمحا لريكور ان يطور بعد رمزية الشر التى عالج فيها رموزا بدائية (الخطيئة le le peche ) والذنب la culpabilite   القذارة la souillure) ) هيرمينوطيقا يتجاوز فيها العلم والدين والعقل والأيمان فى علاقة من التعاون والمساءلة والتصحيح المتبادل ..
فبعد رمزية  الشر ، حيث كشف ان الرمز يسلم عادة الى التفكير ، شرع فى مسيرة تامل طويلة حول ، التحليل النفسى ، واللغة ، والتأويل والهيرمينوطيقات وصراعاتها ، التاريخ وحقيقة المؤرخ ، السياسة ، التربية ، الدين ، كل ذلك يستخلص الربيع ميمون بهدف تسليط الضوء على الواقع الإنساني وخباياه ..
     لقد أوضح الربيع ميمون ان بول ريكور قد انطلق من هيرمينوطيقا الرموز والاساطير، ومنها انتقل الى هيرمينوطيقا النصوص ، ومن هذه الاخيرة انتقل الى هيرمينوطيقا الفعل ، ليصل الى أخلاق  وسياسة قادرين على الرد على انتظارات الكائن الهش الذى هو الانسان. وهكذا فان الإنسان لدى ريكور ليس بـ "السيبرمان" النيتشوى أوالإنسان والحيوان، الذى تحدث عنه ابن عربي وانما الإنسان كما هو فى واقعه وحقيقته التاريخية.
فرغم أن الإنسان كائن ضعيف إلا أن بإمكانه ان يعد قويا اذا ما استطاع ان يتجاوز العطب الأصلي الذى يمنعه من ان يكون هو نفسه ، وان يحطم الزوايا المظلمة التى تحاصر وجودة وان يدرك طبيعته فى حقيقتها الارضية ، كما يدرك اصوله وغاياته النهائية وان يعيش وفقا لحكمة تمكنه من ان يكون فى منتهى الانسجام مع ذاته والعالم من حوله ..
هذه بعض اهم ملامح الإنسان التى توصل اليها الربيع ميمون من خلال تتبعه للمسار الفلسفى لبول ريكور ، وهو مسار الفلسفة فيه اكثر من مجرد مادة تدرس أو علم يحصل ، وانما هى فوق ذلك رسالة تنويرية تحريرية للمجتمع الانسانى ..
وهى الخلاصة التى انطلق منها جورج زيناتى فى مداخلته " بول ريكور ينصت الى العالم la Pul Riceur a l’ecoute du mond   حيث اعتبر أن الفكر والحياة لدى ريكور يمتزجان ويتداخلان في أفق فلسفي إنساني يرفض الفصل بين فلسفة قارية وأخرى أنجلوساكسونية ، كما يرفض الحواجز ، في إطار الفلسفة القارية الأوربية، بين الفلسفة الألمانية والفلسفة الفرنسية ، فهو شديد الإصرار في مختلف كتاباته على هذا الانفتاح بين فلسفة تأملية فرنسية ، وأخرى فينومينولوجية هوسرلية ألمانية وثالثة تحليلية إنجليزية.
ومن جهة أخرى ، فإن جورج زيناتي يخبرنا كيف أن بول ريكور يؤمن أن الفلسفة لا تعيش وحدها في العالم ، إنما توجد وسط علوم إنسانية أخرى ، كما أنها ليست قادرة بمفردها على رصد جميع أبعاد الوجود ، ولا على مواجهة جميع تحديات العالم . ومن ثم فلكي يستوعب الفيلسوف عصره استيعابا جيدا ، يتوجب عليه أن ينفتح على جميع مظاهر العلوم الأخرى كما يجب على الأنطولوجيا التي تشكل المحور الأساسي لكل فلسفة أن تتبع الطريق الطويل للمعرفة ، مع قبولها التأسيس لحوار من اللسانيات والانثروبولوجيا وعلم النفس والتاريخ ، من أجل عكس مدى تعقيد التجربة الإنسانية التي تعد مناسبة للوقوف ، مع جورج زيناتي ، دائما على مغزى واجب الذاكرة Le devoir de memoire   الذي أصبح واجبا للمساواة في العدالة بين الذات والأخر ، وهذه الذات لا يمكن أن تصبح حقيقية وأصيلة إلا من خلال المرور الإجباري عبر الأخر ، لأن حقيقة الذات لا تنجلي ولا تظهر ولا توجد في كامل امتلائها إلا بفضل الإنصات للأخر والالتقاء  به وإلا من خلال اندراج الذات كما الأخر في مغامرة إنسانية متجددة دوما.
أما فتحي التريكي فقد ركز دراسته Riceur philosophe de l'alterite  بول ريكور فيلسوف الغيرية "حول إشكالية الهوية متسائلا ببساطة : من نحن ؟ معتبرا أن هذا التساؤل يمكن أن يثير إنشغالات الأيديولوجيين ورجال السياسة الذين يبحثون على تجديد مثلهم الموحدة محاولين إقناع الجماهير بهدف تجميعهم ضمن "نحن" تظل بحاجة إلى تحديد مكوناتها باستمرار .
غير أن الباحث يكشف أن سؤال الهوية : من نحن؟ يمكن أن يتحول إلى : من هو عدونا ؟ وبذلك يصبح هذا التساؤل إقصائيا من حيث الجوهر ، لأنه يقسم الناس إيديولوجيا بين أصدقاء وأعداء . ومن ثم فإن خطاب الهوية Le discours identifaire  يعد إقصائيا بحكم طبيعة الأشياء .
وهنا بالذات يستحضر التريكي إسهام بول ريكور الذي طور هذه الفكرة بشكل مغاير وفقا منظور هيرمينوطيقي للزمانية ، مبرزا أن إعادة تشكيل الزمان بواسطة السرد يتكون مما يسمى بـ "الهوية السردية" identite narrative  وهو ما يفضى الى تحديد جديد للهوية التى لا تعد بالضرورة ، ان رهينة الماضى  وانما بامكانها ان تتشكل بواسطة المستقبل باعتباره تحولا . فالهوية السردية بهذا المعنى ليست منغلقة ولا منطوية على ذاتها انها انفتاح ونفاهم ، وتواصل وفعل .. فحينما نعود الى الماضى فانما تعود اليه من اجل الوقوف على ممكناته واحتمالاته ..
   لكن الا يمكن ان يتهدد مصير جماعة تؤسس هويتها على السرد بالانغلاق؟ يعتبر ريكور أن هوية جماعة معينة ليس بمنائ عن ازمات التشويه والتزييف ، ولذلك الح على القيمة التطهيرية العلاجية لفن السرد بشكل مغاير ، والسرد بواسطة الاخر، بدلا من سرد ذاتى التكوين. وكان الاخر هناl’autre  هو العنصر المؤسس للأناle moi . وهنا بالتحديد يتفق كل من بول ريكور و فتحى التريكى على ان الفلسفة تساهم انطولوجيا فى ارساء هوية تعددية ومنفتحة على الإنسان المعاصر من منطلق ان هوية الإنسان لا يجب ان تخضع لأية أحادية ميتافيزيقية، او اونطولوجية او دينية ، او سياسية ، او أخلاقية وانما على المغاير والانفتاح وهو ما يمكن الإنسان من ان يغدو مواطن حقيقيا la authentique citoyen.
ومن جانبه فقد عمل محمد محجوب فى دراسته الموسومة "حضور ريكور فى الكتابات الفلسفية التونسية " فقد عمل على تتبع اثر فلسفة ريكور فى الفكر الفلسفى التونسى من خلال كتابات عبد الوهاب بوحديبة خاصة فيما يتعلق بمفهوم الغيرية والتأمل الفلسفى لمفهوم الانا فى علاقته بالآخرين .
اما الأستاذة فاطمة حداد شماخ فلم تركز خلافا لباقى الابحاث ، على فينومينولوجيا بول ريكور وانما تناولت الجانب البيداغوجى والانسانى فى شخصة ، كما تناولت رؤيته لتأثير الفلسفة فى السياسة ، وكذا العلاقة بين اللغة والخطاب بالعنف من منطلق ان الخطاب والعنف يشكلان حسب ريكور العنصرية المتناقضين  الاكثر عمقا ومحورية فى الوجود الانسانى ، ومن هنا دعوته الى حسن استعمال اللغة او ما عبر عنه بالممارسة غير العنيفة للخطاب .. la pratique non vlolente du discaurs)) من خلال الحرص على احترام التعددية واختلاف الخطابات ..
وفى قراءة كليه للمشروع الفلسفى لبول ريكور ذهبت الشماخ الى ان اعمال ريكور فى شموليتها تشكل "عملا اخلاقيا"ethique efluique  بالمعنى العميق والواسع لكلمة أخلاق.
كما حرصت على إبراز البعد الإنساني والكوني لفلسفة ريكور من خلال انفتاحها على جل التيارات الفلسفية الكلاسيكية والمعاصرة .
وفي هذا الإطار فقد عقدت مقارنات عميقة بين كل من بول ريكور من جهة وكل من سبينوزا وهيدجر وكانط وحنا أرندت .
هذا عن مداخلات الباحثين العرب أما المداخلات الغربية فقد استهلها الباحث أوليفي مونجان رئيس تحرير مجلة Esprit  بدراسته الموسومة  "التزام وقيمة" Engagement et  valeur  والتي تمحورت حول إشكالتين رئيسيتين :  ماهي لحظتنا التاريخية ؟ إلى أية لحظة تاريخية تنتمي ؟  ما هي اللحظة الفلسفية التي هي لحظتنا ؟
بالنسبة للحظة التاريخية فقد أعتبر الباحث أنها لحظة مطبوعة بالعنف حيث عمل على تقسيم القرن العشرين إلى ثلاثة مراحل أساسية : عصر الحرب ويمتد من 1914 إلى 1945 والعصر الذهبي للديمقراطيات الاجتماعية (1945-1975) أما المرحلة الثالثة فبرغم أن الباحث لم يخصها ببحث صريح غير أن ذلك لم يمنع  من وصفها بمرحلة الارتكاس ، فرغم أن أنهيار جدار برلين سنة 1989 كان إيذانا ببداية مرحلة من التفاؤل التاريخي إلا أن هذه المرحلة كانت جد قصير حيث سرعان ما دخلنا بعد أحداث 11 سبتمبر إلى حالة من الفوضى وعدم الاستقرار الدوليين .
ورغم ذلك فقد سجل أوليفي مونجان أن هناك نجاحا متناميا للقيم الديمقراطية . غير أن المشكلة تظل قائمة بصدد كيفية الحفاظ على هذا المكتسب ، وكيفية تحويل هذا التراث إلى منظورات للفعل Peupectives d'action  وكيفية الاستمرار في التمسك والحرص على القيم الديمقراطية .. إن هذه التساؤلات هي ما تطرحه علينا حسب الباحث ، اللحظة التاريخية الراهنة .
هذا عن اللحظة التاريخية لكن ماذا عن اللحظة الفلسفية ؟  يعتبر الباحث أننا قد أعتقدنا طويلا بوجود قيمة للقيم La valeur des valeurs   والحال إننا دخلنا في أزمة عميقة للقيم بمعنى استحالة الرجوع إلى قيمة القيم ، فهذه الأزمة يشخصها الباحث بكونها أزمة ثيولوجية لكنها أيضا أخلاقية وفلسفية وجمالية . وفي المحصلة النهائية وبلغة لا تقبل المواربة يسجل اوليفي مونجان أن اللحظة الفلسفية التي نوجد فيها لحظة مطبوعة بالشك والعدمية ، وهي لحظة لا تبدو قادرة على مساعدتنا على تغذية قناعات قوية .
ولمواجهة هذه الأزمة فإن الباحث يعتقد أن الأمر لا يتعلق بالبحث عن أساس معين للقيم بقدر ما يتعلق بمأسسة القيم L’institutios des valeurs  أو تبادل القيم وهو ما لم يتم إلا عبر إرساء أسس تعددية راسخة للقيم تقوم على الجمع بين الاختلاف والوحدة .
وفي هذا السياق يتساءل الباحث كيف لنا أن نتفق على آلية أو إطار لتكييف صراعاتنا ؟  كيف لنا أن تتوافر على قواعد مشتركة تسمح لنا أن نكون مختلفين ؟ كيف يمكن أن نكون في حالة صراع دون أن نعلن الحرب ؟
هنا نلاحظ التداخل العميق بين اللحظتين التاريخية والفلسفية في لحظة وجودية واحدة مطبوعة بالعنف والشر ولمواجهة استشراء واستفحال هذا الشر يؤكد الباحث على ضرورة خلق شروط الجماعة السياسية Communaute politiqiule  التي سيكون بإمكانها مواجهة الشر اينما وجد مع التسليم بعدم القدرة على استئصاله كليا لأنه ببساطة يشكل حقيقة وجوديه في تفاعل جدلي مع الخير .
وفي سياق تحديده  لمفهوم الالتزام يتساءل الباحث : ما هي معايير الالتزام حينما نكون في حالة من عدم التوجيه التام ، وحينما تتجاوزنا الأحداث ؟ وبعد أن يحاول استمداد بعض عناصر الإجابة من بول ريكور يستخلص أن جوهر الالتزام إينما يكمن في القناعة التي تجبرنا على ألا نضفي صفة الاطلاقية عليها ، بأن نتعلم أن نلتزم بقضايا وقناعات مهما كانت عادية "وناقصة" Imparfaite  لأن القناعة La conviction  تغدو عنيفة عندما يراد تعميمها . فالقناعة يمكن أن تكون غير متسامحة (متعصبة) إنما يمكن أن تغذي المواقف غير المتسامحة الأمر الذي يستوجب موازنتها بالتسامح.
وفى هذا السياق يتساءل اوليفيى مونجان : ما الذى يؤسس التسامح بالنظر الى اللاتسامح او التعصب ؟  لياتى جوابه " انا متسامح لاننى قادر على احترام حرية الاخر فى التمتع بقناعته الخاصة، اللاتسامح  يكمن فى كلام احترام حرية الاخر فى التمتع بقناعته الخاصة؟
ومن جهته فان اوليفيى ابيل Olivier Abel  قد انطلق من اشكاليته شديدة الصلة بالاعتراف بالاخر ، والتعرف عليه متسائلا عن مغزى الاضطراب الذى يصاحب عملية الاعتراف وتجربة المعرفة والتعارف ، ومتسائلا عن دلالة التلازم الوثيق بين الاعتراف Reconnaissance  والانفعال Emoton  متبعا هو الاخر مقتربا مقارنا استحضر فيه كل من كانط Kanut  وهوسرل Husseil  وجنا ارتدت وبروست proust .. وخاصة هيجل  Hegel الذى تعد الرغبة فى نيل الاعتراف لديه محركا اساسيا من محركات التاريخ الانسانى . ولذلك نجده كموضع الاعتراف فى قلب جد لبيته من منطلق ان الصراع ضد عدم الاعتراف او من اجل انتزاع هذا الاعتراف هو الذى يكمن فى اصل الصرورة التريخية ونطور الاشياء ..
 واخيرا فقد انصبت دراسة بول ريكور la memorie saisie par l’histoire للرد على النقد والهجوم الذى تعرض له كتابه الاخير "الذاكرة ، التاريخ ، النسيان " وخاصة فيما يتعلق بواجب الذاكرة وهو ما كان داعيا لاعادة النظر الشاملة فى بنيه الكتاب الذى يتمحور أساسا حول تمثل الماضى من خلال الذاكرة والتاريخ ، لكن من وجهة نظر الحقيقة وليس الأخلاق . وهكذا فقد شكلت دراسة ريكور فصلا إضافيا لكتابه السالف الذكر.
فمقابل البناء الاصلى للكتاب بناء على تصور خطى lineaire  بدا على اثره ريكور من الذاكرة ومنها انتقل الى التاريخ من وجهة نظر ابستمولوجية ، ليصل الى الشرط التاريخي كمشترك انسانى .. وبناء عليه فان مسالة "واجب الذاكرة " قد عولجت مبكرا فى سياق فينومينولوجيا الذاكرة الفردية والجماعية ، وهو ما انبرى ريكور من اجل إصلاحه انطلاقا من  إعادة بناء شاملة لمسار الكتاب تتجاوز الطريقة الخطية لتعتمد تصورا دائريا تلتف فيه الذاكرة والتاريخ على بعضيهما ، كما تنطلق من ان الذاكرة تعد بمثابة "رحمه للتاريخ " الذي يظل مدينا للذاكرة التي تشكل بدورها ، حسب ريكور نفسه ، موضوعا للتاريخ ، ما دام هو الذى ساهم فى تشكيلها فى مرحلة من المراحل ..
اما واجب الذاكرة ، بالنسبة لريكور ، فيعنى ، فى المحصلة النهائية ، واجب عدم النسيان .. بنسيان طلب الاعتراف الذى ياتى اساسا من ضحايا الجرائم التاريخية الكبرى ، وهنا بصفتنا عربا مسلمين نستحضر بقوة مأساة الشعب الفلسطيني والعراقي الذى ما عليه الا ان يراهن على الذاكرة كعنصر تحفيز ووعى اساسى لاستمرار المقاومة وعدم الاستسلام.

إشكالية ثنائية المعنى

بول ريكور ـ  ترجمة وتقديم : فريال جبورى غزول


 يعتبر بول ريكور ( 1913 -   ) ، الفيلسوف الفرنسى والأستاذ حاليا فى جامعة باريس ( نانتير ) ، علامة فى حقل الهرمنطيقا . فقد كرس حياته لفهم أبعاد ظاهرة التأويلية وقام بإنتاج ما لا يحصى من الكتب والمقالات والمحاضرات(1) حول موضوع التأويل الذى أصبح محورا من محاور الفلسفة الحديثة بعد أن أحياه الفلاسفة الألمان فى القرنين الأخيرين(2) . وقد ترجمت أعمال ريكور إلى لغات مختلفة ، كما خصص لفكره العديد من الرسائل الجامعية والبحوث الأكاديمية فى أوروبا والولايات المتحدة.(3) ويتصاعد الاهتمام بريكور لأن مسألة التأويل لم تعد تقتصر على النصوص فقط ؛ ففى الأدب والدين والتاريخ والعلوم الاجتماعية هاجس تأويلى أيضاً.
وتتميز مسيرة ريكور الفكرية بأنه طوع دراسة الهرمنطيقا لمقتضيات واكتشافات عصره دون تبعية منه لهذه المدارس. فقد استوعب إنجازات الفينومينولوجية والبنيوية والفرويدية وغيرها واستفاد منها لإدراك أعمق لآليات التأويل، ولكنه لم ينقد لهذه الاتجاهات انقيادا متطرفا بل كشف عن أوجه قصورها فى إضاءة حقل الهرمنطيقا إضاءة كاملة. ونرى فى مقالته إشكالية ثنائية المعنى كيف يوظف ريكور السيمانطيقا (علم دلالة اللغة) بفرعيها السيمانطيقا المعجمية والسيمانطيقا البنيوية لتوصيف علمى دقيق لظاهرة ثنائية المعنى والرمزية، ولكنه يبقى على طول الخط واعيا ومذكرا بمحدودية السيمانطيقا فى حل كل إشكاليات تعدد الدلالة والغموض، وذلك لأن هناك جانبا يتجاوز البعد الألسنى ألا وهو تعددية الدلالة فى الذات الإنسانية والكينونة والوجود، فالغموض كما يوضح ريكور ليس ظاهرة خارقة أو منحرفة بل هو نابع من طبيعة النفس ومن طبيعة اللغة
لقد نشرت مقالة ريكور لأول مرة فى مجلة فرنسية تتخصص فى الرمزية وذلك عام 1966 (4) . ثم أعيد نشرها بالفرنسية فى كتاب لريكور يضم مجموعة من دراسات بعنوان صراع التأويلات : دراسات فى الهرمنطيقا ، وقد نشر فى عام 1969 فى سلسلة فلسفية عن دار سوى الباريسية ، وبناء على هذا النص قمنا بنقله إلى العربية .
وقد اخترنا أن نترجم هذه الدراسة بالذات من أعمال ريكور الغزيرة لأنها تعالج موضوعاً سجاليا أراق كثيراً من الحبر فى وطننا ، وهو الغموض الشعرى ، والذى اعتبر عيبا أدبيا فى بعض الأوساط النقدية . وبالإضافة إلى ذلك فإن تعامل ريكور المرهف مع فرع أو مدرسة كالسيمانطيقا أو البنيوية ، يثبت لنا أن الباحث يمكن أن يتجاوز فرعه إلى فروع مجاورة دون أن يفقد هويته ، كما أنه من الممكن الاستفادة من إنجازات اتجاه كالبنيوية دون الخضوع لكل مسلماتها . فدراسة ريكور تبين لنا قدرة هذا الباحث الكبير على التحرك الفكرى من دخل وخارج النظريات السائدة . فهو يستخدم الأدوات التحليلية لفرع أو اتجاه ما بدون أن ينسى أن هناك مصادرات أولية ، يرجع لها فى خاتمة دراسته ، ليكشف لنا عمل بقى غير مقنن فى تفسير ظاهرة الغموض .
إن هوامش المؤلف تقتصر على الإشارة إلى مراجعه وقد أدمجتها فى متن المقالة . كما قمت بإضافة بعض الشروح والتعليقات على المقالة وضعتها بشكل هوامش ختامية . وكل ما حصر فى متن المقالة بين قوسين هلاليين (  ) فهو من المؤلف ، وما بين قوسين معقوفين  ]    [ فهو إضافة منى .







إشكالية ثنائية المعنى  بوصفها إشكالية هرمنطيقية
وبوصفها إشكالية سيمانطيقية(***)
يقوم بحثى هذا ، ويسعى أن يقوم على تفاعل الفروع العلمية ، فإننى أنوى أن أفحص تناولات عديدة لإشكالية واحدة وهى الرمزية والتأمل فيما يعنى تعدد التناولات لها .
كما أننى أقر بأن الفلسفة فيصل فى الخلافات كما فعلت سابقا ( فى كتابى رمزية الشر ) عندما جعلتها تحكم فى صراع الاتجاهين التأوليين المتباينين فى الثقافة المعاصرة : الهرمنطيقا العلمانية والهرمنطيقا الدينية (1) ولن أتناول ثانية هذه الاشكالية الآن، بل سأتناول إشكالية أخر ى يثيرها نوع آخر من الانشطار . إن زوايا تناول الرمزية التى أزمع التعامل معها تشكل مستويات استراتيجية متباينة . وسآخذ بنظر الاعتبار مستويين أو حتى ثلاثة ، فسأتعامل مع الهرمنطيقيا بوصفها مستوى استراتيجياً  واحدا ً، وهو مستوى النصوص . وسأقابله بسيمانطيقا الألسنيين . ولكن سيمانطيقا الألسنيين فى حد ذاتها تحمل مستويين استراتجيين متباينين : مستوى السيمانطيقا المعجمية التى كثيرا ما تسمى باقتضاب السيمانطيقا ( كما عند ستيفان ألمان  Stephen Ullmann وب . غيرو  P. Guiraud ) ،فهى تقتصر على مستوى الكلمات أو بالأحرى –كما يطلق عليها ألمان -  مستوى الأسماء أو عملية إطلاق الإسماء أو التسمية . لكن تتشكل أمام أعيننا سيمانطيقا بنيوية تتسم بسمات عديدة منها تغير المستوى وتغير الوحدات حيث تنتقل وحدات كتلوية – كما هى حال الكلمات وبشكل أخص النصوص – إلى وحدات ذرية تصبح فيما بعد – وكما سنرى - بنيات أولية للدلالة (2).
إننى أنوى أن أرصد إشكالية الرمزية  عندما تنتقل من زاوية تناول ما إلى زاوية تناول أخرى . وستظهر بعض الاشكاليات التى تطرقت إليها فى بحث لى بعنوان ( البنية والهرمنطيقا ) هنا ، ولكن فى سياقنا هذا الذى قد يكون أكثر ملاءمة حيث يمكن فيه تحاشى مخاطر التصدى على مستوى واحد لفلسفة تفسير ، ولعلم بنيوى ، باتباع منهج يضع ظاهرة المعنى المأخوذة بنظر الاعتبار على مستويات مختلفة من التحقق .
 وإجمالا هذا ما أود أن أوضحه : إن تغيير منظور الإشكالية يظهر تركيباً دقيقاً يسمح وحده بالتناول العلمى للإشكالية أى بطريقة التحليل بما فى ذلك التفكيك إلى وحدات أصغر . وهذا هو طريق العلم ذاته الذى تستخدمه الترجمة الآلية . ولكننى أريد أن أبين بالمقابل أن الاختزال إلى الأبسط يؤدى إلى حذف وظيفة هامة للرمزية والتى لايمكن لها أن تظهر إلا على مستوى أعلى من التجلى ، وهى الوظيفة التى تدخل  الرمزية فى علاقة مع الواقع ، مع التجربة ، مع العالم ، مع الوجود ( وأنا أترك عن قصد الخيار مفتوحاً بين تلك الكلمات ). وباختصار فأنا أسعى إلى إثبات أن طريقة التحليل وطريقة التركيب لا تتطابقان ولا تتساويان . ففى طريقة التحليل تنكشف عناصر الدلالة قبل أن تكون لها علاقة بما يقال. وفى طريقة التركيب تنكشف وظيفة الدلالة التى هي ( البلاغ ) وفى آخر الأمر ( الكشف ) . 
I - المستوى الهرمنطيقى
لكى نضمن سلامة بحثنا فإنه من الضروري أن نتأكد من أن الإشكالية نفسها هى التى نتناولها على ثلاثة مستويات مختلفة . وقد أطلقت على هذه الإشكالية :
تعدد  المعنى . وأنا أرمى بهذا إلى ظاهرة دلالية معينة تمكن تعبيرا ما – ذا أبعاد مختلفة – أن " يقول " شيئا ويعنى شيئا آخر فى آن واحد وبغير أن تتعطل الدلالة الأولى ، وهى الوظيفة الأليغورية للغة بالمعنى الحرفى للكلمة ( اليغورى  alle-gorie = قول شئ عبر قول شئ مغاير ) (3).
تقع خصوصية الهرمنطيقا – على الأقل بالنسبة للمستويات الاستراتيجية الأخرى التى سنأخذها بنظر الاعتبار – فى الدرجة الأولى فى طول المتتاليات التى نتعامل معها والتى أطلق عليها : النصوص . فقد نشأ مفهوم الهرمنطيقا فى بداية الأمر عند تفسير النصوص الدينية ، ومن بعدها النصوص الدنيوية ، وهذا ما شكل الهرمنطيقا كعلم قواعد التفسير . وهنا لمفهوم النص معنى دقيق ومحدد . لقد قال ديلتاى  Dilthet فى مقاله الرائع " نشأة الهرمنطيقا " ما يلى : " أننا نطلق مصطلح التفسير أو التأويل على إدراك التجليات الحيوية المستقرة على شكل ثابت " ، وأيضا : " يدور من الإدراك فى مدار تفسير الشهادات الإنسانية التى حفظتها الكتابة " ، وأيضا : " أننا نسمى فن إدراك تجليات الحياة المكتوبة بالتفسير أو التأويل " . ويتميز النص ، بالإضافة إلى طوله عند مقابلته بالشريحة المقتضبة التى يفضل الألسنى أن يتعامل معها ، يتميز بنظام داخلى للعمل يطلق عليه (  Zusammenhang ) أى رابطة داخلية . وكانت الخطوة الأولى فى الهرمنطيقا الحديثة هى وضع قاعدة للانطلاق من كل إلى الجزء والتفاصيل ، وتناول – على سبيل المثال – باب من الكتاب المقدس بوصفه ترابطا ، أو كما يقول شلاير ماخر  Schleiermacher بوصفه تآلفا بين شكل باطنى وشكل ظاهرى .
ويحمل النص معانى مختلفة للمؤول الذي لا تواجهه إشكالية المعانى المتعددة إلا عندما يأخذ الكل بنظر الاعتبار حيث تتبين أحداث وشخصيات ومؤسسات وحقائق طبيعية أو تاريخية تتشكل كنسق كلى ، أى كمجموعة دلالية كلية . وهذا يسمح بتحويل المعنى من التاريخي إلى الروحي . ففى تعدد المعنى فى التراث الوسيطى تتبين المستويات الأربعة من معانى الكتاب المقدس عبر وحدات نصية عريضة (4) .
إن إشكالية المعنى المتعدد لم تعد اليوم إشكالية التفسير بمعناه الدينى أو حتى بمعناه الدنيوى فقط وإنما هى فى ذاتها إشكالية ذات طابع يمس فروعا علمية متعددة . وأريد أولا أن أتعامل مع الإشكالية على مستوى استراتيجى واحد ، مستوى متجانس ، وهو النص . انطلاقا من فينومينولوجية الدين على منهج فان دير ليو  Van der Leeuw وإلى حد ما على منهج إلياد   Eliade ، وانطلاقا من التحليل النفسى الفرويدى واليونغى (وأنا لا أفصل بينهما فى هذا السياق ) ، و انطلاقا من النقد الأدبى ( الجديد أو غير الجديد ) يمكننا أن نعمم مفهوم النص كمجموعات دلالية على درجة أعلى من تركيب الجملة . وسأتعامل هنا مع مثال واحد فقط – على بعد كاف من تفسير الكتاب المقدس – حتى يعطينا فكرة عن اتساع حقل الهرمنطيقا . وهذا المثال هو تعامل فرويد مع الحلم بوصفة قصاً ، قد يكون مقتضباً جدا ، ولكن فيه دائما تعددية داخلية . فبناءً على كلام فرويد يجب استبدال هذا القص المبهم عند الوهلة الأولى بنص أكثر وضوحا يرتبط بالنص الأول كما يرتبط الباطن بالظاهر . وهكذا نجد مجالا واسعا لثنائية المعنى حيث تفسح المتفصلات الداخلية المجال لتأويلات مختلفة .
ما الذى ينتج تنوع التأويلات ؟ إنه انعكاس لتقنيات مختلفة . فحل رموز النفس أمر، وتفسير الكتاب المقدس أمر آخر . والفرق هنا يكمن فى القواعد الداخلية للتأويل وهو فرق معرفى . ولكن هذه الفروق فى التقنيات تشير بدورها إلى فروق فى الرؤية ذاتها وفى وظيفة التأويل : فاستخدام التأويل كسلاح تشكيكى ضد الوعى المزيف شئ ، واستخدامه كتحضير لإدراك أحسن لما كان عليه المعنى ولما قيل من قبل ، شئ آخر .
إن إمكانية التأويلات المختلفة والمتضاربة – على مستوى التقنية والرؤية – ترتبط بشرط جوهرى وهو ، فى تصورى ، سمة مشتركة للمستوى الاستراتيجى لهذه التأويلات . وهذا الشرط الأساسى هو الذى يوقفنا هنا : وهو أن الرمزية وسط للتعبير عن واقع غير لغوى . وهذا هام جدا بالنسبة للمواجهة اللاحقة ، وتوقعا لتعبير لن يكتسب معناه الدقيق إلا على مستوى استراتيجى آخر ، فسأقول ليس فى الهرمنطيقا انغلاقا على عالم العلامات : بينما نجد الألسنية تتحرك فى نطاق عالم مكتف بذاته ولا تلتقى إلا بعلاقات تبادل الدلالة ، أى علاقات تفسير متبادل بين العلاقات ، كما يقول تشارلز سوندرز بيرس  Charles Sanders Peirce أما الهرمنطيقا فتتميز بنسق يفتح عالم العلامات .
والغرض من هذا البحث هو الكشف عن أن هذا النسق المنفتح مرتبط بمستوى التأويل باعتباره تفسيرا ، أى تفسيرا لنصوص ، كما أن انغلاق عالم الألسنيات يعتمد على تغيير المستوى والتعامل مع وحدات دلالية صغيرة (5) .
ماذا نعنى هنا بالانفتاح ؟ نعنى أن ، فى كل حقل هرمنطيقى توجد للتأويل سمة ألسنية وسمة غير ألسنية ، أى سمة اللغة وسمة التجربة المعاشة ( مهما كانت هذه الأخيرة ) . وهذا ما يشكل خصوصية التأويلات فهى تكمن بالضبط هنا : إن قبضة اللغة على الوجود وقبضة الوجود على اللغة تتحققان عبر قنوات مختلفة . وكذلك رمزية الحلم ، فلا يمكن أن تكون مجرد تفاعل صرف بين المدلولات التى تشير إلى بعضها البعض ، فالحلم وسط للتعبير تفصح الرغبة فيه عن نفسها . وقد اقترحت أنا مفهوم سيمانطيقا الرغبة للتعبير عن هذا التشابك بين نوعين من الروابط : روابط القوة التى يفصح عنها خلال الطاقة وروابط المعنى التى يفصح عنها عند تفسير المعنى .
وتتحقق الرمزية لأن المرموز له يوجد أولا فى الواقع اللالغوى الذى يطلق عليه فرويد باستمرار الغريزة ، والتى تلمس من خلال ممثليها التفويضيين والعاطفيين . إن هؤلاء الممثلين بتفرعاتهم يظهرون ويستترون فى ظواهر المعنى التى تسمى بالأعراض والأحلام والأساطير والمثل العليا والأوهام . وبعيدا عن التحرك فى نطاق ألسنية مغلقة على ذاتها فهنا تحرك مستمر بين الإيروسية والسيمانطيقا . إن قوة الرمز تنبع من كونه يعبر عن مكر الرغبة من خلال ثنائية المعنى .
وهذ ينطبق على الطرف الأقصى من مجال التأويلات : فإن صح الكلام عن هرمنطيقا المقدس فمن منطلق انفتاح ثنائية المعنى لنص ما . فمثلا " سفر الخروج " ينفتح على حالة معينة من التنقل المعاشة وجوديا ، باعتبارها حركة من عبودية إلى خلاص (6) . فمن خلال ازدواجية الكلام تتم ثنائية المعنى هنا بالكشف عبر فائض الدلالة عن حركة وجودية أى عن حالة معينة من الوجود الإنسانى المرتبط بالحدث . هذ الحدث الذى فى حرفيته يقع فى عالم تاريخى مرصود . فثنائية المعنى هنا كاشفة عن وضع فى الكينونة .
وهكذا تقوم الرمزية – عندما تؤخذ على مستوى تجليها فى النصوص – بتفجير اللغة نحو الآخر عوضا عن انكفائها على ذاتها : وهذا ما يطلق عليه الانفتاح . إن هذا التفجير هو الإبلاغ ، والإبلاغ هو كشف . وتتصارع التأويلات المتضاربة لا على ثنائية الدلالة بل على زاوية الانفتاح وعلى غائية الكشف . وهنا نقع على جانبى القوة والضعف فى الهرمنطيقا . فجانب الضعف يكمن فى أن الهرمنطيقا تتعامل مع اللغة عندما تهرب اللغة من مدارها وبهذا فهى تتعامل مع لغة تستعصى على الإجراء العلمى الذى لا يتم إلا عند التسليم بانغلاق عالم الدلالة . ومن هذا الضعف تنبع كل أنواع الضعف الأخرى وأولها الضعف الملحوظ الذى يؤدى إلى تسليم الهرمنطيقا لصراع الرؤى الفلسفية المتضاربة . ولكن هذا الضعف فى ذاته قوة ، لأنه عندما تهرب اللغة من مدارها ومنا ، فحينذاك ترجع اللغة لعلتها : حينذاك تكون اللغة إبلاغا (7) .
وسواء كان مفهومنا للعلاقة بين الكشف والإخفاء على نهج محللى النفس أو على نهج فينومينولوجية الدين ( ويبدو لى أن علينا الجمع بين هاتين الإمكانيتين اليوم ) ، فإننا نجد اللغة متحققة دائما كقوة تكشف ، تجلى ، تظهر . حينذاك تصمت اللغة أمام ما تقوم بإبلاغه .
وسأتجرأ على التلخيص فى كلمة : إن الاهتمام الفلسفى بالرمزية راجع لسبب واحد وهو أنها تكشف – عبر بنية ثنائية المعنى – عن غموض الكينونة ، أى أن " الذات تعبر عن نفسها بأوجه مختلفة " . إن علة وجود الرمزية هى فتح تعدد المعنى على غموض الذات .
أما تتمة هذا البحث فتسعى إلى الكشف عن سبب ربط هذه القبضة على الذات بمستوى الخطاب الذى أطلقنا عليه النص ، والذى يتحقق كحلم أو كأنشودة . وهذا ما لم يتضح الآن وما سندركه بدقة عند مقارنته بمقارنات أخرى لإشكالية ثنائية المعنى حيث يتسم تغير المستوى فى آن واحد بالصرامة العلمية وبمحو هذه الوظيفة الانطولوجية للغة التى أطلقنا عليها تواً وظيفة الإبلاغ (8) .
II  - السيمانطيقا المعجمية
إن التحول الأول فى المستوى هو التحول الذى يجعلنا نأخذ بنظر الاعتبار الواحدات المعجمية . ونجد فى هذا الجانب شيئا من التراث السوسورى ، شيئا منه فقط . ففى الواقع أننا سنأخذ بعين الاعتبار أعمالا تنطلق من تطبيق التحليل الصوتى على السيمانطيقا وهذا يحتاج إلى تحول على مستوى أكثر جذرية من مستوى السيمانطيقا المعجمية ، لأن الوحدات المعجمية أى الكلمات ، مازالت على المستوى الظاهر الخطاب ، كما كانت الوحدات الكبيرة أى النصوص التى رصدناها من قبل . ومع هذا فيمكن أن نقوم بعدد من التوصيفات وبعدد من التفسيرات الرمزية انطلاقا من هذا المستوى الأول .
أولاً : بعض التوصيفات :
وفى واقع الأمر يمكن اعتبار إشكالية تعدد المعنى فى السيمانطيقا المعجمية اشتراكا لفظيا ، أى هى إمكانية أن يأخذ اسم أكثر من معنى واحد ( وأنا هنا استخدم مصطلحات س. ألمان ( كما وردت فى كتابه مبادئ السيمانطيقا ) . ويمكننا أن نصف ظاهرة المعنى هذه بمصطلحات سوسورية من دال ومدلول ( ويطلق ألمان عليهما : الاسم والمعنى ) . وهكذا نجد أن العلاقة مع الشئ مستبعدة مع أن ألمان لا يقوم باختيار نهائى بين مصطلحات أوغدن وريتشاردز  Ogden-Richards فى مثلثهما الأساسى : الرمز – المحال إليه – الإحالة ، وبين ثنائية التمييز السوسورى ( وسنرى لماذا . فحتى الآن ليس انغلاق العالم الألسنى انغلاقا كاملا على هذا المستوى ).
وسنكمل التوصيف بمصطلحات سوسورية ، مميزين بين تعريف تزامنى أى سنكرونى وتعريف زمنى أى دياكرونى لثنائية المعنى . ففى التعريف التزامنى يكون للكلمة نفسها فى اللغة معان متعددة ويمكننا القول بدقة أن الاشتراك اللفظى هو مفهوم تزامنى . أما فى التعريف الزمنى فيعرف تعدد المعنى بتحول المعنى . وبلا شك يجب أن نجمع بين المنهجين لنمتلك منظورا جامعا لإشكال الاشتراك اللفظى على المستوى المعجمى ، فإن تحولات المعنى هى التى تتشكل تزامنيا فى ظاهرة الاشتراك اللفظى ، أى أن القديم والحديث متعاصران فى منظومة واحدة . وبالإضافة ، فإن تحولات المعنى يجب أن تؤخذ كمؤشر لحل عقدة التزامنية . وفى المقابل ، يبدو التحول السيمانطيقى دائما كتغير فى منظومة سابقة ، وإذا لم نكن نعرف موقع الدلالة فى حالة من حالات المنظومة فلن نعلم طبيعة التحول الذى لحق بقيمة هذه الدلالة .
وأخيرا يمكننا أن نعمق تعريف الاشتراك اللفظى نحو الوجهة السوسرية ، لا باعتبار العلامة علاقة داخلية بين الدال والمدلول ، بين الاسم والمعنى ( وهذا كان ضروريا عند التعريف الإجرائى للاشتراك اللفظى ) بل بوصف العلامة داخلة فى علاقة مع غيرها من العلامات . ونذكر فى هذا السياق بالفكرة الرئيسية فى كتاب سوسور "دروس فى الألسنية العامة"  حيث يتم التعامل مع العلامات كفروق فى منظومة ما . فماذا يحدث للاشتراك اللفظى إذا وضعناه فى هذا المنظور ، منظور الألسنية البنيوية ؟ سيضئ هذا المنظور إضاءة أولية فقط ما يسمى بالسمة الوظيفية للاشتراك اللفظى ، وذلك لأننا سنبقى على مستوى اللغة بينما يتحرك الرمز على مستوى الكلام أى أنه يتشكل فى الخطاب . ولكن كما أوضح غوديل  Godel فى كتابه المصادر المخطوطة لدروس فى الألسنية العامة، فإننا عند النظر إلى "آلية اللغة " سنبقى فى منطقة وسيطة بين المنظومة وبين الأداء . فعلى مستوى آلية اللغة نكتشف الاشتراك اللفظى المحدد الذى نجده فى اللغة العادية . إن ظاهرة الاشتراك اللفظى المحدد أو المحدود هى فى ملتقى عمليتين ترجع أولاهما إلى العلاقة بوصفها "قصداً متراكماً " . وهى عملية لو تركت لذاتها فسنجدها عملية توسع تصل إلى حد التحميل المفرط (  overload  ) للدلالة ، كما يحصل فى بعض الكلمات التى بحكم إفراط دلالتها تكف عن الدلالة ، أو كما فى بعض الرموز التقليدية التى تعبر عن كثير من القيم المتناقضة مما يؤدى إلى تحييدها ( مثلا : النار التى تحرق وتدفئ ، الماء الذى يروى ويغرق ) أما ثانيتهما فهى عملية تحديد يمارسها الحقل السيمانطيقى فى الدرجة الأولى عبر بناء مجالات نسقية كالتى درسها جوست تراير  Jost Trier صاحب " نظرية المجالات السيمانطيقية " . ونحن مازلنا هنا على أرضية سوسورية لأن العلامة ليست لها دلالة محددة بل قيمة فى مقابل القيم الأخرى ، وهى نتيجة المقابلة بين ما هى وبين ما يختلف عنها . وهذا النسق الناتج من صراع بين التوسع السيمانطيقى للعلامات وبين الفعل التحديدى للمجال يشبه فى آثاره نسق المنظومة الصوتية ، بالرغم من اختلافه العميق عنها فى آليته . ففى واقع الأمر إن الفرق بين نسق مجال سيمانطيقى وبين منظومة صوتية فرق ملموس . فليس للقيم وظيفة تمييزية ومقابلة فقط ، بل لها أيضا قيمة تراكمية، وهذا ما يجعل من الاشتراك للفظى إشكالية هامة ، محورية ، فى السيمانطيقا. ونحن نلمس هنا خصوبة المستوى السيمانطيقى الذى يسمح بظاهرة ثنائية المعنى . وقد علق إربان urban قائلا إن ما يجعل من اللغة أداة تعلم هو بالتحديد قدرة العلامة على التعبير عن شىء بغير أن تتعطل عن التعبير عن شىء آخر . وبناء على ذلك فلكى تكون للعلامة قيمة بليغة بالنسبة للشئ الثانى فلابد لها من أن تتشكل كعلامة للشئ الأول . وقد أضاف إربان أن هذا "القصد التراكمى للكلمات هو مصدر خصب للغموض ولكنه أيضا مصدر الإبلاغ المجازى الذى بفضله يمكن أن تحقق قدرة اللغة الرمزية " ( كما ورد فى استشهاد ألمان ، المرجع نفسه ، ص 117 ) .
وهذه الملاحظة القيمة لإربان تجعلنا ندرك جانبا مما يمكن أن نطلق عليه وظيفة الاشتراك اللفظي . إن ذلك الذى بدا لنا على مستوى النصوص كظاهرة خاصة فى الخطاب، كظاهرة تعد الأصوات ، فهو يبدو لنا الآن مبنياً على سمة عامة للمفردات ، أى أن هناك عملية تراكم فى المعنى ، ومقايضة بين القديم والجديد ، وهكذا تكتسب ثنائية المعنى وظيفة تعبيرية عن الواقع المشار إليه بشكل غير مباشر . ولكن كيف؟ 
هناك أيضا يمكن أن يعيننا سوسور بتمييزه بين محورين وظيفيين للغة ( وفى حقيقة الأمر فإنه لم يعد يتكلم هنا عن اللغة بوصفها منظومة علامات فى لحظة معينة ، ولكن بوصفها آلية اللغة أو الخطاب التى تستخدم فى الكلام ) . وقد علق سوسور قائلا إن العلامات فى السلسلة الكلامية تدخل فى علاقات ثنائية : (1) علاقات سياقية تتابع فيها العلامات المتباينة بشكل ظاهر ؛ (2) علاقات استدعائية تربط بين علامات متشابهة يمكن استبدالها بعضها ببعض ، ولكن هذا الربط يتم بشكل مستتر . وكما هو معروف فإن رومان ياكوبسن ( ر . ياكوبسن ، مقالات فى الألسنية العامة ) يصوغ هذا التمييز عبر مصطلحات مماثلة : علاقة تسلسل وعلاقة انتقاء . وهذا التمييز هام بالنسبة للبحث فى إشكالية المعنى عامة والرمزية خاصة . ففى الواقع أن علاقة التركيب النحوى بالسيمانطيقا تتم من خلال تفاعل متبادل بين التسلسل والانتقاء . ونحن لم نقم بمجرد توثيق البعد الألسنى للسيمانطيقا كما فعل ياكوبسن بل وثقناه فى الرمزية أيضا . إن محور الاستبدال ، فى حقيقة الأمر ، هو محور المجاورة ولهذا يمكن أن يتآزر التمييز السوسورى مع تمييز آخر بقى محصورا فى البلاغة وهو التمييز بين الاستعارة والكناية أو على الأصح ، يمكن أن نعطى استقطاب الاستعارة / الكناية دلالة وظيفية أكثر عمومية ، وهو استقطاب عمليتين ، فيمكننا التحدث عن عملية استعارية وعملية كنائية . ونحن نلمس هنا أساس عملية الترميز التى كنا قد وصلنا إليها من قبل مباشرة عبر وقع النص . وها نحن ندرك هذه الآلية فيما يمكن أن نسميه بظاهرة السياق . فلنرجع إلى عملية الاشتراك اللفظى المحدد الذى رصدناه مع "نظرية المجالات " على مستوى اللغة ، وهو بالأحرى اشتراك لفظى محدود . إن الاشتراك اللفظى المحدد هو حقيقة وقع المعنى المنتج فى الخطاب . فعندما أتكلم أحقق جزءا فقط من المدلول الكامن ، والباقى  يمحى عبر المعنى الكلى للجملة الذي "يعمل"  كوحدة كلام . ولكن ما تبقى من الإمكانيات السيمانطيقية لا يلغى ، بل يطفو حول الكلمات كإمكانيات غير معطلة كل التعطيل ، ويلعب السياق دور المصفاة حيث يمرر بعداً واحداً – خلال تفاعلات التجانس والتعزيز – من بين كل الأبعاد المتناظرة الأخرى للمفردات المعجمية . وهكذا تتخلق ظاهرة المعنى التى يمكن أن تصل إلى أحادية تامة كما فى لغات التقنية . وبهذا يمكننا أن نصوغ جملا أحادية المعنى من مفردات متعددة المعنى وذلك راجع إلى فعل الفرز أو الغربلة الذى يقوم السياق به . ولكن يحدث أحيانا أن الجملة تكون مركبة بحيث أنها لا تنجح فى اختزال كامن المعنى والتوصل إلى دلالة أحادية ، فهى تحافظ أو حتى تخلق التنافس بين مراكز الدلالة ، فيحقق الخطاب – عبر تقنيات مختلفة – الغموض الذى يظهر حينذاك كتوليف بين واقع معجمى – وهو الاشتراك اللفظى – وبين واقع السياق، وهو السماح لقيم مختلفة ومتميزة وحتى متقابلة لكلمة واحدة بالتحقق فى المتالية نفسها . فلنقم الآن بعرض جوهر المسألة فى نهاية القسم الثانى من هذا البحث .
ماذا استفدنا إذن من نقل الإشكاليات التى واجهتنا على المستوى الهرمنطيقى إلى المستوى المعجمى ؟ ماذا استفدنا وماذا خسرنا ؟
لقد استفدنا بكل تأكيد إدراكا أكثر عمقا للرمزية فهى تظهر الآن كظاهرة ملموسة للمعنى على مستوى الخطاب ، موثقة على أرضية العمليات الأولية للعلامات ، ويمكن إرجاع هذه العمليات إلى وجود محور آخر فى اللغة غير المحور الأفقى الذى يتم عليه التسلسل التعاقبى والتجاورى المنطلق من التركيب النحوى . أما السيمانطيقا وبصورة خاصة إشكالية الاشتراك اللفظى والاستعارة فقد حققت مكانة فى الألسنية ، وهى بهذه المكانة ذات الطابع الألسنى المحدد ، تكتسب قيم وظيفية . فلم يعد الاشتراك اللفظى ظاهرة انحراف فى ذاته ، ولا الرمزية زينة فى اللغة ، فكل من الرمزية والاشتراك اللفظىينتميان إلى تكوين وطبيعة كل لغة .
وهذا ما أضفناه معرفيا فى مجال التوصيف والوظيفة . ولكن إدراج إشكاليتنا فى مستوى الألسنية له جانب مضاد . إن السيمانطيقا تدخل بلا شك ضمن الألسنية ، ولكن بأى ثمن ؟ إن شرط ذلك هو أن يتم التحليل داخل جدران عالم ألسنى ، وهذا ما لم نظهره للعيان، ولكننا ندركه إذا ما رجعنا إلى بعض جوانب تحليل ياكوبسن التى حذفناها فى الملخص السابق . ولكي يبرر ياكوبسن الجانب ذا الطابع الألسنى من السيمانطيقا فهو يقرب وجهة نظر سوسور عن صلات الاستدعاء ( أو محور الاستبدال كما ورد فى مصطلحاته ) من وجهة نظر تشارلز بيرس حول القدرة العجيبة للعلامات على تأويل بعضها البعض . وفى هذا مفهوم للتأويل لا علاقة له إطلاقا يعلم التفسير . فكل علامة عند بيرس تحتاج ، بالإضافة إلى حديها ، إلى علامة شارحة أو "مفسرة" ، وتقوم علامة أخرى ( أو مجموعة علامات ) بوظيفة المفسرة ، التى تطور الدلالة والتى يمكن أن تأخذ مكان العلاقة المعتبرة . وهذا المفهوم للمفسرة – كما ورد عند بيرس – يتقاطع مع مفهوم سوسور لمجموعة الاستبدال ، وهى فى ذات الوقت تكشف عن دور العلاقات المتبادلة بين المقومات الألسنية .
ونحن نقول بأنه يمكن ترجمة كل علامة إلى علامة أخرى حيث يمكن لها أن تتطور بشكل أكمل . وهذا يشمل التعريفات والمعادلات والمواربات والعلاقات الإسنادية والرموز . ولمن ماذا أنجزنا بهذا إذا ؟ لقد حللنا إشكالية فى السيمانطيقا بوسائل الوظيفة الميتالغوية أى بوسائل وظيفة تربط بين متتالية من الخطاب بشفرته ، لا بمرجعه العينى ( كما قامت به دراسة ياكوبسن التطبيقية على مختلف الوظائف المتضمنة فى الاتصال ) (9) . وهذا صحيح حيث أن ياكوبسن عند تقديمه تحليلا بنيويا للعملية الاستعارية ( المندرجة – كما يجب التذكير – فى مجموعة العمليات التى تستخدم التماثل على محور الاستبدال ) ، فإنه يقدمه من خلال عمليات ميتالغوية . فباعتبار أن العلامات دالة على بعضها البعض فهى تدخل فى روابط الاستبدال حيث تصبح العملية الاستعارية ممكنة . ومن هذه الوجهة تقع السيمانطيقا بإشكاليتها : تعدد المعنى ، بين أسوار اللغة . وليس من قبيل الصدفة أن الألسنى يحيلنا هنا إلى المنطقى ، فيقول ياكوبسن : "إن المنطق الرمزى لا يكف عن تذكيرنا بأن الدلالات اللغوية – التى تتشكل عبر منظمة العلاقات التحليلية – التى تربط تعبيرا ما بغيره ، لا تقترض حضور الأشياء " ( المرجع نفسه ، ص 42 ) . وليس هناك طريقة أفضل مما قال ياكوبسن للتعبير عن أن المعاملة الأكثر دقة مع إشكالية ثنائية المعنى تدفع ثمن دقتها بانصرافها عن المراجع العينية . وقد قلنا فى ختام الجزء الأول إن القيمة الفلسفية للرمزية تكمن فى كونها تعبر عن غموض الكينونة من خلال تعدد إشارية علاماتنا . ونحن ندرك الآن أن علم تعدد هذه الإشارية ، وهو علم الألسنيات ، يتطلب أن نبقى محاصرين بين أسوار عالم العلامات . أليس هذا مؤشرا لرابطة دقيقة بين فلسفة اللغة وعلم اللغة ؟ بين الهرمنطيقا كفلسفة والسيمانطيقا كعلم ؟
وسنقوم بتحميص هذه المقولة من خلال تغيير آخر للمستوى وانتقال إلى السيمانطيقا البنيوية ، كما تمارس لا على مستوى الألسنية التطبيقية فقط بل كما فى الترجمة الآلية على سبيل المثال ، وأيضا كما تمارس فى الألسنية النظرية وفى أى مجال يندرج تحت اسم السيمانطيقا البنيوية .
III -  السيمانطيقا البنيوية
هناك ثلاث مسلمات منهجية ، حسب ما يقول م . غريماس ( فى كتابه السيمانطيقا البنيوية ) ، تحكم السيمانطيقا البنيوية :
1.      نشأ هذا الفرع منذ بداياته على مسلمة انغلاق العالم الألسنى ، وبناء على هذه المسلمة تصبح السيمانطيقا فى متناول العمليات الميتالغوية التى تنقل نظام علامات ما إلى غيره من أنظمة العلامات . وبينما لا يوضح ياكوبسن علاقة هذه الأنظمة وكيف ترتبط ببعضها البعض ، وكيف ترتبط بنيات اللغة – موضوع الدراسة – بتلك البنيات التى نتوصل إليها عبر الميتالغة ، تتضح عند غريماس مستويات اللغة التراتبية . ففى بادىء الأمر نجد عند غريماس اللغة التى هى موضوع الدراسة ، ثم نجد اللغة التى تصف البنيات الأولية للغة السابقة ، ثم نجد اللغة التى تعمق المفاهيم إلاجرائية لهذا الوصف ، وأخيرا اللغة التى نتوصل بها إلى التقعيد والتعريف لما سبق . وعبر الرؤية الواضحة للمستويات الترابية للغة ، داخل الانغلاق الألسنى ، تصبح هذه المسلمة فى هذا العلم أكثر وضوحا ، أى أن البنيات المصاغة على المستوى الميتالغوى هى ذاتها البنيات الماثلة فى اللغة .
2.      أما المسلمة الثانية فى السيمانطيقا البنيوية أو خيارها المنهجى ، فهى الانتقال إلى المستوى الاستراتيجى للتحليل الذى لا يأخذ الكلمات ( المفردات ) كإطار مرجعى بل يأخذ البنيات التحتية الكامنة المصاغة كلها لأغراض التحليل . ولا يمكننى فى هذا البحث أن أعطى أكثر من فكرة أولية عن هذا المشروع ، وهو التعامل مع وحدة جديدة فى العملية وهى اللبنة الدلالية المسماة بـ "السيمة"(10) التى تلمس دائما عبر علاقة تقابل من نوع : طويل – قصير ، عريض – ضيق ، الخ … ، ولكن على مستوى أصغر من المفردة . ولا يوجد سيمة أو فصيلة سيمية – حتى لو كانت تسميتها مأخودة من اللغة العادية – ومطابقة مع مفردة واردة فى الخطاب . فلا تأخذ السيمانطيقا البنيوية الكلمة موضوعا للدراسة بل علاقات الوصل والفصل : الفصل بين سيمتين ( مثلا : مذكر – مؤنث ) ، والوصل تحت سمة واحدة ( مثلا : الجنس ) . ويسعى التحليل السيمى لمجموعة مفردات إلى إنشاء شبكة تراتبية من الوصل والفصل التى تستنفد التكوين . وهنا نرى فائدة ذلك للألسنية التطبيقية حيث يمكن وضع العلاقات الثنائية فى حساب منظومة من نوع : 1 ( 0 ، 1 ) ، والتعامل مع مجاميع الوصل – الفصل بحاسبات من النوع السبرناطيقى ( مفتوح ، مغلق ) . وليس هذا المنهج السيمانطيقى البنيوى بأقل فائدة للتنظير لأن السيمات هى وحدات دلالية مصاغة انطلاقا من بنيات علاقاتها فقط . والأمثل هو إعادة صياغة المفردات بعدد أقل بكثير من أبنية الدلالة الأولية هذه ، ولو نجحنا فى هذا – وهذا المشروع مشروع إنسانى – فإنه يمكن تعريف المفردات موضوع الدراسة عبر تحليل شامل كمجموعة من السيمات لا تحتوى إلا على فصل وتراتب علاقات ، وباختصار كمنظومة من السيمات .
3.      المسلمة الثالثة فى السيمانطيقا البنيوية هى أن الوحدات التى نعرفها كمفردات فى الألسنية الوصفية ، والتى نستخدمها ككلمات فى الخطاب ، تنتمى إلى مستوى التجلى الخطابى لا إلى مستوى الكمون . فالكلمات – ولنستخدم لغة عادية – لها أسلوب حضور يختلف عن أسلوب وجود البنيات . وهذه نقطة هامة جدا فى بحثنا لأن الذى اعتبرناه تعدد المعنى وعملية رمزية هو ظاهرة المعنى الذى يتجلى فى الخطاب والذى تكون علته على مستوى آخر .
إن كل مساعى السيمانطيقية البنيوية تستهدف إعادة الصياغة تدريجيا للعلاقات التى تؤهل للكشف عن ظاهرة المعنى حسب تركيب متصاعد التعقيد . ولن أتعامل هنا إلا مع نقطتين من هذه الصياغة الجديدة : أولا ، من الممكن إعادة تناول كل من إشكالية تعدد المعنى – باعتبارها خاصية معجمية – ووظيفة الرمزية على مستوى أعلى من الكلمة ، ولنقل على مستوى الجملة ، وذلك بدرجة من الدقة والصرامة لا مثيل لها . فالسيمانطيقا البنيوية تسعى لتفسير الثراء السيمانطيقى للكلمات باستخدام منهج مبتكر يربط بين تنويعات المعنى والأنماط السياقية المختلفة . عندئذ يمكن تحليل تنويعات المعنى حول نواة ثانية ، ذلك القاسم المشترك فى كل السياقات والمتحولات السياقية . ولو قمنا بعرض هذا التحليل فى إطار اللغة الإجرائية التى تقوم باختزال المفردات إلى مجموعة سيمات ، فسنصل إلى تعريف لظاهرة المعنى المتغير لكلمة ما باعتبارها اشتقاقات من سيمة ، أو من سيمات ، ناتجة من وصل نواة سيمية مع سيمة أو سيمات سياقية . وهذه الأخيرة تشكل أنماطا سيمية متآلفة مع أنماط سياقية . وهذا الذى كان لابد من إهماله فى طرحنا السابق المفتقد إلى الدقة وهو مفهوم الكمون السيمانطيقى ، قد اكتسب الآن طابعاً تحليليا دقيقا . فيمكن إدراج كل ظواهر المعنى فى صيغ لا تحتوى إلا على علاقات الوصل والفصل والتراتب . وبهذا يمكن تحديد دور السياق بشكل أكثر دقة وصرامة ، هذا الدور الذى كنا قد أدرجناه فى أول البحث فى مصطلحات غائمة كالغربلة أو تفاعلات التراسل بين أبعاد معينة لدلالة الكلمات المتباينة فى الجملة . أما الآن فيمكننا الحديث عن الفرز بين تحولات سياقية : مثلا ( ولنرجع إلى مثل م . غريماس ) فى عبارة : "يعوى الكلب" يسمح التفسير المتوقف على السياق ، أى يسمح المتحول السياقى : "حيوان" ، وهو المشترك بين كلمة "يعود" وكلمة "كلب" ، بحذف دلالات كلمة "كلب" التى لا تشير إلى حيوان بل إلى شئ ، كما فى تعبير (  le chien du fusil )  ] تعبير اصطلاحى فرنسى يترجم حرفيا : "كلب البندقية " وهو جزء من البندقية ويعرف بالعربية بـ " ديك البندقية "  [ . وكذلك فإنه يمكن حذف دلالات كلمة " يعوى " التى قد تصف فعل إنسان ، على سبيل المثال . ففعل الفرز السياقى ينطوى إذن على تعزيز سيمات على أرضية التكرار .
وكما نرى من هذا التحليل لدور السياق ، فإننا نقع على الإشكاليات نفسها التى تعاملنا معها فى الجزء الثانى من بحثنا هذا . ولكننا الآن نتصدى لها بدقة لا تتحقق بغير استخدام أداة تحليلية . إن نظرية السياق من هذا المنطلق مدهشة حقا . فعندما يكون استقرار المعنى فى جملة ما متوقفا على تكرار السيمات نفسها ، فيمكننا عندئذ التعريف بدقة بما يمكن أن يسمى بتجانسية الخطاب (11) أى بإنشاء الخطاب لمستوى متجانس من المعنى . فيمكننا القول إن عبارة "يعوى الكلب " إبلاغ عن حيوان .
ويمكن تناول إشكالية الرمزية انطلاقا من مفهوم التجانسية فى الخطاب وبنفس وسائله التحليلية . ماذا يحدث فى حالة خطاب مزدوج الدلالة أو متعدد الدلالة ؟ إن السياق لا يضمن تجانسية الخطاب بل يقوم بترشيح مجموعة من الإشعاعات السيمية (12) المتجانسة ، فهو يسمح بمرور عدة مجاميع سيمانطيقية تنتمى إلى تجانسات متنافرة .
ويبدو لى أن سبر هذا المستوى التحليلى بشكل جذرى ومقصود سيسمح لنا بفهم أفضل للترابط لبن المستويات الثلاثة الاستراتيجية التى استخدمناها بتعاقب . فقد تعاملنا أولا كمؤولين أو هرمنطيقين لوحدات واسعة من الخطاب ، أى مع النصوص ، وثانيا كسيمانطييقيين معجميين حيث تعاملنا مع معنى الكلمات أى مع المفردات ، ثم ثالثا تعاملنا كسيمانطيقيين بنيويين مع مجموعات سيمية . ولم يكن هذا الانتقال فى المستويات عبثاً فهو مؤشر لتصاعد الدقة ، وإذا سمحتم لى بالقول ، فهو مؤشر للعملية ، فقد اقتربنا تدريجيا من المقوم الكلى فى المثال الأعلى عند ليبنتز . ومن الخطأ القول بأننا ألغينا الرمزية ، فعلى الأصح لم تعد الرمزية لغزاً أو حدثا خارقا يكاد يصل إلى حد الإذهال باعتباره يدعو إلى تفسير مزدوج . فالرمزية الأن تقع فى إطار يرتبط بتعدد المعنى وهذه مسألة معجمية أى مسألة لغوية . ومن هذا المنطلق فليس فى الرمزية ، فى حقيقة الأمر ، تميز ، فكل كلمات اللغة العادية لها أكثر من دلالة . فنار باشلار ليست أكثر غرابة فى هذا الصدد من أى كلمة في قاموسنا. (13) وهكذا ينحسر وهم يوحى بأن الرمز لغز بين الكلمات، والحقيقة على العكس من ذلك فإمكانية وجود الرمزية تنبع من وظيفة مشتركة تتسم بها كل الكلمات ، وظيفة جامعة للغة ، ألا وهى قابلية المفردات لتطوير تنويعات سياقية . ولكن الرمزية تربط بشكل آخر بالخطاب ، ففى الخطاب وليس خارجه نجد ازدواجية الدلالة . ولهذا يشكل الخطاب ظاهرة المعنى المحددة فالغموض المحسوب هو عمل سياقات معينة . ويمكننا أن نقول الآن إنه فعل نصوص تنشىء تجانساً معيناً من أجل التلميح بآخر . إن نقل المعنى أو الاستعارة  metaphore ( بمعناها الايتمولوجى )(14) يبرز عندئذ كتحول فى التجانسية ، كفعل التجانسات المتعددة ، المتضاربة ، المتشابكة . إن مفهوم التجانسية قد أعاننا على التعرف على موقع الاستعارة فى اللغة بشكل أكثر دقة مما سمح به مفهوم محور الاستبدال الذي استعاره ياكوبسن من سوسور .
ولكن دعونى أسألكم ، ألا يحق للفيلسوف أن يدلى بدلوه فى نهاية المطاف ؟ ألا يمكن أن يتساءل تساؤلا مشروعا : لماذا يسعى الخطاب أحيانا إلى الغموض ؟ ويوضح الفيلسوف سؤاله قائلا : لماذا الغموض ؟ أو على الأصح لإبلاغ ماذا ؟ وها نحن قد وصلنا إلى الأمر الجوهرى : انغلاق العالم الألسنى . فكلما اخترقنا كثافة اللغة وابتعدنا عن مستوى تجليها ، وكلها تقدمنا فى اتجاه وحدات الدلالة الأصغر من المفردة ، حققنا انغلاق اللغة . فوحدات الدلالة التى كشف عنها التحليل البنيوى لا تدل على شئ ، فهى مجرد إمكانيات للتركيب ، وهى لا تبلغ شيئا ، وإنما تقوم بالوصل والفصل . وانطلاقا من هذا فهناك طريقان لإدراك الرمزية : عبر هذا الذى يشكلها وعبر ما تسعى إلى إبلاغه . أما الذى يشكلها فيحتاج إلى تحليل بنيوى ، وهذا التحليل البنيوى يزيل الجانب "السحرى" منها ، وهذه وظيفته ، وأنا أزعم : رسالته . إن الرمزية تعمل بمصادر اللغة كلها وهى مصادر لا سر فيها .
أما بالنسبة لما تبلغه الرمزية فهذا ما لايمكن أن تعلمه الألسنية البنيوية ، فهى حركة الذهاب والإياب ، فى التحليل والتركيب ، لا يتساوى الإياب بالذهاب . فعلى طريق الإياب تظهر إشكالية كان التحليل قد أزاحها تدريجيا وهى الإشكالية التى أطلق عليها م . روير  M. Ruyer التعبيرية ، لا بمعنى التعبير عن الانفعالات أى بمعنى المتحدث معبرا عن ذاته ، بل بمعنى لغة تعبر عن شئ ، أو لغة تبلغ شيئا . ويتضح ظهور الإشكالية التعبيرية فى الاختلاف بين مستوى الخطاب أو مستوى التجلى ، ومستوى اللغة أو مستوى الكمون الذى لا ينكشف إلا عند التحليل . فالمفردات لا تكون لخدمة تحليل مجموعات سيمية فقط ، بل تكون أيضا لتركيب وحدات دلالية يمكن إدراك معناها مباشرة .
وقد يكون ظهور التعبيرية هو ما يشكل روعة اللغة . فقد عبر م . غريماس عن ذلك جيدا بقوله : " قد يكون هناك سر اللغة ، وهذه قضية يتصدى لها الفيلسوف ولكن ليس هناك سر فى اللغة " . وأعتقد أنه يمكننا أيضا أن نضيف ما يلى : ليس هناك سر فى اللغة، إن الرمزية الأكثر شاعرية والأكثر "قدسية " تستخدم التنويعات السيمية نفسها التى نجدها فى أكثر كلمات القاموس ابتذالا . ولكن هناك سر اللغة وهو ما تبلغة اللغة ، أو الشئ الذى تبلغه ، فهى تبلغ شيئاً عن الكينونة . فإذا كان هناك لغز الرمزية فهو يكمن تماما على مستوى التجلى حيث تعبر ازدواجية الكينونة عن نفسها فى الخطاب .
أليست مسئولية الفلسفة حينذاك هى إعادة فتح هذا الخطاب نحو الكينونة المذكورة، هذا الخطاب الذى تقوم الألسنية ، لضرورة منهجية ، بإعادة إغلاقه باستمرار على عالم مقفل من علامات ومن تفاعلات داخلية صرف بين علاقات متبادلة ؟


سارتر بين الوجوديين