عبد السلام محمد طويل
يكتسي الكتاب موضوع القراءة حضور بول ريكور أهمية خاصة بالنظر إلى الاعتبارات التالية :
أولا : أن هذا الكتاب ، بغض النظر عن طابعه الاحتفائي ، يمثل نموذجا جيدا لعملية التواصل والتفاعل الثقافي والفلسفي بين العالمين العربي والغربي ، وهو تواصل موصول عبر نصف قرن وليس استجابة فورية لما يجري من حديث إيديولوجي حول صراع أو حوار الحضارات أو الثقافات.
ثانيا : أن المشروع الفلسفي لبول ريكور يعد من أكثر المشاريع الفكرية الغربية صلة بواقع الثقافة العربية الإسلامية من حيث اشتغاله أساسا على التأويل وتحليل الخطاب، والقضايا الانطولوجية . وهو ما قد يسعف المجتمع العربي بصدد سعيه لتجديد مختلف مظاهر وأنماط خطابه الثقافي دينية كانت أو غير دينية .. وكذلك من حيث موقفه المتوازن فيما يتصل بإشكالية العلاقة بين الحداثة والتراث ، وكذا رؤيته الإيجابية للدين والظاهرة الدينية .. وهو بهذا يؤسس لنزعة إنسانية كونية بالغة الانفتاح والتسامح . فضلا عن قيامه على منظور منهجي ومعرفي ينطلق من حتمية التفاعل بين مختلف فروع المعرفة الإنسانية والاجتماعية للوصول إلى إجابات مرضية حول الأسئلة الأنطولوجية الكبري .
وابتداء يمكن تصنيف أبحاث هذا المؤلف الجماعي من حيث طريقة وخلفية المقاربة إلى نمطين رئيسيين : نمط يغلب عليه الطابع الاحتفائي التكريمي وهو ما ينسجم مع مناسبة إصدار هذا الكتاب من طرف مجموعة من أساتذة الفلسفة في الوطن العربي تتلمذوا خلال الخمسينات والستينات على يد بول ريكور واستمر اهتمامهم وتواصلهم قائما مع مشروعه الفلسفي ، ومن هنا ينبع احتفائهم به إلى جانب باحثين فرنسيين أخرين وعلى رأسهم بول ريكور(1) . ونمط يغلب عليه الطابع التحليلي المقارن .. وسوف تركز هذه القراءة بشكل أساسي على أنماط التواصل والتأثير والتأثر المعرفي بين بول ريكور وفلسفته من جهة ، وبين الباحثين الذين قدموا أوراقا حول كتاباته .
وقبل ذلك يبدو من المفيد منهجيا تزويد القارئ بخلفية معرفية عامة عن بعض أهم أفكار واجتهادات بول ريكور موضوع هذا الكتاب ..
1. نجد لدى بول ريكور تمييزا بين نوعين من الزمانية ، فمن جهة أولى هناك زمانية الوجود في العالم مع الآخرين ، ومن جهة ثانية هناك الزمانية العميقة التي يكمن مضمونها في محاولة حل لغز الموت والأبدية .
2. التاريخية لديه تقوم على استدعاء الزمان للتفكير في الوجود ، ولكن ليس الوجود الفردي ، بل الوجود في العالم ومع الأخرين بكل غناه الدلالي والتأويلي .
3. يمثل السرد لديه منزلة أنطولوجية ، ويتحول إلى مصدر أولي من مصادر المعرفة بالذات وبالعالم . والنص السردي مهما كان النوع الذي يتمظهر فيه سواء كان أسطورة أو قصة أو رواية ينطوي على أفقين : أفق التجربة وهو أفق يتجه نحو الماضي ، وأفق التوقع وهو الأفق المستقبلي .
4. يميز بول ريكور بين نوعين من التأويلية : تأويلية الشك ويمثلها كل من ماركس ونيتشه وفرويد .. وتأويلية الإثبات التي يمثلها بولتمان وتيار لاهوت التحرير. ورغم الصراع القائم بين التأويليتن إلا أن بول ريكور يحرص على التقريب بل والتكامل بينهما . وفي هذا الإطار ومن وجهة نظر هيرمينوطيقية يذهب بول ريكور إلى أن للنص معنى مختلف عن المعنى الذي يعرفه التحليل البنيوي فيما يستعيره من اللسانيات ، فهو ( أي النص ) وساطة بين الإنسان والعالم ، بين الإنسان و الإنسان ، بين الإنسان ونفسه فالوساطة بين الإنسان والعالم هو ما يدعوه بول ريكور بالمرجعية ، أو ما الوساطة بين الناس فينعتها بالاتصالية ، في حين أن الوساطة بين الإنسان ونفسه فينعته بالفهم الذاتي . ومن هذا المنطلق فإن العمل الأدبي يشمل هذه العناصر الثلاثة ، المرجعية ، والاتصالية ، والفهم الذاتي .
5. تتلاشى المسافة بين الابداع والحياة لدى بول ريكور ، من منطلق أن القراءة تعد طريقة للعيش في البنية الخيالية للنص الإبداعي ، وبهذا المعنى يذهب بول ريكور إلى أن القصص تروى ، ولكنها أيضا تعاش على نحو متخيل ، أكثر من ذلك فإنه يتحدث عن "الهوية السردية" التي تشكلنا على اعتبار أن الهوية أو الذاتية ليست عبارة عن سلسلة أحداث مفككة ، كما أنها ليست عبارة عن جوهر ثابت عصي عن التطور ، فالهوية لديه تستمد وجودها أساسا من التأليف السردي في حركيته.
6. يكتسب التراث أهمية خاصة لدى بول ريكور وفي هذا يقول : "إن الفرد باعتناقه التراث وتفعيله وإعادة تأويله ، يكون قد اتخذ من التراث نفسه غاية له ، حيث يفهم التراث بأنه ما يستغرق أجيالا ، ويمتد إلى ما وراء حياة المشاركين في ذلك التراث وميلادهم وموتهم . وانطلاقا من هذا الوعي بأهمية التراث يحذر بول ريكور من الاستهتار المعاصر بالتراث ويرفض النزوع إلى تجاوز التراث ، أو القطيعة معه باعتباره شيئا مكتملا في ذاته وعصيا من التغيير ، بل يدعو على العكس من ذلك ، إلى الانفتاح على الماضي بغية إعادة إحياء ما لم يكتمل حتى الأن من ممكناته ، أنطلاقا من أن التراثية تعني أن المسافة التي تفصلنا عن الماضي ليست فاصلا ميتا بل هي "تحويل إبداعي للمعنى" علما أن ريكور يميز بين التراثية والتقاليد والتراث ، فإذا كانت التراثية مفهوم شكلي وإجرائي ، فإن التقاليد تؤدي وظيفة مفهوم مادي لمحتويات التراث . وبغض النظر عن التداخل الغامض بين هذه المفاهيم إلا أن ما يهمنا هنا هو تأكيد بول ريكور أن التراث ليس بنية عقائدية راسخة وإنما جدل متواصل من الاستمرار والانقطاع يتكون من تقاليد وقيم متناسقة مختلفة وأزمات داخلية ، وانقطاعات ومرجعيات وانشقاقات ، وما أن نسلم بذلك حتى نكتشف بأن في التراث بعد جوهري للمسافة وهي المسافة التي تدعو باستمرار إلى التأويل النقدي . وتتأكد مرجعية التراث لدى بول ريكور بشكل لا يقبل الشك حينما نجده يعتبر أن كل عمل يعد إنتاجا أصيلا وكينونة في عالم الخطاب ، لكن العكس لا يقل عن ذلك صدقا فالابتكار سلوك تحكمه القواعد ، لأن عمل الخيال لا يأتي من فراغ ، فهو يرتبط بشكل أو بأخر بالنماذج التي يوفرها التراث أكثر من ذلك فإن خيال الفنان الإبداعي لا يستطيع الاتصال بالاخرين ما لم يشترك معهم بموروث جماعي ، وفي هذا الإطار نجده ينتقد إهمال كانط Kant للأبعاد الاجتماعية والتاريخية للخيال الإبداعي .
7. لا يمكن الوصول إلى أنطولوجية الوجود الإنساني لدى ريكور إلا عبر اللغة ولذلك نجده يعترض بشدة على هيدجر بدعوى أنه ينتقل إلى وصف الوجود بسرعة بالغة ودون الاستفادة من مختلف الوسائط و كذلك دون تحضير منهجي كاف ، فضلا عن ذلك فإن هيدجر حينما يتوجه رأسا لمعالجة القضايا الوجودية ، يترك نفسه بلا وسيلة تفصل بين نزاع التأويلات المختلفة . وهو ما حدى بول ريكور للتأكيد على أن إدراك إنطولوجية الوجود الإنساني يتعذر أن يتم دون الانعطاف على اللغة ، عبر تحرير الرموز والنصوص التي تشهد على ذلك الوجود ، ولهذا فإن بول ريكور من خلال كتابه "الزمان والسرد" لا يكون مجرد امتداد لمشروع هيدجر وأنما يمثل أكثر من ذلك عنصر تصويب وتصحيح للموضوعات المركزية لكتاب هيدجر حول "الوجود والزمان" حيث أسعفه بتطبيقات أدبية وزوده بدقة تحليلية وبعد اجتماعي واضح .
8. يمثل الخيال والزمان والإمكان العناصر التكوينية الأساسية في كل من الأنثروبولوجية الفلسفية لدى بول ريكور وتحديدا تفكيره في الوجود الإنساني والهيرمونيطيقي أو التاويلية أي تفكيره في النصوص .
9. الوجود في التاريخ يعني حسب ريكور أن الفعل هو العناء والعناء هو الفعل(2).
بعد هذه الإطلالة العامة على فكر بول ريكور من داخل الكتاب موضوع القراءة زمن خارجه ، نعود إلى أهم ما جاء في أبحاثه من أفكار وقضايا. وتكون البداية بدراسة عبد الوهاب بو حديبة بعنوان "ذكريات" Sauvenirs بعد أن يتتبع الباحث مختلف مراحل علاقته المعرفية والإنسانية ببول ريكور يقف بشكل مركز على أول رسالة تحفيزية تلقاها من أستاذه تدعو لضرورة الحضور في التاريخ مسلحين بقيم السلام في مواجهة كل أشكال العنف ولا شك أن القيمة التاريخية لهذ الرسالة تنبع من أن تونس أنذاك ، (بلد الطالب) كانت لا تزال مستعمرة من طرف فرنسا (دولة الأستاذ) !
غير إن قوة الإلهام الفلسفي التي مثلتها كتابات ريكور لبوحديبة وغيره لم تتوقف عند مرحلة التكوين الجامعي التي تزامنت مع مرحلة الاستعمار وانما استمرت الى ما بعد الاستقلال ، وفى هذا الإطار نجد بوحديبة يقول : " لقد كنت استمد القوة من فكرة اتتنى من بول ريكور الذى قال لى انه بامكانى ان اساهم بجهودى المتواضعة ليست فى محو فظائع زماننا وانما على الاقل ، فى كشف الجلادين ، وهو ما يشكل شحنة معرفية ونفسية امدت بوحديبة، بعد ذلك بارادة الالتزام والنضال فى مجال الحريات العامة وحقوق الإنسان
هذا على مستوى الالتزام بالقضايا العامة أما أهم ما تعلمه بوحديبة من بول ريكور معرفيا، فيتمثل فى استيعابه ان التحليل الأكثر حيوية ونجاعة هو تحليل للأعماق analyse de profondeurs ، العمق النفسي الذي بلوره ريكور من خلال فرويد والعمق الاجتماعي الذي بلوره من خلال ماركس ، والعمق الروحي كما حلله نيتشيه .. غير ان بوحديبة يخلص الى انه فى المحصلة الأخيرة ليس هناك إلا عمق واحد هو العمق الفلسفي
غير أن ما يكتسب قيمة وأهمية كبرى فيما تعلمه بوحدبية من بول ريكور هو أن الإنسان كى يجد ذاته لابد من ان يتحقق عبر تحقيق كينونته اما الربيع الميمون ، فقد حاول الوقوف على اهم المحطات فى المسار الفلسفي لريكور ؛ فبعد اعمال هذا الاخير حول فينومينولوجيا إدموند هوسرل ووجودية غابرييل مارسيل Gabriel Marcel وكارل ياسبرز kanp japens حاول بول ريكور جاهدا تحديد مفهوم القابلية للخطا ، او الخطيئة la faillibilite فى الجزء الثانى من مؤلفه فلسفة الارادة ، الذى سيوجه كل ابحاثه اللاحقة، بعد ان درس فى الجزء الاول من نفس الكتاب : الارادى والاارادى ، ليعالج فى الجزء الثالث رمزية الشر la symbolique du mal فمن خلال تاملنا فى المفاهيم والمقولات التى درسها ريكور فى هذا المؤلف نلا خط أن الإنسان لديه ليس كائنا بسيطا etre simple وانما كائن خاضع دوما لقطبى الارادى واللاارادى ، وهذان القطبان هما اللذان سمحا لريكور ان يطور بعد رمزية الشر التى عالج فيها رموزا بدائية (الخطيئة le le peche ) والذنب la culpabilite القذارة la souillure) ) هيرمينوطيقا يتجاوز فيها العلم والدين والعقل والأيمان فى علاقة من التعاون والمساءلة والتصحيح المتبادل ..
فبعد رمزية الشر ، حيث كشف ان الرمز يسلم عادة الى التفكير ، شرع فى مسيرة تامل طويلة حول ، التحليل النفسى ، واللغة ، والتأويل والهيرمينوطيقات وصراعاتها ، التاريخ وحقيقة المؤرخ ، السياسة ، التربية ، الدين ، كل ذلك يستخلص الربيع ميمون بهدف تسليط الضوء على الواقع الإنساني وخباياه ..
لقد أوضح الربيع ميمون ان بول ريكور قد انطلق من هيرمينوطيقا الرموز والاساطير، ومنها انتقل الى هيرمينوطيقا النصوص ، ومن هذه الاخيرة انتقل الى هيرمينوطيقا الفعل ، ليصل الى أخلاق وسياسة قادرين على الرد على انتظارات الكائن الهش الذى هو الانسان. وهكذا فان الإنسان لدى ريكور ليس بـ "السيبرمان" النيتشوى أوالإنسان والحيوان، الذى تحدث عنه ابن عربي وانما الإنسان كما هو فى واقعه وحقيقته التاريخية.
فرغم أن الإنسان كائن ضعيف إلا أن بإمكانه ان يعد قويا اذا ما استطاع ان يتجاوز العطب الأصلي الذى يمنعه من ان يكون هو نفسه ، وان يحطم الزوايا المظلمة التى تحاصر وجودة وان يدرك طبيعته فى حقيقتها الارضية ، كما يدرك اصوله وغاياته النهائية وان يعيش وفقا لحكمة تمكنه من ان يكون فى منتهى الانسجام مع ذاته والعالم من حوله ..
هذه بعض اهم ملامح الإنسان التى توصل اليها الربيع ميمون من خلال تتبعه للمسار الفلسفى لبول ريكور ، وهو مسار الفلسفة فيه اكثر من مجرد مادة تدرس أو علم يحصل ، وانما هى فوق ذلك رسالة تنويرية تحريرية للمجتمع الانسانى ..
وهى الخلاصة التى انطلق منها جورج زيناتى فى مداخلته " بول ريكور ينصت الى العالم la Pul Riceur a l’ecoute du mond حيث اعتبر أن الفكر والحياة لدى ريكور يمتزجان ويتداخلان في أفق فلسفي إنساني يرفض الفصل بين فلسفة قارية وأخرى أنجلوساكسونية ، كما يرفض الحواجز ، في إطار الفلسفة القارية الأوربية، بين الفلسفة الألمانية والفلسفة الفرنسية ، فهو شديد الإصرار في مختلف كتاباته على هذا الانفتاح بين فلسفة تأملية فرنسية ، وأخرى فينومينولوجية هوسرلية ألمانية وثالثة تحليلية إنجليزية.
ومن جهة أخرى ، فإن جورج زيناتي يخبرنا كيف أن بول ريكور يؤمن أن الفلسفة لا تعيش وحدها في العالم ، إنما توجد وسط علوم إنسانية أخرى ، كما أنها ليست قادرة بمفردها على رصد جميع أبعاد الوجود ، ولا على مواجهة جميع تحديات العالم . ومن ثم فلكي يستوعب الفيلسوف عصره استيعابا جيدا ، يتوجب عليه أن ينفتح على جميع مظاهر العلوم الأخرى كما يجب على الأنطولوجيا التي تشكل المحور الأساسي لكل فلسفة أن تتبع الطريق الطويل للمعرفة ، مع قبولها التأسيس لحوار من اللسانيات والانثروبولوجيا وعلم النفس والتاريخ ، من أجل عكس مدى تعقيد التجربة الإنسانية التي تعد مناسبة للوقوف ، مع جورج زيناتي ، دائما على مغزى واجب الذاكرة Le devoir de memoire الذي أصبح واجبا للمساواة في العدالة بين الذات والأخر ، وهذه الذات لا يمكن أن تصبح حقيقية وأصيلة إلا من خلال المرور الإجباري عبر الأخر ، لأن حقيقة الذات لا تنجلي ولا تظهر ولا توجد في كامل امتلائها إلا بفضل الإنصات للأخر والالتقاء به وإلا من خلال اندراج الذات كما الأخر في مغامرة إنسانية متجددة دوما.
أما فتحي التريكي فقد ركز دراسته Riceur philosophe de l'alterite بول ريكور فيلسوف الغيرية "حول إشكالية الهوية متسائلا ببساطة : من نحن ؟ معتبرا أن هذا التساؤل يمكن أن يثير إنشغالات الأيديولوجيين ورجال السياسة الذين يبحثون على تجديد مثلهم الموحدة محاولين إقناع الجماهير بهدف تجميعهم ضمن "نحن" تظل بحاجة إلى تحديد مكوناتها باستمرار .
غير أن الباحث يكشف أن سؤال الهوية : من نحن؟ يمكن أن يتحول إلى : من هو عدونا ؟ وبذلك يصبح هذا التساؤل إقصائيا من حيث الجوهر ، لأنه يقسم الناس إيديولوجيا بين أصدقاء وأعداء . ومن ثم فإن خطاب الهوية Le discours identifaire يعد إقصائيا بحكم طبيعة الأشياء .
وهنا بالذات يستحضر التريكي إسهام بول ريكور الذي طور هذه الفكرة بشكل مغاير وفقا منظور هيرمينوطيقي للزمانية ، مبرزا أن إعادة تشكيل الزمان بواسطة السرد يتكون مما يسمى بـ "الهوية السردية" identite narrative وهو ما يفضى الى تحديد جديد للهوية التى لا تعد بالضرورة ، ان رهينة الماضى وانما بامكانها ان تتشكل بواسطة المستقبل باعتباره تحولا . فالهوية السردية بهذا المعنى ليست منغلقة ولا منطوية على ذاتها انها انفتاح ونفاهم ، وتواصل وفعل .. فحينما نعود الى الماضى فانما تعود اليه من اجل الوقوف على ممكناته واحتمالاته ..
لكن الا يمكن ان يتهدد مصير جماعة تؤسس هويتها على السرد بالانغلاق؟ يعتبر ريكور أن هوية جماعة معينة ليس بمنائ عن ازمات التشويه والتزييف ، ولذلك الح على القيمة التطهيرية العلاجية لفن السرد بشكل مغاير ، والسرد بواسطة الاخر، بدلا من سرد ذاتى التكوين. وكان الاخر هناl’autre هو العنصر المؤسس للأناle moi . وهنا بالتحديد يتفق كل من بول ريكور و فتحى التريكى على ان الفلسفة تساهم انطولوجيا فى ارساء هوية تعددية ومنفتحة على الإنسان المعاصر من منطلق ان هوية الإنسان لا يجب ان تخضع لأية أحادية ميتافيزيقية، او اونطولوجية او دينية ، او سياسية ، او أخلاقية وانما على المغاير والانفتاح وهو ما يمكن الإنسان من ان يغدو مواطن حقيقيا la authentique citoyen.
ومن جانبه فقد عمل محمد محجوب فى دراسته الموسومة "حضور ريكور فى الكتابات الفلسفية التونسية " فقد عمل على تتبع اثر فلسفة ريكور فى الفكر الفلسفى التونسى من خلال كتابات عبد الوهاب بوحديبة خاصة فيما يتعلق بمفهوم الغيرية والتأمل الفلسفى لمفهوم الانا فى علاقته بالآخرين .
اما الأستاذة فاطمة حداد شماخ فلم تركز خلافا لباقى الابحاث ، على فينومينولوجيا بول ريكور وانما تناولت الجانب البيداغوجى والانسانى فى شخصة ، كما تناولت رؤيته لتأثير الفلسفة فى السياسة ، وكذا العلاقة بين اللغة والخطاب بالعنف من منطلق ان الخطاب والعنف يشكلان حسب ريكور العنصرية المتناقضين الاكثر عمقا ومحورية فى الوجود الانسانى ، ومن هنا دعوته الى حسن استعمال اللغة او ما عبر عنه بالممارسة غير العنيفة للخطاب .. la pratique non vlolente du discaurs)) من خلال الحرص على احترام التعددية واختلاف الخطابات ..
وفى قراءة كليه للمشروع الفلسفى لبول ريكور ذهبت الشماخ الى ان اعمال ريكور فى شموليتها تشكل "عملا اخلاقيا"ethique efluique بالمعنى العميق والواسع لكلمة أخلاق.
كما حرصت على إبراز البعد الإنساني والكوني لفلسفة ريكور من خلال انفتاحها على جل التيارات الفلسفية الكلاسيكية والمعاصرة .
وفي هذا الإطار فقد عقدت مقارنات عميقة بين كل من بول ريكور من جهة وكل من سبينوزا وهيدجر وكانط وحنا أرندت .
هذا عن مداخلات الباحثين العرب أما المداخلات الغربية فقد استهلها الباحث أوليفي مونجان رئيس تحرير مجلة Esprit بدراسته الموسومة "التزام وقيمة" Engagement et valeur والتي تمحورت حول إشكالتين رئيسيتين : ماهي لحظتنا التاريخية ؟ إلى أية لحظة تاريخية تنتمي ؟ ما هي اللحظة الفلسفية التي هي لحظتنا ؟
بالنسبة للحظة التاريخية فقد أعتبر الباحث أنها لحظة مطبوعة بالعنف حيث عمل على تقسيم القرن العشرين إلى ثلاثة مراحل أساسية : عصر الحرب ويمتد من 1914 إلى 1945 والعصر الذهبي للديمقراطيات الاجتماعية (1945-1975) أما المرحلة الثالثة فبرغم أن الباحث لم يخصها ببحث صريح غير أن ذلك لم يمنع من وصفها بمرحلة الارتكاس ، فرغم أن أنهيار جدار برلين سنة 1989 كان إيذانا ببداية مرحلة من التفاؤل التاريخي إلا أن هذه المرحلة كانت جد قصير حيث سرعان ما دخلنا بعد أحداث 11 سبتمبر إلى حالة من الفوضى وعدم الاستقرار الدوليين .
ورغم ذلك فقد سجل أوليفي مونجان أن هناك نجاحا متناميا للقيم الديمقراطية . غير أن المشكلة تظل قائمة بصدد كيفية الحفاظ على هذا المكتسب ، وكيفية تحويل هذا التراث إلى منظورات للفعل Peupectives d'action وكيفية الاستمرار في التمسك والحرص على القيم الديمقراطية .. إن هذه التساؤلات هي ما تطرحه علينا حسب الباحث ، اللحظة التاريخية الراهنة .
هذا عن اللحظة التاريخية لكن ماذا عن اللحظة الفلسفية ؟ يعتبر الباحث أننا قد أعتقدنا طويلا بوجود قيمة للقيم La valeur des valeurs والحال إننا دخلنا في أزمة عميقة للقيم بمعنى استحالة الرجوع إلى قيمة القيم ، فهذه الأزمة يشخصها الباحث بكونها أزمة ثيولوجية لكنها أيضا أخلاقية وفلسفية وجمالية . وفي المحصلة النهائية وبلغة لا تقبل المواربة يسجل اوليفي مونجان أن اللحظة الفلسفية التي نوجد فيها لحظة مطبوعة بالشك والعدمية ، وهي لحظة لا تبدو قادرة على مساعدتنا على تغذية قناعات قوية .
ولمواجهة هذه الأزمة فإن الباحث يعتقد أن الأمر لا يتعلق بالبحث عن أساس معين للقيم بقدر ما يتعلق بمأسسة القيم L’institutios des valeurs أو تبادل القيم وهو ما لم يتم إلا عبر إرساء أسس تعددية راسخة للقيم تقوم على الجمع بين الاختلاف والوحدة .
وفي هذا السياق يتساءل الباحث كيف لنا أن نتفق على آلية أو إطار لتكييف صراعاتنا ؟ كيف لنا أن تتوافر على قواعد مشتركة تسمح لنا أن نكون مختلفين ؟ كيف يمكن أن نكون في حالة صراع دون أن نعلن الحرب ؟
هنا نلاحظ التداخل العميق بين اللحظتين التاريخية والفلسفية في لحظة وجودية واحدة مطبوعة بالعنف والشر ولمواجهة استشراء واستفحال هذا الشر يؤكد الباحث على ضرورة خلق شروط الجماعة السياسية Communaute politiqiule التي سيكون بإمكانها مواجهة الشر اينما وجد مع التسليم بعدم القدرة على استئصاله كليا لأنه ببساطة يشكل حقيقة وجوديه في تفاعل جدلي مع الخير .
وفي سياق تحديده لمفهوم الالتزام يتساءل الباحث : ما هي معايير الالتزام حينما نكون في حالة من عدم التوجيه التام ، وحينما تتجاوزنا الأحداث ؟ وبعد أن يحاول استمداد بعض عناصر الإجابة من بول ريكور يستخلص أن جوهر الالتزام إينما يكمن في القناعة التي تجبرنا على ألا نضفي صفة الاطلاقية عليها ، بأن نتعلم أن نلتزم بقضايا وقناعات مهما كانت عادية "وناقصة" Imparfaite لأن القناعة La conviction تغدو عنيفة عندما يراد تعميمها . فالقناعة يمكن أن تكون غير متسامحة (متعصبة) إنما يمكن أن تغذي المواقف غير المتسامحة الأمر الذي يستوجب موازنتها بالتسامح.
وفى هذا السياق يتساءل اوليفيى مونجان : ما الذى يؤسس التسامح بالنظر الى اللاتسامح او التعصب ؟ لياتى جوابه " انا متسامح لاننى قادر على احترام حرية الاخر فى التمتع بقناعته الخاصة، اللاتسامح يكمن فى كلام احترام حرية الاخر فى التمتع بقناعته الخاصة؟
ومن جهته فان اوليفيى ابيل Olivier Abel قد انطلق من اشكاليته شديدة الصلة بالاعتراف بالاخر ، والتعرف عليه متسائلا عن مغزى الاضطراب الذى يصاحب عملية الاعتراف وتجربة المعرفة والتعارف ، ومتسائلا عن دلالة التلازم الوثيق بين الاعتراف Reconnaissance والانفعال Emoton متبعا هو الاخر مقتربا مقارنا استحضر فيه كل من كانط Kanut وهوسرل Husseil وجنا ارتدت وبروست proust .. وخاصة هيجل Hegel الذى تعد الرغبة فى نيل الاعتراف لديه محركا اساسيا من محركات التاريخ الانسانى . ولذلك نجده كموضع الاعتراف فى قلب جد لبيته من منطلق ان الصراع ضد عدم الاعتراف او من اجل انتزاع هذا الاعتراف هو الذى يكمن فى اصل الصرورة التريخية ونطور الاشياء ..
واخيرا فقد انصبت دراسة بول ريكور la memorie saisie par l’histoire للرد على النقد والهجوم الذى تعرض له كتابه الاخير "الذاكرة ، التاريخ ، النسيان " وخاصة فيما يتعلق بواجب الذاكرة وهو ما كان داعيا لاعادة النظر الشاملة فى بنيه الكتاب الذى يتمحور أساسا حول تمثل الماضى من خلال الذاكرة والتاريخ ، لكن من وجهة نظر الحقيقة وليس الأخلاق . وهكذا فقد شكلت دراسة ريكور فصلا إضافيا لكتابه السالف الذكر.
فمقابل البناء الاصلى للكتاب بناء على تصور خطى lineaire بدا على اثره ريكور من الذاكرة ومنها انتقل الى التاريخ من وجهة نظر ابستمولوجية ، ليصل الى الشرط التاريخي كمشترك انسانى .. وبناء عليه فان مسالة "واجب الذاكرة " قد عولجت مبكرا فى سياق فينومينولوجيا الذاكرة الفردية والجماعية ، وهو ما انبرى ريكور من اجل إصلاحه انطلاقا من إعادة بناء شاملة لمسار الكتاب تتجاوز الطريقة الخطية لتعتمد تصورا دائريا تلتف فيه الذاكرة والتاريخ على بعضيهما ، كما تنطلق من ان الذاكرة تعد بمثابة "رحمه للتاريخ " الذي يظل مدينا للذاكرة التي تشكل بدورها ، حسب ريكور نفسه ، موضوعا للتاريخ ، ما دام هو الذى ساهم فى تشكيلها فى مرحلة من المراحل ..
اما واجب الذاكرة ، بالنسبة لريكور ، فيعنى ، فى المحصلة النهائية ، واجب عدم النسيان .. بنسيان طلب الاعتراف الذى ياتى اساسا من ضحايا الجرائم التاريخية الكبرى ، وهنا بصفتنا عربا مسلمين نستحضر بقوة مأساة الشعب الفلسطيني والعراقي الذى ما عليه الا ان يراهن على الذاكرة كعنصر تحفيز ووعى اساسى لاستمرار المقاومة وعدم الاستسلام.