الثلاثاء، 8 نوفمبر 2016

هيدجر : من الكينونة إلى الزمان

عمر مهيبل 

العلاقة بين الكينونة والزمان علاقة أبدية ، فكلاهما يحيل إلى الآخر باستمرار ، وآية ذلك يتجلى في أن أهم شئ أملكه في هذا الوجود هو وجودي ذاته ، ولكنه وجود معرض لأن أفقده في كل لحظة على اعتبار أن أسمى إمكانية حقيقية للكائن هي إمكانية الموت ، لأن الكائن كائن من أجل الموت ، إلا أن الموت لم يتحقق بعد ، فأين هو إذن يتساءل هيدجر ؟ إنه مسجل في ذاكرة الزمان القادم ؟ إنه المستقبل . من هنا يصير الكائن كائنا من أجل المستقبل همه الوحيد العمل على تحقيق وجوده "المشروع" والدازاين بهذا المعنى موجود زماني لا باعتبار أنه يوجد – في – الزمان كشيء منفصل عنه ولكنه هو نفسه وجود زماني ، أو أنه مكون للزمان ، وهنا أسمح لنفسي بالاستنجاد بسبينوزا الذي  يرى أن ليس هناك تطابق بين الفكر والواقع – أو الفكرة والشيء – لأنهما وجهان لفكرة واحدة بكل بساطة : من جهة هي الفكر ، ومن جهة أخرى هي الواقع.
وهكذا هي الكينونة عند هيدجر فهي الكائن والكينونة في آن واحد والزمان(**) هو حركة دائبة نحو المستقبل ، فما هو المستقبل ؟ إنه الموت ، وما هو الموت؟ إنه التجلي المطلق للعدم ، فما هو العدم إذن ؟ أين نبحث عنه وكيف نعثر عنه ؟.
يقول هيدجر "يدفعنا توضيح السؤال عن العدم بالضرورة إلى الموقف الذي يجعلنا نعرف هل من الممكن أن نتلقى إجابة عنه ، أم أن الإجابة عنه مستحيلة .. ويترتب على ذلك أن كل "إجابة" عن هذا السؤال مستحيلة منذ البداية ، ذلك أنها تتمثل – وفقا لقوى الأشياء – على النحو التالي : العدم هو هذا أو ذاك. "فالسؤال والإجابة – فيما يتعلق بالعدم – ينطويان على الخلف نفسه" .. وأيا كان الأمر ، فنحن نعرف العدم ، حتى لو لم يكن ذلك إلا بوصفه تلك الكلمة التي نلوكها بالسنتنا كل يوم ، وهذا العدم المبتذل ، العدم الشاحب المصاب بفقر الدم ، العدم الذي يحوم حول أقاويلنا دون أن يجعلنا نلاحظه ، هذا العدم نستطيع أن نخلع عليه بلا تردد ما يشبه التعريف ، فنقول : العدم هو السلب اللاأساسي بجملة الوجود"(1) .
والعدم يكشف عن نفسه في  "القلق"  أو أن القلق يميط اللثام عن العدم ، لكن المشكلة هي أنه ، أي العدم ، لا ينكشف لنا بوصفه موجودا ولا يعطي لنا بوصفه موضوعا أيضا ، كما أن القلق ليس فعل العدم ، إلا أن هذا لا يمنعنا من القول أن العدم يكشف بوساطة القلق فيه ، ويكشف دفعة واحدة غير مجزأة لأن وجود الكائن نفسه غير مجزأ ، وليس فعل العدم حدثا جزافيا أو عارضا كما يؤكد هيدجر ، لكن وبما أنه يشكل مصدر تأثير على الكائن المنزلق بأسره فإنه يكشف عن هذا الكائن في "غربته" الكاملة التي لم تكن واضحة حتي ذلك الحين ، وهو الذي يكشف عنه أيضا بوصفه " الاخر المحض " في مواجهة العدم ، ودون الكشف الاصيل للعدم لن يتيسر بلورة وجود ذاتي أو حرية أصلية وبالتالي لن يتمكن الكائن من تحديد مهامه المنوطة به تحديدا واضحا ، وعليه اذا كان الدازاين لا يستطيع أن يقيم علاقة " مع " الوجود الا بالبقاء داخل العدم، وإذا كان العدم  لا ينكشف أصلا إلا في القلق ، وفي القلق الأصيل فقط مع أنه نادر الحدوث ، ألا يفرض علينا هذا المطلب أن نخلق باستمرار في عالم القلق حتى نستطيع أن نوجد على الإطلاق ، ثم ألم نعترف نحن أنفسنا بأن القلق الأصيل نادر الحدوث . إذن ألا يكون هذا القلق مجرد أختراع تعسفي ، ويكون العدم الذي نسبناه إليه مجرد مبالغة أيضا ؟
من جهة أخرى ، يمكن أن نعبر عن العدم بأنه السلب ، لكن ما هو السلب؟ يجيب هيدجر "ليس السلب سوى حالة من حالات السلوك الذي يعدم أية حالة مؤسسة منذ البداية على فعل الإعدام"(2) ، والنتيجة التي نصل إليها هنا مؤداها أن العدم هو في السلب لا العكس" ، وعلى أية حال حينما يجد الدازاين نفسه داخل العدم – أو لنقل داخل السلب – بتأثير من القلق المزعزع ، فإنه يصير حارسا للعدم . آية ذلك أن ما نتصف به من تناه يجعلنا عاجزين عن الولوج إلى عالم العدم باختيارنا وتصميمنا ، هذا دون أن ننسى النتيجة الأهم ، وهي أن بحث مسألة العدم ينبغي أن يؤدي مباشرة إلى صلب مبحث الميتافزيقا ، هذه الميتافزيقا ، التي يسمح عنوانها الغريب – ما بعد الطبيعة حسب الاشتقاق اليوناني – بالخوض في هذه المسألة دونما إحراج يذكر ما دامت تتساءل عما يتجاوز الدازاين.
إن الزمان عند هيدجر ليس مجرد امتداد أفقي ، بل هو حركة دؤوبة نحو المستقبل ، من حيث أن كل وجود هو إمكانية تنتظر التحقق ، وسواء أفضت هذه الحركة إلى الإمكانية الأخيرة ، وهي إمكانية الموت ، أم إلى أية إمكانية أخرى من العالم اليومي فإن المستقبل المشروع يتولد منها ، وحينما يقول هيدجر إن كينونتنا هي مشروع كينونة فقط ، فهذا يعني أن الإنسان هو الكائن الذي عليه دائما أن يوجد ، كما يعني أيضا أنه دائما في موقع العمل على تحقيق أمكانيته ، وفي توتر مستمر نحو المستقبل هذا إن لم نقل إن زماننا نفسه إنما يبدأ من المستقبل ، إلا أن انبثاقات الزمان كما بلورها في "الكينونة والزمان" ثلاثة : إذ بالإضافة إلى المستقبل هناك الماضي والحاضر ، فكيف تتجلى هذه الانبثاقات في مستوى حياة الدازاين ؟
بداية نجد أن هيدجر ينظر إلى هذه الانبثاقات نظرة تكاملية أو ترابطية ، فالمستقبل عنده لا يعني الآن الذي لم يحدث بعد ، أي أنه ما زال ضمن الممكنات التي لم تتحقق بعد ، وأن الماضي لا يعني ذلك الآن الذي انقضى ، بمعنى ما تحقق من ممكنات، كما وأن الحاضر لا يعني ذلك الآن الذي انقضى في اللحظة الراهنة ، أي ما يجري تحقيقه من ممكنات في الوقت الراهن ، هذه الانبثاقات الزمانية تعبر عن ارتباط الذات الإنسانية بوجودها ، وانشغالها بصميم كينونتها وتعاليها المستمر على ذاتها وعلى همها الجاثم على صدرها ، فإذا كان المستقبل هو ذلك الطموح المتأجج ، المتشوق إلى استكشاف عوالم جديدة ، وفتح آفاق أرحب لهذا الكائن ، فإن البعد الآخر في هرمية البنية الزمانية عند هيدجر ، وهو الماضي ، لا يعني بالنسبة إليه إلا هذا اليقين من أنه موجود متناه وأنه يحمل هذا المتناهي منذ البداية، أي أنه كائن مائت لأن مستقبله يتضمن موته ليس إلا ، وعليه بقدر ما يشارك الموجود في مستقبله ، أي في إدراكه لموته بقدر ما ينبعث مجددا ، أي يجدد ميلاده ، فبين الانبعاث وإدراك الموت يبرز الحاضر الذي هو اللحظة القصوى في توتر الدازاين وذروة كينونته .(3)
 إن الحاضر هو إدراكي للوضع الراهن ، وعندما أدرك حقيقة هذا الوضع أعرف إنني كائن متناه وفي الوقت ذاته أتأمل في إمكانياتي وهي تتحقق ، وأشهد مهماتي وكل الأشياء المحيطة بي في العالم ، وأرى نفسي كما أنا ، وكما هي الأشياء أيضا أي كما هي موجودة بالفعل ، فكأن الحاضر هو اللحظة التي أستطيع فيها أن أرى وجودي من البدء حتى الموت ، إنه يجعل الأشياء كلها حاضرة أمامي ، ويكشف لي جميع إمكانياتي الكامنة والتي أستطيع أن أحققها إلا أن هذا الحضور إنبعاث لماض لم يعد موجودا ، وعلى الرغم من أهمية الإنبثاقات الزمانية الثلاثة عند هيدجر ، إلا أن بعد المستقبل هو دائما بحث يتمحور حول ما لم يوجد بعد في حركة دائبة ودائمة إلى الأمام ، ولكن إلى الخلف أيضا في بعض الأحيان ، ذلك أن الكائن في حاجة إلى أن يكبح إندفاعه إلى الأمام، والعودة قليلا إلى الوراء ليقف وقفة تأمل لماضينا نستنطقه ونقرأ مضامينه وما تحقق فيه ، فالعود المستمر إلى الماضي لا يكاد ينفصل عن حركتنا الدائبة نحو "المستقبل" وآية ذلك أن الإنسان هو مجرد مشروع وجود مرهون بتحققه المستقبلي .
بيد أنه وقبل أن يصل إلى هذا التحديد المستقبلي عليه أن يقوم بعملية سبر لأغوار ماضيه السحيقة عله يقف فيها على "تحديداتها" أو "مكونانها" الأصلية التي تكون سنده في رحلته الوجودية الطويلة القاسية ، فحد المستقبل يحيله إلى الموت وما أقسى الموت ، وحد الماضي يحيله إلى إمكانات لم يخترها وعليه أن يتقبلها شاء أم أبى وكذلك يحيلنا إلى ما سقط ، أي ما لم يتحقق من هذه الإمكانات وعلى العموم فهو لم يختر مصيره في كلتا الحالتين ، فما تحقق ليس ملكه ، وما لم يتحقق بعد ليس ملكه ، وتبعا لما ألمعنا فإننا ، وعلى الرغم من جميع الصعوبات ، وما نشعر به من بأس وقلق ، فإننا لا نمضي من مستقبلنا إلى ماضينا في شكل "ارتدادي" أو "تذكري" بل إننا نعمل على أن نسترد أنفسنا ونستجمع قوتنا في "الحاضر" ، حيث يمثل هذا الحاضر أو "الآن" الخيط الرفيع الرابط بين المستقبل والماضي ، ولكن هذا الحاضر لا يجيء عند هيدجر إلا بعد "المستقبل" و"الماضي" وذلك بوصفه نقطة تلاقي مركزية لحركتين متجاذبتين للذات هما : حركتها نحو الأمام ، وحركتها نحو الخلف ، فالماضي ينبعث عن المستقبل لكي يولد الحاضر ، ومن هنا يأخذ بعد المستقبل كل أهميته عند هيدجر .(4) 
أ - من الزمان إلى زمانية الكائن
ان الزمانية Temporellite  (هناك من يترجمها   بـ Temporalite  ) عند هيدجر صفة الدازاين المتزمن أو المندمح في زمانه ، بمعنى آخر إنها شعورنا ونحن نحيا هذا الزمان بشكل اصيل وواع ، فلا تحقق للكينونة على هيئة الأنية إلا بالزمان ، ولا آنية إذن إلا وهي متزمنة بالزمان ، وتلك هي الزمانية : فهي الطابع الأصيل للآنية ، لذا لابد أن نجد خواص الآنية في الزمانية ، وهي خواص حددناها في آخر الأمر في ثلاث ، المنفصل ، التوتر ، والإمكان ، فلنحاول الأن أن نبين خصائص الزمانية إبتداء من هاتيك .(5) 
فما معنى أن تكون الزمانية محددة تحديدا يتميز بالانفصال مع أن أصالة نظرية هيدجر برمتها إنما مرده إلى قوله بالتحام آنات الزمان ، وتوحيده بين الكينونة وطابع الزمانية ثم ربطه للوجود من أجل الموت بتناهي الزمان ورفضه كل إحالة لفكرة السرمدية . في البداية نستأنس بهذا التحديد الأولى الذي يرى فيه أن وصف تركيب الزمانية بالانفصال يؤدي إلى القول بأنها ، أي الزمانية ، مكونة من وحدات منفصلة عن بعضها بعضا ، وحدات قائمة بذاتها مقفلة على نفسها سميت لدى أغلب الباحثين في مسألة الزمان "بالآنات " مع الإشارة إلى أن المسألة عويصة ومعقدة إلى أقصى درجة حتى أن أفلاطون وأرسطو اضطرا في نهاية الأمر إلى القول بان الزمان مركب من آنات ، مع أن باطن ما اعتقداه وخاصة أرسطو في "السماع الطبيعي" يوحي باتباعهما الطريق الثاني القائل بالانفصال ، إلا أن واقع الحال يبين لنا أن القول بأحد الأمرين وبالأخص ما تعلق منه بالاعتقاد بأن الزمان متصل يحيلنا إلى إشكالات عديدة قد يقع فيها القائل بهذه الفكرة ، ذلك أن إثباتها من خلال الاعتبارات الفزيائية التي ترى أن الحركة لا تتم إلا عن طريق التلامس المباشر بين طرفي الحركة : المحرك والمتحرك على اعتبار أنه ما دام الزمان مقدار الحركة ، وما دامت الحركة تتطلب التلامس والاتصال كما ذكرت فإن الزمان بدوره لابد أن يقتضيهما أيضا ، أو من خلال الاعتبارات النفسية التي تستند إلى مفهوم الذاكرة كنقطة محورية ، فالذاكرة ملكة كلية قبلية تربط بين الأفعال في الشعور بطريقة متصلة اعتقادا من القائلين بهذه الاعتبارات بأن الذاكرة سجل دقيق يرتسم عليه تيار متصل مستمر ، يصل الماضي بالحاضر ويصل الحاضر بالمستقبل ، هذا الاتصال لا يعني عندهم التكرار ، بل ينظرون إليه بوصفه تيار يجري باستمرار دون أن يرتد على ذاته ، وتباعا لهذه المحصلة نظر إلى الزمان على أنه تيار متصل يجري في اتجاه واحد من الأزل إلى الأبد . إذن لا الأعتبارات الفزيائية ولا النفسانية يمكنها أن تؤدي عند هيدجر إلى القول بأن الزمان مكون من وحدات منفصلة يشكل شعور الإنسان بها وإدراكه لها ما نسميه بالزمانية ، لكن ما هو الدليل على أن الزمان وحدات منفصلة : ماض وحاضر ومستقبل ؟
إن تحديد العلاقة بين الآنات الزمانية السابقة ، وإظهار أوجه التفرد أو الإنفرادية في كل منها يؤدي إلى بحث مسألة الوجود الماهوي وهو الوجود الذي قد يصير فيه الممكن واقعا متحققا بالفعل في العالم على خلفية تغافل الزمان في صورة العدم بحيث يصير في إمكان الوجود الماهوي الاختيار بين ممكنات عدة لتحقيقها بالفعل وذلك عبر الهرمية التالية : الإمكان ، الفعل ، التحقق بالفعل.(6) وبما أن الإمكان في نظره يعني الوجود الذاتي وهو في حالة "تكون" إن صح التعبير ، أي أنه سابق على التحقق بالضرورة ، فإنه يصير من الواضح تماما أن هذا الإمكان سابق على الواقع ، وكل إنكار أو رفض لهذه الحقيقة تحت أي عذر كان يكون صادر عن وهم ، أو لنقل على سوء تقدير حتى لا نكون مغالين في حكمنا ، وسوء التقدير هنا مكمنه المساواة بين مستويين مختلفين : مستوى الوجود الماهوي (أي مستوى الإمكان) ومستوى الوجود العيني (أي مستوى الواقع) ، بيان ذلك أن الذات تحوى أمكاناتها بشكل مسبق ، وهي حرة في اختيارها لبعضها على حساب بعضها الآخر لأنها لا تستطيع أن تحققها كلها ، وبعد أن تختار تأتي المرحلة التالية وهي وضع ما تم اختياره من إمكانات للتحقق موضع التنفيذ فيصير الاختيار والتنفيذ فعلا واحدا متى نظرنا إليهما على أساس أنهما تجسيد متكامل في حاضر مباشرة ، ثم يأتي بعد دور الفعل وقد تحقق ، هذه الأدوار في واقع الأمر متكاملة ومترابطة فيما بينها : فالفعل بوصفه ممكنا أي "سيكون" معناه المستقبل ، والفعل بوصفه شيئا "حادثا كائنا" معناه الحاضر ، والفعل بوصفه شيئا "قد كان" معناه الماضي، ومن خلال هذه الأدوار أيضا نفهم الزمان في أبعاده الثلاثة التي هي ذوات معان وجودية خالصة . والوجود من صميمه أن يحيل إلى فعل ، بل أن يتجسد في فعل واضح محدد ، وكل وجود يعتقد أنه يمكن تصوره خارج إطار الزمان هو وجود ناتج عن تجريد كاذب يسعى يائسا إلى التخلص من سلطان الزمان عليه ، وبالتالي إيهام الأخرين بأنه كائن غير متزمن أو يقع خارج الزمانية.(7)
إن القول بزمانية ، الكائن ليس مسألة عفوية أو إعتباطية عند هيدجر ، بل إنه يمثل خطوة أساسية في طريق الوصول إلى حقيقة هذا الكائن وإعطاء وجوده معنى ودلالة ، وكل كينونة تبحث عن العزاء ضمن حدود السرمدية فإنما تبحث عن سراب لأن السرمدية والزمانية مفهومان متناقضان ، فقد أدرك الإنسان منذ أقدم العصور أن الزمان هو المحرك للوجود ، فيه تتفاعل الأفعال وبه تتحقق ، إلا أن ما يتحقق من إمكانات هو سلب لإمكانات أخرى ، وهذا معناه ببساطة أن التحقق لن يكون كاملا ، وعد التحقق الكامل ينفتح على الشقاء شقاء الكينونة ، فالزمان إذن هو أصل الشقاء وكل محاولة لمجاوزة هذا الشقاء دون أن تأخذ في حسبانها حقيقة الزمان تكون محاولة غير مؤسسة ، إن لم نقل زائفة ، لأن الزمان شر لابد منه وعلينا أن ننظر إلى كينونتنا بما تتضمن من شر ، وأن نقلع عن البحث عن الأبدية أو الخلود فهذا لن يغير في واقع الدازاين شيئا لأن الكينونة الأصلية مطبوعة بطابع الزمانية بالضرورة ، هذه الزمانية يفسرها هيدجر على أساس الهم الذي يعد بمثابة المحرك الداخلي لآنات الزمان الثلاثة ، إلا أن التأمل العميق في هذه المسألة كما يرى بعض شراح هيدجر وعلى رأسهم "الفونس دوفيلانس" Alphonse de Waelhens(*) يرون أن تأكيد هيدجر على ربط الزمانية بالهم لا غبار عليه في حد ذاته لو لم يفض إلى مغالاة واضحة في هذا الربط ، فقد كان الأولى أن يربط الهم بالماضي على اعتبار أن الإنسان مهموم بما لم يستطع تحقيقه من الإمكانات التي يتوفر عليها ، أما المستقبل فهو ما لم يتحقق بعد ، ومع أنه مهموم بتحقيق إمكاناته إلا أن الإنسان في هذه المرحلة ينظر إلى الحياة بأمل عله يحقق ما لم يحققه من قبل هذا من جهة ، أما من جهة ثانية فإن تأكيد هيدجر على أسبقية المستقبل ، وعلى الرغم من أنها نتيجة منسجمة مع منطلقاته الأولى ، فهي تفضي إلى تساؤلات أهمها : أن القول بأسبقية المستقبل وأهميته قياسا بالماضي والحاضر يعمل على خلخلة مفهوم الزمانية ذاته من حيث أنه نظرة متكاملة لآنات الزمان الثلاثة ، ثم إن مشكلة أولوية آنة من الآنات على الآنات الأخرى مشكلة قديمة إلا أن الوجودية أعادت طرحها بجدة وانتصرت في النهاية بتفرعاتها المختلفة لصالح بعد المستقبل.
ب- من الزمانية إلى التاريخية
لقد رأينا عند تحليلنا لمفهوم الزمانية عند هيدجر أن الزمانية لا تكون على حد قوله بل هي تتزمن ، وأنها التخارج الأصيل في ذاته ولذاته ، والخلاصة المحصلة عنده هي أن الماضي يوجد في داخله المستقبل ، والمستقبل هو خارج الماضي ، بمعنى إنه ليس هو الماضي لكنه يطل على الماضي والشيء  نفسه ينطبق على علاقة الحاضر ، بهما معا ، وهكذا فكل بعد من هذه الأبعاد الثلاثة يختزن بمعنى من المعاني باقي الأبعاد الأخرى ويستغرقها بطريقته الخاصة وفي الوقت ذاته هو مستغرق فيها ، ولكن هذه المرة وفق منظورها ، فالعلاقة إذن بين هذه الآنات هي دائما بين شد وجذب . وإذا كانت الزمانية تتزمن إبتداء من المستقبل ، فإنها وحسب تحليلات هيدجر ، تتزمن ابتداء من الماضي أيضا ، وعندما نقول "ماضي" فإننا نحيل إلى التاريخ ، والتاريخ بدوره يحيل إلى التاريخية ، فكيف ينتقل الكائن التائه في دروب الكينونة من الزمانية إلى التاريخية ، وهل هذا الانتقال له ما يبرره ؟
بداية نقول إن "التاريخية"  Historicite    أو Historialite   عند هيدجر هي الصفة الكلية للزمانية ، وهي التي تضم الأبعاد الزمانية الثلاثة : الماضي، الحاضر والمستقبل ، وقد استقطبت كلها من خلال مواجهة واعية لفكرة المصير الذي ليس هو إلا مصيرا يجري إلى الموت ، ويختلف مفهوم التاريخية بهذا المعنى الهيدجري عن مفهوم الفيلسوف التاريخي عند دلتاي W.Dilthey  ، حيث يرى أن التاريخ علم موضوعي يدرس الوقائع الإنسانية بشكل مستقل عن الإنسان ، يقول هيدجر : "إن الصورة التي   ما تزال شائعة إلى اليوم ، وفي كل مكان عن دلتاي هي كالتالي : إنه المفسر الحاذق للتاريخ العقلي ، وخاصة الأدنى منه حيث أجهد نفسه أيضا لإقامة التفرقة بين "علوم الطبيعة" و "علوم الروح" ، وهو بهذا يعزى إلى تاريخ هذه العلوم إلى السيكولوجيا أيضا دورا بارزا يسقط في نوع من "فلسفة الحياة" النسبوية ، فإذا ما نظرنا إلى الأمور نظرة سطحية فأن هذا الوصف صحيح . لكن اذا نظرنا اليها من الناحية الجوهرية فأن هذا الوصف غير واضح، أنه يخفي أكثر مما يبوح " (8) .  ويري هيدجر أن نظرة دلتاي هذه تنطوي علي مغالطة – مع أنه يستفيد منه كثيرا وهذا بأقراره هو – أذ كيف يتاح للوجود الانساني أن يستقل عن نفسه ، مادام التاريخ هو دراسة هذا الوجود ، ذلك أنه يري أنه لا يمكن وصف أية واقعة بأنها تاريخية الا بأرتباطها بالانسان ، وكل استعمال لكلمة " تاريخي " أو تاريخية يفترض وجود الانسان بشكل اولا في ما هو معني بالتاريخية بالدرجة الاولي هو الدازاين وليس الطبيعة أوالاشياء .
ولكي يظهر لنا أهمية مبحث التاريخ " و " التاريخية " ككل في بلورة مفهوم الكينونة يلجأ في بداية تحليله " الزمانية والتاريخية " – وهو عنوان الفصل الخامس من القسم الثاني من كتاب " الكينونة والزمان " – الي تقديم هذا التعريف الذي يعد بمثابة الاطار النظري الذي سيتمفصل حوله بحث هذه المسألة ، حيث يقول :" أن تحليل الدازاين يسعي الي أظهار أن هذا الموجود ليس متزمنا لانه يتموقع داخل التاريخ ، ولكن وعلي العكس من ذلك تماما فأنه لم يوجد ولن يوجد تاريخيا الا انه متزمن تزمنا يغوص الي اعماق وجوده "(9) فالزمان هو محرك الوجود وراعي التوازنات الكبري فيه ، فالبينية الزمانية تتضمن البنية التاريخية ويميز هيدجر في بداية تحليله أيضا بين كلمة " تاريخ " التي تدل علي " الواقع التاريخي " وبين " تاريخ " التي تعني العلم بالواقع التاريخي انطلاقا من ان اللبس الملاحظ في مستوي الكلمة يعود بالاساس الي الخلط الواقع بين المعنيين ، ولكي يتفادي هيدجر هذا الخلط فأنه يرفض المعني الثاني ، ويبقي المعني الذي ينظر للتاريخ . بمعني الواقع التاريخي ، وعندما نقول الواقع التاريخي فان ذلك يعني الاحالة الي الوجود التاريخي .
ينطلق هيدجر من مقارنة أولي تفهم التاريخ علي أنه الماضي ، بمعني أنه لم يعد حاضرا أو مؤثرا تأثيرا فعالا فيما يقع من أحداث ، بيد أن السؤال الذي يطرح نفسه هنا كيف يمكننا أن نقول عن هذا الكائن أنه الكائن تاريخي مادام أنه لم يمت بعد ، أي لم يصبح ماضيا بعد ؟ علي كل حين يفهم التاريخ علي أنه الماضي سواء كان ذلك بدلالته السلبية أو الإيجابية ، فان هيدجر ينظر إليه علي أنه مرتبط ارتباطا وثيقا بالحاضر، مفهوما علي انه ما هو واقع "ألان" يضاف إلى ذلك ان تقصي بعد الماضي يفضي بنا إلى مفارقة واضحة فهو، وبما انه ماض ينتمي إلى الأحداث الماضية ، أي إلى زمان مضي لكنه في الوقت ذاته يمكنه ان يكون " ألان " حاضرا في هذه الحالة فان التاريخ نسيج من الأحداث والنتائج ، نسيج متشابك العلائق بين الماضي والحاضر والمستقبل ، وهنا يفقد الماضي اية اولوية له علي الأبعاد الأخرى لأنه لا يستقيم في دلالته الحقيقية الا بتكامله مع الانات الاخري ، ومع انه يتلامس مع الطبيعة باعتبارها المكان الذي يتواجد فيه الكائن والحيز الذي يسعي الي تحقيق  إمكاناته فيه ، فإنه يتميز بالقدرة على التعالي على الطبيعة ومجاوزة تجلياتها المادية ، أو المكانية بالتدقيق ، إلى بعده الزماني على اعتبار أن مايؤثر في الجزء الذي هو الدازاين تمتد تأثيراته إلى الكل الذي هو التاريخ والحضارة إجمالا فالتاريخ هو تاريخ الزمانية عند هيدجر ، وتاريخ الدازاين ، بما أنه المادة الأولية للزمانية ، وهو تاريخ ، وان كان يدل في معنى من معانيه على أنه الماضي ، فهو يدل في معانيه الأخرى على أنه المأثور الحاضر في ضمير الكائن أو الدازاين ، وأن تأثيره يبقى فعالا ومؤثرا باستمرار في الحاضر والمستقبل في آن واحد ، والإنسان لا يوجد ، ولا يمكن أن يوجد ككائن تاريخي إلا لأنه كائن زماني ، وليس الوجود البشري زمانيا لأنه يحتل موقعا في التاريخ ، أو داخل التاريخ ، بل على العكس من ذلك إنه وجود تاريخي لأنه زماني ، الإنسان هو نقطة الالتقاء بين المعاني المختلفة التي أسبغها هيدجر على التاريخ ، فهي ترتبط بالإنسان بوصفه "ذاتا فعالة" تؤثر في صيرورة الأحداث ، بل وتتدخل في صنعها أيضا . مع ذلك فالسؤال الهام الذي يطرح هنا هو كالتالي : ما هو المقياس أو ما هي المقاييس التي نعتمد عليها لتحديد الطابع التاريخي لهذه الذات أو تلك ؟ ثم ما هو تحليلنا لهذه التاريخية نفسها خاصة وأن المفهوم ينفتح على مفاهيم أخرى عديدة ، على الأقل في تحديد هيدجر ؟ هل التاريخية هي هذا الركام من الأحداث المتوالية دونما رابط أو معنى ، ودون فاعلية من الكائن الإنساني ؟ وهل أن الدازاين لا يصير تاريخيا إلا باختلاطه – حتى لا نقول ذوبانه – مع الأحداث التاريخية المتوالية ؟ لماذا يلعب الماضي دورا خاصا في البنية الزمانية للدازاين ، وما هي إنعكاسات ذلك على مستقبله ؟.
في الواقع لا يمكن الإجابة على هذه التساؤلات دفعة واحدة لكثافتها وتنوعها ولأنها مسألة ليست هينة بالمرة ، لذا يلجأ هيدجر إلى وضع أولويات للتحليل ، حيث تكون البداية من الخاص إلى العام ، ومن البسيط إلى المعقد ، وعليه إذا كان التاريخ خاصية تتعلق بوجود الدازاين ، وإذا كان هذا الوجود ينبني ويتجلى في الزمانية ، فإنه سيكون من المفيد لنا مباشرة التحليل الوجودي للتاريخية إنطلاقا من ضبط الخصائص التي تميز ما هو تاريخي ، وأهم هذه الخصائص طبعا هي أنه زماني أو متزمن في الوقت الذي نجد فيه أن التعمق في معرفة الفرد الجزئي الذي يهتم به التاريخ ، وينظر إليه على أنه المدخل إلى تحليل البناء الأساسي للتاريخية .(10).
ولتقريب الصورة إلى أذهاننا يسوق هيدجر هذا المثال : "أن العاديات الأشياء القديمة" "Antiquites " المحفوظة في متحف ما ، ولتكن قطعة أثاث مثلا ، تنسب إلى " زمان مضي " ومع ذلك فهي ما تزال حاضرة في " الزمن الحاضر " فعلي أي أساس تصير هذه القطعة قطعة تاريخية مع أنها أم أنه تصبح من الماضي بعد ؟ ألا يرجع سبب ذلك إلى انها موضوع اهتمام تاريخي أم أنه  يرجع الي كونها موضوعا " أثاريا " له إسهام في تاريخ البلاد ؟ علي كل ان أي " موضوع تاريخي " لا يمكنه ان يكون الا لانه يتضمن تاريخية في ذاته . بمعني من المعاني . والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو كالتالي : بأي حق عن هذا الكائن انه تاريخي وهو لم يكن قد مضي  بعد ؟ أم أن هذه الأشياء ، حتى وأن كانت ما تزال حاضرة ، فيها دائما شئ من الماضي في ذاتها "(11) 
والاشكال المطروح هنا هو : هل بقيت الاشياء التي اشار اليها هيدجر علي حالها أم أصابها التغير والتحول ؟ ببساطة نجيب لقد تغيرت ، فمع تحولات الزمان ، وتغير الظروف فسدت قطعة الاثاث ، ، ونخرها السوس ، ولكن هل قدمها المادي هو ما يجعلها تاريخية ؟ أن ما يحدد تاريخية قطعة الاثاث – أو غيرها من الاشياء الاخري – ليس تقادمها وانما المجال الذي توجد فيه وهو " العالم " ، وعندما نقول العالم الكائن الذي يستخدمها ويؤثر في العالم من خلالها بمعني أخر ان الطابع التاريخي للعاديات لا يقوم فيها هي بالذات وانما يقوم في ماضي الدازاين ، فالاشياء لا دلالة لها  مادامت في وضعها الطبيعي البسيط الا عندما تتحول الي ادوات في يد الدازاي هذا الدزاين  لا يمكن ان يكون ماضيا في نظر هيدجر لا لانه لا يمضي ، هذه الفكرة تحيلنا مرة أخري الي هوسرل الذي يري أن ظواهر العالم الخارجي ، أي الموضوعات ، لا قيمة لها ما لم تدرك من قبل الذات وعكس الكوجيتو الديكارتي تفكر دائما في موضوع قابل للإدراك ، وهكذا يخلص هيدجر الي الدازين كائن تاريخي في المقام الول  ولا يكون تاريخيا الا علي اساس انتمائه الي عالم معين ، لكن العالم لا يكون له طابع التاريخية الا انه يعبر عن تحديد انطولوجي معين للدازاين ، ولما كانت تاريخية الكائن تاتي كما قلت من أنتسابه للعالم فقد نسميها " تاريخية عالمية " علي ان نأخذ هذا العالم في معناه الجوهري ، أي المتزمن ، ولكي يقارب مسألة العلاقة بين التاريخ والزمان مقاربة تلم بأبعادها الفلسفية المختلفة يلجأ الي تحليل التصور الهيجلي للزمان في الاخير من " الكينونة والزمان " ، أي اعتبار ان التصور هذا هو أخر وأنضج التصورات الفلسفية عن الزمان ، وبالفعل فقد حاول هيدجر أن يثبت أن هيجل عندما يؤكد أن الفكر – أو التاريخ مادام الفكر هو وحده الذي له تاريخ – يقع داخل الزمان ، وهو بهذا لا يفكر بعيدا عن الزمان العادي لان الفهم الهيجلي للزمان ما هو الا صياغة للتصور العادي عن الزمان ، هذه النتيجة يتوصل اليها هيدجر وقد اختزل التحليل التالي كما يري " جاك دريدا " في " هوامش الفلسفة " فقد توصل هيدجر الي النقاط التالية : 
ان هيجل يقوم بطرح مسألة الزمان في القسم الخاص بفلسفة الطبيعة ، ومن ثم فان المفهوم ينتمي عنده الي انطولوجيا الطبيعة ، وبالتالي فانه يقترب كثيرا من التصور الارسطي كما عرضه هذا الأخير من كتاب الطبيعة 
وان حقيقة المكان ترتد في النهاية إلى نقط تشكل الزمان ؛ هذا الزمان الذي يرتد بدوره الي سلسلة الانات الزمانية المعروفة .
وان جوهر التأويل الهيجلي للزمان يتلخص في تعينه له بوصفه نفيا للنفي.
-وان هيجل يستلخص ان الفكر يقع في الزمان ، والزمان يتجلي في الفكر وذلك للتقارب الموجود بينهما : فكلاهما نفي للنفي ومطلق(12) . (12
وفي المحصلة يستتنتج هيدجر ان المفهوم الهيجلي للزمان ليس مفهوما عاديا فحسب ، بل انه المفهوم الاكثر تقليدية فيما كرسته الميتافيزيقا ، أي مفهوم أرسطو ، لذا نجده يلجا الي اجراء مقارنة مقتضبة بين المفهومين الهيجلي والارسطي عن الزمان فأرسطو يري ان ماهية الزمان هي "الآن" le nun  وكذلك هيجل فهو يتصور الآن كنهاية Oros  ، في حين يدركان كلاهما الآن كنقطة Stigme  واحدة ، فأرسطو يربط بين الكرونوس والكرة ، أما هيجل فيلح على الدورة الدائرية للزمان ، وعليه يمكننا أن نلاحظ أن التصور الهيجلي مستقي في أساسياته من فيزياء أرسطو بصورة صريحة (13) ، ومع ما قد يساق من انتقادات حول تحليلات هيدجر على اعتبار أن أفكاره هنا تمثل كتاباته الأولى ، وهي كثيرا ما تتغير عند بعض الكتاب – بيد أن البحث الجينالوجي لفلسفة هيدجر يظهر لنا – وهذا حكم يتضمن مغامرة واضحة لأننا لا نعرف حسب ما يرى الباحث "جورج شترنر G.Steiner  مثلا ما إذا كنا نعرف حقيقة كل تراث هيدجر الفلسفي – أن مفهومه للزمان بقي منسما مع منطلقاته الاولي ، وان تلونت اشكال التعبيرعنه بالوان متعددة ، ففي محاضراته التي القاها في سنة 1962 وعنوانها " الزمان والكينونة " عاد ليدعم افكاره الاولي عن التصور أو التمثل الارسطي للزمان حيث يقول مثلا :" تقوم جميع المفاهيم التي ظهرت لاحقا عن الزمان علي التصور الارسطي للزمان وهو التصور الذي كان الاغريق قد رسموا معالمه أرسطو  ذاته (14)  هذا دون ان نسقط من حساباتنا المحاولات الميتافيزقية الاخري التي تطرقت للمسألة ذاتها بطرق مختلفة ، ذلك ان التساؤلات الميتافيزقية حول ماهية الزمان تتمحور دائما حول الكائن : ما علاقته بالكينونه ؟ ما موقعه داخل بنية الزمان ؟ ثم هل الكائن هو الوحيد في الزمان ؟ علي افتراض ان الموجود يحيل دائما الي الحاضر ، وهو يزداد حضورا ، كلما امتد به خيط الزمان وكلما كانت مدة بقائه في هذا الوجود، ان هذا التفسير الارسطي في جوهره للكائن والكينونة ، فما يحضر في الزمان هو " الان " في المفهوم الميتافيزيقي التقليدي الارسطي – الهيجلي حسب ما يري هيدجر ، هذا المفهوم يدرك الزمان ، وبمعني أشمل التاريخ – انطلاقا من الحضور – لذا كان منهج التفكيك فما بعد عند جاك دريدا هو نقد ما يسميه  " ميتافيزيقا الحضور" ، وكل ما قامت به الفلسفة الحديثة ابتداء من ديكارت وحتي هيجل أخر المعاقل التي تتمثل وتحول الكائن الاسمي الي ذات تدرك نفسها وتعيد تمثلها في المعرفة المطلقة ، وفي مرحلة متقدمة ستحول الحضور والمثول معا الي موضوع يوضع أما الذات ، بحيث يخضع في النهاية لما يسميه هو " سيطرتها التقنية " ، وحتي الديالكتيك الهيجلي نفسه سينظر الي الحضر بوصفه نفيا مطردا للابعاد الاخري، كما سيجعل التاريخ حركة لحاضر دائم يتجاوز فيه الحاضر ، بمعني الحاضر الماضي وفق مبدأ الديالكتيك – الحاضر نحو مستقبل لم تتحدد معالمه بعد ، لكنه سيحضر لا محالة ، حتي ان هيدجر يسمح لنفسه بالتحدث عن عجز هيجل عن أعطاء مكانة واضحة وهامة لبعدي الماضي والمستقبل اللهم الا ما تعلق بالمكانة الذاتية ، أي في الذاكرة ، أي سيكولوجية في أخر الامر (15) 
ولنعد الي مواصلة بحث تصور هيدجر للزمان والتاريخ .اذ و مواصلة منه لاستكشاف زوايا التاريخية المختلفة وعلاقتها بالدازين يري ان مركز ثقل التاريخ لا يوجد في الماضي المعطي ، ، ولا في الحاضر أيضا ، لكنه يتمثل في التاريخ الصحيح للوجود من حيث كونه أنا يحيل الي الزمان ومنه الي المستقبل والدازاين لا يصير تاريخيا لمجرد التكرار ، أي تكرار تعاقب الاحداث التاريخية ، بل علي العكس ، انه من حيث هو زماني أو متزمن فهو تاريخي بالضرورة ، بتعبير أخر أن تاريخية ، الكائن لا تقوم علي التكرار بل تقوم في الزمانية المتخارجة التي يقوم فيها بعد المستقبل بدور اساس وفعال وذلك يجعل هذا التكرار ممكنا ، فهو تكرار لا يعني عودة الكائن الي الماضي لاستعادته أو لادخاله في شبكة جديدة من العلاقات تكون أكثر فعالية من شبكته الاولي ، وأنما يعني تحرير هذا الماضي مما علق به من أوهام وبالتالي تحرير ذاته  هو ، لكن ما معني تحرير الماضي هنا  ؟ أن تحرير الماضي عند هيدجر يعني استخراج الممكن الكامن داخله ، ذلك ان الماضي الذي خلفناه وراءنا لم يتحق كله ، بل جاء مستقبلا لان كل لحظة تنطوي في داخلها علي إمكانات لم تتحقق كلها ابدا ، ولا يمكن استنفاذها ابدا ، ولهذا فان الدازاين لا يتحرر الا بتحرير الماضي فمن طبعه انه ل يستطيع ان يتحرر الا في الزمان وفي التاريخ ابتداء من أمكانات موروثة ، هذا التحرر الذاتي في الزمان وفي التاريخ هو التكرار الصحيح للذات ، وهذا ما لا يمكن تلخيصه كالتالي :" خلال هذا البيان قد انتهينا الي كشف عن حقيقيتين رئيسيتن : الاولي ان لا وجود الا مع الزمان وبالزمان ، وان كل ما ليس . بمتمزمن بالزمان فلا يمكن ان يعد وجودا ، وتلك هي ما نسميه بتاريخية الوجود ، والثانية أن كل ان من انات الزمان فكيف بطابع وجودي عاطفي ارادي خاص ، وليس الزمان اذن مكونا من وحدات كمية متشابهة في الكيف ، بل بالعكس ، هو مكون من وحدات منفصلة ، ولكنها ليست بل كمية ، وهاتان الحقيقتان معا هما ما نعبر عنه بقولنا : أن الوجود ذو تاريخية كيفية " (16) 
بقي ان نشير في اطار هذه المسألة الي أن  هيدجر لم يغير من مفاهيمه الاساسية حول الزمان أنة يصدر الجزء الثاني من كتابه " الكينونة والزمان " كما وعد بذلك ماعدا اضافته لبعد الاستلماس* PORRECTION " الي الابعاد الزمانية الثلاثة السابقة : الماضي ، الحاضر ، المستقبل فتصير اربعة الماضي ، الحاضر ، المستقبل ، الاستلماس بينهما ، هذا الاستلماس يتمثل في دوره في فتح الابعاد الثلاثة بعضها علي بعض ، وعلي اية حال يتبين لنا من تحليلاتنا السابقة ان فكرة الوجود عند هيدغر قد اقترنت تماما بفكرة وجود الكائن أو الانسان ، وكان تحليله للانسان في حالة زيفه ، وهو غارق في صيغ الاخرين، وفي حال أصالته او مشروعيته كما يقول فاننا ه يعتمد علي المنهج الفينومينولوجي القائم علي وصف الظواهر القائمة كما هي معطاة لذات الي ان يستخلص الفيلسوف دلالتها المختلفة  .وقد كان هدف هيدجر منذ السطور الاولي لكتاب "الكينونة والزمان " او " الوجود المطلق " وتحليلها ,وذلك من خلال دراسة الموجود الانساني ، علي ان تؤدي به هذه الدراسة فيما بعد الي بلوغ الكينونة ،ولتجسيد هذا الطموح نجده ينطلق في البداية من الانسان لكي ينتهي الي الكينونة وهذا قلب الاساس كما كانت تقوم به الفلسفات الأخري ابتداء من سقراط وارسطو حيث كانت تفهم الوجود الانساني في اطار نظرة اشمل تتعلق بالوجود ككل علي اعتبار ان الجزء أي " الوجود الانساني " ينبغي ان يرد الي الكل أي" الوجود المطلق" . لقد حاول  هيدغر جعل الظاهرة الانسانية تنفتح علي دلالة وجودية شاملة ، فهو ينفي إمكانية الفصل بين الوجوديين ، اذما قيمة الكينونة ان لم تكن هي كينونة الانسان وهو يعاني اعمق تجربة لمواجهة نوازعة الاطلاقية ، في الوقت ذاته استطاعت فلسفته ان تحول الدراسة النظرية الي تعمق وتمعن في وجود حي محسوس ، وعليه صار لاكثر المفاهيم تجريدا وشمولية حرارة وواقعية ، ولم تعد فكرة الوجود او الكينونة خاضعة لحسابات المنطق ، بل دخلت تجربة المعاناة لتفاصيل الوجود الانساني وتناقضاته وصيغة المختلفة الي حيز البحث التاملي ، كما اصبح البرهان الوصفي الذي اعتمد علي تحليل الظواهر الموجودة بديلا للبرهان العقلي .وعلي هذا فان الفلسفة عند هيدغر ذات طموح واضح ومحدد ، فهي لا تدعي انها تقدم حقائق نهائية، او انها قادرة علي اثبات يقين او دحض اخر ، انها فلسفة وصفية –مهمتها الاولي تصوير الواقع الانساني وكشف خباياه دلالاته ، هذه الدلالات ليست حقائق كما يعتقد ، ولكن هي كشوف شخصية متروكة لتجربة كل موجود انساني علي حده، فهيدغر لا يقدم تعاريف ولا يملك احكاما وكل ما يفعله هو ان يلقي بيد كل موجود انساني مفتاح تجربته الخاصة وعليه ان يتصرف فيما بعد وفق ما يعتقد انه عامل اثراء وتعميق لتلك التجربة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

سارتر بين الوجوديين