محسن الخوني
لا شكّ أنّ فلسفة هيجل تمثّل لحظة حاسمة في الفلسفة المعاصرة. لقد أنشأ نسقه في اتّصال وثيق مع معاصرين له مثل شيلنج وغوته. وإضافة إلى كون نسقه قد مثّل الأرضيّة التي انبنت عليها فلسفات فورباخ و روجا وباور وماركس فإنّ فلاسفة آخرين مثل كيركيغارد ونيتشه قد كان التّعارض مع النّسق الهيجلي رحى فكرهم ومحرّكه.
ولعلّ أهميّة فلسفة هيجل تعود إلى رفعها الفلسفة الألمانيّة إلى درجة الكونيّة مثلما فعل غوته بالأدب الألماني [1] . ولم يقف الاهتمام بفلسفة هيجل عند القرن العشرين. ولا أدلّ على ذلك من ذكر أسماء مثل هيبوليت وكوجيف هيدجر ولوكاتش [2]
وتمثّل الأعمال الفلسفيّة المنسوبة إلى مدرسة فرانكفورت عيّنة عن حضور الهيجليّة في التّيارات الفلسفيّة الرّاهنة.وهذا هو الموضوع الذي نودّ التّركيز عليه في هذا المقال.فحضور فلسفة هيجل نعاينه لدى هوركهايمر وفي المقال الذي مثّل الدّرس الإفتتاحي بمناسبة تولّيه مهمّة إدارة البحث في مركز البحوث الاجتماعيّة<وهو الاسم الرّسميّ لما سمّي فيما بعد مدرسة فرانكفورت>.
وفي المقال الذي يعود تاريخه إلى سنة 1931 جعل هوركهايمر من هيجل رائدا للفلسفة الاجتماعيّة. وهي التّسمية المشيرة إلى مجموع المشروع الذي ينظّر له المدير الثّاني لمركز البحوث الاجتماعيّة. وتعني ريادة هيجل للفلسفة الاجتماعيّة حسب هوركهايمر أنّ الفلسفة مدينة بنشأتها إلى تجربة الوعي الفينومونولوجي مثلما نجدها في كتاب فينومونولوجيا الرّوح.
كماأنّ جدليّةالتّنوير [3] بوصفها أوذيسا العقل تحاكي على صعيد الشّكل ،فينومولوجيا الرّوح الهيجلي. أمّا على مستوى المضمون فهي تسند أهميّة كبرى إلى كلّ من التّجربة التّاريخيّة والحركة الجدليّة. إنّه كتاب يروي مسيرة العقل في التّاريخ [4] وفق عبارة مؤلّفيه . وهو يذكّرنا أيضا بكتاب هيجل : العقل في التّاريخ. ولئن كانت مسيرة العقل لدى هيجل مظفّرة فإنّها وفق جدليّة التّنويرمتقهقرة. وهذا ما يسمح بالحديث عن جدل سلبيّ< عنوان كتاب أدرنو. [5] في مقابل الجدل الهيجلي الموجب وعن خسوف العقل <عنوان كتاب هوركهايمر> [6] بدلا من فكرة انتصار العقل الّتي غذت فكر هيجل وأسندته في خصومته ضدّ التّنوير مثلا .
أما ماركوز فقد مرّت علاقته بهيجل بمرحلتين مختلفتين:
• الأولى وتعود إلى الفترة السابقة لانضمامه إلى مركز البحوث الاجتماعيّة وذلك لمّا كتب أنطولوجيا هيجل [7] وهو منخرط في الخط الذي فتحه هيدجر آنذاك لتجاوز الكانطيّة الجديدة في كتابيه : الوجود والزّمن و كانط ومعضلة الميتافيزيقا.
• الثّانيّة وهي موضوع اهتمامنا المباشر في هذه المحاولة ونردها إلى فترة هجرة ماركوز إلى الولايات المتّحدة الأمريكيّة إبّان الحرب العالميّة الثّانية وهو عضو في مدرسة فرانكفورت. ونعني بذلك كتابه العقل والثّورة [8] الذي يشهد بتحرّر مؤلّفه، ماركوز، من الوضعيّة الأنطولوجيا الهيدقريّة وبارتباطه بالتّقليد الماركسي في فهم الفلسفة الهيجليّة وفي تخليصها من الإيديولوجيا والفاشيّة.
ويمثّل كتاب هابرماس معرفة ومصلحة [9] أيضا فينومونولوجيا الرّوح كما يراها مؤلّفه. فهو متابعة لتجربة الوعي في العديد من المجالات العلميّة و الفلسفيّة وذلك منذ اللّحظة الكانطيّة وإلى حدود القرن العشرين.
تسمح لنا إذن الإشارات السّابقة بالتّأكّد من حضور هيجل في كتابات مدرسة فرانكفورت ولكن الأهمّ من ذلك هو التّساؤل عن الدّور الذي لعبته الهيجليّة في فلسفة هذه المدرسة. لهذا التّساؤل مظهران أحدهما بسيط والآخر معقّد. يظهر هذا السؤال بسيطا لمّا نقول إنّ الدّور الذي لعبته فلسفة هيجل لا يتعدّى نفس الدّور الذي قامت به في فلسفة ماركس . فمدرسة فرانكفورت لم تقم إلاّ بإحياء الماركسيّة التّي بدأ نجمها يأفل لأسباب مرتبطة بالإيديولوجيا وبالأوضاع العالميّة خلال فترة ما بين الحربين العالميّتين. صحيح إنّ النّظر إلى الأمر بهذه الطّريقة ليس عديم المعنى ولكنّه ينمّ عن تسطيح للموضوع.
فالعودة إلى هيجل قد تزامنت مع إحياء كتابات ماركس الشّاب التي طمستها النّزعة الماديّة والاقتصاديّة المستفحلة منذ الأمميّة الثاّنية. ولقد فتحت عدّة كتابات الباب أمام تطعيم الماركسية المغرقة في المنحى الوضعي <التعصّب للعلم > والمادّي <إرجاع كلّ التّفسيرات في النّهاية إلى الاقتصاد > بروح فلسفي بدا تحريفا للمتعصبين أو مثاليّا.
ومن هذه الكتابات يمكن ذكر مؤلّف جورج لوكاتش التّاريخ والوعي الطّبقي[10] الذي بوّأ ماركس منزلة الحلقة الواصلة للتّقليد الفلسفي للمثاليّة الألمانيّة عموما وللهيجليّة بصورة خاصّة.
إضافة إلى ذلك اقترح كارل كورش منذ سـ1923ــنة،أي خلال نفس الفترة التي ظهر فيها كتاب لوكاتش المذكور سابقا،مخرجا للماركسيّة المتأزّمة في نظر هذا المفكّر من أوربا الغربيّة والذي لم ير في القراءة اللّينينيّة سوى علامة بارزة لتقهقر الفلسفة الماركسيّة [11]. ويتلخّص مقترح كورش لخروج الماركسيّة من مأزقها في أن تصبح موضوعا لنقدها. أي أن تتخذ طابعا تفكّريا و تأمّليا لأن ذلك أهمّ خصوصيّة تتّصف بها كلّ فلسفة نقديّة منذ كـــــــــانط.
ّكما شدّدت كتابات ماكس فيبر منذ بداية القرن الماضي على ضعف الماركسيّة الّتي تفسّر كلّ الظواهر الاجتماعيّة والثّقافيّة بإرجاعها إلى العامل الاقتصادي.وبيّنت الإحراجات اللّصيقة بالعقلانيّة الحديثة والمعاصرة والتي أهمّها أنّ الحداثة مدينة للعلم والتّكنولوجيا بالتّقدم الذي أحرزته على صعيد القوّة والثّروة ولكن ّالوظيفة الأساسيّة للعلم والتّكنولوجيا هي إخلاء الإنسان من الأوهام التي علّقها بالعالم. وهذا سبب الصّدام بين العقلانيّة العلميّة والموروث الحضاري الرّوحي والثّقافي. ومعلوم أنّ أخطر النّتائج المنجرّة عن ذلك في حياة الإنسان المعاصر هي ضياع المعنى من وجوده هوووجود العالم عموما. ومن ثمّة تشيّؤ الوعي [12] وفقدان القيم لموضوعيتها وفي مقدّمتها الحريّة.
ضياع المعنى وفقدان القيم لقيمتها موضوعان لا ينسجمان مع فلسفة هيجل بوصفها فلسفة الحقيقة المطلقة والعقل والحّرية المتعيّنة. وهما موضوعان ضاربان بجذورهما في عمق الفلسفات اللاّهيجليّة بدءا بكيركيغارد و نيتشه. إنّهما موضوعان ينطلق منظّرو مدرسة فرانكفورت من معاينتهما وخاصة في فترة الهجرة التي تزامنت مع صعود النازيّة على الساحة الألمانيّة ثمّ على الساّحة العالميّة ومن ثمة تأثيرها على مجرى أهمّ الأحداث التي لا يزال العالم إلى الآن يتخبّط في مزالقها ومتاهاتها.
ولعلّنا بهذه الملاحظة نكون قد شرعنا في الإجابة عن منزلة العلاقة التي ربطت منظّري مدرسة فرانكفورت بالهيجليّة. وبالفعل فإن ّهذه المدرسة قد تعاملت منذ الكتابات الأولى مع فلسفة هيجل نقديّا. وبما أنّ من معاني النقّد الفصل والتّمييز فإنّه قد تمّ منذ البداية تمييز هيجل رائد الفلسفة الاجتماعيّة بفضل تجربة الوعي الفينو مو نو لو جي عن هيجل التّوفيقي الذي أوجد حلاّ في فلسفته لمعضلة التّوتّر القائم بين العقل والعالم أو بين الذّات والموضوع.
1(هيجل مرجع الفلسفة الاجتماعيّة لمدرسة فرانكفورت
تتنزّل مدرسة فرانكفورت إذن ضمن هذا التّقليد الألماني المتمثّل في اعتبار صرح الفلسفة مترابط الحلقات. إذ نجد اعتبارا ثابتا في كتابات المنتسبين إلى هذا التّيار وهو أنّ ما ينتجونه امتداد طبيعي ّلتاريخ الفكر الأوربي. صحيح إنّ هيجل قد سبقهم في ذلك وقد بلغ ذلك الاعتبار لديه أوجه في التّأليفيّة التي أوجدها لمسيرة الرّوح في التّاريخ. لقد ذهب هيجل إلى حدّ اعتبار الرّوح الذي يتحدّث عنه روحا كونيّا والتاّريخ تاريخ العالم وليس فقط تاريخ اوربا .
وهذا الاعتبار نجده أيضا لدى كانط، فيلسوف التّنوير الذي قدّم حلّه للأزمة التي تردّت فيها الفلسفة ومن ثمّة العقل. ويتمثّل الحل ّالكانطي في النّقد الذي يستطيع أن يخلّص الميتافيزيقا من البقاء مجرّد حلبة صراع بين الأمبريقيين والعقلانيين وبين المدافعين عن العقيدة والمنتصرين للعلم أو أيضا بين العقل النّظري والعقل العملي.
كما نجد هذه الفكرة أيضا لدى كارل ماركس المدين بفلسفته إلى المثاليّة الألمانيّة وفي مقدّمتها مثاليّة هيجل ، ناهيك أنّه لخّص عمله الفلسفي في جعل الجدليّة تمشي على قدميها بعد أن كانت مقلوبة، مع هيجل ، على رأسها. هذه الصّورة التي رسمها ماركس تسمح لنا بأن نقول إن ّالجدليّة الماركسيّة هي نفسها جدليّة هيجل. فما تغيّر هو وضعها وليس جوهرها.
هذه الخصوصيّة الألمانية إذن نجدها لدى فلاسفة النّظريّة النّقديّة - وهي التّسمية الفلسفيّة التي ارتضاها هؤلاء للبحوث التي كانوا يقومون بها- [13] الذين رغم انخراط أغلبهم في التّيارات الماركسيّة قد سعوا إلى ربط المشروع الفلسفي الذي كانوا بصدد إنشائه بالهيجليّة.
لقد كتب هوركهايمر منذ سنـ1937ــة ،أي منذ تولّيه إدارة المركز:« إنّ الفلسفة وبالخصوص الفلسفة الاجتماعيّة لمدعوّة بإلحاح متزايد إلى الاضطلاع من جديد بالدّور السّامي الذي أناطه هيجل بعهدتها – وقد لبّت الفلسفة الاجتماعيّة هذا الدّور ».[14]
ومن شأن هذا الانتساب إلى هيجل أن يجعل التّمشّي الفلسفي لهذا التّيّار الفكري مضادّا لتوجّه فلسفيّ يحتوي على وجوه بارزة مثل شوبنهاور المعروف بعدائه لهيجل وبتشاؤمه وهيدقر الذي رفض قطعيّا في وجود وزمن أن يكون مشروعه فلسفة اجتماعيّة واكتفى بالبحث داخل الحقل الأنطولوجي عن الوجود الحقيقي في باطن الكينونة الفرديّة للبشر.[15]
ويمثّل هيجل خلال الفترة الأولى من تاريخ مدرسة فرانكفورت رائدا للفلسفة الإجتماعيّة . ويعني ذلك أنّه خلّص الفلسفة من قيود الشّخصيّة المفردة الّتي أوقعها فيها كانط بفلسفته الّتي لم تتعدّ آفاق براديقم[16] الذّات. لقد ألقى هيجل بالوعي في تجربة جماعيّة وكونيّة يخوضها الرّوح منذ اللّحظة الأولى الّتي انفصل خلالها عن الطّبيعة وتتجلّى هذه التّجربة في الدّين والفنّ والسّياسة وتجد في الفلسفة تعبيرتها المفهوميّة . وبالإضافة إلى ذلك اعتبر هوركهايمر أنّ هيجل قد خلّص الفكر الفلسفي من النّزعة التّرنسندنتاليّة الّتي تبحث عن كلّ الإنجازات الفكريّة والثّقافيّة في شروطها القبليّة والذّاتيّة إذ لم ينخرط هيجل في ما أسماه كانط ثورة كوبرنيكيّة .[17]
وتظهر ذاتيّة الفلسفة الكانطيّة في هذا السّياق النّظري والتّاريخي لفلاسفة مدرسة فرانكفورت بوضوح أشدّ في الفلسفة العمليّة عندما نجد الذّات لا تخضع إلى أيّ سلطة خارجها فهي التي تسنّ القانون الأخلاقي وتخضع له حرّة.
فالكانطيّة فلسفة الشّخصيّة المفردة أمّا الهيجليّة فقد حرّرت عمليّة توعّي الذّات من قيود الاستبطان ودفعت الذّات في غمار التّّّاريخ ليكسبها شكلا موضوعيّا يعبّرعنه هيجل بمصطلح العقل أو الرّوح.[18]
وفلسفة هيجل اجتماعيّة لأنّها حسب تعبير هوركهايمر تقوم بـ « تحديد الفردي في مصير الكوني ولا تظهر ماهية الفرد ومحتواه الجوهري في نشاطاته الشّخصيّة وإنّما في حياة المجموع الذي ينتمي إليه. وبهذا تصبح المثاليّة مع هيجل في أجزائها الجوهريّة فلسفة اجتماعيّة »[19]
كما كتب ماركوز في العقل والثّورة وبعد مدّة من كتابة هوركهايمر لنصّه المذكور سابقا :
« ولقد كان هيجل آخر من فسّر العالم على أنّه عقل ،وأخضع الطّبيعة والتّاريخ معا لمعايير الفكر والحريّة . وقد اعترف في الوقت ذاته بالنّظام الاجتماعي والسّياسي الذي توصّل إليه النّاس بالفعل، إلى وضع الفلسفة على حافة الطّريق المؤدّي إلى سلبها أو إنكارها ، ومن ثمّ فقد كان هو حلقة الوصل الوحيدة بين الشّكل القديم والجديد للنظريّة النّقديّة، بين الفلسفة والنّظريّة الاجتماعيّة ».[20]
ويتمثّل الاختلاف الرّئيسي بين هذين التصورين في أنّ ما يحدث لدى هيجل هو في العقل أوّلا في حين أنّ الحدث المرتقب من النّقد الماركسي وفلاسفة النّظريّة النّقديّة يخصّ المجتمع وكلّنا يعلم أصل هذه الفكرة في أطروحات ماركس حول فورباخ وخاصّة الأطروحة الحادية عشر والقائلة بأنّ « الفلاسفة لم يفعلوا إلى حد ّالآن[ الّذي يتكلّم فيه ماركس] غير تأويل العالم في حين أن المطروح هو تغييره » .[21]
ولنا أن نتساءل ، الآن ، عن السّبب الّذي دعا فلاسفة النّظريّة النّقديّة إلى الإعتماد على هيجل وليس على ماركس ؟
لقد كان هؤلاء المنظرون في حاجة إلى هيجل لكي يتجاوزوا التّحجّر الذي آل بالفلسفة الماركسيّة إلى الانتهاء إلى نوع من تضخيم العلم وإعلاء البراكسيس وفي كلّ ذلك تفقد الفلسفة قيمتها. إعادة الاعتبار إلى الفلسفة هو العودة إلى اللّحظة الهيجليّة .
2- التـــّوفيقيّة الهيجليّة
إنّ رفع هيجل إلى درجة الرّائد والمؤسّس للفلسفة الاجتماعيّة لم يمنع فلاسفة مدرسةفرانكفورت من نقده في مسألة رئيسيّة تتعلّق بنزعته التّوفيقيّة بين العقل والواقع وبين الذّات والموضوع وبين التّاريخ والمطلق وبين المفهوم والاعتقاد.
هذا التّوفيق بشتّى أشكاله موروث عن الفكر الدّيني ويعني لدى هيجل في فينومولوجيا الرّوح آخرأشكال الحقيقة أي الرّوح المطلق والذي هو التّوفيق بين الوعي والوعي بالذّات. ويتحقّق التّوفيق على صعيد المفهوم في الفلسفة بوصفها ، لدى هيجل ، موسوعة العلوم. ويوضح هيقل ذلك بقوله: « بما أن ّالفلسفة من كلّ جوانبها علم عقليّ فإنّ كلّ جزء يمثّل كلاّ فلسفيّا ودائرة من الكلّية تنغلق على ذاتها ...ويظهر الكلّ تبعا لذلك كدائرة دوائر تمثّل كل ّواحدة لحظة ضروريّة ، إلى حدّ أن يمثّل نسق عناصرها الخاصّة الفكرة كلّها التي تتجلّى أيضا وبالتّأكيد في كلّ عنصر مفرد ».[22]
تجد جميع إنتاجات الوعي لدى هيجل مكانتها في صلب الكل ّالذي تمثّله الفلسفة. وليس هذا الكلّ سوى المطلق الذي تكشف الفلسفة عن حقيقته المفهوميّة.
والتوفيقيّة الهيجليّة لا تعرف فقط على مستوى الوعي وإنتاجاته وإنّما أيضا على مستوى علاقة العقل بالواقع ، وهذا ما تعلن عنه مقدّمة مبادئ فلسفة الحقّ: « ما هو عقلي واقعي وما هو واقعي عقلي ».[23]
أمّا تبرير ذلك فهو كما يلي : إنّ ما يعلّمه لنا المفهوم –في الفلسفة – هو نفسه ما يكشف عنه التّاريخ عبر التّجربة الجدليّة التي يخوضها الوعي. ومنتهى التّجربة الفينومونولوجيّة يكون بتأليفية تتم فيها المصالحة بين الذّات والموضوع اللّذين كانا بدورهما وحدة قبل أن ينشطرا إلى قطبين تربط بينهما حركة جدليّة معقّدة وطويلة.
لم تكن التوّفيقيّة الهيجليّة موضع قبول مفكري مدرسة فرانكفورت . وقد تعقّبوا في البداية خطى ماركس واعتبروا أنّ ذلك يمثّل العنصر الإيديولوجي في فلسفة هيجل.
ومعلوم ان ّهيجل قد تجاوز فلسفة كانط بواسطة توفيقيّته. وفلسفة كانط هي الفلسفة التي ارتبطت فيها النّقائض والإحراجات بالعقلانيّة لتصبح مصيرها المحتوم.وهي أيضا فلسفة الهوّة القائمة دوما بين الممكن والواجب وبين الحرية والضّرورة وبين الشيء في ظاهره والشّيء في ذاته. ورغم الحلول الّتي قدّمها كانط لتلك النّقائض في جدله التّرنسندنتالي فإنّ الفلاسفة الّذين جاءوا إثره وهيجل أحدهم قد انبهروا بكيفيّة كشف كانط عن مشاكل العقل وبسطه لها أكثر من انبهارهم بالحلول الّتي اقترحها. وباختصار لقد تجاوز هيجل بتوفيقيّته [ وهي الحلّ الّذي قدّمه لكي لا يبقى التّناقض الجدلي مستمرّا أبدا ] ترنسندنتاليّة الوعي [وهو بدوره ركيزة المنهج النّقدي الّذي قدّم كانط بواسطته الحلّ لتناقض العقل مع ذاته ].
وقد بدت المصالحة الهيجليّة لماركوز، منذ كتب ماركسية ترنسندنتاليّة؟[24] رمزا لانسياق هيجل في الأيديولوجيا البورجوازيّة. لذلك فقد انصبّ النّقد على هذا الحلّ "المزيّف" بماهو العائق الأيديولوجي الّذي منع المنهج الجدلي الّذي اتّبعه هيجل من بلوغ النّواة الثّوريّة للنّقد. فنقد الأيديولوجيا الهيجليّة يبيّن أنّ توحيد هيجل بين الفكر والوجود ليس إلاّ مجرّد عقيدة ذاتيّة خالية من كلّ حقيقة كونيّة.
وتتمثّل مهمّة الأيديولولوجيا التّوفيقيّة ،وهذا أمر قائم منذ ماركس ، في إخفاء الفكر لحقيقة الواقع البائس. ذلك ما عناه هوركهايمر عندما كتب عن هيجل " إنّ الفيلسوف قد اختار لنفسه الهدنة مع عالم غير إنسانيّ ".[25] وكذلك كتب أدورنو، في نفس السّياق ، ردّا على الأطروحة الهيجليّة" لا يصبح العقل عاجزا عن فهم الواقع بسبب عجزه الشّخصيّ بل لأنّ الواقع ليـــــس هو العقل".[26] لذا تكون الخلاصة الّتي انتهى إليها فيلسوف الرّوح المطلق غير مطابقة للواقع التّاريخي ومشوّهة له.
وهذه المماهاة الّتي أنجزها هيجل في فلسفته ،أي في مجرّد فكره ، بين الّذات والموضوع أو أيضا بين النّظريّة والواقع علامة انغلاق النّسق وبلوغ الحركة الجدليّة منتهاها الموجب. وهي أيضا السّبب الأساسي وراء انهيال النّقد على هيجل بوصفه تارة فيلسوف الدّولة البروسيّة وطورا رائد الدّولة التّوتاليتاريّة.
لقد انتهت تجربة الوعي الّتي بنى عليها هيجل كلّ فلسفته إلى إسقاط البعد الفردي منها بما أنّ الذاتي ينصهر في الجماعي ليصبح موضوعيّا وكذلك آلت إلى حذف الاختلاف القائم بين المشروط والمطلق لكي يكتسب المشروط مظهر اللاّمشروط. لذلك فإنّ أساس نقد فلاسفة النّظريّة النقديّة لهيجل هو تطبيق قاعدته الجدليّة على فلسفته هو بالذّات.لذا لا يستثني القول بأن لا قيمة للفلسفة إلا ّفي كونها عصرها ملخّصا في الفكر فلسفة هيجل نفسها.
وبما أنّ النّسق هو الأيديولوجي في فلسفة هيجل فإنّ نقده لا يتمّ ، حسب أدورنو، من الخارج فقط [ أي بربطه بسياقه الاجتماعي والتّاريخي من أجل الكشف عن زيف التّناغم المزعوم بين العقل والواقع] وإنّما يخضع النّقد أيضا لقراءة داخليّة للنّسق تكشف عن الخلفيات المنطقيّة والمسلّمات الميتافيزيقيّة الّتي توجّه مسار فكر الفيلسوف وتعوقه عن إدراك حقيقة حدوده.
وهذه القراءة نجدها في ثلاث دراسات حول هيجل[27] حيث يسعى أدرنو إلى التّمييز [والتّمييز أحد معاني النّقد ] بين وجهين لهيجل.فأحد الوجهين [وهو موضوع اهتمامنا في هذه المرحلة من التّحليل ] يتعلّق بالمطلق الذي جعل من هيجل ممثّلا للنزعة المحافظة أي النّزعة الممجّدة للدولة في شكلها اللّيبرالي. وهذا الوجه في نظر أدورنو شاهد على انغلاق الوعي على ذاته وعدم قدرته على الاعتلاء فوق ذاته ليصبح موضوع تأمّله. وهذا ما أوقع الوعي الذي تروي الفينومونولوجيا ملحمته في حيويّتها وحركيّتها المعقّدة وتبسط الموسوعة الفلسفيّة نسقه بشكل يبدو للوهلة الأولى سكونيّا .
وجدليّة التّنوير، كتاب مشترك بين هوركهايمر وأدورنو، حمل تطوّرا في تصوّراتهما الفلسفيّة وهما في المهجر إبّان الحرب العالميّة الثّانية. هذا الكتاب يمكن اعتباره، مثلما ذكرنا ذلك سابقا ،إعادة كتابة لفينومونولوجيا الرّوح على ضوء نتيجة سلبيّة فرضتها الأحداث المؤلمة التي شهدها القرن العشرون. هذه النتيجة التي تشابكت فيها هيمنة الحرب ومنتجات العلم التّخريبيّة وويلات التّوحّش النّازي كذّبت عينيّا كل ّتوفيقيّة. وعلى ضوء هذه النتيجة السّلبيّة أصبح كلّ قول بالمصالحة في نظر فلاسفة النّقد تعتيما إيديولوجيا يخدم النّظام البورجوازي وذلك بإخفاء التناقضات التي تنخره من الداّخل وتبقى بدون حلّ. وهذا هو المعنى الذي يقصده أدرنو ردّا على المصادرة الهيجليّة القائلة بأن الكل هو الحقيقة عندما يكتب أن « الكلّ هو اللاّحق ».[28] وحقيقة ذلك أنّ هيمنة المفهوم على الوجود في كلّيته انعكاس لواقع محكوم بالهيمنة والقمع. وليس أدلّ على ذلك من أن الدولة التوتاليتارية تمثل نتيجة منطقية للتنوير وحجة دامغة على إفلاس قيم الحرية والعقل والتقدم وانتشار عدمية واسعة النطاق لاحظ نيتشه بوادرها الأشدّ خطورة.
وتمثل النازية وكارثة معاداتها للسامية على وجه التحديد الخلفية الأساسية التي حركت كتابات مدرسة فرانكفورت منذ هاجر أغلب أفرادها [اليهود] إلى الولايات المتحدة الأمريكية. وقد تحدث هوركهايمر آنذاك عن خســـــوف العقل الموضوعي في المسائل العملية والإسطيتيقية وانتصار العقل الذاتي عليها أي العقل مثلما تتصوره الوضعية والبراجماتية.[29] ذلك ما جعل هوركهايمر يكتب: «إن الدفاع على أن للمبدإ الوضعيّ صلات خفيّة مع المثل الإنسانيّة، مثل الحريّة والعدالة ، أكثر من بقيّة الفلسفات ، لهو اقتراف لخطإ ».[30]
كلــيانية العقل[وهو التعبير الفلسفي عن الأيديولوجيا التوتاليتارية] هي الوجه الآخر للعقل الأداتي. ويمثل العقل الهيجلي السلف المباشر له. وهذا ما ركز عليه يورغن هابرماس في كتابه معرفة ومصلحة لما قرن بين تبدّد نظرية المعرفة، ومن ثمة انفصام العلاقة المعرفية بين المعرفة والمصلحة،ونقد هيجل لنظرية كــــانط على أساس مسلمات فلسفة الهوية. انتصار الهوية فسح المجال أمام إنكار الوضعية لها بدعوىأنّها ميتافيزيقا خالية من المعنى .
يتفق فلاسفة مدرسة فرانكفورت في نقد انغلاق النّسق الهيجلي ، كما لاحظنا ذلك سابقا ، مع المفكرين الذين أدانوا هيجل بسبب نزعته المحافظة والبيّنة في فلسفة الحقّ وبسبب مبالغاته الاستفزازيّة .ويرفضون كذلك التبسيط والتسطيح اللذان آلت إليهما فلسفته في أوربا الشرقية بفعل ربطها الشديد بالمعطى المباشر.
لكن إدانة هيجل بسبب الخلاصة الأيديولوجية التي انتهت إليها فلسفته لم تتمّ دون بحث له عن أعذار فلسفية.ويظهر ذلك في الفقرة الموالية لأدورنو:"لم يتأتّ[ المطلق الهيجلي] من نقص في الوضوح أو بسبب لبس طرأ على فكره وإنما هو الضريبة التي كان على هيجل دفعها لما أوجب على نفسه الوضوح المطلق الذي اصطدم بحدود الفكر الواضح دون مقدرة على رفعها. وتجد الجدلية الهيجلية حقيقتها القصوى في ما تركته قابلا للطعن ،حقيقة استحالتها وذلك لمّا لا تتوصل الجدلية بوصفها ملحمة الوعي بالذات إلى الوعي بذلك".[31] فالمطلق ناتج من رغبة يولدها منطق النسق. فالدافع إلى المطلق فلسفي رغم أنه ليس كذلك.إنها علامة على نسيان الفيلسوف محدودية فكره. وتمسك هيجل اللامشروط بالمفهوم وبالإيمان بقدرة العقل الفلسفي على صهر الوجود في مصنع المفاهيم بحيث لا شيء يستعصي على جبروته فكـــــــرة نبه كانط من قبل إلى مغبة سحرها واقترح نظرية حدود تعصم العقل من البقاء فريسة للوثوقية، وهي فكرة أرسى عليها هيدجير،من بعد، بناء أنطولوجيته ليعرّف الإنسان بأنّه كائن نحو الموت. ولكن هيدجير مثله مثل كانط لم يقص المطلق من دائرتي الفكر والمعنى كما فعل ذلك الوضعيون.
وبقطع النظر عن تباين الأجوبة وتعدّدها فإن السؤال الكامن خلف هذه الأجوبة يمكن لنا طرحه على النحو الآتي: إن كان العقل محدودا فهل وعيه بحدوده يجعله يدرك اللاّ محدود ؟ أو بتعبير آخر إذا كانت حدود الوعي هي لا وعيه فهل وعي الوعي بلا وعيه يرفعه إلى درجة مطلق الوعي؟
هذا السّؤال جوهري لأنّ نقد فلاسفة النّظريّة النّقديّة لهيجل يحمل وعيا بلا وعي هذه الفلسفة فهل ذلك يشرّع لهؤلاء ادّعاء المطلق الّذي أنكروه على فلسفة هيجل؟
إن الإجابة على هذا السؤال رهينة تحديدنا لمعنى الجدلية في النظرية النقدية وتمييزها عن الجدلية في الإستعمال الهيجلي.
3 (الجـدلية في مدرسة فرانكفورت
لاشك في أن الجدلية تمثل أهم المسائل التي استولت على اهتمام فلاسفة مدرسة فرانكفورت على الدوام. وحضور هذا اللّفظ في عناوين لوحدات من أهمّ مصادر النّظريّة النّقديّة [ جدليّة التّنوير والجدل السّلبي ] ليس مجرد حضور لفظيّ بل إنّ مضمون ما كتبه المنظّرون الأوائل يركّز على هذه المسألة التي استقطبت اهتمام الكثير من الفلاسفة المعاصرين.[32]
وقد تركّز عملهم على الجدليّة الهيجليّة ، كما رأينا ذلك سابقا ، على نقد الخلاصة التي توصّلت إليها والتي مثّلت الوجه السّلبي لهذه الجدليّة وفصل ذلك عن الجدليّة كمنهج كفيل بأن يحافظ على حياة الفلسفة وعلى ارتباطها الوثيق بأحداث التّاريخ.
وقد تمّ الارتكاز في المرحلة الأولى من نشأة النّظريّة النّقديّة على الممارسة الثورية كفتحة تمكّن [ النّفي الجدلي ] من تحريك الفكر والتاريخ معا نحو الحلّ الجذري . فلقد راهن هؤلاء المفكرون منذ البداية على البراكسيس الثّوري للطبقة العاملة ميدانا لحركة النّفي في الواقع. وقد كانت الجدليّة في المرحلة الأولى تحيلهم إلى ماركس الشاب ، أي ماركس الهيجلي كما تبيّنه مخطوطات 1844 مثلا أو الإيديولوجيا الألمانيّة. لقد جعلتهم رغبتهم في تجاوز الأزمة التي قبعت فيها الفلسفة الماركسيّة نتيجة سيطرة النّزعة الميكانيكيّة على أغلب مفكّري الأمميّة الثّانية ، هذه الرّغبة جعلتهم يلتجئون إلى كتابات ماركس الشاب . وهذا معنى العودة إلى هيجل.
أمّا المرحلة الثانية المشار إليها بجدليّة التّنوير فهي تنطلق من تكذيب مباشر للخلاصة الهيجليّة وتحافظ على التّناقض كمحرّك أساسي ّللعقل والتّاريخ.
ويدعونا هوركهايمر وأدرنو عبر مقولة العقل إلى الوقوف عند التّناقضات التي تشقّ الحضارة الغربيّة عبر التّاريخ والتي لم تجد لها إلى الآن حلاّ فعليّا. ومن مظاهر التّناقض الذي وقع فيه العقل ما يمكن التّعبير عنه بجدليّة العقل واللاّعقل. فالعقل قد نشأ كنقيض للأسطورة وبلغ تناقضه معها أوجه مع التّنوير الذي شهد انتصار العلم الطّبيعي والتّكنولوجيا المرتبطة به. ويبدو العقل من خلال هذه الأطروحة قادرا على بناء ذاته بذاته فيكون بذلك مرجعا لنفسه. لكن هذا المظهر الكلياني للعقل تناقضه الأطروحة التي يدافع عنها فلاسفة مدرسة فرانكفورت والقائلة بأنّ العقل يحطّم ذاته وينتهي إلى ميثولوجيا أي إلى لا عقل. وتحول العقل إلى لاعقل يتعلق أساسا بالمسائل العملية. ومن شأن هذا التناقض أن يشطر العقل ومن ثمة العقلانية إلى اتجاهين اثنين: الأول يتصل بالفلسفة المثالية الألمانية من كانط وفيشته وشلينغ وهيجل إلى ماركس وتمثله النظرية النقدية التي لا تلقي بالمطلق دون نقد. أما الاتجاه الثاني فتمثله الوضعية والبرغماتية رغم ما يبدو من اختلاف بينهما.فالأولى تعزز ثقة لا محدودة في العقل العلمي وتؤسس تبعا لذلك عقلا علميا كليانيا وأداتيا.أما الثانية فقد جعلت من النّجاعة التجريبية معيار الحقيقة الوحيد.ويتفق المذهبان في إنكار وجود حقيقة موضوعية خاصة بميادين الأخلاق والسياسة والفن والفلسفة.
يتمثل الحل النقدي لنقيضة العقلانية في دحض كل المواقف التي تنمي يأسا من العقل يؤدي إلى اتخاذ مواقف لا عقلانية من العقل ومن مبادئ عملية، تلازمت مع نشأته وتطوره،كالحرية والعدالة والسعادة...ولكن هذا الحل يصبح بدوره إشكاليا بمجرد أن نتفطن إلى القناعة التي نمت لدى هؤلاء المنظرين وتتلخص في يأسهم من إمكان تحقق حرية الإنسان.
فالجدلية التي طوعها هؤلاء الفلاسفة لتعكس تصوراتهم إبان الحرب العالمية الثانية وإثرها غير هيجلية بمعنى أنها تحذف من مسار الجدل النتيجة التي آل إليها العقل الذي سقطت كونيته في بوتقة الأيديولوجيا وانكشف في حقيقته عقلا أداتيا ضيقا لأن دائرته لاتتسع إلى القيم. كما أن هذه الجدلية غير ماركسية لأنها أسقطت من مسلماتها قدرة الطبقة العاملة على تحقيق الثورة .وذلك ليس فقط لأنها عاجزة عن انجازها بل أساسا لأن الثورة مستحيلة.
لكن أيّ معنى يكون للجدلية وأي معنى يكون للعقل لما لا يبقى العقل الجدلي توفيقيّا[هيجل] ولا يوتوبيا[ماركس]؟ خطورة هذا السؤال متأتية من كونه يطرح معضلة انفصام الجدلية عن البراكسيس. ألا يقضي ذلك على العقل بأن يتقوقع على ذاته ضعيفا حسيرا؟ يقودنا هذا السؤال بتفرعاته إلى جوهر مسألة معنى الجدلية.
يقول فجرسهاوس في كتابه عن مدرسة فرانكفورت: " لقد كانت الجدلية تعني بالنسبة إليه[ويقصد أدورنو] إمكان تحطيم الخرافات والأوهام من عدد كبير من الظواهر المعاصرة".[33] وهذا هو معنى نعت أدورنو الجدلية التي يمارسها بكونها سلبية أو على الأصح سالبة. فهي تمتنع عن الإقرار بنتيجة موجبة على المستوى العملي. ويمثل هذا الموقف- الذي جلب الحكم الأيديولوجي على أعضاء مدرسة فرانكفورت آنذاك بأنهم تحريفيون- بالنسبة لأدورنو غنما للفلسفة[34] التي استفادت من عدم تحقّقها، كتب أدورنو هذا وهو يستحضر الأطروحة الحادية عشرة لماركس عن فورباخ.
وتنتج السّلبيّة حسب أدورنو عن الصّدمة التي يحدثها فتح النّسق الهيجلي : « إنّ السّلبيّة هي صدمة المفتوح »[35] وليست هذه الصّدمة حسب أدرنو عديمة المعنى إلاّ بالنسبة لعديم المعنى ، أي لا تكون كذلك بدون معنى إلاّ بالنسبة لمن لا يرى المعنى إلاّ في المطلق. وهكذا تتعارض الجدليّة مع الإطلاقيّة دون أن تسقط في شراك النّسبيّة : « تتعارض الجدليّة بنفس الصّرامة مع النّسبيّة ومع الإطلاقيّة ».[36]
ولا يقصي الجدل السّلبي العنصر غير المتناغم مع العقل من العقل. وهذا ما يكفل عدم تضخّم العقل إلى درجة الكليانيّة وعدم تقلّصه إلى درجة الميثولوجيا. يقول أدرنو في دراسته عن هيجل :
« من وجهة نظر العلم ، يدخل في المعقوليّة الفلسفيّة نفسها ،كلحظة ،شيء ما من اللاّمعقول وينبغي على الفلسفة ابتلاع هذه اللّحظة دون انسياق في طريق اللاّعقلانيّة. إنّ المنهج الجدلي برمّته سعى نحو الإجابة على هذه الضرورة وذلك بالتّحرّر من تأثير الفوري وبالانكشاف في بناء مفهومي واسع النّطاق ».[37]
فالمنهج الجدلي كما تصوّره أدرنو إذن يقوم على حركة دائبة للعقل لفهم معنى النّفي يحدوه حذر من إهمال اللاّعقلي أي الفوري أي الماثل هنا والآن لأن ّذلك يمثّل خطأ الفلسفة الهيجليّة التي بنت نسقها بأكمله في العقل فأوقفت حركة الآني وأبقت على العقل بمفاهيمه خارج الواقع.
مفهمة الوجود ضرورة فلسفيّة ولكن هذه المفهمة يخترقها اللاّمعقول لذلك فإنّ النّظريّة النّقدية مدعوّة إلى فك ّهذه المعضلة عن طريق النّفي. واللاّمعقول أو اللاّمفهوم هو الذي يفجّر النّسق فلا تبقى الهويّة هي الغاية لمسار النّفي. وهكذا تنفلت اللاّهوتيات، وهي نقائض الحداثة وعددها غير محدّد، من قوقعة النّسق والمطلق.
يعني الجدل السّلبي ّ إذن تحرير اللاّهويّة من قبضة الهويّة وذلك بواسطة المفهوم. فالمسألة كلّها تتعلّق بتجاوز جدلي لمنطق الهويّة بواسطة منطق اللاّهويّة.الجدل السّلبي ّهو فلسفة اللاّهويّة وفي هذا السّياق يقول أدرنو: « يعني التّفكير الفلسفي تفكيرا بواسطة نماذج والجدل السّلبي هو مجموع فكر في نماذج ».[38]
ويعتمد تفكير النّماذج على خلفيتين أساسيتين تتمثّل الأولى في استحالة فلسفة الأنساق، استحالة التّفلسف داخل نسق بعد هيجل. ويمثّل نيتشه في هذا الإطار قدوة هؤلاء الفلاسفة – ونخص ّبالذكر منهم أدورنو- في أسلوب كتابة الفلسفة. فالفلسفة تكتب في شكل شذرات وتلميحات تستفيد من الفن والخطابة والبلاغة.أمّا الخلفيّة الثّانية التي تفترضها كتابة الفلسفة في شكل نماذج فهي النّزعة الصّوفيّة التي اتّضحت معالمها في كتابات فلاسفة مدرسة فرانكفورت في آثارهم الأخيرة. فالكليّة الكاذبة أو اللاّهوية تنكشف آثارها للتأمّل في أشدّالأشياء صغرا و « تفاهة » كما تظهر في أعظم المواضيع وأخطرها على الوجود. تشير إليها ومضة إشهاريّة عابرة وحرب عالميّة ثانية على حدّ سواء. كلها تشير إلى كلية لا تتعين إلا بواسطة العمل المفهومي للجدل السلبي.
4- تعقيب : بيننا وبين هيجل ومدرسة فرانكفورت:
اهتمامنا بهيجل جزء من الاهتمام العالمي به. ولهذا الاهتمام ما يبرره لأن عظمة الفلسفة الهيجلية تكمن في قدرتها- بفضل منهجها الجدلي- على خلق أسباب تجاوزها لدى قارئها.وتبعا لذلك لا معنى للحديث عن اهتمام خالص لوجه هيجل أو لوجه الفلسفة. كما لا معنى للحديث عن هيجلية مذهبية. فهيجل هو الفيلسوف الذي لما يستدعينا إلى التفكير معه سرعان ما يستفزنا لكي نفكر ضده. ولكن ما معنى التفكير ضد هيجل؟
لقد مكنتنا كتابات فلاسفة مدرسة فرانكفورت من مثال ثري عن كيفية التعامل النقدي مع الفلسفة الكلاسيكية عموما وفلسفة هيجل بصورة خاصة. ونحن إن لم نتعامل مع فكر هذه المدرسة مثلما تعامل مفكروها مع أسلافهم نكون فشلنا في استيعاب الدرس الفلسفي العميق الذي خلفه لنا روادها.
ويتحوصل الدرس في نظرنا في ارتباط الفلسفة ،من جهــــة، بجذورها مادية كانت أو مثالية .فليس ثمة فلاسفة قد حسم أمرهم وليس ثمة حكم نهائي في الميدان الفلسفي. فهيجل لا يزال مرجعا للقراءة وهذا ما عناه أدورنو في مقاله عن كيفية قراءة هيجل قراءة نقدية تميز بين ما يمكن تجاوزه وما يمكن الاحتفاظ به والبناء عليه في هذه الفلسفة . وتعلمنا ،النظرية النقدية ، من جهــــة أخرى، أن الفلسفة في علاقة وثيقة بتجربة الفعل البشري في العالم. وعدم اكتراث فعل التفلسف بالجديد في تلك التجربة لا يضاهيه من حيث السلبية سوى الاكتفاء بالنص الفلسفي ومعالجته بضرب من المثالية الفجّة والمقطوعة عن السياقات التاريخية لنشأتها وامتداداتها العملية. وتبعا لذلك بدا لنا نقد فلاسفة مدرسة فرانكفورت لانغلاق النسق الهيجلي،خاصة خلال فترة الهجرة خارج ألمانيا، متلازما مع صعود النازية وما أحاطت بها من أحداث مريعة على الساحة العالمية. وعلينا أن لا ننسى يهوديتهم وما جرته عليهم من ويلات.هذا الحدث كان ماثلا في أطروحاتهم الفلسفية الجوهرية بثقل وكثافة شديدتين. فالتعبيرة الخارجية للانغلاق لديهم،هي النازية المجسدة لتوحش العقل الأداتي.لقد استبطنوا هذه الفكرة في عمق وعيهم الفلسفي وأحدثوا منعرجا حاسما في إنتاجا تهم الفلسفية.
ويبدو لنا أن اليوم شبيه بالأمس لأن هذا الأخير لا زال جاثما علينا بكلاكله.فالانغلاق لا يزال واقعا يغرقنا إلى حد الأعناق رغم بريق الانفتاح الكاذب والذي يهلل له الكثيرون تحت شعارات العولمة . إننا لم نبرح بعد الدائرة المغلقة التي طوقنا بها الاستعمار. لقد خضنا تجربة الاستعمار واصطدمنا بالعقل الأداتي قبل انكشاف حقيقته للنقد. فالاستعمار حدثنا التاريخي وواقعنا الاجتماعي الذي لم نفه حظه من النقد. والسبب الرئيسي لذلك يكمن في أن إيديولوجياتنا الرسمية تصوره في شكل سحابة عبرت سماءنا بسرعة أو في شكل فرصة أتيحت لأخيارنا لكي يبرهنوا على زعاماتهم فنتغنى بها إلى الأبد.
ولئن كانت النازية الحدث المؤلم الذي اثر بعمق في التجربة الفكرية لهؤلاء الفلاسفة فبحثوا عن الحل من خلال إعادة قراءة الإرث الفلسفي السابق فإن الصهيونية اليوم لأشد وأنكى من النازية. إنها سرطان ينخر ما تبقى من جسم شرقنا وغربنا.إنها إحدى مظاهر الكليانية التي تحاصرنا. ورغم أنها كاذبة أمام النظر النقدي فهي لا تزال توقع الكثير منا في كآبة قاتلة وكأنها قدر العالم ومصيرنا المحتوم. نحن في أمس الحاجة إذن إلى نقد هذا الانغلاق دون التخلي عن سلطة العقل.
والكليانية نعيشها أيضا في أنظمتنا المهوسة بالانغلاق إلى درجة الاختناق. والمؤلم في كل ذلك أن الانغلاق المضروب علينا من الخارج يلهينا عادة عن التركيز على حليفه الداخلي.
والكليانية حاضرة أيضا في وعينا الديني أو على الأصح في وعي غالبية لم ترق مواقفها فوق الحماس الفياض أو الحساب الضيق. إذ المقاومة الجذرية للانغلاق لا تكون فعلا كذلك إن كانت مجرد محاولة للخروج من دائرة مغلقة لنجد انفسنا من جديد واقعين في انغلاق آخر. وهذا ما يجعل المقاومة رغم حدتها سطحية. وليس هذا حطا من شأنها.
يمكن إذن لمقولة الانغلاق أن تكون منطلقا لعمل نقدي بعيد عن كل توفيقية أيديولوجية يمكّننا من أن نرتقي إلى كونية إنسانية فعلية منفتحة وغير إقصائية.
إننا ،اليوم، حيثما ولينا وجوهنا نرى آثار هذه الكليانية الخطيرة وذلك بعد أن انتابتنا نشوة عابرة لسقوط الأنظمة التي كانت تسمى خلال الحرب الباردة بالأنظمة التوتاليتارية. لقد بدأنا ندرك أن ما وقع ليس إلا انتقالا من انغلاق ذي قطبين إلى انغلاق حول قطب واحد.
لكل تلك الأسباب لم نتجاوز بعد اللحظة الهيجلية التي أفضت إلى انتصار العقل الأداتي .لذا تكون حاجتنا ملحّة إلى جدل ينفي الانغلاق والتوفيقية التي تسنده في سرّ
يعكس طول هذا المقال و صياغته اللغوية السليمة اهتماما عميقا لكاتبه بالقضيا التي أثيرت فيه. أنا لازلت أتلمس خطواتي الأولى في الفلسفة بعامة، و في الفلسفة المعاصرة خصوصا، و قد كان هذا المقال مناسبة لي لاختباري مدى فهمي لفلسفة هيجل و كان أيضا مناسبة للاطلاع على بعض المفاهيم الرئيسية للنظرية النقدية لمدرية فرانكفورت و طبيعة قراءتها للتراث الفلسفي الألماني.
ردحذفشكرا على هذا المجهود.
شكرا
ردحذف