عمرو أمين الشريف
ارتبط أسم فرديريك نيتشه ( 1844- 1900 ) بالظاهر الفلسفية التي سادت من النصف الثاني من القرن العشرين والمعروفة بأسم ما بعد الحداثة. فيورجن هابرماس يعتبره " المدخل إلى ما بعد الحداثة " الا ان تعبير ميشيل فوكو " مؤسس لنسق معرفي " initiator of discursivity يعد أفضل توصيف للعلاقة بين نيتشه وما بعد الحداثة، أذ أنه لا ينتهي عند توضيح علاقة التاثير بل يمتد ليوضح العلاقة الديناميكية بين نيتشه والعديد من الفلاسفة ما بعد البنيويين وما بعد الحداثين من أمثال جيل دولوز وجاك ديريدا وجان فرنسوا ليوتار وفوكو نفسه. ان العلاقة بينهم من ناحية وبين نيتشه من الناحية الاخري ليست علاقة تأثر فحسب، بل يمكن وصفها أيضا بأنها أعادة لقراءته وتفسيره وأكتشاف لنواح ثورية كامنة في فكره لم تتضح في القرن التاسع عشر والنصف الاول من القرن العشرين. ويعد رفض نيتشه لمفهومي الحقيقة والذات. المنبع الرئيسي لهجر فلاسفة ما بعد الحداثة لهذين المفهومين. الا ان الصعوبة الأولى التي تكتنف عملية قراءة نيتشه هي الطبيعة المفككة لكتاباته، أذ يقدم نيتشه أفكاره علي شكل شذرات وأقوال قصيرة مختلفا عن الدراسات الفلسفية المنظمة التي يتميز بها الفلاسفة السابقين عليه أمثال كانت وهيجل وتظهر تلك الطبيعة المفككة أول عوامل تأثير نيتشه في فكر ما بعد الحداثة الا وهو رفضه لروح النظام والنسق اللتين تحكمان الفلسفة السابقة عليه. وينبع رفض نيتشه لكرة النظامية من توضيحه لهذه الفكرة علي أنها ميتافيزيقية ومن رفضه لكل الميتافيزيقا. أما الصعوبة الثانية فهي رفضه نيتشه للغة الفلسفة التقليدية التي تتسم بالوضوح والصرامة وكتاباته لمعظم أعماله في شكل شعري أو علي شكل حكم أو تأويل تلفت النظر اليها ولجمال تعبيراتها وليس فقط لمدلولها وتنبع هذه الصعوبة الاخري من رفض نيتشه للدور الذي تلعبه الفلسفة الا وهو محاولةالبحث عن الحقيقة وتقديمها. فنيتشه لا يري كتاباته كاضافة الي هذا التراث بل كهجوم صريح عليه. ولهذا فانه يؤكد أن كتاباته لا تسعي الي تقديم حقيقة سار وأنها هي هدم الرؤي الميتافيزيقية السابقة عليها وفي خلال عملية الهدم لا تسعي الي بناء نسق فكري جديد بل تؤكد أنها لا تعدو مجرد محاولة للتفسير ولا تدعي تقديم أية حقيقة. فيقول في كتابه وراء الخير والشر :_ دعونا نعترف أيضا بأن هذه أيضا مجرد محاولة للتفسير وقد يكون البعض متشوقا لان يقدم هذا الاعتراض حسنا، هكذا أفضل فاذا كانت فلسفة نيتشه لا تسعي وراء أكتشاف حقيقة ما أو تقديم رؤية متكاملة فلم نقرأها أو نقتنع بها ونفضلها عن أي فلسفة أخري ؟ يؤكد نيتشه أن عباراته لا تركز علي إرادة will to truth وأنما علي ارادة القوة will to power فهي عبارات تصمد لقوتها وجمالها ولخلوها من الزيف الذي يسيطر علي الفلسفات الاخري تحت أسم الميتافيزيقا وهكذا يتضح لنا أن الشكل المميز لأعمال نيتشه ينبع من رؤيته الفلسفية، فأذا كان الفلاسفة السابقين عليه يقدمون أعمالا تتسم بالنظام وتطوير فكره ما فذلك لرؤيتهم الفلسفية المنظمة ولمحاولتهم لاقامة نسق شامل يفسر كل الظواهر التي تحيط بهم وأذا كانت لغتهم تتسم بالوضوح فذلك لرغبتهم في تقديم حقيقة ما أما فلسفة نيتشه فهي لا تسعي لاقامة نسق شامل ولذلك فهي تظهر علي شكل شذرات ولا تسعي لتأكيد حقيقة ما لذلك فهي تركز علي جمال العبارة وشعريتها بدلا من شفافيتها أو قدرتها حقيقة ما.
ولكن في ظل ذلك التشظي الذي تتسم به فلسفة نيتشه يلوح نظاما دفينا يعطي لكل جملة قد تبدو سطحية معني باطني دقيق وعمق فلسفي كبير ففلسفة نيتشه هي في الاساس نقد شامل للفلسفة الكانطية ورفض تام للفلسفةالهيجلية.
1- الفكر الكانطي :اساس للحداثة :-
وقعت فلسفة رنيه ديكارت (1596-1650) في مشاكل عديدة ولم تصمد أمامم عاول الفلسفات المادية والامبيرقية، ولذلك كانت المشكلة التي تواجه العقل الاوربي في ذلك الوقت هي أعادة الوصول لليقين الذي فقد بعد اتضاح التناقضات الكامنة في فكر ديكارت وكذلك علي الثنائيات التي أقامها ديكارت بين الروح والجسد والفرد والعالم. وقد تصدي عمانؤيل كانت ( 1724- 1804 ) لهذه المشكلة بجدارة وتعد أهم أهداف الفلسفة الكانطية هي محاولة أثبات وجود الذات واثبات وجود معرفة صادقة وأثبات قدرة الذات الوصول للحد الادني من اليقين اللزم لاستمرار العلم. وعلي النقيض من الذات الديكارتية cartesian التي تعتمد علي الفكر كوسيلة لاثبات ذاتها، فأن الذات الكانطية تعتمد علي المعرفة وتتلخص محاولة كانت لاثبات وجود الذات في قدرته علي أثبات وجود أحكام تركيبية قبلية وعن طريق دراسته للظواهر الطبيعية والرياضيات تمكن كانت من أثبات وجود تلك الاحكام. وهكذا تمكن كانت من اثبات تلك الاحكام. وهكذا اثبت كانت وجود معرفة تركيبية سابقة علي الخبرة. ويثبت كانت وجود أثني عشرة مقولة ضرورية سابقة علي الخبرة وهي نفسها التي تجعل من الخبرة الانسانية والمعلافة أمر ممكنا. ويفرق كانت بين المعرفة الظاهرية التي تتيح تلك المقولات التعرف عليها phenomena الحقيقة التي لا يمكن الوصول اليها أبدأ noumena فالشئ في ذاته ويثبت لا يمكن معرفته هوذلك لان الانسان لا يمكن ادراك الشئ الا في اطار زماني مكاني وكل ما يمكن للمرء الوصول اليه هو رؤية محدودة بالقوانين القبلية التي تتيح الخبرة. وهكذا فان الذات والموضوع ليسا منفصلين كما هي عند ديكارت، فاذا بدأنا باحداهما لابد وأن نصل حتما الي الاخر. وهكذا فان كانت يتغلب علي الثنائية الديكارتية ويثبت وجود ذات أمكانية الوصول الي اليقين وان كان محدودا بعوامل ما. ألا أن ثبات هذه العوامل كجزء أساسي من الذات الإنسانية يضمن هذا اليقين وتكون المقولات الاثني عشر بينة العقل النظري و هو ذلك العقل التي يهتم بالعلوم الطبيعية والرياضيات ويميز كانت كذلك نوعا أخرا من العقل إلا وهو العقل العملي والذي يهتم بالإطلاق والقواعد الأساسية للسلوك الإنساني. وفي إطار محاولة كانت تحديد مجالات الميتافيزيقا المشروعة وإقصائها عن المجالات الأخرى يوضح كانت التناقضات التي يقع فيها الإنسان عند البحث في مجال الميتافيزيقا في مجال الميتافيزيقا وهي الأربع تناقضات الشهيرة التي يثبت بها كانت قدرة العقل علي إثبات الشيء ونقيضه في أن واحد. فعلي سبيل المثال، يثبت كانت قدرة العقل الإنساني علي إثبات العلية causality ما يتبعه ذلك من رؤية ميكانيكية جبرية للكون، حرية الإرادة في أن واحد يقول كانت أنه إذا كان كل شئ يحدث في الطبيعة يحدث لسبب ما فان لكل تأثير سبب ما ولكل علة معلول وهكذا فأن الكون كله يتطور في سلسة في الأسباب والنتائج وعلي النقيض من ذلك، فأن العقل لا يمكنه أن يتخيل سلسلة أبدية من الأسباب والنتائج، إذ أن هذه السلسة لابد لها من نقطة بداية.
وهكذا، فأن كانت أعظم فلاسفة العقلانية،يثبت قدرة العقل علي إقامة الدليل علي الشيء ونقيضه في أن واحد. ألا أن كانت في دفاعه عن العقل لا يتوقف عند تلك المرحلة بل يتعداها موضحا سبب التناقضات التي يقع فيها العقل. فيقول كانت أن العقل النظري يقع في تلك التناقضات عندما يحاول أن يتعدي الحدود التي يجب أن يتوقف عندها. فالعقل النظري يصلح للتفكير في الجزئيات فقط وليس الكليات، فعندما يحاول العقل النظري أن يطبق مقولة كالعلية علي الكون بأكمله.
فسيقع حتما في التناقض. ولذلك فكانت يوضح حدود العقل النظري والعملي ويمنع محاولة تخطي الحدود المرسومة بينهما. وتتسم الحداثة بكل الصفات التي وضع كانت أساسها فهي تقوم علي أيمان لا يتزعزع بوجود الذات الإنسانية وعلي وجود حقيقة يمكن الوصول إليها علي الرغم من صعوبة ذلك. و هكذا فأن نقد نيتشه لمفهومي الحقيقة والذات في الفلسفة الكانطية يعد أول تأسيس لملامح ما بعد الحداثة. وأذا ما تصورنا الحداثة وما بعد الحداثة علي اهما قراءتين مختلفتين لنفس النسق الميتافيزيقا فأننا يمكن أن نتصور مدي عمق الهوة بين هيجل ونيتشه.
فكلا من الفيلسوفين يقدم رؤية مختلفة للفلسفة الكانطية. وبينما تعتمد الروية الهيجلية علي الوحدة تعتمد الرؤية النيتشوية علي التمزق والتشتت. فكل منهما يمكن أن يري علي أنه يتعامل مع التناقضات الكانطية بشكل أو بأخر. فبينما يقوم الديالكتيك الهيجلي علي محاولة الجمع بين النظرية thesis ونقيضها anti-thesis في شكل وحدة متعالية تعمل بعد ذلك علي أنها نظرية جديدة تؤدي الي استمرار الديالكتيك، يرفض نيتشه هذه الرؤية تماما بل ويروض أيضا فكرة التناقضات ذاتها.
ويقدم جيل دولوز في كتابه نيتشه والفلسفة وجه نظر يمكن من خلالها أن نري التناقض بين هيجل ونيتشه من زاوية أخري. فالديالكتيك الهيجلي يتغذي علي السلب، فكل نظرية تولد نقيضها ثم يتمحل هذا التناقض علي مستوي أعلي من الحقيقة. وعلي النقيض من ذلك فأن فلسفة نيتشه تقوم كلها علي الايجاب ورفض السلب الهيجلي وتأكيد الذات علي انها ارادة للقوة will to power ولهذا فلا يوجد في كتابات نيتشه كلها أي محاولة جادة لنقد هيجل وذلك لان هيجل سوف يمثل في هذه الحالة النظرية ويمثل نيتشه نيقيضها شر يتم حل النزاع بينهما وهكذا يقع في فخ الديالكتيك الهيجلي ؟ ولهذا يكتفي نيتشه بهدم الاسس التي ترتكز عليها الحداثة الا وهي مفهومي الحقيقة والذات.
2- نقد نيتشه لمفهوم الذات :-
علي العكس من الرؤية الهيجلية التي تحاول التوفيق بين التناقضات ويرفض نيتشه فكرة التناقضات ذاتها. فهو يري أن الاعتقاد بوجود تناقضات يقوم علي الإيمان بوجود كيان موحد يجمع بين الشئ ونقيضة وهذا الكيان يالنسبة لكانت هو الذات.أما نيتشه فهو يرفض وجود تلك الذات المتعالية travnscendentat . ويؤكد ان تلك التناقضات تعبر عن غرائز طبيعية يتسم بها الانسان بوصفه كائن بيولوجي وليس له اي علاقة بالتسام trascdentalism ويؤكد نيتشه أن كل الافكار المتسامية ليس لها اصل من العدمة ومنبعها رغبات مادية بحتة. ومن هنا تتحول مهمة الفيلسوف من البحث عن الحقائق المتعالية الي تأصيل هذه الأوهام المتعالية transcendental illusions في بيئتها المادية والبحث عن الظروف المادية التي أدت الي ظهور بعض الانماط الفكرية. وهذا ما يعرف بأسم الجينولوجيا. فنيتشه يري أن المقولة الثالثة للعقل النظري القائلة بوجود العلية تنبع من حالة الانسان الي العلم والمعرفة كوسيلة لفهم العالم وبالتالي السيطرة عليه. فالشئ يظل مخفيا طالما هو مجهول. أما أذا ما أدرج في سلسلة من الاسباب والنتائج فأن غموضه يزول ويصبح مألوفا للانسان وهكذا فأن العقل النظري ما هو ينبع من حاجة الانسان الي القوة will to power أما نقيض هذه النظرية فهو حاجة العقل العملي الي تأكيد الحرية وذلك لضرورة تلك الحرية لاي نسق أخلاقي. وهكذا فأن العقل العملي يتأصل في حاجة الانسان للشعور بالحرية وهي أيضا حاجة مادية. وهذا الرغبات بداخل الانسانم تعبر عن حاجات مختلفة لا يمكن رؤيتها علي أنها تناقضات antinomies الا اذا افترض الانسان وجود ذات متعالية تجمعها وهو ما يرفضه نيتشه.
ويطور نيتشه مشروعه الجينولوجي - وهو أول استراتيجية يتبناها لهدم الميتافيزيقا ويوسعه ليشمل تقويضا لكل الافكار الميتافيزيقة، وأحد أهم هذه الافكار هو مفهوم الذات. ويرفض نيتشه مفهوم الذات عند كانت كما يرفضه عند ديكارت. أذا كان كانت يؤكد علي ضرورة المعرفة فانه يؤكد ايضا ان تنظيم هذه المعرفة يرجع الي مفاهيم سابقة عليها فعلي سبيل المثال بيستطيع الانسان أن يدرك تمدد المعادن عند تعريضها للهب ويستطيع كذلك الاحساس باللهب ورؤية التمدد، ولكنه لا يستطيع استشعار السببية. ولكنه لا يستطيع تخيل الموقف بدون تلك العلاقة، وعلي هذا فان هذه العلاقة هي تصور قبلي يفرضه العقل علي الخبرة الحسية لتنظيمها وتوحيدها. ولكن نيتشه يرفض هذا التصور مثله في ذلك ككل الماديين، ويؤكد أن تلك التصورات القبلية apriori ما هي الا خبرات حسية يتم تخزينها في عقل الانسان ويؤكد كذلك أن كانت يوضح سبب تلك التصورات وأنما يقول أن الذات هي التي تجعلها لا يوضح سبب تلك التصورات وأنما يقول أن الذان هي التي تجعلها ممكنة. وعلي هذا فأن تلك التصورات ما هي الا مجرد خبرات حسية متراكمة ولا يجمع بينها أية وحدة متعالية.
ثم يتحول نيتشه بعد ذلك الي نقص مفهوم ديكارت عن الذات. فديكارت لم يتحرر من سجن اللغة ولا من الميتافيزيقا الموجودة بها. فقام بفرض قواعدها علي ادراكه للحياة. فعندما نقول " البرق يلمع" فاننا نفضل البرق علي اللمعان ونجعل من الاول فاعلا - المسبب - ومن الثاني حدثا بينما الاثنان هما نفس الشئ وهذا هو نفس المنطق في مقولة " أنا افكر " التي تفصل بين الحديث والفكر وبين ما يقوم به - بينما لا توجد هذه الانا التي تقوم بالتفكير. وكل ما يفعل ديكارت هو أنه يقوم بتشكيل عادة لغوية علي شكل حجة فلسفية مفترضا وجود فاعل وراء الفعل. أما نيتشه علي النقيض من ذلك، فأنه يؤكد أن فخ اللغة وهو الاخطاء التي يقودنا العقل الي الوفوع فيها وقد تم تخزينها في الغة يقدم لنا كل الانشطة علي أن المسؤول عنها هي الذات مما يعمي الابصار علي أنه لا وجود وراء الفعل، الحدث أو التحول، وان الفعل قد تم أضافته الي الفعل عن طريق الخيال - وأن الفعل هو كل شئ. وأما الانسانالعادي فانه يضاعف الحدث عن طريق جعل البرق مسؤلا عن اللمعان، وبهذا فأنه يكرر نفس الحدث مرة علي أنه سبب ومرة علي أنه مسبب أو معلول. وبالاضافة الي ذلك، فأن المرء عندما يقوم بتكوين مقولة " كأنا أفكر " فأنه لا يفترض فقط وجود الذات ولا حتي وجودها كعلة وأنما يدعي أن هذه الذات - في تلك المرحلة التي يتم السعي وراء أثبات وجودها - تعرف ماهية الفكرفاذا لم أكن قد حددت مسبقا ماهية الفكر، فكيف يتأتي لي أن أعرف أنا ما أفعله ليس ارادة أو حساسا ؟ باختصار، مقولة " أنا أفكر " تدعي أنني أقارن حالتي الحاضرة بحالات أخري خبرتها ذاتي وهكذا فانني استطيع أحدد كفهمها. وبسبب هذه الإشارة الي معرفة أخري سابقة لإنه لا توجد، علي الاقل بالنسبة لي، أي يقين.
وهكذا فان نيتشه يثبت أن مقولة " أنا أفكر " تفترض مسبقا وجود ذات مفكرة، وأن هذا الذات فاعلا، وأن هذه الذات تستطيع تحديد أن ما تمر به هو فكر وهو أمر يستدعي معرفة مسبقة بماضيه الفكر. ونيتشه لا يحاول أن ينكر أن هناك نشاط ما يحدث، وأن هذا النشاط هو التفكير ولكنه يرفض أن يذهب الي ما هو أبعد من ذلك. وحتي في أطار التعرف علي هذا النشاط علي أنه تفكير فأن هناك تفسير أو تأويل لكنه هذا النشاط.
واذا ما كان ديكارت يحاول تأسيس الذات علي الفكر وكانت تاسيسها علي المعرفة فان نيتشه ينكر ذلك أيضا. وهذا لانه لا فكر مطلق وانما تفكير في حدث ما ولا توجد معرفة مطلقة وانما بمعرفة بشئ ما. ولكن ما يحدث هو أن العقل يقوم باستخلاص مفاهيم مجردة من هذه الحالات المحددة. فالانسان لا يمكنه ان يتخيل وجود فكر مطلق بدون شئ ما يتم التفكير فيه ولا وجود معرفة مطلقة بدون وجود موضوع لهذه المعرفة. فالفكر المطلق أو المعرفة المطلقة سوف يكون فكرا في اللاشئ أو معرفة بالعدم وهو ملا يمثل فكرا أو معرفة. ولكنه فخ اللغة ايضا هو الذي يسمح للانسان باستخلاص مفهوم مجرد من الحالات المتعددة، ثم يسمع أيضا بافتراض وجود ذات وراء تلك المفاهيم المجردة بسبب فرض اللغة لمنطق الفاعل والفعل علي فهم الانسان للاحداث. وعلي هذا فأن الذات ما هي الا نتاج للمفاهيم التي تفرضها اللغة علي الانسان.
ويسعي نيتشه بعد ذلك لنقص الاعتقاد بوجود الوعي. وذلك لان هذا الاعتقاد هو المسئول عن كل المفاهيم الميتافيزيقية. فيؤكد ان الذات الديكتارتية ما هي الا تطوير للمفهوم المسيحي عن الروح التي ما هي الا وهم ميتافيزيقي تم أضفاءه علي ظاهرة الوعي الانساني. وهذا الوعي ليس متعاليا علي الخبرة وانما هو نتاج لظروف مادية بحته، ففي المجتمعات القديمة، قام فارق القوة بخلق نموذج السيد والعبد.
وقد قام السيد في التحكم في العبد وإخضاعه له. وبسبب حقده علي السيد، قام العبد، من خلال عدم قدرته علي هزيمة السيد، بخلق فكرة وجود شئ ما غير متجسد ومنفصل عن الجسد الذي يحكمه السيد. هذا الشئ هو الروح التي لا يستطيع السيد ان يخضعها والتي لابد وأن تقوم بتحقيق مالم يستطيع الجسد بتحقيقه الا وهو هزيمة السيد. وهذه الروح باقية لا تفني.وحيث ان هذه الروح باقية لا تفني. وحيث ان هذه الروح موجود لي البشر جميعا فأن هذا يعني أنهم متساوون.اما نتيشة فانه يري أن هذه الروح ما هي الا وهم تم أضافته علي الوعي. ويعتبر نيتشه الوعي مجرد أعلاء لحاجات اجتماعية ففي الحالة السابقة علي المجتمع، عاش الانسان حياة نقية غير لوثة أستطاع فيها أن يقوم بأشباع كل غرائزه تلقائيا وبدون تأجيل. ولكن لان الانسان أضعف الحيوانات جميعا. فكان لابد له من أن يعيش في مجتمعات توفر له الاحساس بألامان.
ومن هنا نشأت حاجة الفرد للتواصل مع الاخرين وللتعبير عن رغباته. وبسبب هذا التجمع الانسان وجدت ظاهرتين : أولا : ظاهرة الوعي. فكل الرغبات التي أصبح من المستحيل علي الانسان وأشباعها تلقائيا تم كبتها مما أدي الي حدوث صراع بين الفرد ورغبته في اشباع حاجاته أدي بعد ذلك الي ظهور الوعي. وكلما زاد ضغط العالم الخارجي علي الفرد، واتسع ذلك العالم الداخلي الذي يضم كل مالا يستطيع الانسان اشباعه.
والظاهرة الثانية هي اللغة. فاللغة ظهرت وتكونت في نفس الوقت التي ظهر فيه الوعي. وعلي هذا وسيلة يستخدمها الوعي في التعبير وأنما هي خطرة أساسية في خلق هذا الوعي وتطوره. وبسبب بقاء هذه اللغة والنظام الذي تفرضه علي الانسان فان كثير من المعتقدات الميتافيزيقية التي أمن بها الانسان في وقت ما بقت في مخيلة الانسان حتي الان. فالاعتقاد بوجود مفاهيم مجردة مثل " الضعيف و" الذات " أمر ممكن حدوثه فقط لان تلك المفاهيم الميتافيزيقية يتم اختزالها في اللغة وتتحول الي كلمات يستعملها الافراد في حياتهم اليومية. وهكذا فان الانسان حبيس في سجن اللغة. ولن يستطيع التحرر من الميتافيزيقا الا اذا تحرر من اللغة ذاتها. وهي فكره لها أثر كبير في فكر فلاسفة ما بعد الحداثة، اذ ان ما بعد الحداثة تحولا من فلسفات الوعي الي فلسفة اللغة.
وعلي هذا فكان نيتشه يقوم مفهوما جديدا عن الذات يمكن أن يعتبر النموزج الاول بمفهوم الفرد الذي تفضلة ما بعد الحداثة عن الذات subject الذي تؤمن به الحداثة.وفي هذا النموذج يعد الفرد مجموعة من المشاعر والرغبات والغرائز والافكار لا تجمع أية وحدة. ويقوم الاعتقاد بوجود مثل تلك الوحدة فقط علي استعمال الانسان لعين " أنا " الذي يشير الي الوحدة التي تفرضها اللغة علي الفرد. وهكذا فأن الفرد يتم الفردية إختزالة الي مجرد عادة لغوية. مجرد موقع تتلاشي فيه العديد من الاصدار الاجتماعية والفكرية. ويقوم مشروع فوكوه علي البحث عن العوامل السلطة والممارسات والاجتماعية المختلفة التي أدت الي تكوين الفرد علي الشكل الذي يظهر. بينما يؤكد ديريدا علي وجود هذا الوعي الذي يفترض ان تسكن فيه المدلولات التي الموجود التي تشير الي الدلالات الموجودة في اللغة. ويؤكد أن اللغة لا تنتج المعني عن طريق الاشارة الي المدلولات الموجودة في الوعي وأنما عن طريق الاختلاف والارصاء.
3- نقد نيتشه الحقيقية :-
يبدأ نيتشه نقده لمفهوم الحقيقة بأيضاح أن اي نظام فكري يؤكد وجود حقيقة ما أو يسعي لبلوغها لابد له من اساس ثابت يرتكز عليه تماما كما تأسس الحداثة ذاتها الي الذات الديكارتية. وعلي هذا فان نقد نيتشه لمفهوم الذات ينبغي أن يفهم أيضا علىانه نقد للاساس الذات تدعى الحداثة
ثباته والارتكازعليه وهكذا فان هدم هذااليقين هوزلزلة لثبات كل المفاهيم التى ترتكزعليه.واذا ما كان ديكارت يدعي بانه قام بتاسيس وجود علي انه الحقيقة الاولى فانه يقع في مازق خلقه انفصال تلك الذات الكلي عن العالم. ومن اجل التغلب علي تلك الفجوة بينها و ما سيتتبعه ذلك من عدم يقين المعطيات الحسية.يحاول ديكارت اثبات وجود اله يضمن ذلك اليقين المنشود. ولكن عدم صمود فلسفة ديكارت امام الفلسفات المادية والاسبيريقية الى زعزعة الدور الذي يؤديه الاله في ضمان يقين المعرفة.و علي هنا يصبح من الممكن النظر الى الاسمولوجيا الكانطية علي انها بديل يقوم بنفس الدور الذي قام به الاله في النسق الديكارتي. و بينما تلعب الذات الديكارتية دور الملتقي السلبي في عملية المعرفة تقوم الذات الكانطية بدور فعال الا وهو تنظيم المعطيات الحسية التي تستقبلها منالعالم الخارجي و علي هذا فان الانتقالة من ديكارت التي هي زيادة في الدور الذي تلعبه الذات في عملية المعرفة. ولكن النقد النيتشوي لكانت يؤدي إلى زيادة مطلقة في هذا الدور مما يؤدي إلى تحطيم فكرة الاتصال بين الذات والعالم الخارجي. كما يقوم نيتشه أيضا بتوضيح السبب الذي يحدو بالإنسان لافتراض وجود مفاهيم ميتافيزيقية مجردة كمفهوم الحقيقة.
يعتقد نيتشه أن الحياة في مجتمع تفرض على الوصول إلى إتفاقات جماعية لكي يتمكنوا من التعامل مع بعضهم البعض على مستوى الحياة اليومية. وهذا الاتفاق صالح فقط للموقف الذي يتم الوصول إليه فيه ولكنه لا يعبر عن حقيقة كونية دائمة. ولكن الخطاء الذي يقع فيه معظم البشر هو أنهم يتعاملون مع هذا الاتفاق على أنه حقيقة لا تقبل الشك وبهذا يتم تحويل الاتفاقات الجزئية إلى حقائق ميتافيزيقية غير قابلة للتغيير. ومن هنا تنشأ فكرة المطلق. ولكن نيتشه يرفض هذا الفكر تماما ويؤكد أنه "لا يوجد حقائق أبدية تماما كما لا يوجد صدق مطلق". وعلى هذا فإن نيتشه يعد أول فيلسوف حديث يرفض وجود حقيقة مطلقة.
إذا كان التحول من ديكارت إلى كانت يعد زيادة في الدور الذي تلعبه الذات في عملية المعرفة، فإن التحول من كانط إلى نيتشه هو زيادة مطلقة في هذا الدور. فبينما يقول كانط أن الدور الذي يلعبه العقل يقتصر على تنظيم المدراكات الحسية، يؤكد نيتشه أن العقل يكون جزءا كبيرا من المدرك أو يفرض مفهوما ما على هذا المدرك الحسي. وعلى هذا فإن كل الرؤية هي رؤية منظور ذاتي وكذلك أيضا كل المعرفة. فالفرد ليس صفحة خالية يتم ملؤها بالمدركات الحسية وإنما مجموعة من المفاهيم تم تشكيلها بالفعل عن طريق الخبرات السابقة. فكما يقول نيتشه : "من الأسهل على العين أن تطبع صورة ما على مدرك حسي من ان تدرك ما هو جديد ومختلف فيه" وعلى هذا فإن مفاهيمنا لا تتطابق مع المدركات ولا تتشكل لتطابقها وإنما يتم فرضها عليها. وعلى هذا فإننا نقوم بتكوين الجزء الأكبر مما نراه. وهذا الفهم لعملية الإدراك يقود نيتشه للبحث في طريقين : أولا، الوسيلة التي يتم بها تكوين المفاهيم ثانيا، حيث أن اللغة هي ما يحتفظ فيه بكل المفاهيم، فإن نيتشه يقوم ببحث لتوضيح إعتماد اللغة على المعنى الاستعاري وعدم إمكانية الإشارة إلى أي شئ بصورة مباشرة.
يبدأ نيتشه نقده بتوضيح عملية تكوين "المفهوم" وهي عملية تقوم أساسا على المساواة بين أشياء غير متشابهة أو متساوية. وبعد ذلك يتم استخلاص مفهوم مجرد من المدركات يعد صورة مطلقة. وبعد ذلك فرض ذلك المفهوم على المدركات المختلفة. وتنطوي عملية استخلاص المفهوم علي نسيان متعمد لكل الفروق بين الاشياء المختلفة. فعلي سيبل المثال، لا يري الإنسان مفهوم الامانة. وانما يري حالات مختلفة يتصرف فيها الشخاص بشكل ما ويتم تجاهل الفروق بين كل تلك الحالات المختلفة واستخلاص مفهوم واحد يتم بعد ذلك فرضه عليها. بل واعتبار كل هذه الحالات نماذج مشنقة من هذا المفهوم الاصلي. وهذه الحالات الفردية لا ترقي بالطبع لنقاء هذا المفهوم المطلق الذي لا يعدو مجرد وهم. وهكذا عندما يري الانسان حدثا ما يفرض عليه الصورة المسبقة الموجودة في خياله وعلي هذا فان حالات كثيرة شديدة الاختلاف عب بعضها البعض يتم فرض مفهوم موحد عليها واختزال التعدد الي الفرديه. أي اختزال ما لا يعرفه الانسان ولا يستطيع الوصول الي معرفة حقه به الي ما يغرفه وبهذا تتم عملية تتبع ما هو مجهول الي ما هو معروف والتغلب علي الخوف النابع من طبيعته الغامضة عن طريق السيطرة عليه وهنا تلعب اللغة دورها حيث انها الاطار الذي يحوي كل المفاهيم.
ولا يري نيتشه اللغة علي انها تشير الي الاشياء ويرفض وجود ما يدعوه البعض بالمستوي الحرفي فاللغة بالنسبة له تعمل فقط علي المستوي الاستعاري Metaphorical حيث انها الوسيلة التي يتم ربط المجهول بالمعلوم عن طريقها فالعملية الخلاقة التي يتم عن طريقها اضفاء المفاهيم علي المدركات هي عملية مستمرة. فاذا ما كان المدرك والمفهوم غير متساويين فان عملية توحيدهما هي عملية استعارية. فالاستعارة هي عملية نقل او تحويل من محيط الي محيط اخر. وعلي هذا فان ادراك الشئ يتم تحويله الي صورة عقلية – مفهوم – ثم بعد ذلك يتم تحويل تلك الصورة الي الصوت الدال عليها. وكل عملية تحويل هي اساسا عملية استعارة. وعلي المستوي اللغوي لا يوجد لفظ يشير الي مدلوله بصورة مباشرة بل عن طريق تحويل الاستعارة الي استعارة اخري. واذا ما ادرك الفرد التحويل الاستعارية فان المجهول سيظل مجهولا ولذلك فان الفرد يطمس ذلك التحويل ولا يري الستعارة بل يفضل ان يري المستوي الحرفي وذلك لان تعرفة علي الاستعارة يؤكد عدم التماهي بين المفهوم والمدرك ويعيد المدرك الي غربته. ولا يمكن التغلب علي هذه الغربة والاحساس بالخوف الناجم عنها الا عن طريق نسيان عملية الاستعارة ووهكذا فان فكرة الحقيقة ما هي الا مفهوم مجرد اخر. واذا كان معرفة الحقيقة عن ظاهرة ما يعني تتبع مجموعة من المفاهيم من خلال تحويلات استعارية، فان الحقيقة بالنسبة لنيتش ة ما هي الا جيش من الاستعارات والمجازات والتعبيرات التي تصتبغ بالصبغة الانسانية، باختصار مجموعة من العلا قات الانسانية يتم اعلاؤها بطريق شعرية وبلاغية وتتحول بعد مضي الزمن والاستعمال المتكرر لما يعتبره الناس حقائق ثابتة لا يمكن تجاهلها. كل الحقائق ما هي إلا أوهام نسى الناس طبيعتها الوهمية، إستعارات نسى الناس طبيعتها البلاغية أو عملات فقدت رسمتها وأصبحت مجرد قطعة معدنية وهكذا يتضح أن نقد نيتشه لمفهوم الحقيقة يتمركز حول محورين : أولهما يؤكد أن مفاهيم الإنسان تكون حقيقية إذا ما كانت تمثل. عالم الظواهر، ويرفض نيتشه هذا الرأي مؤكدا أن المفاهيم لا تمثل هذا العالم وإنما يتم فرضها عليه. ويتوارث الإنسان هذه المفاهيم عن طريق اللغة. وهذا يقودنا إلى المحور الثاني والذي يؤكد أن الكلمات تشير إلى الأشياء مباشرة. ونيتشه يرفض هذا الراى أيضا مؤكدا وجود فجوة بين الكلمات والأشياء وأن اللغة وسيلة للتواصل لا تشير وحداتها إلى أية ظواهر خارجية. وعلى هذا فإن الإنسان لا يدرك العالم وأنما يخلقه في عملية الإدراك.
ويقود رفض فكرة الحقيقة نيتشه لأن يقدم نقدا لنظرية كانت في المعرفة يميز كانت بين عالمي الأشياء في ذاتها Noumene.والأشياء كما تظهر للوعي Phenomena والأشياء كما تظهر للوعي متاحة للجميع ولكنها تقدم صورا متغيرة وعلة هذا فهي لا تصلح أساسا للمعرفة. أما الأشياء في ذاتها فهي حقيقية. ولكنها لا تخضع لأية منظور ولذلك فهي غير متاحة للفرد، ويرفض نيتشه فكرة الأشياء في ذاتها كلية ويتسائل لم يتم الاحتفاظ بفكره عن الأشياء لا يمكن الوصول إليه أبدا. وهكذا، فإن الأشياء في ذاتها ما هي إلا وهم. وعلى هذا، فإن نيتشه يؤكد أن الصفات التي تنسب إلى الشئ في ذاته هي صفات عدم الوجود أو العدم … ولذلك فإن تقسيم العالم إلى عالم حقيقي وعالم ظاهري، سواء بالطريقة المسيحية أو بالطريقة الكانطية … ما هو إلا علامة من علامات التدهور (4) وينتقض نيتشه كانط لإدعائه وجود "نظرة من اللامكان VISION – From – nowhere أو عين يمكنها رؤية كل شئ All – encompassing – eye .
يصل العقل إلى أعلى درجات السادية من خلال إحتفاءه لذاته وتكمه عليها عندما يقبل فكرة وجود حقيقة لا يمكنة الوصول إليها أبدا مما يحتم عليه البقاء في حجاب عنها. ويمكننا تمييز بقايا هذا الانشقاق بين التقشف والميل للشهوة في المفهوم الكانتي عن الأشياء في ذاتها والذي يستمتع بقلب العقل ضد نفسه. فبالنسبة لكانت، تمثل الأشياء في ذاتها هذا الجانب من الأشياء الذي يعلم العقل أنه لا يستطيع أن يتفهمه أبدا … فكل هذا المفاهيم تفترض مسبقا وجود عين لا يستطيع كائن حي أن يتخيلها، عين ليس لها منظور أو إتجاه، عين تهجر دورها التفسيري والفعال في عملية الإدراك.(5)
وبرفض وجود مملكة الأشياء في ذاتها، فإن رفض وجود حقائق تنتمي إلى الأشياء بطبيعتها يصبح حتميا. وكل ما هو متاح هو إدراك وتفسير الأشياء أو الظواهر من خلال مناظير مختلفة.وتعني فكرة المنظور Perspectivism أن الكائنات الآدمية ذات موقع محدد في الزمان والمكان والتاريخ. وعلى هذا، فإن قدرتها علي المعرفة لابد وان تكون محدود ة بحدود هذا الموقع أو الظرف الذي لا يمكن التسامي عليه transcendnce هكذا فان الافراد لا يمكنهم بلوغ معرفة موضوعية – وهذه هي فكرة ميتافيزقية أخري يجب التخلص منها. وبالاضافة الي محدودية الفرد بالمناظير الشخصية، فان كل عصر له منظوره الذي يتكون من الاستعارات المفضلة الذي يتبناها ذلك العصر يتعامل مع مختلف الظواهر.وعلي هذا فان تاثير علي ما بعد الحداثة يتضح اذا ما تم رؤيته في مواجه الخلفية الكانطية التي ظهرت فلسفته علي انها تقضي لها.
4- نيتشه وما بعد الحداتة :
لا يتضح تاثير نيتشه علي ما بعد الحداثة فقط في رفضه للمفاهيم الميتافيزقية التي تاسست عليها الحداثة وانما ايضا في التكنيكات التي يستخدمها لضحد الفكر الميتافيزيقي. واذا كان أهم ما يميز ما بعد الحداثيين هو رفض التام للميتافيزيقا، فان الاسلوبين الذين الذين يتبعانها في نقدهم لها الا هما التفكيكية والجينالوجيا يمكن رؤية بذورها في نقد نيتشه لكانط.
يقوم نيتشه بالبحث عن العوامل المادية – الاجتماعية والتاريخية – التي ادت الي ظهور أفكار دائما ما يتم وصفها علي أنها ترنستندالية. وهذا التاصيل لجميع أشكال الفكر في جذوره المادية يمكن ان يري علي انه النموذج الاولي لبحث فوكوه عن النبي المادية التي ادت الي ظهور نوع من المعرفة او تشكيل الذات حسب مفهوم معين.
فعلي سبيل المثال يتتبع نيتشه فكرة الحقيقة عبر اصولها من افلاطون الي المسيحية الي كانت الي الفلسفات الوضعية. ويمكن ان ينظر الي هذا التتبع علي انه تسجيل لتطوير المقابلة بين العالم الحقيقي /والعالم الظاهري وعندما يصل نيتشه الي التحلص من فكرة العالم الحقيقي فانه لا يبقي حبيسا في سجن المنيتافيزيقا فهو، علي كس المتوقع، لا يؤكد وجود العالم الظاهري." لقد محونا العالم الحقيقي : فاي عالم يتبقي ؟ العالم الظاهري ؟لا فقد محونا العالم الظاهري مع العالم الحقيقي " (6) ان التاكيد علي العالم الظاهري يحتفظ ضمنا بوجود عالم أخر. ولعل لغة التفكيك تعد أفضل وسيلة لطرح هذه الفكرة ما تم النظر لنيتشه علي أنه يقوم بعكس الثنائية لا يقوم oibary opposition العالم الحقيقي / العالم الظاهري، فان يظل حبيسا في سجن الميتافيزيقا وذلبك لان الشكل المعكوس لا يزال يحتفظ بنفس النسق الميتافيزيقي. وهكذا فان أفضل ما يمكن الوصول اليه هو استبدال الافلاطونية platonism بأفلاطونية معكوسة inverted platonism وليس التخلص منها ولكن نيتشه في نقضه لتلك الثنائية لا يقوم بعكسها وأنما بالتخلص منها كلية. وذلك لان العالم الظاهري يعد ظاهريا فقط بالتضاد مع عالم أخر أكثر عمقا. وهكذا فأن تاكيد العالم الظاهري هو تاكيد ضمن للعالم الحقيقي ولكن نيتشه يتخلص من كلا العالمين مؤكدا وجود " العالم " وخضوعه لمناظير مختلفة. وهكذا يمكن رؤية جذور التفكيكية في فلسفة نيتشه. وعلي هذا فأن كلا من الاسلوبين الذي يتبعها فوكوه وديريدا في نقد الميتافيزيقا قد تأصلا في فلسفة نيتشه.
وكذلك ايضا رفض ما بعد الحداثيين لفكرة الاصل the origin والتي يتضح تاثيرها عند كل من ديريدا وبودريار يمكن رؤية جذورها في فلسفة نيتشه بل وفي حياته الشخصية. فخبره نيتشه كعالم في فقه اللغة philolgy قد قادته الي دراسة اللغات اليونانية واللاتينية والنصوص المكتوبة بها. ومن خلال تتبع أصول النصوص الكلاسكية ومقارنة نسخة ما بنسخة أخري للوصول الي ايهما أكثر قربا الي النص الاصلي توصل نيتشه الي عدم وجود النص الاصلي أو علي الاقل عدم القدرة علي بلوغه. فكل نسخة من النص ما هي الا صورة من نسخة سابقة مع بعض التعديلات التني تفرضها الرؤية الذاتية لكاتب النسخة الجديدة عما يجب ان يكون عليه النص الاصلي. وبهذا تكوين كل نسخة تفسيرا ذاتيا لنسخة سابقة عليها ويتحول النص الاصلي الي اسطورة أو وهم. وهكذا يؤكد نيتشه هذه الرؤية قائلا :
لا توجد مجموعة من البديهيات اكثر اهمية للمؤرخ من هذه : ان الاسباب الواقعية لاصل الشئ واستعملاته، والاسلوب الذي يتم به ادخاله الي النظام من الغايات تبعد عن بعضها البعض، وان كل شئ موجود بغض النظر عن اصله، يتم اعادة تفسيره من خلال هؤلاء الذي يحتلون مواقع السلطة تبعا لاهتمام ونواياهم الجديدة، وان كل العمليات في العالم العضوي هي عمليات تجربة وتغلب، وان كل عمليات التجريد هي عمليات اعاادة تفسير واعادة ترتيب يضيع في خلالها المعني والهدف السابقين . وبغض النظر عن حسن فهمنا لشئ ما من عدمه ( مؤسسة قانونية ) عادة، تقليد سياسي، نوع فني، شعيرة دينية ) فاننا لا نفهم أي شئ عن اصله
وتؤثر هذه الفكرة علي ما بعد الحداثيين وعلي رفضهم لفكرة الاصل واحتفائهم بالنسخة المختلفة التي لا تدري الانتماء لاي اصل simulacra
وهكذا يتضح تاثير نيتشه علي فلاسفة ما بعد الحداثة ليس فقط في رفضهم للميتافيزيقا بل وفي الاساليب المختلفة التي اتبعوها لنقدها .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق