الجمعة، 14 أغسطس 2020

الواجب من أجل الواجب

 

أ.س. ايونج
ترجمة : محمد مدين
 
مقدمة:
"الفريد سيريل ايونج" Alfred Cyril Ewing  فيلسوف انجليزى معاصر 1899 – 1973 . وهو احد الفلاسفة الواقعيين الذين حملوا مع " جورج مور "  و"برترندرسل" لواء الثورة على المثالية ومحاولة بيان تهافتها . هذه المثالية التى وجدت افضل تعبير في كتابات " برادلى " و "ماكتجارت " و "جرين" وغيرهم .
وقد عبر "ايونج" عن موقفه الرافض لهذه المثالية في كثير من الكتب والمقالات التى نال منها "نقد فلسفة كانط" النصيب الأكبر فبجانب كتابه الكبير عن "المثالية" وهو الكتاب الذى كرسه لعرض موقفه الواقعى نجد له كتابين ومقالا جميعها عن فلسفة كانط المعرفية والاخلاقية . فقد حاول في الكتاب اولا من هذه الكتابين "نقد تصور كانط للعلية" 1924 اما الكتاب الثانى فهو "تعليق مختصر على نقد العقل الخالص" 1938 . وقد ناقش في المقال "التناقضات الموجودة نظرية كانط الاخلاقية 1938 .
ويتناول "ايونج" نظرية كانط الاخلاقية باعتبارها المقابل المنطقى للنظريات النفعية . فهى نظرية لا تعلق قيمة الفعل على شئ خارجه وانما تحددها بقيمته الاصلية فقد كان الاسهام الاساسى لكانط هو تطويره لفكرة "الواجب من اجل الواجب" وهى الفكرة التى كثيرا ما اهملها السابقون من فلاسفة الاخلاق . ويشير "ايونج" الى تفرقة "كانط" بين "الاوامر المشروطة" و"الاوامر المطلقة" وكيف ان طاعة الاولى وفطنة بينما طاعة الثانية واجبة لذاتها . ويشير "ايونج" الى تفرقة كانط بين "الافعال المطابقة للواجب" و "الافعال التى بمقتضى الواجب" وكيف أن الاولى برغم اتفاقها مع "صورة الواجب"ليست بذات قيمة "اصلية"بينما تحتفظ الثانية بهذه القيمة حتى لو اخفقت في تحقيق مراميها .
وياخذ "ايونج" على كانط حصره للافعال الاخلاقية في الافعال التى تؤدى بمقتضى فان هناك افعالا دافعها "الحب" وتنصف ايضا بالاخلاقية والحق ان ما كان كانط يستهدفه هو "الا نسلم قيادنا او ان تتوقف قيمة افعالنا على رغباتنا " لانه مهما كانت رغباتنا نبيلة الا انها في ذاتها لا تؤدى على الدوام الى الفعل الاخلاقى .
والمعرفة الاخلاقية عند كانط "اولانية" وليست "بعدية" مما يعنى استحالة اشتقاق "ما ينبغى ان يكون" من "ما هو كائن". والمبادئ الاخلاقية عنده "ضرورية" ومن ثم فليست لها "ماصدقات" في الواقع التجريبى . ولكن بالرغم من ان هذه المبادئ "ضرورية" و "اولانية" الا انها تنطبق على "الخبرة" فهى "اولانية تاليفية"مثل بعض احكام "الفيزياء والرياضيات" .
ولما كانت المبادئ الاخلاقية اولانية فان محك اختبارها هو "اتساقها" وعدم تناقضها . ومن ثم استخدم "كانط" معيار "الاتساق" لبيان كيف ان الخروج على المبادئ الاخلاقية يؤدى الى التناقض ، فلو اصبح الكذب قاعدة عامة لا نتفت فكرة الصدق والحقيقة ، ولو صار الانتحار قاعدة عامة لفقدت فكرة الحياة معناها . ولم يكتف كانط بذلك بل اضاف اننا لا نريد ، بحكم جبلتنا ، هذه المبادئ الاخلاقية الخاطئة فللص لا يرغب في ان يسرقه الآخرون ، والمزيف لا يرضى العيش في مجتمع كل عملاته مزيفة . فاولهما يريد ان يكون هو اللص الوحيد بينما يريد الثانى ان يكون هو المزيف الوحيد .. فالقاعدة الذهبية التى تؤكد عليها كانط هى "ان نفعل وكان قاعدة سلوكن ستصبح – بارادتنا – قاعدة عامة وكلية".
ولكن "ايونج" يرى ا م يكون في اذهاننا عند ادانتنا لفعل ما من الافعال ليس هو فحسب ما يترتب على الفعل من تناقض وانما ما يترتب عليه من "نتائج" ايضا . وهذا لم يكن في ذهن كانط . ومن ثم فان مبادجئ كانط الاخلاقية يعوزها – فيما يرى ايونج – "الدعم النفعى" .
ويُعيب ايونج على كانط وذلك فيا يتعلق بالتطبيق العام للمبادئ الاخلاقية انه يسقط من حسابه "الفروق الفردية" الموجودة بين الافراد عند قيامهم بالفعل الاخلاقى : والحق ان كانط لم يكن ليسمح – بحكم منطق نظريته الاخلاقية – بالخروج على المبادئ الأخلاقية بحجة ان "النتائج التجريبية غير مواتية" او بحجة "الفروق الفردية" والا سقط "الطابع  الاوانى" الذى لا قيام للاخلاق الكانطية بدونه .
ومع ذلك يفرق "ايونج" في المبدأ الاخلاقى بين "الصدق"  tithe والصحة Va.Lidity . فلا يتناقض مع الاخلاق الكانطية ان نحكم على "صدق" المبدأ بالاعتماد على النتائج ، بينما ليس من الصواب – حفاظا على الاولانية – ان نبرهن على "صحة" المبدأ بالاعتماد على هذه النتائج : فليس هناك علاقة ضرورية بين "الصحة" و "الصدق" في المبدأ الاخلاقى .
وتظهر اهمية هذه النتائج وذلك عند تقويم الفعل في حالة قيام صراع بين قانونين اخلاقيين ويكون علينا اختيار واحد منهما وحيث لا يكون امامنا ثمة سبيل لحسم هذا الصراع الا بالاعتماد على نتائج الاختيار .. 
لما كنا قد ناقشنا النظريات التي تؤسس الأخلاقية على "السعادة" فسيكون من الأفضل أن نتجه إلى وجهة النظر المقابلة ومن ثم نتناول نظرية الفيلسوف الألماني العظيم كانط 1724-1803 ولا نجانب الصواب لو قلنا أن نظريته الأخلاقية كانت مدفوعة إلى حد بعيد برد فعل مواجه لتلك النظريات التي ترسي الأخلاقية على اللذة وخاصة في صورها المتمركزة حول الأنا. وقد قامت نظرية كانط في المقابل ، على افتراض أن الشئ الأساسي الذي ينبغي أن نضعه في اعتبارنا ليس هو "السعادة" أو "الشقاء" الناتجان عن الفعل أو أية نتائج خاصة وإنما ينبغي أن نضع في اعتبارنا طبيعة الفعل "ذاته".
ويعد تصور الإرادة الخبرة أو الطيبة Good Will  هو التصور الأساسي والمحوري في نظرية كانط الأخلاقية . ولا يعني كانط بالارادة الخيرة الشعور الطيب إنما يعني بها أن يؤدي المرء واجبه لا لسبب إلا لأنه واجبه فحسب ، أو كما قال كانط (أن يؤدي المرء واجبه احتراما للقانون الأخلاقي ذاته) . وقد بدأ كانط نظريته الأخلاقية بتأكيده على أن هذه الإرادة الخيرة أو الطيبة هي الشئ الوحيد الذي يمكن اعتباره خيرا غير مشروط ، وقد أكد مرارا سمو هذه الإرادة وقيمتها التي لا تقارن . وأكد على أن هذه الإرادة تستبقي قيمتها حتى لو أنها قد أخفقت في تحقيق أي من النتائج التي نوليها قيمة أو نرغب فيها. فهناك بكل يقين شئ ما رائع يتعلق بفعل التضحية بالنفس والفعل النزيه المجرد عن الهوى حتى لو أن هذا الفعل قد أخفق كلية في تحقيق ما كان يصبو إليه ، طالما لم يكن هناك تقصير أو خطأ من جانب الفاعل
ولكن كانط لم ينكر، مع ذلك ، كل القيمة على"السعادة" ولكنه يصر على أن السعادة (وهو يتفق مع النفعيين في أنه يكافئ بين السعادة واللذة) هي فقط مجرد خير مشروط. وهو يعني بذلك أنه ما كان لدينا هذه الإرادة الخيرة فسيكون من الخير أن نكون سعداء وليس العكس. ولا يعني هذا أن نزعم أن السعادة هي خيرة فقط باعتبارها وسيلة : وذلك لأن المرء إذا كان لديه الإرادة الخيرة فالأفضل أنه يجب أن يكون سعيدا أيضا حتى بغض النظر عن أية نتائج مستقبلة تتعلق بسعادته. فما يعنيه قولنا هو أن السعادة (أو اللذة)، خلافا للإرادة الطيبة والخيرة، ليست خيرة في كل الظروف والحوال ، ولكنها تكون كذلك في بعض الظرو فقط ، أعني في وجود هذه الإرادة الخيرة.
ولم يسمح كانط مطلقا بإمكانية أن يوصف شئ ما بأنه خير على الأصالة بالإضافة إلى (الإرادة الخيرة) و (السعادة) ، وأنه لمما يبعث على الاندهاش أن نقول أن كانط ـ فيما يبدو ـ قد قدر المعرفة والحب وكل الكيفيات الذهنية ـ خلافا للإرادة الخيرة ـ باعتبارها مجرد أدوات أو وسائط . وأنه لم يضع ـ كما فعل جون ستيوارت مل J.S.Mill  ـ أي تمييز في "الكيفية" بين اللذات ، وإنما نظر إلى كل اللذات وكل الرغبات وكأنها على مستوى واحد ، أعني بها ليست خيرة وليست سيئة وإنما جعلها محايدة من وجهة النظر الأخلاقية . لقد كان الاسهام الأساسي لكانط في النظرية الأخلاقية هو التطوير الذي أدخله على فكرة الواجب من أجل الواجب وهي الفكرة التي كثيرا ما أهملها السابقون من فلاسفة الأخلاق . أما فيما يتعلق بتلك الأشياء الأخرى التي ينظر إليها ـ عامة ـ على أنها قيم فإن كانط لم يتحدث عنها إلا قليلا.
لقد أكد كانط على تمييز هام جدا . وذلك عندما كان بصدد تطويره لتصوره الخاص بالفعل الواجب والملزم . فقد ميز بين الأوامر المشروطة Hypothetical  والأوامر المطلقة  Categorical   وينص الأمر المشروط على أنه ينبغي أن نفعل فعلا ما على نحو ما لأن ذلك يؤدي إلى نتيجة معينة . ومن ثم تكون الحاجة إلى الفعل مشروطة برغبتنا في النتيجة المستهدفة، بينما نحن نمتثل للأمر المطلق بدون قيد أو شرط ، فعلى سبيل المثال فإن قولنا : "عليك بالسير في الطريق كذا وكذا" إذا أردت الذهاب إلى القاهرة (وهو ما يمكنك أن لا تفعله أو تلتزم به) ، فهو أمر مشروط ، أما قولنا (لا تكذب) فهو أمر مطلق . ويؤكد كانط على أن الأوامر المطلقة هي وحدها التي تتصف بالأخلاقية . ويؤكد على أن الامتثال لهذه الأوامر المطلقة هو ما يعنيه بالواجب ، بينما تعد طاعة الأوامر المشروطة ـ في أفضل صورها ـ نوعا من الكياسة والفطنة Prudential .  ولكن ما هو الدافع لطاعة الأوامر المطلقة ؟؟
أن الدافع إلى هذه الطاعة ليس هو الرغبة في بعض نتائج الفعل المستقبلة سواء كانت هذه النتائج تخص الآخرين أو تخصنا نحن ، وألا ستصبح عندئذ أوامر مشروطة ، أنه فقط الدافع لأداء ما هو صواب ـ بوصفه كذلك ، أنه أحترام القانون الأخلاقي وهو الذي اعتبره كانط مختلفا عن الرغبة اختلافا جوهريا ، على الرغم من أنها يمكن أن تكون دافعا للفعل. وقد أقام كانط ، بجانب ذلك ، تمييزا حادا بين الأفعال التي تكون من حيث صورتها (البرانية) متطابقة مع القانون الأخلاقي ولكنها تكون في الحقيقة مدفوعة بحب الذات ، وبين تلك الأفعال التي تؤدي نتيجة الشعور بالواجب . وقد تكون الصورة (البرانية) للنوع الأول من الفعل كصورة النوع الثاني ، ولكن لا يأتي عن هذا خلع أية قيمة (جوانية) على هذه الأفعال . فلا يسعنا تقدير بائع لأمانته إذا ما كان الدافع إلى هذه الأمانة مجرد اعتقاده بأن الأمانة سياسة عملية جيدة.
والصعوبة التي تصدم أكثر قراء نظرية كانط الأخلاقية هي : إن إقدام الناس على إتيان أغلب الأفعال النبيلة والأفعال الخاصة بالتضحية بالنفس إنما يكون  تحت تأثير دافع الحب أكثر مما يكون نتيجة الإحساس الواعي بالواجب ومن ثم يكون من الظلم أن نجرد مثل هذه الأفعال من كل قيمة أصيلة ، فنحن نقدر الوالد الذي يؤدي واجبه نحو أولاده بدافع من الحب وبدون أن يعتقد أن هذا واجب وننظر إليه على أنه أفضل من ذلك الوالد الذي لا يشعر بحب نحو أطفاله وبدون رغبة منه في افادتهم يؤدي واجبه نحوهم لمجرد أن هذا واجبه . وليس هناك اتفاق بين دارسي كانط حول السبب الدقيق الذي من أجله ترك كانط نفسه معرضا لهذا النقد ، ولكن طبقا للتفسير الذي أميل إليه عامة أرى أن كانط لم يعرض نفسه لواجهة النظر القائلة بأن الفعل ليست له أية قيمة أخلاقية إذا ما كان مدفوعا بكل من الرغبة . وفي هذه الحالة يكون لدى كانط فرصة الدفاع المعقول حيث يمكنه أن يؤكد على أن أية رغبة قد تؤدي بنا إلى أن نتصرف على نحو خاطئ إذا أسلمنا قيادنا للرغبة وحدها ، ولا يسعنا أن نزعم ، عندئذ ، أية مزية حتى إذا كنا ـ بفضل الحظ الحسن ـ على صواب . فمن الواضح أن حب شخص ما أو حب جماعة من الأفراد قد يؤدي بنا إلى تعزيز مصالحهم على حساب مصالح الأفراد الآخرين أو يدفعنا نحو التصرف على أنحاء سيئة أخلاقيا.
         إن بإمكاننا أن نختلف مع كانط ونخلع قيمة أصيلة على بعض صور الحب وبعض الرغبات بالإضافة إلى أحترام القانون الخلقي، ولكننا لا نستطيع مع ذلك أن نخلع على هذه الأشياء أو على الفعل المدفوع بها فقط هذا النوع المعين من القيمة المعروف بالقيمة الخلقية، هذه القيمة التي جذب كانط أنتباهنا إليها. وعلينا من ناحية أخرى أن نعرف أن هذا الدافع الأخلاقي السامي الذي شعر به كانط باعتباره أحتراما لقانون أخلاقي مجرد قد شعر به من قبل أخرون بوصفه حثا على السعي نحو الخير الاسمى للانسانية، ولم يزل يشعر به اخرون على انه حب الله. من ثم لا ينبغى لن ان ندين احدا باللااخلاقية لانه لم يتصور هذا الاحترام للقانون على طريقة كانط .
وعلينا ان ننظر الان فى تطبيق نظرية كانط على قية الاخلاق الاساسية ونعنى بهذا السؤال عن ما هى الافعال التى تصف بانها صواب لماذا كانت هذه الأفعال صوابا ؟؟.
لقد كان محظورا عليه بحكم مبادئ فلسفته الاخلاقية ان يجيب على هذا السؤال بالاشارة المباشرة الى نتائج هذه الافعال . فان نجعل النتائج محددة حاسمة انما يعنى اولا القيام بعملية تاسيس صواب او خطأ الفعل على الخير او الشر الناتجين عنه ، وقد رأينا كيف ان الخيرات الوحيدة التى اعترف بها كانط هى فقط الارادة الخيرة والسعادة happiness . وتختص الارادة الخيرة بالفعل ودوافعه وليس لها على الاطلاق علاقة بالنتائج ، واما السعادة فلا يمكن ان نجعلها هى المعيار الاسمى لما هو صواب دون ان نتبنى جة النظر النفعية ، وهى النظرية التى لم يكن كانط يشعر نحوها بتعاطف . من ثم وجب عليه ان يبحث عن وسيلة لتفسير كيف ان بعض الافعال تكون صوابا وان بعض الافعال الاخرى خاطئة غير الاشارة الى النتائج .
وقد كان لدى كانط سبب اخر لهذا الاتجاه ، فنحن نعرف ان واحدا من اهم التمييزات الاساسية فى الفلسفة التمييز بين ( المعرفة التجريبية )  وهى المعرفة التى تتاسس عن طريق
( الملاحظة ) وبين المعرفة الاولانية a priori  وهى المعرفة التى تتاسس على الفكر والاستدلال الخالصين كما هو الحال فى المعرفة الرياضية . كان كانط على اقتناع بان المعرفة الاخلاقية معرفة اولانية ليست تجريبية . وهو يؤكد على ان الملاحظة يمكنها فقط ان تخبرنا بما هو كائن ، ولكننا لا نستطيع ان نستخلص ( ماينبغى ان يكن ) من ( ما هو كائن ) واعتقد بجانب ذلك ان المبادئ الأخلاقية فيها ضرورة لا يمكن ان تجد لها مكانا فى العالم التجريبى . وانتهى لذلك الى المبادئ الأخلاقية العامة مثل المبادئ الرياضية تكتشف ( اولانيا ) عن طريق التفكير الخالص وليس عن طريق التعميم من الخبرة ، على الرغم من ان هذه المبادئ الأخلاقية العامة تنطبق بالفعل على الوقائع التجريبية ، كما هو الشان بالفعل مع المبادئ الرياضية . فهو يرى اننا نستطيع ان نعرف ( اولانيا ) انه لا ينبغى أن نكذب برغم حاجتنا الواضحة إلى المعرفة التجريبية لتقرر عن طريقها الحقيقة التي ينبغي علينا أن نقولها ومعرفة أفضل الصور التي يجب استخدامها في التعبير عنها بحيث نجعل أنفسنا مفهومين للآخرين ؟ فكيف يمكن من ثم تأسيس المبادئ الأخلاقية؟ 
ان النتائج " الأولانية " فى مجالات الفكر الأخرى انما يتم البرهنة عليها عن طريق بيان كيف أنه سيترتب على انكارها تناقض ، وقد حاول كانط أن يطبق هذا فى مجال الأخلاق ، ومن ثم فقد أكد على أنه من الخطأ أن نقول ما هو كذب وذلك لأنه اذا ما كذب كل فرد منا عندما يعتقد أن الكذب يتلائم معه أو فيه فائدة له ، فلن يتم تصديق الكذب ومن ثم سيفقد ما يستهدفه ويقضى بذاته على ذاته . ورأى كانط أن هذا يكفى لكى يثبت كيف أن الكذب " الكلى " أو كيف أن تعميم الكذب ، انما يعد من الناحية " المنطقية " مستحيلاً ، ولكن كانط لم يعتقد ، من ناحية أخرى بامكانية بيان كيف أن كل المبادئ الاخلاقية الخاطئة يكون تطبيقها على نحو كلى أمراً مستحيلاً ، وانما رأى فقط ، امكانية بيان كيف أنه مما يتناقض مع طبيعتنا أن " نريد " هذه المبادئ الأخلاقية الخاطئة ، ومن ثم فانه عند مناقشته للأسباب التى من أجلها ينبغى مساعدة الآخرين الذين يحتاجون الينا ، نراه يقول ان المجتمع قد يمكنه أن يبقى ويستمر اذا كان هناك تعميم لمبدأ "عدم مساعدة الأخرين الذين يحتاجون للمساعدة" ، ولكننا لا نستطيع أن نريد – وعلى نحو متسق – تعميم هذا المبدأ وذلك لأن هناك امكانية لوجود ظروف ومواقف كثيرة تفرض علينا رغبة أن يمد لنا الآخرون يد العون والمساعدة .
ولكن هذا قد يعطى انطباعاً وكأن كانط قد ارتد – برغم كل ذلك – إلى دافع " التمركز حول الانا " ، ولكنى لا اعتقد أن هذا صواب ، فليست فكرة كانط ( أن تعطى الآخرين من أجل أن يعطوك بدورهم ) . ان فكرة كانط وكما يمكن أن نبسطها هى ( أنه ليس من العدل أن تستفيد بكرم الآخرين واحسانهم ، وفى نفس الوقت تأبى من جانبك منح هؤلاء كرمك واحسانك عندما يكون هؤلاء بحاجة إلى ذلك ) . فاذا كان المبرر الأول يعد كياسة وحصافة فان المبرر الثانى يعد بالتأكيد مبرراً أخلاقياً . فمبدأ كانط العام هو ( أن تفعل وكأن قاعدة فعلك ستصبح – بارادتك – قانوناً عاماً ) فعندما نعمل وفقاً لمبدأ لا يمكننا أن نرغب فى تطبيقه على نحو كلى وعام ، فاننا نسلك بذلك – فيما يرى كانط – سلوكاً غير أخلاقى .  من الواضح أن كانط قد أخذ هنا بمبدأ هام جداً على الرغم من الصعوبة الكبيرة فى الدفاع عن التطبيقات التى قدمها له . فلننظر اذن فى الحقائق الأخلاقية الواضحة التى يمكن أن نتعلمها منه .
أولا : نستطيع أن نقول انه لشئ جدير بالاهتمام أن نرى كيف أن المرء الذى يقدم على فعل خاطئ يعتقد فى نفس الوقت أنه من الخطأ أن يفعل كل الناس فعلته . فاللص هو آخر شخص يرغب فى أن يسرقه الآخرون . فما يرغب فيه المرء السئ ليس هو أن تبطل القاعدة الأخلاقية التى خرج عليها وانما أن يكون له فقط استثناء من هذه القاعدة . ويؤكد كانط على أن هذا الاستثناء التعسفى والذى يكون لصالح فرد ما يعد فى جوهره أمراً غير أخلاقى .
ثانياً : يبدو أن استخدام معيار كمعيار كانط يكون – فى بعض المواقف – متفقاً مع تفكيرنا الأخلاقى المشترك بدرجة اكبر مما يمكن أن يحدث مع استخدام معيار النزعة النفعية الصريحة . فقد يحدث ان يكون الضرر الناتج عن فعل معين فى موقف ما ضرراً ضئيلاً ومحدوداً ، ولكننا – مع ذلك – ندينه لأنه فعل يندرج تحت فئة معينة من الأفعال . فاذا حاولت مثلاً – التهرب من الضرائب التى ينبغى على أن اسددها للدولة وزعمت أنى غير ملتزم بدفع ما على من ضرائب بحجة أن خصم هذا المبلغ لن يؤدى إلى اختلاف ذى شأن فى اقتصاد الوطن بينما سيؤدى – بالنسبة لى – إلى اختلاف ذى شأن . فان الرد العادى والمألوف هو أن نسأل – فى المقابل – عن الذى يحدث لو تصرف كل فرد على هذا النحو ؟؟
ولكن ينبغى أن نضع اعتبارنا أنه اذا كان المحك العام لصواب أو خطأ فعل ما هو أن نسأل عن ماذا يمكن أن يحدث لو تصرف كل فرد بنفس الطريقة ، فعادة يكون الذى يجول فى ذهن من يطرح هذا السؤال هو الاستفسار عن النتائج الخيرة أو السيئة التى يمكن أن تنتج عن الفعل لو تصرف كل فرد على هذا النحو ، بينما لم يزعم كانط أنه يؤسس طابع الالزام فى قوانينه الاخلاقية على الضرر الذى قد ينتج عن الخروج العام على هذه القوانين ، وانما على افتراض أنه سيكون هناك ثمة نوع من التناقض فى الخروج العام على هذه القوانين ، طالما أن الخروج العام على قانون ما سيقضى على مغزى القانون وهدفه .
ثالثاً: هناك فى الحقيقة شئ ما من عدم الاتساق يتعلق بالأذى واللأخلاقية بمعنى أنهما تستهدفان غاية يكون الحصول عليها – بحكم طبيعتها الأصلية – مدمرة ومؤذية. فالمرء الذى يتورط فى هذه الأفعال المؤذية واللأخلاقية انما يستهدف تحقيق الاشباع لنفسه، ومع ذلك نستطيع أن نقول ان الأشباع الحقيقى لا يمكن له أن يتحقق بارتكاب الشر انما يتحقق بفعل الخير، وربما كانت هذه هى الفكرة الاساسية التى أكدها فى مجال الأخلاق كل من"أفلاطون"و"هيجل".
وأخيراً يجب أن نسلم بأن كل اجاباتنا التى قدمناها على السؤال الخاص بتحديد ما هو الصواب انما تتعلق بالتطبيق العام ، بمعنى أنه اذا ما سلمنا بأن فعلاً ما هو فعل صواب ، بالنسبة لى ، فينبغى أن يكون صواباً بالنسبة لكل الناس فى نفس الظروف ومن ثم يكون لأى قرار أخلاقى – فى حدود هذا المعنى – الحق فى دعوى العمومية . ولكن هناك بعض المواقف التى يتحتم علينا فيها أن نضع فى اعتبارنا ليس فقط الظروف الخارجية للفعل وانما أيضاً الفروق الخاصة بالسيكولوجية الفردية ، فلا يلزم من حقيقة أنه كان من الصواب بالنسبة لكانط أن ينخرط فى ممارسة الفلسفة انه سيكون من الصواب لكل الأفراد أن يسايروه ، فلا يمكن للمرء أن يقرر ما اذا كان ذلك العمل صواباً بالنسبة إليه أم لا بدون أن يضع فى اعتباره ظروفه السيكولوجية .
ولكن قد يعترض على هذا بأنه سينتهى بمبدأ العمومية إلى أن يصبح مبدأ عديم الأهمية طالما أن الظروف لن تكون – أبداً – هى ذاتها بالنسبة لشخصين مختلفين واذا كان ذلك لمجرد أن الفاعلين شخصان مختلفان ، فان ذلك يصدق حتى فى حالة الفاعل الواحد عندما ينبغى عليه أن يختار فى مناسبتين مختلفتين . ولكن يمكن الرد على هذا الاعتراض بأن هناك فقط نسبة محدودة من الظروف هى التى تكون ذات صلة بالأخلاقية ، وهذه الظروف يمكن أن تكون متشابهة ومتماثلة . فمن بين الظروف الكثير والمتعددة الخاصة بالتاريخ الماضى والتكوين السيكولوجى الذى يميزنى عن الأفراد الأخرين يوجد فقط قدر محدود من الظروف التى تكون ذات صلة بقضية ما اذا كان ينبغى على أى منا أن يتخذ الفلسفة مهمته أم لا ، وقد لا يوجد على الاطلاق من بين هذه الظروف ما له علاقة بالإلزام الخاص بدفع ما علينا من ديون . وقد يرد البعض على هذا بالمثل فيزعم أن مبدأ " اطراد الطبيعة " أو المبدأ الذى يقول ( انه من الممكن أن تقع نفس الحادثة اذا ما كانت هناك نفس الظروف التى حدثت فيها ) ليس لهما علاقة بعلم الفيزياء لأن الظروف لا يمكن أن تكون – أبداً – هى نفسها فى مناسبتين مختلفتين . الحق أن الفكرة الأساسية التى نريد تأكيدها هى أنى لست أبداً على صواب فى تقديم اعتذار لصالح فعلى الخاص طالما كنت غير مستعد لقبول مثل هذا اللاعتذار من جانب فرد آخر . فإذا زعمت أن فعلاً من الأفعال ملزم للشخص "س" وليس ملزماً للشخص "ص" فينبغى أن أكون قادراً على الاشارة إلى بعض الاختلاف فى ظروف الشخص "س" أو ميوله وكذلك الشخص "ص" بحيث يكون هذا الاختلاف هو المسئول عن الاختلاف فى الالزام ، تماماً كما يكون مغزى اطراد الطبيعة بالنسبة للعالم القاعدة التى مؤداها أنه اذا ما حدثت أشياء مختلفة فان الاختلاف ينبغى تفسيره بالإعتماد على هذا الاختلاف فى الظروف .
ولم يأخذ كانط فقط بفكرة أن نفس الفعل يكون دائماً صواباً أو خطأ بالنسبة لكل الناس تحت نفس الظروف الفيزيقية والسيكولوجية وانما رأى بجانب ذلك أن هناك عدداً من " فئات " الأفعال تكون أفعالاً خاطئة تحت كل الظروف . ومن ثم فقد أكد على أنه ليس من الصواب على الاطلاق ان تكذب حتى اذا كان ذلك الكذب من أجل أن تنقذ حياة انسان من قاتل . ولاشك فى أن نتيجة كهذه من الصعب – إلى حد كبير – التسليم بها ، ولكننا اذا لم نسلم بها فيجب ان نعترف ، فى المقابل ، بأن الاخلاق ليست اولانية  a priori على النحو الذى تصوره كانط ، طالما كان بالإمكان – فى بعض الظروف – نتيجة القاعدة العامة جانباً وذلك لحساب النتائج التجريبية .
         وقد تم التعبير عن هذه الفكرة أحياناً فى صورة الادعاء بأن نظرية كانط الاخلاقية تتغاضى عن النتائج . ولكن ليس هذا فى الحقيقة عدلاً، ولكنه اذا ما كان صحيحاً فانه سيجعل من نظرية كانط الاخلاقية نظرية غير معقولة مما يجعها لا تستأهل الدراسة الجادة . والحقيقة هى أن كانط قد أجاز لنا أن نضع النتائج فى اعتبارنا لكى نطبق القانون الأخلاقى وليس من أجل تأسيس صحة  Validityالقانون أو من أجل اجراء استثناء منه. فمن الواضح أننا لكى نقوم بتطبيق القانون الذى يحتم علينا أن لا نكذب نكون ملزمين بأن نضع فى اعتبارنا النتائج المتعلقة بالموضوع أعنى أنه ينبغى علينا أن نضع فى اعتبارنا النتائج والآثار المحتملة لكلماتنا على الشخص الذى نتحدث إليه اذا أردنا أن نكون مفهومين. ولكن لا ينبغى ـ فيما يعتقد كانط ـ أن نبرر"القانون العام" المناهض للكذب عن طريق الزعم بأن الكذب عادة ما يترتب عليه شر أكثر من الخير .
فقد يكون هذا صحيحاً ولكن مع ذلك لا يؤلف السبب الذى من أجله كان الكذب خطاً . فهل يجب – فيما يؤكد كانط – أن نتجادل حول ما كان لنا الحق فى أن نكذب فى موقف معين لأن الكذب فى هذه الحالة سيؤدى إلى خير أكثر من الشر ، ان هذا هو المعنى الذى اعترض فيه كانط على أن نأخذ النتائج معياراً عند تقرير ما ينبغى علينا فعله . فيمكننا – مثلاً – أن نتبين كيف أن القانون الخاص بوجود مساعدة الآخرين انما يحتاج ، ويوضح ، إلى أن نضع فى حسابنا نتائج تطبيقية ، ولكن يمكن لكانط – فيما يبدو – أن يقول إن التبرير النهائى لهذا القانون ينبغى أن لا يوجد فى نتائجه الخيرة الطيبة ، وانما فى حقيقة أننا نتصرف على نحو غير مسبق اذا ما خرجنا عليه ، أعنى أن نجرى استثناء تعسفياً لحسابنا الخاص من قاعدة عامة على نحو لا نستطيع معه أن نرغب فى ان يحدث هذا الاستثناء على نحو عام .
وعلينا أن نتبين ، بالإضافة إلى ذلك ، وجود معنى ما يكون فيه كانط – وبوضوح تام – على صواب فى قوله بأن النتائج لا تهم ، أعنى عندما أصر على أن ( أخلاقية الفعل ) و ( قيمة الفاعل ) أمران لا يتأثران بالنتائج الفعلية عند مقارنتها بالنتائج ( المستهدفة ) ، أو على الأقل عند مقارنة هذه النتائج الفعلية بالنتائج ( المتوقعة ) . فكثيراً ما يحدث فى الروايات أن ينقلب الفعل المغرق فى الخسة والنذالة والذى يقوم به الشرير ليصبح هو الوسيلة غير المقصودة لتقريب انتصار البطل وزواجه من البطلة ، ولكن اذا حدث ذلك فان النتائج النافعة والمفيدة المترتبة على فعل الشرير لا يمكن أن تعد فضلاً له ، على الأقل لأنه كان يستهدف عكس ذلك ، ولا يمكن – بالاضافة إلى ذلك – أن يلام صاحب المقصد الطيب بسبب النتائج التى لم تكن متوقعة نتيجة لفعله ، حتى لو كانت هذه النتائج تبعث على الحزن والكآبة .
والحق أنه لم يوجد منذ كانط الا نفر محدود جداً من فلاسفة الأخلاق من كان مستعداً لأن يخلع مثل هذه القيمة المحدودة على النتائج كما فعل كانط عند تقرير الكيفية التى ينبغى ان نضعها فى اعتبارنا عندما نسلك أو نتصرف ، فقد تصور كانط الأخلاق على أنها – كما قلنا – فئة من القوانين الأولانية  a priori والتى يتصف كل منها " بالعمومية " ، ولكن يصعب الآن الأخذ بهذه الوجهة من النظر . ولهذه القضية أهمية عملية بالغة وخاصة فى علاقاتها بالحرب بالرغم من أن هذه الأهمية ليست مقصورة على ما يحدث فى الحروب . فقد حدث فى كل الحروب، وخاصة فى الحرب العالمية الأخيرة ، أن تم الخروج على قواعد أخلاقية عامة مستقرة وكان يتم تبرير هذا الخروج على أساس أنه وسيلة ضرورية لاغنى عنها لتجنب شرور أعظم . وعلى ذلك ينبغى على من يعترض على السماح بامكانية أن تبرر النتائج الخروج على القانون الأخلاقى العام ان يكون معارضاً للخدمة العسكرية معارضة أخلاقية.
وبعيداً عن الحروب فان هناك امكانية لوجود مواقف قد ينشب فيها الصراع بين قانون من القوانين العامة المستقرة وقانون آخر من هذه القوانين ، ومن ثم لا يمكن للقانونين ان يكونا كليين فى آن واحد وذلك عندما نحكم على أحدهما بالصواب . وعلى ذلك فان القانون الذى ينص على وجوب عدم الكذب والقانون الذى ينص على وجوب " الحفاظ على الحياة الانسانية " يتصارعان معاً اذا سألنى القاتل عن مكان ضحيته المستهدفة ، أو اذا سألنى مريض مشرف على الاصابة بالسكتة القلبية عن والده الذى أعرف أنه مات ولكنه مازال يعتقد أنه حى يرزق وفى ظروف طيبة ، ففى وجود مواقف كهذه ينبغى أن نجيز الاستثناء ، على الأقل ، فى واحد من هذين القانونين ، فلما كان من الضرورى هنا اما ( أن أكذب ) أو ( لا اكذب ) ، فيجب أن يكون الموقف بحيث يصبح كالآتى : هل من الصواب أن تكذب أو التضحية بحياة كان باستطاعتى الحفاظ عليها ؟ ولا يمكننا هنا ان نتهرب أو ان نتخطى هذه الصعوبة بادعاء أنه ينبغى أن نصمت، وذلك لأن هناك حالات كثيرة يكون فيها رفض الرد على السؤال مساوياً لجعل السائل على علم بالحقيقة ويبدو أن كانط كان يميل إلى مواجهة مثل هذه المواقف باعطائه دوماً أفضلية للقانون السلبى ، على القانون الإيجابي ، ولكن هذا – فيما يبدو – يعد أمر تعسفياً .
وهناك تلك الحالات التى يوجد فيها الصراع بين قانونين أخلاقيين ، ويكون من الصعب علينا أن نتبين كيف نستطيع أن نفاضل بينهما ، وعلى نحو عقلى ، اللهم الا اذا وضعنا فى اعتبارنا خيرية أو شرية النتائج المترتبة . فمهما كان من الأهمية أن نقول الصدق وأنه من الشر أن نكذب ، فبالتأكيد هناك حالات حيث يوجد كثير جداً من الشرور التى لا يمكن تجنبها الا بالالتجاء إلى الكذب فقط ، فهل يكون الكذب – عندئذ – خطأ ؟؟ فهل من غير المسموح به للدبلوماسى أن يكذب وأن يخرج على أغلب القوانين الأخلاقية العامة . اذا ما كان ذلك هو السبيل الوحيد الذى سيؤدى – عملياً إلى تجنب وقوع حرب عالمية ثالثة ؟ .
ان البعض سوف يجيب على هذا السؤال بالنفى ، ولكن هذا البعض يستطيع أن يدافع عن هذا الموقف بالاعتماد فقط على " الوضوح الذاتى " وليس بالاعتماد على الحجة ، وهذا ما لم يفعله كانط ، فاذا كان بالإمكان أن يكون الكذب – من حيث الوضوح الذاتى شراً على الدوام ، فمن المؤكد أيضاً ان الكذب – ومن حيث الوضوح الذاتى – ليس على الدوام خطأ . فاذا كان من الصواب أن نحدث شراً أقل من أجل أن نتجنب شراً اكبر، واذا ما كانت هذه الحالة تتعلق بالكذب، فان الكذب هنا يكون شراً ولكنه ليس خطأ .
وبدون الخضوع لوجهة النظر التى ترى صواب مقولة " أن الناس بطبعهم أخبار وطيبون على نحو مطلق " أقول أننى أشعر بتعاطف كبير مع هؤلاء الذين من رأيهم أنه من الخطأ ان نستهدف غاية ما ، حتى لو كانت هذه الغاية خيرة ، بوسائل سيئة . وذلك لأن الوسائل السيئة ستؤدى حتماً إلى افساد وتخريب للنتائج التى تؤدى اليها ، ولأنه ما أن نستمرئ هذا حتى لا نعرف أين ومتى ينبغى علينا أن نتوقف : فان أغلب الجرائم السياسية الكبرى فى التاريخ قد تم تبريرها من جانب مرتكبيها باعتبار أنها وسائل للخير الأعظم ، ولكن الحقيقة هى ، أن كون أسلوب ما من أساليب التبرير قد أسيء استخدامه إلى حد بعيد ، لا يبرهن على أنه لا ينبغى على الأطلاق الأخذ به على الرغم من أنه من الصعوبة الجمة أن نفصل – وكما أشرت – بين متى يجوز أو لا يجوز الأخذ به .
ولكنى لا استطيع – مع ذلك – أن أرى كيف يمكن لهذه الحجة أن تنهض إلى الحد الذى يمكن به استبعاد كل تعد أو ظلم ولو من أجل انقاذ حياة ، وأن أحد السبل – على أية حال – هو الالتجاء أو الاعتماد على النتائج ، ومن ثم ينبغى أن نعترف – فى مواجهة كانط – بأنه من الصعب أن نتجنب منح هذه النتائج الدور الحاسم وذلك عندما يحدث ويتعارض قانونان أخلاقيان .
وقد أضاف كانط مبدأيين ساميين آخرين بجانب المبدأ الذى ينص على ضرورة أن نسلك وكأن سلوكنا سيكون قانوناً عاماً . وقد زعم كانط أن هذه المبادئ الثلاثة هى فى جوهرها صياغات مختلفة لحقيقة واحدة ، وهو زعم لا اعتقد أنه من الممكن الدفاع عنه ، ومهما يكون فان هذه المبادئ تكون – فيما يظهر منها – مختلفة . فالمبدأ الثانى يقول : ( افعل بحيث تعامل الانسانية فى شخصك وفى كل شخص غيرك على أنها – على الدوام – غاية ، ولا تعاملها أبداً باعتبارها وسيلة فقط )  " ولاحظ هنا كلمة فقط : فنحن نعامل المرء باعتباره " وسيلة " كلما سمحنا له بأن يقدم لنا عوناً أو خدمة ، وليس هذا بالطبع خطأ ، شريطة أن نعامله – أيضاً – باعتباره غاية فى ذاته " .
         وقد كان لهذه الكلمات التى قالها كانط تأثير كبير ، ربما أكثر من أية عبارة قالها فيلسوف آخر، فقد اعتبرت شعاراً لكل الحركات التحريرية والديمقراطية فى العصور الحديثة. فقد استبعدت العبودية والاستغلال وعدم احترام كرامة الآخرين وشخصياتهم وجعل الفرد مجرد وسيلة للدولة واستبعدت الجور على حقوق الإنسان. وقد يستطيع المرء أن يضيف أن هذه الكلمات قد صاغت أعظم فكرة أخلاقية باعتبارها فكرة متميزة عن الفكرة الدينية للمسيحية. وبدون تقديم أية انتقادات على قيمة هذه الكلمات، فانه ينبغى أن نشير هنا إلى أنها تستطيع فقط أن تكون هادياً أو موجهاً ليشير إلى ماهي الأفعال المعينة التى ينبغى النهوض بها وذلك اذا ما كان لدينا فكرة موجبة عن غايات الإنسان، ومن ثم فان المبدأ الثانى مثله مثل المبدأ الأول يحتاج ـ فيما يبدو ـ إلى أن يدعم بالأشارة إلى الخيرات الموجبة التى ينبغى تحقيقها اذا التزمنا بهذا المبدأ.
ويعرف المبدأ الثالث بأنه ( فكرة أن ارادة كل كائن عاقل ارادة مشرعة على نحو كلى وعام ) . ولكن خلافاً لما يؤكده هذا المبدأ من أننا نكون ملزمين بقوانين " الأخلاقية " لأننا ندرك اننا ملزمون على هذا النحو ، فانه يضيف قليلاً للقانون الأول . ولا يقدم – بذاته – عونا اضافياً فى تحديد ما ينبغى علينا فعله فى الحالات والمواقف المعينة . ان الهدف الأساسى الذى استهدفه هذا الفصل هو افتراض أن نظرية كانط الأخلاقية ، بقدر ما تكون وسيلة لتحديد ما هو صواب تكون بحاجة إلى ان تدعم ، بل ومن الممكن أن تستبدل كلية بوجهة نظر اكثر نفعية ، ولكنها ليست النفعية التى تزعم أن اللذة هى الخير الوحيد ولكنها نفعية تستنبط صواب وخطأ الأفعال من الخير أو الضرر الذى تحدثه هذه الأفعال . فاذا كنا نختلف – فيما يتعلق بتحديد ما هو الخير – مع صاحب مذهب المنفعة الذى يجعل اللذة هى معيار الفعل ،  hedonistic utilitarianism  فاننا نتفق معه فى الراى الذى يرى أن الشئ الوحيد الذى يجعل فعلاً من الأفعال صوباً أو خطأ هو الخير أو الشر الذى يجلبه أو يمكن أن يجعله .
وهكذا يمكننا أن نتبين كيف أن مبادئ كانط تكون بحاجة إلى دعم نفعى . فالمبدأ الأول : بحاجة إلى هذا الدعم ليمكننا من أن نقرر أية قاعدة اخلاقية هى التى ينبغى علينا " الامتثال لها عندما يكون هناك صراع بين قاعدتين اخلاقيتين . والمبدأ الثانى : بحاجة إلى هذا الدعم ، لكى يزودنا بفكرة عينية عن الغاية ، وهى الفكرة التى بدونها لا يمكن تطبيق مبدأ معاملة الانسان كغاية فى ذاته تطبيقاً علمياً .  فقد يكون كانط على صواب فى تأكيده على أن ماهية الأخلاقية والخير الأسمى للانسان انما تكمن فى طبيعة الإرادة ، ومع ذلك فانه قد الخطأ فى زعمه أن المعيار المطلوب لتقرير ما هى الأفعال الصواب والأفعال الخاطئة ينبغى أن يوجد فى أى شئ غير النتائج التى يمكن ان نتنبأ بها نتيجة الفعل .
والحق هو أن قوة مثل هذا الموقف المطروح الآن لم تكن ظاهرة أمام كانط ، لأنه كان يفكر فى صورة معينة من صور النزعة " اللذية " باعتبارها البديل الوحيد لنظريته ، وتجاهل امكانية وجود نظرية أخرى يمكنها أن تستنبط وجوب او خطأ الفعل من نتائجه الطبيعية أو السيئة وذلك دون تبنى لوجهة نظر مذهب اللذة فى تحديد الخير والشر .

وينبغى علينا أن نرى ما اذا كان يمكن الدفاع عن هذا النمط من النفعية التى نشير اليه أو لا. ولكن علينا فى هذا السياق أن نشير بامتنان إلى وصف كانط للعنصر الأخلاقى المتميز فى طبيعتنا، هذا العنصر الذى يستطيع ـ وإلى حد كبير ـ أن يقوم فى تميز واستقلال عن نظريته فى معيار تحديد الصواب، كما يمكنه أيضاً أن يتأسس فى استقلال عن الفلسفة العامة التى ربطه بها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

سارتر بين الوجوديين