الثلاثاء، 13 مايو 2025

الشارونى بين برجسون وسارتر حول أزمة الحرية


 د. محمد على الكردى

         نحن هنا بصدد الدراسة القيمة التي تقدم بها حبيب الشارونى للحصول على درجة الماجستير في الفلسفة، وهى تشكل دراسة متميزة عن قضية الحرية في فلسفة كل من برجسون وسارتر، ولقد عُنى في هذه الدراسة ليس فحسب بتأصيل المفهوم وتحليله وإنما عمل جاهدًا، أيضًا، على إبراز الخلفية التاريخية والاجتماعية والفكرية التي تشكل سياق هذا المفهوم وتضفى عليه دلالاته الخاصة.  ولست أدرى لماذا وضع الشارونى عبارة "أزمة الحرية" إثر العنوان الرئيسي "بين برجسون وسارتر"؟ ألآن مفهوم الحرية لا يشكل أحد المفاهيم الرئيسية عند برجسون، بينما هو يشكل صلب الفلسفة الوجودية وعمادها الرئيسي الذي تنهار بدونه عند سارتر؟

ربما الأمر كذلك، ولكن هذا هو الانطباع الذي خرجت به، على كل حال، من قراءة هذا الكتاب.  ذلك أن مفهوم الحرية يأتي عند برجسون في إطار من الدراسات الأبستمولوجية التي تنصب على تحليل ظاهرة الحتمية والسببية في مجال العلوم الطبيعية، والتي تنجم عن تعميم هذه الظاهرة واعتبارها القاعدة المثلي التي يجدر إتباعها حتى في مجال العلوم الإنسانية والنفسية بوجه خاص.  لذلك نفهم لماذا عُنى الشارونى عناية خاصة بتقديم عوامل نقض هذه الرؤية في مجال فلسفة العلم نفسها حيث أخذت مفاهيم الصدفة والاحتمال تقوض مبدأ العلية والضرورة المنطقية للقوانين العلمية خاصةً ما يتخذ منها طابع الكم أو القياس الرياضي.  ولقد لعب أساتذة برجسون مثل كورنو “Cournot” وخاصة بوترو "Boutroux" دورًا أساسيًا في التمهيد لمثل هذه الأفكار الجديدة التي تضع حدًا لفكرة الثبات والضرورة التي تشكل ركيزة العلم خلال القرن الثامن عشر والجزء الأكبر من القرن التاسع عشر، والتي تعتبر تأكيدًا وامتدادًا للفكر الوضعي الذي تجاوز للأسف، مجال العلوم الطبيعية ليهيمن على العلوم النفسية والاجتماعية والتاريخية ويحول الإنسان إلى مجرد موضوع أو شيء يخضع لقوانين الإحصاء والتجارب المعملية.

ومهما تكن قيمة هذه الفلسفات على مستوى التفسيرات التي تقدمها وما تقود إليه من شطحات علموية حينما تنتقل من المبادئ الاحتمالية إلى عملية إضفاء طابع الغائية على الظواهر الكيميائية والبيولوجية وتعميمها في صورة "مبدأ طبيعي" يخضع له العالم كله ويعمل على توحيد كل كائنات الوجود في "وحدة حقيقية" "Lachelier"، فإن برجسون لم يكن معنيًا بقضية  التفسير العلمي بوجه عام، وإنما بتحديد موقفه من دعاة النظرية الترابطية في محاولاتهم قياس الظواهر النفسية عن طريق الكم أو المعادلات الرياضية.  ومهما تكن أيضًا قيمة أفكار برجسون، التي يقدمها لنا الشارونى، فهذا الفيلسوف معنىٌّ، في المقام الأول، بإنقاذ الطابع الكيفي للظواهر النفسية، والربط بين الزمان والديمومة والحرية.  على هذا النحو تكون محاولة برجسون في كتابه الشهير "المعطيات المباشرة للشعور" "1889"، الذي يعتمد عليه أساسًا الشارونى في بحثه هذا، هي دحض الرؤية الآلية والكمية البحتة للظواهر النفسية، وذلك بغية إدراكها في كيفيتها المباشرة باعتبارها معطيات أولية تتكشف للشعور من خلال الديمومة الزمنية، وهو الأمر الذي يؤدى إلى انبثاق ضربين من الحرية : حرية سلبية توازى لحظة الانعتاق من الإطار الآلى للمفاهيم الحتمية السابقة، وحرية إيجابية تتكشف عن الزمن الحقيقى -الديمومة- الذي هو جوهر الحرية باعتبارها فعلاً يمكن الإنسان من التخلص من كل العادات العقلية واللغوية والاجتماعية المفروضة عليه.

ولتأكيد تماسك الحياة النفسية وتكاملها، يرفض برجسون اعتبار الحرية فعلاً إراديًا يقوم على الموازنة بين اختيارات ممكنة، كما يرفض اعتبار البواعث نوعًا من الدوافع الكامنة التي تعمل على تأكيد حرية الفعل إذْ أن ذلك كله يفتت، في نظره، حياة الشعور ويقسمها إلى لحظات متمايزة، كما يقطع ديمومتها المتصلة، هذه الديمومة التي هي عين الحرية نفسها.  على هذا النحو، تصبح الحرية دفقة الشعور نفسه، ودفعته الحيوية العفوية التي لا مكان فيها للتدبر والاختبار والموازنة، ولا حتى للتنبؤ بالمستقبل.  إن هذه الحرية تتأكد، من ثم، في صورة حرية داخلية بحت، حرية مستقلة تمامًا عن كل زمان خارجي، أي للزمان  الخاضع للمكان وتقسيماته المتجانسة.  لا جرم، من ثم، أن تكون هذه الحرية متصلة بالماضي، غير منفصلة عن التاريخ، آمنة مطمئنة وخالية من كل قلق، فهي دومًا في تدفق صاعد ومتصل.

هل هناك علاقة، كما يذهب الشارونى، بين هذا المفهوم التفاؤلي للحرية وبين الازدهار الاجتماعي والاقتصادي الذي عرفته فرنسا في أوائل القرن العشرين وقبل اندلاع الحرب العالمية الأولى؟ على كل حال هذا ما يؤكده المؤرخ الشهير هانوتو في تعليقه على فلسفة برجسون ناعتًا إياها بأنها "نداء إلى عصرنا" بما تمثله من "نشيد للحياة" "وثناء حي على الطاقة".  إلا أننا كنا نتوقع من الشارونى تعقيبًا خاصًا على مفهوم برجسون للديمومة التي تكاد تلغى، في نظرنا، حياة الشعور، كما تكاد تقضى تمامًا على إحساس الوعي الإنساني بالزمان الذي لا يمكن أن يتجلى لنا إلا من خلال طفرة اللحظة،    ولا يمكنه أن يكتسب بعديه الماضي والمستقبلي إلا من خلال فرجة الحاضر وانفتاح الشعور عليه.

وقبل أن ينتقل الشارونى إلى تحليل مفهوم الحرية في فلسفة سارتر يرى لزامًا عليه أن يقدم لنا فترة ما بين الحربين في صورة قاتمة نظرًا للآثار المدمرة التي خلَّفتها الحرب العالمية الأولى خاصة في فرنسا.  إلا أنه يميل، تحت تأثير المؤرخين اليمينيين، إلى نعت الفكر الثوري الذي تفجر في صورة رد فعل ضد تفسخ المجتمع البرجوازي بالانحلال؛ وهذا ما يشكل، من غير شك، حكم قيمة مسبق، إذْ يصعب علينا أن ندين التيارات الدادائية والسريالية بينما هي، في الواقع، أقرب إلى احترام القيم الإنسانية وإلى تقدير حرية الفرد وكرامته من معظم الرؤى القومية والعنصرية التي تزامنت معها.

على كل حال، إن الشارونى يعتقد بأن حركة التمرد التي جسدها هذا النوع من الأدب ضد القيم الاجتماعية والعادات والتقاليد "الراسخة" قد كان له كبير الأثر في إبراز طابع الفراغ الذي سيطر على النفوس بعد زعزعة القيم والمثل "الأخلاقية"؛ كما ولَّد في ظنه، إحساسًا بالقلق والجزع من هذه الحرية "الخرقاء"، التي نادى بها الأدب السريالي وغيره من التيارات "اللاعقلانية"، وهو الأمر الذي دفع، فيما يعتقد، فيلسوفًا مثل سارتر إلى الإحساس "بما يترتب على هذه الحرية من مسئولية وقلق" (الشارونى، ص53).

إلا أن فلسفة سارتر، وإن كانت قد استمدت مضمونها الاجتماعي والسياسي والقيمى من واقع المجتمع الغربى، فهي لم تتبلور ولم تتحدد أطرها المفاهيمية إلا في إطار النسق الفلسفى المستلهم من المدرسة الظاهراتية الألمانية بأقطابها الثلاثة : هيجل، هوسرل وهايدجر.  فعن هيجل أخذ سارتر مفاهيم الوجود -في ذاته والوجود- لذاته بعد قلبها من طابعها المثالى أو التجريدى إلى نوع من الممارسة أو التجربة المعيشة على خلفية من الوجود -في- العالم.  وعن هوسرل أخذ فكرة القصدية والتجاوز بعد استبعاد مبدأ "الأنا الترنسندنتالية” ذى البعد الميتافيزيقى الصارخ.  وعن هايدجر مفهوم "الهم" الموازى للقلق ومفهوم "السقوط" الموازى للوجود الزائف.  كما أخذ عن كيركجارد معارضته لفكرة النسق الهيجلى الشمولى ومناداته بالحرية الفردية وربما مفهوم القلق الوجودى وفكرة الإمكان، أساس مقولة الحرية عند سارتر، ولكن إذا كان كيركجارد يربط الحرية بإمكانية الخطيئة، فإن سارتر يعتبرها نوعًا من الغواية لفعل الشر.

وبعد عرض الشارونى للمؤثرات الألمانية في فكر سارتر يعود إلى نقد هذا الأخير لفلسفة برجسون التي عرضها في البداية.  على هذا النحو يقدم لنا انتقاد سارتر لفكرة "الاتصال" عند برجسون، وهى الفكرة التي تربط بين الماضي عبر الصور المحفوظة في الذاكرة وبين الجسم كأداة ماثلة في الشعور الذي يغرف من الذاكرة ما يلائم حاجات الموقف الراهن، وما يشكل مضمون عملية الإدراك الحسى لدى الإنسان.  ويعتقد برجسون أن الصور المحفوظة في الذاكرة إما فاعلة عبر الإدراك، وإما غير فاعلة لعدم حاجة الموقف الحالى إليها، وهى ما ينعتها بالصور الخيالية وإن كانت ليست أقل وجودًا في الشعور عن الصور الفاعلة ولكن بطريقة مضمرة أو في حالة تشبه الأحلام.  على هذا النحو، تصبح النفس مجموعة من الصور الحاضرة فيها سواء على المستوى الإدراكى والمعرفى، أو على مستوى التذكر والخيال، الأمر الذي يقضى بضرورة الاتصال "Continuum" بين النفس والعالم وبين الشعور والجسم.  ومن الواضح أن هذا الموقف يتفق مع كون النفس لدى برجسون "ديمومة" متصلة لا انقطاع فيها بحيث يتصل الماضي بالحاضر من خلال عمل الذاكرة ويتدفق معه في أشكال وتحولات متجددة نحو المستقبل.

لقد كان على سارتر، ليقيم رؤيته الخاصة للحرية أن يقوم بتنقية الشعور من الملاء البرجسونى، وأن يبدد ما يرتبط بهذا الملاء من مبدأ حضور الصور الحسية والخيالية على السواء بشكل متصل في الشعور وإن اختلفت مستويات ودرجات حضورها‎.  من ثم، فالشعور لا يمكن أن يكون ملاءً وإلا أصبح حبيسًا لما يحتويه من صور المادة وصور الذاكرة العالقة به.  إن الشعور سوف يتحدد، عند سارتر، في ضوء مبدأ القصدية “intentionalité"، لمجرد كونه علاقة تربطه بالعالم حضورًا أو غيابًا إذ أنه ليس وعيًا خالصًا قائمًا بذاته، وإنما هو مجرد اتجاه إلى موضوع آخر يلتمسه في الواقع عن طريق الإدراك، وإما إلى موضوع غائب يلتمسه عن طريق الخيال.  ولقد بلور سارتر آراءه هذه عن الشعور في صورته القصدية البحت ليس فحسب من خلال معارضته لفكرتى برجسون عن الديمومة والاتصال، وإنما كذلك من خلال نقده للمدرسة النفسية الوضعية التي تجعل من السلوك البشرى مجموعة من ردود الأفعال الآلية البحت وذلك في كتابه عن "الخيال" "L’imagination" ثم قادته بعد ذلك دراسته لموضوع الخيال بدلاً من فعل الخيال في كتابه "المتخيل" "L’imaginaire" إلى تقرير وجود العدم في قلب الوجود طالما أن موضوع الخيال يمثل في الشعور على أنه غير موجود، أي -كما قلنا- في حالة غيابه.  على هذا النحو يصبح موضوع الخيال العدم أو اللاوجود بينما يكون موضوع الإدراك، أي المعرفة العلمية، الوجود، وكلاهما أي الوجود والعدم متلازمان، وإن كانت الأسبقية تكون دائمًا للوجود وذلك بقدر ما يرتبط العدم سلبًا بعملية النفى.

على هذا النحو، استطاع سارتر من خلال ربطه للخيال بمفهوم الغياب أو العدم أن يؤسس مذهبه في الوجودية، وهو المذهب الذي برزت معالمه الأولية في كتابه الشهير "الوجود والعدم" "1943".  وفى هذا الكتاب يخطو سارتر خطوة جريئة إذ ينتقل من فكرة العدم بما أنه "فرجة" في الوجود إلى فكرة الحرية.  وبالطبع نحن لسنا هنا أمام حرية برجسون التي تعبر عن دفعة الذات المتصلة بماهية الكيان الإنساني؛ وإنما أمام علاقة تشكل ماهية الوجود الإنساني نفسه في اتجاهه نحو العالم وتوجهه نحو ذاته مقابل هذا العالم.  هذه العلاقة هي "القصدية" نفسها التي "تضع" العالم، ثم تدرك كونها واضعة لهذا العالم.  إلا أنها تختلف عن قصدية هوسرل التي تنطلق من المقدمات الترانسندنتالية إلى التعينات الإمبريقية؛ إذ أنها تعنى بتحليل علاقة الأنا أفكر الديكارتية بالوجود حتى ينتهى الفيلسوف بتقرير أسبقية الوجود على الفكر طالما أن الوعي لا وجود له في ذاته وإنما هو قائم أمام الوجود.

على هذا النحو، يتحرر الأنا من كل العوائق الداخلية التي كانت تشكله كماهية قائمة بذاتها أو كذات جوانية مغلقة على نفسها ليصبح مجرد ممارسة في الوجود أو فعل الوجود نفسه من حيث هو وعى ومعرفة وشعور.  ولكن إذا كان الأنا يرتبط بفعل الوجود متخلصًا من كل ماهية سابقة عليه، فإنّه لا يتشكل عبر إمكاناته الإدراكية والشعورية والخيالية إلا من خلال الوجود نفسه.  ومن خلال هذه الإمكانات يدرك الأنا أو الوعي ألوانًا مختلفة من الوجود : وجوده الذاتى مقابل الوجود الخارجى أو الموضوعى، ويتميز هذا الوجود الذاتى بطابعه المفارق لنفسه إذ هو دومًا في حالة تجاوز واستباق؛ كما يدرك الوجود الخارجى، المنفصل عنه بالضرورة، إدراكًا يخضع لكل ضروب المناهج المعرفية والعلمية.  ولا يجب علينا، وفقًا لسارتر، أن نخلط بين وجود الوعي "existence" في صورة القصدية الخالصة وبين الوجود الموضوعى "l’阾re" للعالم السابق علينا والباقى بعدنا بالضرورة.  إلا أن الطابع الموضوعى للعالم أو ما يسميه الفيلسوف الوجود -في- ذاته لا يُفهم على هذا النحو، أي في موضوعيته، إلا من قبل الوعي نفسه مُولِّد المعانى ومُضفيها على الأشياء.  كما أن الوعي الإنساني، بما أنه وعى، مفارق أبدًا لذاته ومفارق أيضًا للعالم، فهو في حالة تجاوز "transcendance" مستمر، وإلا تطابق مع نفسه وتحول إلى وجود موضوعى على شاكلة الأشياء "r閕fication".  وعلى الرغم من هذا التمايز بين الوعي أو الوجود لذاته وبين الوجود في ذاته “I’en- soi”، فإن العلاقة بينهما تظل تبادلية.  وتكاد توجد عند سارتر، كما فطن إلى ذلك الشارونى، مرحلة أولية غائمة لحدس الوعي الإنساني بالوجود في صورة أحاسيس تتسم باللزوجة والقرف، وهو ما عبر عنه الفيلسوف ببراعة في رواية "الغثيان" "1938".  لذلك كان على الوجود- لذاته، المرادف للوعى الإنساني، أن يؤكد ذاته، وذلك بانتزاعه لحريته من براثن الوجود العشوائى، كما عليه أن يؤكد ذاته في صورة قدرة على الانسلاخ من الوجود ونفيه بما أوتى من قوة العدم الملازمة لطبيعته القادرة على استحضار الغائب وتغييب الحاضر سواء بسواء.

كما يتميز الوجود- لذاته "Le pour- soi" عن الوجود -في ذاته بأنه الوحيد من الموجودات الذي يطرح على نفسه سؤال وجوده؛ وهو بهذا السؤال يؤكد قدرته على الانفصال عن العالم، ومن ثم معرفته، وكذلك عن ذاته، ومن ثم تحليلها.  ومعرفته بالوجود هي إدراكه له في ظاهريته، هذه الظاهرية التي لا ترد إلى مقولات أولانية أو إلى ما يسميه كانط بالشىء في ذاته "noum鑞e"، وإذا كانت لها ماهية فهي مجرد قدرتها على الظهور، وهذا ما أكده المنهج الفينومينولوجى.  أما معرفته لذاته فتؤكد له أنه حرية خالصة وشفافية مطلقة، وأنه ليس وعاءً حاويًا لمشاعر أو عواطف أو انفعالات، وإنما هذه حالات يمر بها.  كما أنه ليس انعكاسًا لأنا أولانية، كما يذهب هوسرل، وإنما عَدَمٌ قابلٌ للتشكل وفقًا للمواقف التي يتوجه فيها إلى موضوعاته.  إلا أنه لا يجب علينا أن نفهم العدم على أنه خاصية من خصائص الطبيعة ونخلطه، مثلاً بالفراغ؛ فهو أساس السلب والتجاوز والقدرة على التباعد والانسلاخ من الوجود -في ذاته، وبالتالى الحكم عليه وتقييمه.  بل إنه لا معنى للوجود الطبيعى أو الموضوعى إلا به إذ أن سارتر، بالرغم من إقراره بوجود العالم منفصلاً عن الإنسان، لا يقبل بموضوعيته في ذاته؛ ويرجع ذلك إلى كون الفيلسوف لا يأخذ موقف العالم تجاه الطبيعة، وإنما يتكلم من منظور الوعي أو الشعور من خلال المنحى الظاهراتى الذي يربط الأنا بالتجربة المعيشة.

من ثم، فالإحساس بالعدم تجربة شعورية بحت، تجربة يتماهى فيها العدم مع الحرية، وذلك بقدر ما تشكل هذه الأخيرة الحدس الأولى بالوجود. فالحرية ليست مجرد صفة من صفات الكائن البشرى ولا مجرد قدرة على الاختيار، بل هي حقيقته المؤسسة لوجوده وماهيته المشكلة لكيانه كموجود قادر على "وضع" العالم ووضع ذاته.  وهى ليست كذلك، كما قد يظن البعض، قابلة لأن يقبلها أو يرفضها الإنسان إذ كيف يمكن للوجود الإنساني أن يقبل أو يرفض ما يشكل ماهيته بل وقدره! غير أن القول بأن الحرية هي ماهية الوجود الإنساني أو سابقة على ماهيته، كما يقول الشارونى، ليس معناه أنها ماهية من النمط الميتافيزيقى الذي يفترض أسبقية المثال على الوجود، وإنما من النمط الفينومينولوجى، أي متجهة بالضرورة إلى العالم ومتوقفة على اختيارات الإنسان وأفعاله.  إلا أنها قبل أن تتحقق أو تتعين في أي شكل من أشكال الاختيار الإيجابى "الممارسة" أو الخيالى "تغييب الواقع"، كما سوف نرى، تتميز بصفة ملازمة لها على مستوى إدراكها العفوى لحقيقتها، ألا وهى سمة القلق الوجودى الذي يقترن بها نظرًا لكونها مجرد إمكان لا هادى له ولا مرشد أمام حشد من الاختيارات التي يعقب ترجيح أي واحد منها شعور ثقيل بالمسئولية.  والقلق، فيما يذهب سارتر، غير الخوف إذ أننا لا نخاف إلا من شيء أو من أمر محدد، بينما القلق هو الخوف من الاختيار نفسه، ومن ضرورة هذا الاختيار إزاء المستقبل وإزاء الماضي : إزاء المستقبل لأننى لا أضمن عواقب اختيارى، وإزاء الماضي لأن أي تجربة سابقة أو اختيار سابق لا يشفع لى في اختيار بعينه إذ يمكننى التردد بين الالتزام والتملص.

ولما كان القلق الوجودى حالة ثقيلة الوطء على النفس، فإن الأنا يحاول الإفلات من الاختيار هربًا من المسئولية المترتبة عليه، وذلك باللجوء إلى حيلتين من الحيل التبريرية : الحيلة الأولى يسميها سارتر “سوء النية”             “La mauvaise foi” والثانية يسميها "روح الجد" "L’esprit de s閞ieux".  وتتلخص الحيلة الأولى في نوع من خداع النفس مع تصديقها لهذا الخداع إما عن طريق الفرار من المواجهة مع الذات وإما عن طريق التبريرات المغرضة التي تريح النفس من مواجهة الاختيارات الصعبة وتتجلى ظاهرة سوء النية في حالات الغواية والإغراء وإسقاط دوافعنا الخبيثة ونوازعنا العدوانية على الآخرين، وكذلك عندما نقوم في حالات إخفاقنا بإلقاء اللوم أو المسئولية على الغير أو الحظ العاثر أو الصدفة.  أما بالنسبة لما يسميه سارتر بروح الجد، فهي وسيلة خبيثة أخرى لتجنب القلق الملازم لحتمية الاختيار عن طريق التذرع بمبررات وعقبات خارجة عن إرادتنا.  من ثم، إذا كان سوء النية يصطنع أسلوب المراوغة أو المخاتلة الداخلية فيموه على الوعي الإنساني دوافعه الحقيقية في الاختيار أو عدم الاختيار، فإن روح الجد يلجأ إلى المبررات الخارجية على شاكلة الظروف القهرية وحتمية الأقدار والأوضاع الصعبة التي لا حيلة فيها للإنسان لكى يبرر للوعى مشروعية التهرب من مسئولياته وواجباته.

ولكن بما أن الحرية هي ماهية الأنا أو الوجود -لذاته، فهو لا يستطيع لذلك أن يتجنب الاختيار.  وقد يكون الاختيار سلوكًا أو فعلاً محددًا، وقد يكون لونًا من الهروب وعدم المواجهة كما يحدث في حالات الانفعال التي يضعها سارتر تحت مسمى "الشعور الانفعالى" و"الشعور السحرى".  ففى حالات الانفعال غالبًا ما يكون رد الفعل العاطفى لدى الإنسان نوعًا من السلوك الفاشل، كما يذهب العالم النفسى Pierre Janet.  إلا أن هذا النوع من السلوك لا يعتبره سارتر مجرد رد فعل، أو لونًا من التصرف الآلى؛ بل يرى فيه قصدية مؤكدة لدينامية الشعور ولكنها بدلاً من التصدى للموقف المثير للقلق تقوم بإلغائه واستبداله بعالم وهمى تجد فيه الملاذ الآمن تمامًا كما يفعل السحر بالنسبة للعقلية البدائية.  وكذلك الأمر بالنسبة لحالات الموهبة الفنية، وهى حالات لم يعالجها الشارونى، كما لم يشر إلى دور الانفعالات في تشكيل الصيغ المختلفة لتوجه الشعور نحو العالم.  ففى الفن غالبًا ما تقوم الحرية، التي تتمثل هنا في العملية الإبداعية، بتعويض الفنان عما يلاقيه في العالم الواقعى من إحباطات وفشل عن طريق خلق عالم خيالى يجد فيه البديل الذي يؤكد به وجوده ورؤيته للعالم.  وقد دلل سارتر على هذه الفكرة بدراسته لثلاثة من كبار الكتاب الفرنسيين وهم بودلير وفلوبير وجينيه(1).

وإذا كان الشعور أو الوجود -لذاته لا يستطيع على هذا النحو إلا أن يكون حرًا، فهذه الحرية تجعله دومًا في حالة تجاوز إما استباقًا إلى المستقبل   وإما ارتدادًا إلى الماضي.  وهو لذلك، موجود "exister" ولا يكون "阾re" لأنه لا يتطابق مع نفسه على شاكلة الكينونة. ونلاحظ أن دلالة الوجود عند سارتر مرتبطة باشتقاق الفعل الأول حيث يفيد المقطع الأول "ex" حالة الخروج، المرادف للوعى، عن حالة الاستقرار والثبات التي تمثلها الكينونة.  إلا أن هذه الحالة من التعليق المستمر التي تشكل ماهية الوجود -لذاته تدفعه دومًا إلى البحث، كما رأينا في حالات المراوغة الخاصة بسوء النية وروح الجد، عن ضروب مختلفة من "أشكال" الكينونة هربًا من قلقه وعنائه.

أضف إلى ذلك أنه إذا كان الوجود -لذاته لا يستطيع التطابق مع نفسه، فهو يشعر، في هذه الحال، بكونه "نقصًا"، أو بأنه أقرب ما يكون إلى وضع الرغبة التي تحتاج إلى التحقق والإشباع والامتلاء.  ومن ثم، هو أشبه بالعنقاء التي لا تكف عن الانبعاث من رمادها.

ولربما تكون هذه الرغبة في التحقق أشبه بنزوع المتصوف إلى تحقيق وحدة الوجود.  إلا أن هذا الاتحاد الصوفى الذي يذوب فيه الزاهد فيما يشبه حالة الربوبية لا يُرضى سارتر، وإن كان هذا النوع من الرغبة يساعد على فهم نزعة الإنسان إلى تحقيق وجوده من خلال القيم والمثل والمعنى.  ذلك أن هذا الإحساس بالنقص وعدم الاكتمال هو لب عملية التجاوز التي يسعى الإنسان فيها إلى التحقق عبر "المطلق" أساس القيم؛ وهذا ما لا يتم له إلا بإشغال الفكر والارتقاء إلى مستوى الضمير أو الشعور الأخلاقى في سعيه نحو تحقيق ذاته في صورة "غاية"، بينما تظل القيمة بالنسبة للشعور العفوى مجرد وجوده نفسه ومجرد تمثله لذاته.

إن الوجود -لذاته، في إحساسه بالنقص الملازم لماهيته، يُسقط نفسه على ضرب من الشمولية أو الكلية "الزمنية" التي تتمفصل حول أبعاد ثلاثة : الحاضر والماضى والمستقبل.  وهى أبعاد لا تأتى إلى العالم، أي الوجود -في- ذاته إلا عبر الوجود -لذاته نظرًا لجوهره الزمنى والتاريخى.  ولا يشكل الزمان في فلسفة سارتر، كما عند كانط، مقولة سابقة على الوجود، وإنما هي نقطة انبثاق "extase" الوجود -لذاته في صورة حاضر مسقط على             الماضي والمستقبل.

         وبالرغم من انصرام الماضي، إلا أنه يُعد واحدًا من مظاهر الوجود -لذاته، وذلك بقدر ما يقوم هذا الأخير بتجشمه وتشكيله؛ إذ أن الماضي في ذاته حالة عارضة ومجموعة من الأحداث التي لا تكتسب معناها إلا بفضل الوجود الإنساني نفسه؛ وليس هناك إلا الموت الذي يستطيع إضفاء صفة الموضوعية على الوجود.  أما الحاضر فهو صورة ظهور الوجود -لذاته في العالم، وهو الشاهد على وجوده المتميز والمتجاوز للعالم.  وهو إن لم يكن مرادفًا للحظة نفسها، فإنه أساس اللحظة ونقطة الانفلات المستمر نحو التآكل والانقراض؛ إلا أنه مع ذلك غير قابل للتموضع؛ إذ أن تحويله إلى موضوع يفصله عن استمرارية الزمن، كما أن عملية الفصل لا معنى لها إلا بالنسبة لشعور يقوم بتقطيع هذه الاستمرارية التي تمسك بها برجسون.  أما المستقبل فهو الإمكان في أجل صوره، أي نقطة الالتقاء بين الوجود الإنساني وبين كل الاحتمالات والإمكانات التي يمكنه التحقق أو التعين من خلالها.  ومن ثم، فهو غير قابل للتموضع على الإطلاق، كما أنه يُعد لذلك أفضل صور الوجود -لذاته نظرًا لتماهيه مع عالم الحرية المطلقة، هذه الحرية التي لا يحدها نظريًا أي موقف، والتي يطلق فيها الخيال العنان لكل ما يهوى ويريد.

على هذا النحو، يبدو الوجود -لذاته عند سارتر، بسبب تجاوزه لنفسه المستمر نحو الماضي والمستقبل في صورة كائن محكوم عليه بالعدم والشتات "diaspora" والتضحية المستمرة لآليات الزمن.

ولكن إذا كان الوجود الإنساني لا يتطابق مع العالم، فهو يعيش بداخله ولا يكتسب معناه إلا بوجوده فيه.  إنه، في الواقع، الذات التي تحدد العالم في صورة موضوع لها.  ومن ثم ينسب سارتر إلى الوجود الإنساني مبدأ "النظرة" : هذه النظرة التي تسمح لى بموضعة الآخر، والتي تهددنى بالوقوع، في الوقت نفسه، تحت رحمته.  فكما أملك القدرة على تحويل الآخر إلى موضوع، وهذا هو جوهر عملية المعرفة التي تفترض قيام علاقة بين ذات وموضوع، يملك الآخر القدرة أيضًا على تحويلى إلى موضوع، ومن ثم، على نعتى بكل الصفات المهينة مثل صفات العدوانية والإذلال والتحقير.  ولقد استطاع سارتر أن يطبق ببراعة فائقة مبدأ النظرة في دراسته الفذة عن وضع جان جينيه الذي جمع بطريقة بالغة الغرابة بين ممارسة الجريمة والانحراف وبين الإبداع(2).

وتؤدى حرب النظرات هذه، في نظر سارتر، إلى نشأة نوع من العلاقات العدوانية التي تحول الآخرين إلى جحيم بالنسبة لى؛ وتنصب هذه العدوانية على تجربتى الوجودية الأولى، وهى إحساسى بأننى أمتلك جسدًا، ولكنه ليس الجسد الذي أكدته التصورات الثنائية التقليدية التي تجعل منه مجرد أداة أو مجرد غلاف خارجي للروح أو النفس إذ أن هذا الجسد هو كيانى كله الذي يتماهى مع وجودى في هذا العالم.  وليس من شك في أن تجربة الجسد أو الجسم في الفلسفة الوجودية(3) هي أهم تجربة موضوعية يتعرض لها الإنسان، وذلك بقدر ما يخضع فيها لأول مرة للقوانين الحتمية الفيزيائية والفيزيولوجية، إلا أنها حتمية بالغة الخصوصية إذ أنها لا تتسم بنفس القدر من العتمة أو الكثافة التي يمثلها لى الآخر الذي أدركه من الظاهر.  ومع ذلك، لا يرى سارتر في عملية إخضاعى للآخر وإخضاعه لى نفس الدرجة من الموضوعية التي يتسم بها الوجود -في ذاته؛ إذ أننى سوف أنتهى بإدراك علاقتى بالآخر، كما سينتهى هو، في صورة تبادل وتقابل بين ذوات وليس بين موضوعات.  إلا أن عملية تموضع الأنا والآخر، القائمة مع ذلك، يمكن إدراكها من خلال تجربة الاغتراب "ali閚ation" التي يتشكل منها ما نسميه الطبع "caract鑢e" أو الشخصية.

ويتساءل سارتر لماذا الطبع بوجه خاص؟ ويتلخص تبريره لذلك بكون الطبع أو الشخصية يقيم بينى وبين الآخر ضربًا من العلاقات -بين- الشخصية، وذلك بقدر ما يرتبط كونى "شريرًا" مثلاً "بصفة" يطلقها علىّ الآخر، وهى صفة يمكننى تجشمها أو نبذها لأننى أظل حرًا.  وليس هناك إلا الموت الذي يستطيع تحويل حكم الآخرين علينا إلى حكم نهائى، وهى التجربة التي عبر عنها سارتر في مسرحيته الشهيرة "جلسة سرية" "Huis clos" حيث تدور الأحداث في الجحيم ويتعذر على الإنسان أن يتدارك ما ضاع من قدرته على تغيير طبعه وما تشكل  من شخصيته في صورة وجود موضوعى.

وإذا كان الموت هو الحادث الوحيد الذي يستطيع تحويل الوجود -لذاته إلى شيء، فإن هذا الأخير أي الإنسان لا يملك، بالرغم من حريته، القدرة على التحقق في هذا العالم إلا من خلال بعض الإمكانات المحدودة، وذلك لأن كل تحقق بالنسبة له هو نوع من التعين الذي يحوله إلى وجود موضوعى، وهو ما يتعارض مع طبيعته العدمية.  ويرى سارتر أن الحرية، التي تشكل جوهر الوجود لذاته، تتمثل فيما يسميه "المشروع الوجودى" الذي يرتكز على صيغ ثلاث من صيغ الوجود، وهى التملك والفعل والكينونة.

على هذا النحو، يمكن للوجود الإنساني أن يحقق مشروعه، الذي لا يختلف عن تحقيقه لذاته، في صورة الاستحواذ على شيء من الأشياء، وذلك بقدر ما يكون هذا الاستحواذ نوعًا من ملء الفراغ الذي يسكنه، كما أنه الصيغة المثلي لتحقيق الذات في المجتمع الرأسمالى حيث تشكل الملكية أساس العلاقات الاجتماعية والقيم.  ويمثل الفعل الصيغة الثانية التي يلجأ إليها الوجود -لذاته لتعديل الطبيعة وتغيير الأشياء بهدف إشباع حاجاته، كما أنه المجهود الذي نبذله لتحقيق ذواتنا على النحو الأفضل الذي نرتضيه لأنفسنا.  ومن هنا نجد أن تحقيق الذات عن طريق التملك ثم الفعل يقودنا إلى تحقيق الصيغة الأخيرة، وهى الكينونة. إلا أن هذه الأخيرة لا تشكل، في نهاية الأمر، صيغة ثالثة، وذلك لتقاطعها مع صيغتى الفعل والتملك في تحقيق مشروع الوجود.  فنحن إذا لجأنا إلى الفعل أو العمل، فلاشك أننا نهدف إلى تغيير الأشياء وطبعها بميسمنا حتى نتأمل فيها صورتنا.  أما البحث عن الملكية فيقودنا إلى النتيجة نفسها إذ أن نزعة التملك تقوم لدينا على الرغبة في تحقيق ذاتنا عبر ما نمتلكه من أشياء.  وليس من شك في أن هاتين الصيغتين تعبران عن نقص جذرى في قلب الوجود الإنساني، كما تكشفان عن القلق الذي يعترينا تجاه هذا النقص.

لاجرم، من ثم، أن يُحوِّل هذا النقص الجذرى مهمة تحقيق الإنسان لمشروعه الوجودى إلى عملية ممتدة إلى مالا نهاية، وهو الأمر الذي يجعله أشبه بشخصية "سيزيف" الأسطورية التي تصر على إتمام عمل لا حدود له، وإذا كان الوجود الإنساني لا يستطيع على هذا النحو تحقيق ماهيته المتجاوزة أبدًا لوجودها، فإن "الفشل" يُصبح من ثم، لديه، ذا طبيعة "أنطولوجية" وليس مجرد حادثة تعترض مساره.  بمعنى آخر، إن هذا الفشل يعنى عدم تطابق حرية الاختيار بشكل نهائى مع موضوع الاختيار، تمامًا مثل وضع الرغبة التي تلفظ أنفاسها في حالة الإشباع.  ولكن الإنسان، مع ذلك، يختار : يختار بصورة عفوية كما لو أن الظروف الاجتماعية والأحداث التاريخية تفرض عليه اختياره؛ ويختار بعد تدبر وتفكير حينما يُحوِّل هذه الظروف والضرورات إلى دوافع وبواعث يرتضيها لنفسه ويتخذ منها مبررات كافية لسلوكه.

ما دلالة ذلك في نظر سارتر؟ دلالته أن أي مشروع يلتزم به الإنسان لا يمكن تحديده إلا في إطار "موقف"  "situation" بعينه، وذلك بقدر ما يضفى هذا الموقف على الحرية مضمونها الفعلى.  إلا أن هذا لا يعنى في الوقت نفسه غياب الحرية؛ فالحرية تظل ماهية الوجود الإنساني طالما هي متصلة بحالة الإمكان والقدرة على الاختيار إن سلبًا وإن إيجابًا.

لذلك لا يستطيع الإنسان أن ينكرها أو يتخلص منها إلا بمحض إرادته، وإن كان ذلك الإنكار قد يبدو له في حالة الشعور السابق على التفكير "conscience irr閒l閏hie" ضربًا من الضرورات أو الحتميات المفروضة عليه.  ويفترض سارتر نوعًا أرقى وأسمى من هذا الشعور العفوى وهو شعور المفكر "conscience r閒lexive" الذي يستطيع تحليل معطيات الموقف في ضوء مناهج بلورها سارتر وأسماها تارة بمنهج "التحليل النفسى الوجودى" وتارة بمنهج "الارتداد والاستباق”، الأمر الذي يقوده إلى اكتشاف مفاهيم "الاغتراب" وقوانين "الندرة" الملازمة للعيش في ظل المجتمع الرأسمالى؛ إلا أن ذلك يخرج عن نطاق الدراسة التي قدمها حبيب الشارونى وربطها فقط بكتاب سارتر عن "الوجود والعدم" "1943".

         يبقى علينا، الآن، أن نسأل : هل أصاب الشارونى في عرضه وتحليله لرؤية برجسون وسارتر عن الحرية؟ والإجابة هي أن الشارونى قد تميز بفكره الثاقب وقدرته الفائقة على تأصيل المفاهيم وربطها بسياقاتها الفكرية والتاريخية ربطًا قويًا ومحكمًا.  وأنا لا أجد أي خلل في تقديمه أو في تحليله لفكر هذين الفيلسوفين الكبيرين، غير أن الشارونى لا يخلو، مثله في ذلك مثلنا جميعًا، من الأفكار المسبقة التي قد تحرف المفاهيم الأصلية لمن يتناولهم من المفكرين.  هو، مثلاً، يتميز بنزعة أخلاقية واضحة تجعله أحيانًا يستخدم بعض العبارات التي تشبه الإدانة والتي تحرف، في نظرى، رؤية فيلسوف مثل سارتر للحرية.  أنظر مثلاً إلى هذه الجملة التي يحكم بها الشارونى على مفهوم الحرية عند سارتر : «نفهم إذن أن انحلال الفكر الفرنسى قد عمل على أن تكون الحرية السارترية حرية خالية جوفاء»(4).  ومن الواضح أن عبارة "خالية جوفاء" غير دقيقة وتساعد على تأكيد المعنى الذي ذهب إليه في ربطه لفكر الفيلسوف بما أسماه "انحلال الفكر الفرنسى"(5).  أنظر أيضًا إلى استخدامه للفظة "الانفصال" في حكمه على رواية "الغثيان" إذ يقول : «وإذا كان سارتر يرى أن قيم الفن والجمال منفصلة عن الحياة والواقع فإنه لاشك قد أنقذ روكنتان من واقع الحياة الذي ملأه بالغثيان»(6).  وليس من شك في أن سارتر لا يقصد ألبتة انفصال القيم الجمالية والفن عن الحياة وإنما يقصد قدرتها على تجاوز الواقع المنحط وهو واقع القيم البرجوازية الشكلية والمظهرية التي هي لب الانحلال.  فالانحلال ليس ما ينادى به سارتر أو السرياليون أو العبثيون، فهم جميعًا دعاة ثورة على مجتمع "الأقذار" الذي يرفع شعار القيم وهو أبعد ما يكون عن ذلك.

ويعود الشارونى، في الخاتمة، إلى تأكيد هذه الأفكار ذات الصبغة الأيديولوجية الواضحة حين ينعت الفلسفة البرجسونية بأنها «فلسفة مطمئنة ترى في الحرية صفة الإنسان الحى المتطور المبدع» وأن فلسفة سارتر «مرتبطة بانهيار الحياة التفاؤلية وانحلال الفكر الفرنسى»(7).  وأعتقد أنه كان من الأفضل للشارونى بدلاً من إطلاق هذه الأحكام القيمية أن يقوم بتحليل نقدى لمدى تسلسل المفاهيم وترابطها في كل من الفلسفتين.  كما يرى الشارونى في نقده لمقولتى الاتصال والانفصال عند كل من برجسون وسارتر أن كلاً  منهما يعتمد على "التجربة الشخصية والحدس" ولا يقدم "تبريرًا ميتافيزيقيًا عقليًا" لما يؤكده بخصوص هذين المفهومين.  ولكن أنسى الشارونى أن أساس المنهج الفينومينولوجى يقوم على العودة إلى الأشياء وعلى ارتباط الشعور بالتجربة المعيشة؟.  أضف إلى ذلك أننا لا نرى في استخدام كلمة "انفصال" للدلالة على فكرة التجاوز "transcendance" إختيارًا صائبًا؟ ومن ثم يصبح قول الشارونى "بانفصال الكائن البشرى عن العالم وعن الماضي" عند سارتر قولاً غير دقيق... فالانفصال -والمقصود هو التجاوز- إذا كان هناك انفصال لا يلغى الاتصال عند سارتر، وإنما الانفصال هو صفة لحالة الشعور المفكر بينما الاتصال يفترض الحالة اللاواعية للوجود الإنساني حينما لا يعمل الفكر فيما يحيط به وفى ذاته؛ وذلك لأن الوعي لا يمكن أن يعمل وهو منغرس في الكينونة وإلا كان ذلك نفيًا لطبيعته.

كما يبدو لى غريبًا أيضًا قول الشارونى، من هذا المنطلق، بأن العلاقة بين الوعي وموضوعه لو كانت علاقة انفصال لكان ذلك «يعنى في الواقع نوعًا من الغربة بين الوعي والأشياء» وبأن المعرفة تفترض «نوعًا من التقارب بين العارف والمعروف»(8)... إذ يتناسى الشارونى هنا أيضًا التحليل الذي قدمه سارتر لمختلف حالات الشعور التي يتجه فيها عن طريق القصدية إلى العالم... ذلك أن المعرفة العلمية التي تقوم على الإدراك الخالص "perception" لا يمكن أن يكون فيها نوع من التقارب بين العالم وموضوع العلم، بل إن معرفة شخصية العالم لا قيمة لها على الإطلاق في تحديد طبيعة الموضوع الذي يُخضعه للبحث والتجربة، بينما فهم العلاقة بين الباحث وموضوع بحثه أمر بالغ الأهمية في مجال الفنون والعلوم الإنسانية والاجتماعية حين تلعب رؤية المبدع ومنهجية العالم دورًا أساسيًا في توجيه العمل الإبداعى أو الدراسة العلمية.


أضفإلى ذلك هذا المأزق الآخر الذي يشكله مصطلح "الانفصال" الذي يستخدمه الشارونى في قوله منتقدًا سارتر بأن «فكرة الانفصال لا تفسر ارتباط الإنسان بموقفه»(9)، كما يُضيف بأن الموقف «يفقد اعتباره كموقف بمجرد أن ينفصل عنه الوعي»(10).  إلا أن سارتر لا يستخدم مصطلح "s閜aration" كما أنه لا يقدم حياة الشعور أو الوعي بهذه الصورة القطعية، فالشعور لديه مجموعة من الحالات والمواقف التي تتشكل وفقًا لعلاقتها بالوجود، فهو موجود وغير موجود وقائم وغائب.  ومن ثم، فالشرط الأساسى لتقييم الموقف يفترض منه نوعًا من التباعد "distanciation" وإلا اختلط الشعور أو الوعي بموضوعه ولما أصبح لدى الإنسان القدرة على التفكير والتحليل، وبالطبع لا يكون الموقف موقفًا إلا بالنسبة للوعى، لأنه هو الذي يُضفى الدلالات والمعانى على الأشياء.

كذلك لا نفهم تأكيد الشارونى بأن «الوعي ليس هو الانفصال والملاشاة، وإنما بالعكس هو انغراس الإنسان في العالم واندماجه في موقفه»(11)، ثم يعود فيؤكد أن «فلسفة سارتر لم تغفل فكرة الاندماج» وإن كانت أحلت محلها فكرة "الالتزام" "L’engagement"، ثم يعود مرة أخرى فيقول بأن «الالتزام أو بالأحرى الانخراط عند سارتر لا يتضمن أي إلزام "Obligation" وإنما يعنى مجرد الارتباط»(12).  ألا يرى الشارونى في انتقاداته هذه ضربًا من الاجتزاء لبعض المفاهيم السارترية، خاصة وأن فيلسوف الوجودية الفرنسية لم يعن، حينما ربط الشعور بالعدم، أكثر من قدرتنا التخيلية على الانسلاخ عن العالم أو الموقف.  إلا أن هذا الانسلاخ، الذي هو الوجه الآخر من التأكيد، لا يعنى الانفصال التام عن الوجود، وذلك بقدر ما يقوم الوجود الإنساني في قلب العالم "L’阾redans le monde" ولعل هذا ما أكده سارتر في تعريفه لماهية الوعي الإنساني بأنه لا وجود له في ذاته على طريقة "الأنا الترنسندنتالية" عند هوسرل إذ أنه ليس إلا علاقة بالوجود.  كما أننا لا نفهم كيف يكون هناك التزام من غير إلزام؛ ولعل الشارونى يُفكر هنا في الإلزام الأخلاقى "L’imp閞atif cat間orique" على الطريقة الكانطية.  والواقع أن الالتزام عملية إرادية بحت عند سارتر وهو مرتبط بهذه الحرية نفسها التي تشكل ماهية الوجود الإنساني والتي تفرض عليه الاختيار.  وليس من شك في أن الاختيار ملزم لكل ضمير حي، ولكن هذا الإلزام لا يُفرض علينا، في نظر سارتر، من الخارج، وإنما هو أمر نقر به أو لا نقر وفقًا لما نرتضيه لأنفسنا، ووفقًا للصورة التي نحددها لوجودنا في هذا العالم.

الهوامش

 (1) انظر كتابنا : دراسات في الفكر الفلسفى المعاصر، دار المعرفة الجامعية، 1998، ص ص3- 49.

(2) J.-P.S., St. Genet, Com閐ien et martyr, Gallimard, 1952.

(3) د. حبيب الشارونى، فكرة الجسم في الفلسفة الوجودية، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1974.

(4) د. حبيب الشارونى، بين برجسون وسارتر، ص156.

(5) المرجع نفسه، ص155.

(6) المرجع نفسه، ص157.

(7) المرجع نفسه، ص163.

(8) المرجع نفسه، ص166.

(9)، (10) المرجع نفسه، ص166و 167.

(11) (12) المرجع نفسه، ص167و 168.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

سارتر بين الوجوديين