الاثنين، 31 أكتوبر 2016

نيتشه والتحليل النفسي

د. عبد الغفار مكاوى


هذه قراءة لبعض نصوص نيتشه (1844/1900) "النفسية". ربما تثير الكلمة الأخيرة شيئا غير قليل من الشك والحيره . وربما ذكرت القارئ بالجدل الطويل الذى دار وما زال يدور حول الفيلسوف الشاعر مؤلف "هكذا تكلم زرادشت" و "أناشيد ديونيزيوس الديثرامبية" ، صاحب الاسلوب المتوهج بالصور الحية . والرؤى العميقة المخيفة ، والعبارات البركانية المتفجرة بالغضب والشوق ، ذلك الذي "تفلسف بالمطرقة" ولم يكتب كلمة واحدة لم يغمسها – على حد قوله– في دم القلب ، هل هو شاعر أم فيلسوف ؟ وهل نحسم هذا الجدل الذي لم ينته بأن نضيف إليه مشكلة جديدة فنزعم أنه عالم نفس؟

لا شك عندي في أن نيتشه مفكر وجد في التفكير وحده كل نشوته وعذابه ، وبهجته ألمه ، بل أن التفكير المجرد ليبلغ عند تلك القمة التي يصبح فيها فكرا غنيا بالصور الحية التي تليق "بفيلسوف الحياة".ويكفى أن نطلع على فقرة واحدة مما كتب ، وأن نتذكر العبارة التي قالها في كتابة الأكبر (إرادة القوة) الذي لم يقدر له أن يتمه وجمع ونشر بعد موته : "أن الفكر هو أقوى شئ نجده في كل مستويات الحياة" ، والعبارة التي صرح بها في إحدى كتاباته المتأخرة : "أن التفكير المجرد لدى الكثيرين عناء وشقاء ، أما عندي فهو الأيام المواتية عيد ونشوة " واخيرا هذه العبارة التي دونها في اوراقه  التي عثر عليها بعد موته وكأنه كأن يتنبأ بالغيب ويرد على الأجيال التي شعر أنها لن تفهمه ولن تنصفه : "إرادة القوة" ، كتاب هدفه التفكير ، ولا شئ غير التفكير
إرادة القوة إذا شأنه شأن غيره من كتبه قد وضع ليفكر فيه الناس أنه قول ميتافيزيقى يتحدث عن العالم ككل ويتجاوز كل ما يضمه من أحوال وأشياء . ويصدق الشيء نفسه عن أقواله الكبرى – التي تعرضت دائما لسؤ الفهم – عن الأنسأن الأعلى وإرادة القوة – أي إرادة الحياة والمزيد من الحياة – وعودة الشبيه الأبدية . فهي أفكار فلسفية وميتا فيزيقية قبل كل شئ ، وصاحبها الذي طالما تفاخر بعدائه للميتافيزيقا والمنطق والجدل والعقل النظري أو السقراطي هو في رأى معظم الدارسين (وبخاصة هيدجر وتلاميذه) اشد الميتافيزقين تطرفا في تاريخ التفكير الغربي ، بل أنه في رأيهم منتهى غايتها أخر حلقة من حلقات تطورها منذ أفلاطون ومن قبله من المفكرين قبل سقراط.
بيد أن كل هذا كله لا يتنافى مع الحقيقة التي وصف بها نفسه حين قال أنه "خبير بالنفس"  لم يتوقف عن سبر أغوارها ، وأنه كما قال في كتابه "أنسأني ، أنسأني جدا"قد استفاد من "مزايا الملاحظة النفسية" وراح في كل كتاباته يحلل نفسه وينقدها وينطق بلسان "السيكولوجي" حين ينطق عن حاله . يقول على سبيل المثال في كتابة "نيتشه ضد فاجنر" : "كلما ازدادت خبرة المرء  بالنفس واتجه كعالم نفس بالفطرة والضرورة إلى الحالات الاستثنائية والأنماط المختارة من البشر زاد الخطر الذي يتهدده بالاختناق شفقة عليها …" ولكن ما حاجتنا للجوء إلى مثل هذه العبارات وكتابات الفيلسوف تنطق بخبرته بالنفس وتعمقه في طبقاتها الدفينة ومتاهاتها المظلمة ؟ أن المطلع على هذه الكتابات ابتداء من "ميلاد التراجيديا من روح الموسيقى" حتى شذراته الأخيرة وخطاباته التي كتبها في ليل جنونه ووجهها إلى قيصر والمسيح وبعض أصدقائه – كل هذه الكتابات تشهد شهادة كافية على تحليلاته النافذة ونظراته النفسية الثاقبة ، بل أنها لتشهد  بأنه سبق مؤسس التحليل النفسي في هذا المضمار ، وأنه راد طريق علم النفس التحليلي وعلم النفس الفردي – كما سنرى بعد قليل – واثر عليها جميعا بحدوثه وخواطره الملهمة تأثيرا مباشرا أو غير مباشر  - وصل في بعض الأحيان إلي حد استباق النظريات – كاللاوعي وما تحت الوعي وما فوقه ووراءه وكذلك اللاوعي الجمعي النماذج أو الأنماط الأولية – بل لقد بلغ حد التطابق في المصطلحات كما سنرى مثلا مع كلمة الإعلاء التي تتكرر في كتبة اكثر من أثنى عشرة مرة..
الواقع أن نيتشه قد تجاوز علماء النفس "المدرسيين" في عصره وتخلص من لغتهم التصورية الجافة وسبقهم إلي كثير من المعارف والأنظار التي لم يدروا عنها شيئا. نظر في خفايا النفس الفردية وما تنكره خجلا أو تحجبه خوفا من نفسها ومجتمعها ، كما نظر في العلاقات الوثيقة بين الحضارة والدين ، وبين المجتمع والأخلاق ، وتتبع التطورات الحضارية التي كونت ما نسميه الوعي إلى الأجداد وأجداد الأجداد واثبت أن هذا الوعي ليس ألا حصيلة الأخطاء عريقة ، وأن الضرورة تقتضي الغوص إلى ما تحته في متاهة الدوافع المستمرة ، كما تقتضي التطلع إلى ما بعده  في "وعى جمعي" يحمله جيل من أصحاب الأرواح الحرة المريدة الخلافة ، جيل راح ينتظره ويعد له ويبشر به بأعلى صوته . وهو لم يكتف في كل هذا بأن يكون خبيرا بالنفس  يقتفى أثار منابعها الذاتية الحقة ، ولم تقف تجاربه ومحاولاته عند البحث عن هذه المنابع الأصيلة (يقول في إحدى القطع التي كتبها عن زرا دشت : الانتظار والتأهب . انتظار أن تنبثق منابع جديدة . أن ينتظر المرء عطشه ويتركه حتى يصل إلي أقصى مداه لكي يكتشف منبعه)  لم يقف الأمر عند هذا بل عرف أن "السيكولوجية " التي يقصدها "سوماتية" أن ممتدة الجذور في الجسد . ولهذا لم يكن من قبيل المصادفة أن يجعل عنوان إحدى حكمة التي كتبها ضمن شذرات كتابة الأكبر الذى سبقت الإشارة إليه : "الاهتداء بالجسد" وأن يقول فيها : "على فرض أن (النفس) كانت فكرة جذابة غنية بالأسرار الغامضة ولم يستطع الفلاسفة – والحق معهم – أن ينفصلوا عنها ألا مرغمين ، فربما كأن ذلك الذي بدأ يتعلمون كيف يستبدلونه بها اكثر جاذبية واحفل بالغوامض والأسرار "
ولا شك أن نيتشه – بعد شوبنهور وفويرباخ – قد اكتشف أن الجسد فكرة اكثر إثارة للدهشة من فكرة النفس "العتيقة" . وقد لا نعدو الصواب إذا قلنا باختصار يحتمه ضيق المقام أن هؤلاء الثلاثة قد عملوا على تحول الفكر الحديث من ميتافيزيقا العقل – الذي أنهار وخلع عن عرشه بعد موت هيجل – إلى ميتافيزيقا الجسد والإرادة والدوافع . ولعل نيتشه أن يكون أشدهم من هذه الناحية تأثيرا على تيارات عديدة من فلسفة الحياة إلى فلسفة الوجود إلي علم النفس الوجودي إلي الأنثربولوجيا الفلسفية إلي مدارس التحليل النفس المختلفة..
هل يعنى هذا أن نجعل من نيتشه "عالم النفس" كما أصر على وصف نفسه في بعض نصوصه ؟ وهل يصح أن نشق على أنفسنا فنوازن موازنة دقيقة بين نصوصه التي تتجلى فيها "أنجازات السيكولوجية" وبين نصوص أخرى نستقيها من علماء النفس التحليلين (كما فعل فيلسوف الحياة لودفيج كلاجيس (1872-1956) في كتابة أنجازات نيتشه السيكولوجية(*) مبينا سبقه لهؤلاء في العديد من مناهجهم ونظراتهم ومطلحاتهم) إن البحث العلمي لا يعرف حدا يقف عنده ، ولا يتهيب بابا يطرقة ولا طريقا يقتحمه . وكل ما سبقت الإشارة إليه أمور مشروعة لا غبار عليها . ولكن المشكلة أن جوانب نيتشه متعددة  - مثل في ذلك مثل كل مفكر حقيقي ضخم – فهو "سيكولوجي" أراد – على حد قوله – أن يجعل من علم النفس "طريقا إلي المشكلات الأساسية الكبرى"بحيث يصبح "سيد العلم" ويسخر سائر العلوم لخدمته والإعداد له . وهو بجانب ذلك "فسيولوجى" اراد أن يعرف "الفيزيس" فى الطبيعة وفى حياة الإنسان وجسده الخاص ، و "فيلولوجى" ضاق بمناهج فقهاء اللغات القديمة فى عصره – وقد كأن استاذا لها – وبضيق  أفقهم وقصور تفسيراتهم اللغوية المرهقة . ثم هو قبل كل شئ وبعد كل شئ مفكر ميتافيزيقى وفيلسوف حضارة عدمية غاربة وأخرى مقبلة في مستقبل يبشر به ويعلن عنه ويدعو إلى خلقه وإبداعه .
وتبقى في النهاية مشكلة نصوصه نفسها . أن هذا النصوص المجنحة المتوهجة بنار الغضب أو النشوة تحير كل من يحاول الاقتراب منها . فهل يمكن أن نقف منها. موقفا موضوعيا باردا يقتضيه التحليل العلمي ، وهل نستطيع من ناحية أخرى أن نقى أنفسنا خطر الأنجذاب لدوامتها والأنجراف مع حماسها وجموحها ؟ أن نيتشه يصف نفسه بأنه ليس بشرا وأنما هو ديناميت ! وهو يؤكد باستمرار أنه قدر وأن قدرا لم تسمع عنه البشرية قد ارتبط به .. ومن يطلع على صفحة واحدة من كتاباته لا ينجو من زلزلة تصيبه أو حمم تتناثر من بركانه . ولن ينسى أحد وصفه لنفسه في هذه الآبيات التي جعل عنوانها "هو ذا الإنسان" من كتابه الذي يحمل نفس العنوان:
حقا!أنى اعرف أصلى!
نهم لا اشبع
أتوهج ، آكل نفسي
كاللهب المحرق،
نورا يصبح ما امسكه
فحما ما اتركه
حقا!أني لهب محرق!
لا مفر أذن من أن نحاول الأمرين معا على صعوبة الجمع بينهما: أن نفهم هذا المفكر اللاهب الملتهب ، وأن نتعاطف معه ونجرب أن نرى رؤاه ، وبذلك نرضى مطلب الموضوعية الذي لا غنى عنه ، ونستجيب لدفئ الوجدان الساحر الذي ينفح وجوهنا مع كل سطر من سطور .الأمر عسير كما قلت ، وهو أشبه بإقامة العدل أو عقد الزواج بين الثلج والنار!أنه يتطلب اتخاذ مسافة البعد الكافية التي تحتمها النظرة العلمية المحايدة ، كما يقتضي القرب المتعاطف الذي يحتمه التعامل مع مثل هذا الفيلسوف الشاعر بالمعنى الاعمق لا بالمعنى التقليدى لهاتين الكلمتين. ولعل هذا البعد السحيق من جهة وهذا التواصل الوثيق من جهة اخرى هما اللذان تفرضهما كل علاقة أصيلة يمكن أن تنشأ بين الأنا والأنت (على حد تاكيد مارتن بوبر فى كتبه العديدة عن هذه العلاقة الجوهرية الاصيلة التى اوشكت أن تغيب غيابا مطلقا عن حياتنا العربية والمصرية!).


بقى أن نتم المهمة التى اشرنا إليها فى بداية هذا التقديم ، ألا وهى بيان التأثيرات المباشرة أو  الغير مباشرة لكتابات نيتشه " النفسية" على أعلام التحليل النفسي او بالأحرى "علم نفس الأعماق" كما يوصف في لغته . وهى مهمة سنحاول أداءها بإيجاز شديد لا يسمح المقام بتفصيله.

لنبدأ برائد التحليل النفسى ومؤسسه فرويد (1856-1939). ولنذكر اولا أنه كأن معاصرا لنيتشه الذى يكبره  فى السن بإثنى عشر عاما فحسب ، وأنه اتخذ منه ومن فلسفته موقف التحفظ الذى لم يكد يتزحزح عنه . ولعل القارئ لم ينس تلك الفقرة المشهورة من نهاية المحاضرة الثامنة عشرة من محاضراته التمهيدية عن التحليل النفسى التى يشرح فيها كيف أوذي الإنسان الحديث ثلاث مرات فى غروره واعتزازه بنفسه ومكانته فى العالم . كانت المرة الأولى عندما تم التحول الأكبر فى عصر النهضة من مركزية الأرض إلى مركزية الشمس على يد كوبرنيقوس (1473-1543) الذي افترض أن أرضنا ليست هى مركز الكون ، وكأن من الضروري أن يستخلص الإنسان من ذلك أنه ليس تاج الخليقة وأن العالم لم يخلق من اجله . وكانت المرة الثانية عندما قدم تشارلز داورين (1809-1882) كتابه عن اصل الأنواع  عن طريق الانتخاب الطبيعي فاثرت نظريته في التصور الديني بوجه خاص عن كون الأنسأن صورة الله وخليفته علي الأرض . أما المرة الثالثة فكأن الأذى اشد قسوة واعمق جرحا ، إذ جاء من جانب " البحث السيكولوجي الراهن الذي يريد أن يثبت للأنا أنها لا تملك حتى أن تكون سيدة في بيتها الخاص ، أنما تظل معتمدة علي أنباء شحيحة عما يجري بصورة غير واعية في حياتها النفسية ". ومع أن فرويد يقرر في تواضع أن أصحاب التحليل النفسي ليسوا هم أول من نبه إلي ضرورة الرجوع إلي الذات ولا هم وحدهم اللذين فعلوا ذلك ، الا أنه يستطرد فيقول : " يبدو أنه كتب علينا أن نعبر عن هذا اقوي تعبير وأن ندعمه بالمادة التجريبية التي تهم كل فرد ،. ولسنا هنا بصدد مناقشة الطابع التجريبي والعلمي للتحليل النفسي ، فالجدل حول هذه المسألة يطول ، ولكننا نسأل فحسب أن كأن من حق فرويد وتلاميذه وحدهم أن يستأثروا " بمجد" إيذاء الإنسان الحديث وتعرية عالمه الباطني المظلم ، ام أن نيتشه قد سبقهم إلى الأخذ من هذا المجد بنصب !
مهما يكن الأمر فأننا نجد فرويد يشيد في سيرته ( أو صورته الذاتية) – التي نشرت سنة 1925 – بالفيلسوف شوبنهور ويتحدث عن توجه التطابق القوي بين التحليل النفسي وفلسفته . وهو يشهد بأن هذا الأخير لم يصرح فحسب بأولوية " الانفعالية " والأهمية القصوى " للجنسية " ، وأنما توصل كذلك إلى نظرات نافذة في " إليه الكبت " ( راجع سيرة فرويد الذاتية ، فرانكفورت غلي نهر الماين ، سلسلة كتب فيشر ، ص 87)(*) ويستدرك فرويد –الذي كأن فيما يبدو شديد الحرص علي عدم المساس بأصالته واكتشافه  للاوعي – فيقول أنه لا يمكن الحديث عن أي تاثير لشوبنهور عليه وعلي بناء نظريته لأنه لم يطلع علي كتابات الفيلسوف الا في وقت متأخر جدا  ولم يكن ينتظر من رجل مثل فرويد الذي عرف بثقافته واطلاعه الأدبي الواسع – أن يتجاهل معاصره نيتشه ، فنجده يسجل في الموضع السابق من سيرته هذه الملاحظة الدالة :" اما نيتشه ، الذي كثيرا ما تتطابق مشاعره ونظراته بصورة مذهلة مع النتائج المضنية لتحليل النفسي ، فقد تجنبته طويلا ولم يكن يرجع إلى السبق ( أو الأولوية ) بقدر ما كأن يرجع إلى حرصي علي المحافظة علي حريتي " ولا يخفي علي القارئ أن هذه العبارة تنطوي علي ما عكس ما أراد عالم النفس الشهير اذ يبدو أنه- في هذه النقطة علي الأقل – لم يعرف نفسه كما كأن يتوقع منه ، ولم يستطيع اخفاء اهتمامه ينفي أي تأثير عليه من نيتشه ، فكأني به  قد وقع زلة من زلات اللسان او القلم التي تثبت ما حاول أن ينكره ويخفيه ! 
ولا يتسع المجال لتناول علاقة فرويد بنتشه بصورة مفصلة ، ويكفي  أن نشير – تاكيدا لهذه العلاقة التي حاول مؤسس التحليل النفسي أن ينفيها أو يقلل من شأنها – إلى أن مؤرخ حياة فرويد – وهو العالم الإنجليزي أرنست جونز ـ يذكر في كتابه عن حياة أستاذه خطابا مؤرخا في سنة 1900 يقرر فيه أنه "مشغول بقراءة نيتشه" ، ولابد أنه لم يفته أن يطلع عليه من قبل وأن لم يبدأ العكوف عليه إلا في السنة المذكورة . ونضيف واقعة أخرى لا تخلو من دلالة على العلاقة غير المباشرة بينهما. فقد حضرت صديقة نيتشه لو سالومي (وهي التي حاول عبثا أن يخطب ودها !) مؤتمر التحليل النفسي الثالث الذي أنعقد في شهر سبتمبر سنة 1911 في مدينة فيمار . والمعروف أنها أنضمت بعد ذلك إلى مدرسة فرويد الذي اعتبرها من تلاميذه ، كما حاولت في مذكرتها التي كتبتها بعنوان "من مدرسة فرويد" أن نربط نظريات التحليل النفسي وتعبيرات نيتشه وصيغه النفسية المختلفة ، وأخيرا نشير باختصار إلى الرسائل المتبادلة بين فرويد والكاتب الروائي الاشتراكي أرنولد تسفانج (**)(1887- ) في فترة امتدت من سنة 1927 حتى سنة 1939 . فقد أخبره تسفايج أنه يزمع وضع كتاب أو رواية طويلة عن نيتشه ، ثم أرسل إليه في الثاني من ديسمبر سنة 1930 من مدينة فينا خطابا يقول فيه أنه ـ أي فرويد ـ قد حقق كعالم نفس تلك الرسالة التي شعر نيتشه بوجد أنه  الملهم أنه مكلف بأدائها ، وأن كان قد عجز عن تحويل رؤاه الشعرية إلى حقائق علمية . وأخذ الكاتب الروائي يعدد "إنجازات" فرويد التي سبقه الفيلسوف إلى الإحساس بها وصياغتها : "لقد حاول نيتشه أن يصور "ميلاد التراجيديا " ، وأنت قد فعلت هذا في كتابك عن "الطوطم والمحرم " ( التابو ) وعبر عن شوقه إلي عالم يقع وراء الخير والشر ، وقد استطاعت عن طريق التحليل النفسي أن تكتشف مملكة تنطبق عليها عبارته ، وأن تقلب قيمة كل القيم ، وتتجاوز المسيحية ، وتصوغ " خصم المسيح " الحقيقي ، وتحرر مارد الحياة المتصاعدة من الزهد الذي كانت تعتبره المثل الأعلى ، ولقد استطاعت كذلك أن ترد " إرادة القوة " إلي الأساس الذي تقومم عليه ، وأن تتناول بعض المشكلات الجزئية التي اهتم بها نيتشه عن الأصل اللغوي للمفاهيم الأخلاقية فتتطرق منها إلي مشكلات اعظم واهم من الكلام والافصاح والربط بين الأفكار وتبليغها ونتوصل إلي حلها . أما الروح المنطقية او السقراطية التي رفضها فقد قصرتها علي مجالات الوعي ووضعتها في حدودها بصورة ادق . " ولما كنت باحثا طبيعيا وعالما نفسيا يتقدم خطوة خطوة فقد أتممت ما تمني نيتشه أن يتمه ، الا وهو الوصف العلمي للنفس البشرية وجعلها مفهومة، ثم زدت علي ذلك فبينت – بحكم كونك طبيبا – سبل تنظيمها وعلاج امراضها . أنني اعتقد كذلك أن هناك قدرا كبيرا من الملاحظات الفردية – التي تتصل بفرو يد " الكاتب " وتمد جسورا بينه وبين نيتشه ، كما أعتقد أن بسالة " المتفلسف بالمطرقة " قد فاقتها بسالة الباحث بأسلوب موضوعي خالص عن الدوافع الأورفية والديونزية . واكتشاف تأثيرها وفعلها في كل واحد منا …."
ماذا كان رد فعل مؤسس التحليل النفسي علي كل هذا التمجيد والاشادة بدوره ؟
العجيب حقا أنها لم تحوله عن تحفظه تجاه الفيلسوف ، بل لعلها قد زادته إصرارا عليه ! فهو ينصح الكاتب الروائي بالعدول عن فكره تأليف الكتاب ، بل يضيف في خطاباته التإلية أننا لا نعرف الا اقل القليل عن تكوين نيتشه الجنسي ، وهذا القليل لا يساعدنا علي تطبيق ادوات التحليل النفسي لالقاء الضوء علي حياته وقدره .. ويبدو أن الكاتب لم يقتنع بالحجج التي تذرع بها فرويد ، فارسل إليه هذا الاخير – في خطاب مؤرخ في السابع من ديسمبر من السنة نفسها 1930 – هذه العبارة الدالة :" اكتب عن العلاقة بين تأثير نيتشه وتأثيري بعد أن أموت " ( ارجع الرسائل المتبادلة بين فرويد  وأرنولد تسفانج ، نشرتها ارنست فرويد ، فرانكفوت علي الماين ، 1969 ، ص 25 وما بعدها ).
لعل هذا الموقف المتحفظ أن يرجع - كما تقدم - إلى خشية فرويد أن يستقر في الأذهان سبق نيتشه وأن يضر ذلك بريادته وأصالته، والرد على هذا بسيط: فليس نيتشه هو الوحيد الذي أثر على تفكير فرويد، سواء اعترف به أم أنكره (فثمة تأثيرات مؤكدة من أسماء أخرى مثل ليبنتز وجوته وشوبنهور وكاروس - الفيلسوف الطبيعي الرومانتيكى المعروف بكتابه عن النفس وبحديثه عن اللاوعي) كما أن عشرات المؤثرات لا تصنع عبقرية، والاطلاع على عشرات الحكم والأفكار الملهمة لا يغنى عن ضرورة تشكيلها ولا ينال من أصالة اكتشاف المنهج وسبل الفحص والعلاج. هل نقول إذا مع باحث مثل هنرى ف. إلينبرجر (في كتابه اكتشاف اللاشعور، الجزء الأول عن نيتشه نبي عهد جديد، ص 73 - 385 من الترجمة الألمانية، 1973)(*) أن تأثير نيتشه يتغلغل في مدرسة التحليل النفسي بأكملها؟ أن الحكم الموضوعي النزيه يقتضي المقارنة بين النصوص مقارنة دقيقة. وهو جهد مشروع كما قلت، وسنخرج منه في النهاية بما لا يمس رائد التحليل النفسي في أصالته، ولا يحول فيلسوف إرادة  الحياة والقوة إلى عالم  نفس! وفي تقديرى أن هذه المقارنة الدقيقة – التي نفتقدها حتى الآن – ستنتهي إلى النتيجة التى أشرت إليها، ولكنها ستؤكد فضلا عن ذلك أوجه تشابه عديدة بين فكر المفكر وعلم العالم بغض النظر عما أثير حول علمه من ظنون وعما بذل من محاولات لتدعيم أفكاره بالتجارب و"التقنيات" أو الأساليب العلمية والطبية الدقيقة. سوف نلاحظ مثلا أن الفيلسوف وعالم النفس يشتركان في الاعتقاد بأن كل تفكير الإنسان وفعله وكل أشكال التعبير عن الحياة البشرية عند الفرد والجماعة أنما هى مظاهر أو ظواهر معبرة عن "عمق" باطن، وأن "اللاوعي" هو الذى يقوم في ذلك بالدور الأول والأكبر لا "الوعى"، إذ تكون السيطرة لقوى الدافع التى تأتى من مناطق لا واعية في النفس، وهى قوى أو طاقات تعد أقدم من الوظيفة العقلية، كما تكتشف عن الجانب الأكبر من شخصية الإنسان الذى يحاول بطبيعته أن يتستر خلف أقنعة من كل نوع - ويتم هذا الكشف حتى في أحلامه (حسب نظرية فرويد عن الأحلام). ولهذا يؤكد نيتشه في مواضع كثيرة من نصوصه أننا نستطيع أن   نستخلص من التعبيرات الانفعالية لأي إنسان ما يفوق في حقيقته ودلالته كل ما يمكن ان نستخلصه من العقل الذى يعمد دائما إلى الوزن والقياس والحساب والتخطيط. 
ولقد اعترف فرويد - كما سبق القول - بأن كتابات نيتشه تنطوى على نظرات حدسية نجدها في كثير من الأحيان متطابقة مع النتائج التجريبية للتحليل النفسي ، والواقع أن هذه الكتابات تتناثر فيها مفاهيم وأفكار لا شك في أهميتها وقيمتها التحليلية والنفسية، ناهيك عن مصطلحات يمكن أن توصف بأنها بذور نمت منها بعض المصطلحات التى استقرت في التحليل النفسى (مثل مصطلح "الهو" الذى يقابلنا أكثر من مرة في الكتاب الأول من هكذا تكلم زرادشت وتبقى النظرات الحدسية - كما وصفها فرويد بحق - هى الأجدر بالاهتمام، إذ لا نستبعد أن تكون قد أثرت على رائد التحليل النفسي مهما أنكر ذلك التأثير أو تنكر له . ولنذكر بعض هذه النظريات باختصار: التصور الدينامى للنفس مع تصورات أخرى مرتبطة به كالطاقة النفسية، ومقادير الطاقة الكامنة أو المعوقة، وتحويل الطاقة من دافع إلى آخر، تصور أن النفس نظام أو نسق من الدوافع التى يمكن أن تتصادم وتتصارع أو تندمج وتذوب في بعضها، تقدير أهمية الدافع الجنسي وأن لم يجعله الدافع الأول والأهم كما فعل فرويد قبل أن يتكلم عن غريزة الموت في كتاباته المتأخرة، إذ أنه يأتى عنده بعد دوافع العدوان والعدم، فهم العمليات التى سماها فرويد "إليات دفاعية" وبخاصة عملية الإعلاء والتعويض، والتعجيل أو التعويق - والذى يسميه فرويد الكبت - واتجاه الدوافع وجهة مضادة للذات نفسها. كذلك نجد بعض الأفكار المهمة متضمنة في نصوص الفيلسوف مثل صورة الأب والأم، وأوصافه للإحساس بالحقد والضمير الكاذب والأخلاق الفاسدة التى سبقت أوصاف فرويد للإحساسات العصابية بالذنب كما سبقت وصفه للأنا الأعلى، أضف إلى هذا كله أن كتاب فرويد المشهور "الضيق بالحضارة" يكاد أن يوازى كتاب نيتشه عن "تسلسل الأخلاق" موازاة دقيقة في نقد العصر والحضارة، ولعل كليهما قد تأثر بما قاله الفيلسوف والكاتب الفرنسى ديدرو (1713 - 1784) من أن الإنسان الحديث مصاب بمرض عجيب مرتبط بالمدنية، لأن المدنية تتطلب منه أن يتخلى عن إشباع دوافعه. وغنى عن الذكر أن الاثنين قد عاشا  متعاصرين، وأنهما قد مرضا بزمانهما وحضارتهما وحاولا أن يعرياهما من أقنعتهما الزائفة. والفرق الأساسى بينهما أن عالم النفس قد اهتم بالتطور الذى يبدا من الماضي بينما تطلع الفيلسوف بكل غضبه وحماسه إلى المستقبل. 
ويأتى دور الفرد آدلر (1870 - 1937) مؤسس علم النفس الفردي الذي يدور حول قضية أو فكرة تبدو  شديدة القرب من تفكير نيتشه. فالمعروف أن آدلر قد اعتبر الشعور بالنقص أو الضآلة من أهم حقائق الحياة النفسية، كما استخلص منه نتائج مهمة تتعلق بتحديد شخصية الفرد وبطابع الحياة الاجتماعية، وهو يذهب إلى حد القول بأن الإنسان هو الكائن الذى يسعى سعيا دائبا لإكمال شخصيته، وذلك بفضل إحساسه بنقصه وضآلة قيمته، فإذا عاق هذا السعى إلى الكمال عائق وحيل بينه وبين الطموح إلى القوة وإثبات الذات ظهرت عليه أعراض المرض العصابى. 
ولا شك أن العبارات السابقة تغرينا بالتقريب بين فلسفة نيشته وبين مذهب آدلر الذى يحركه الطموح إلى القوة أو "إرادة القوة". وقد نسرع إلى الظن بأن هذا المذهب يردد تنويعات مختلفة على لحن أساسى من إلحان نيتشه، وربما يؤيدنا في هذا الظن أن آدلر نفسه - في كتابه عن الشخصية العصبية (1921) - يوافق على أن "إرادة القوة" تصلح للتعبير عن مسعاه وأن هذه الفكرة الموجهة - كما يقول في التمهيد للجزء النظرى في ا لكتاب المشار إليه - "يندرج تحتها اللبيدو والدافع الجنسى والميل للأنحراف أيا كأن مصدرها جميعا، أن إرادة القوة و"إرادة المظهر" عند نيتشه تنطوى على جوانب كثيرة من رأينا الذى يقترب بدوره في بعض النقاط من آراء فيريس وغيره من المؤلفين القدامى. ولا يكتفى آدلر بهذه العبارات التى تشهد باطلاعه الواسع على فلسفة نيتشه واعترافه بتأثيرها عليه، بل يضيف قوله في كتاب آخر نشره بالاشتراك مع زميله كارل فورتميلر تحت عنوان "العلاج والتربية"، وإذا ذكرت اسم نيتشه فقد كشفت عن أحد الأعمدة الشامخة التى يقوم عليها فننا، أن كل فنان يطلعنا على خبايا نفسه، وكل فيلسوف يعرفنا بطريقته في توجيه حياته وجهة عقلية، وكل معلم ومرب يشعرنا بانعكاس العلم على وجدانه، كل هؤلاء يهدون بصرنا وإرادتنا في أرض النفس الواسعة" - (راجع كتاب يوسف راتنر عن الفرد آدلر 1972، ص 82، سلسلة كتب روفلت المصورة عن شخصيات الأدباء والفنانين والمفكرين، العدد 189)(*) 
ربما أوحى إلينا هذا كله بأن مذهب آدلر صورة نفسية من فلسفة نيتشه. غير أن الحقيقة أبعد ما تكون عن هذا الظن، بل ربما جاز القول بأن علم النفس الفردي يسير في اتجاه مضاد لأفكار فيلسوف القوة. ولا يرجع هذا إلى أن آدلر قد تأثر به  كما تأثر بغيره، فالتأثيرات مهما اشتدت وتنوعت لا تصنع، كما قدمنا - شخصية ولا فكرا متميزا، وأنما يرجع إلى الفروق الموضوعية الدقيقة بينهما، فإرادة القوة التي تصورها نيتشه تختلف عن الطموح إلى القوة الذى يفسح له آدلر مكانا مهما في نظريته عن العصاب، وبينما يعبر الأول بفكرته عن إنسانية أعلى ويجعل منها وسيلة تخطى الإنسانية الحاضرة وغايتها، نجد آدلر يعتبر الفكرة نفسها وموقف نيتشه بأكمله تعبيرا عن اليأس والقلق ونزعة التعويض التي تدفع بصاحبها إلى السيطرة على الآخرين وإثبات القوة والغلبة عليهم (ولا ننسى بهذه المناسبة أن فيلسوف القوة كان فاسد المعدة مضطرب الأعصاب مصابا بالأرق المزمن وشقيا يتجاهل العصر وجحوده بحيث يمكننا أن نقول مع بعض الباحثين أن علم النفس الفردى هو أبلغ اتهام لإرادة القوة وأقسى تعرية لخداع صاحبها لنفسه وتدميره لها، وكما وضع فرويد التصميم الواعى والتدبر والحكم العقلى الواضح في مقابل الدوافع اللاوعية، كذلك أقام آدلر من الشعور بالجماعة سدا يحمى الحياة النفسية عن عواصف الطموح إلى القوة والسيطرة الإنسانية، صحيح أن آدلر قد سلم بوجود ثنائية نفسية تذكرنا بما قاله فرويد عن مبدأ اللذة ومبدأ الواقع، أو دوافع الحب والحياة ودوافع التدمير والموت، ولكن الواقع أن علم النفس الفردي يحاول تحقيق التوازن بين النزوع الفردي إلى القوة وبين الشعور بالجماعة أو المجتمع. فإذا كانت إرادة القوة تمثل الدافع الأصلى وتعبر عن غريزة الحياة الأساسية والمحور الذى يدور حوله الوجود، فأن الشعور بالجماعة هو الأصل والأساس في حياة الإنسان، وما النزوع إلى القوة إلا حركة نفسية نابعة من عقدة الشعور بالنقص (أو ضآلة القيمة) مفسدة للإنسان مدمرة لكيانه.
وليس الإنسان في نظر علم النفس الفردى مجرد حالة فردية أو استثنائية تطمح إلى القوة والسيطرة ولا تعرف شيئا عن الحب كما زعم فرويد عن تلميذه المنشق ! وأنما يقاس الفرد دائما بمقياس الإنسان المثالي الذى يتبع قواعد اللعبة التى يسنها المجتمع ويسير- على هدى التربية وعلم النفس - إلى تحقيق الحياة الإنسانية المشتركة مع إخوته في الجماعة الإنسانية.
ونصل أخيرا إلى العلم الثالث من أعلام "علم نفس الأعماق" وهو كارل جوستاف يونج (1875 - 1961) لنعرف إلى أى حد تأثر "بالخبير بالنفوس". والحق أن يونج يسلم بهذا التأثير بجوأنبه الإيجابية والسلبية. ونستشهد على هذا برسالة كتبها قبل موته بشهور قليلة إلى أحد رجال الدين الأمريكيين وقال فيها: "أن تقديم تقرير مفصل عن تاثير أفكار نيتشه على تطورى العقلى لمهمة طموح تتخطى حدود قدرتى. فقد أمضيت شبابى في المدينة التى كأن نيتشه قد عاش فيها فترة من حياته وعمل في تدريس اللغات القديمة في جامعتها، وبذلك شببت في جو لا يزال يرتجف تحت سطوة مذهبه، على الرغم من أن هجماته كانت تلقى مقاومة شديدة. لم أستطع أن أتجنب الأثر الذى أحدثه إلهامه الأصلي على نفسى وشدنى إليه بقوة. فقد كأن يتميز بالإخلاص والصدق الذى لا يمكن أن يدعيه عدد غير قليل من الأساتذة الأكاديميين الذين يهتمون بمظاهر الحياة الجامعية أكثر مما يهتمون بالحقيقة. والأمر الذى أثر في أعظم تأثير هو لقاؤه بزرادشت ونقده "للدين"، هذا النقد الذى أفسح في الفلسفة مكانا للعاطفة المتوقدة من حيث هى دافع أصيل على التفلسف. شعرت أن "التأملات لغير أو أنها" قد فتحت عيني، أما "تسلسل الأخلاق" و "العود الأبدى" فكأن حظهما من اهتمامي أقل، واستطاعت أحكامه السيكولوجية النفاذة أن تبصرنى تبصرة عميقة بما يمكن أن يحققه علم النفس.
وعلى الجملة، كأن نيتشه بالنسبة إلى هو الإنسان الوحيد الذي قدم لى في ذلك العصر إجابات كافية، عن بعض الأسئلة والمشكلات الملحة التى كنت أشعر بها أكثر مما أفكر فيها (رسائل يونج، الجزء الثالث) ص 370 وما بعدها). 
هذا الاعتراف الصريح من مؤسس علم النفس التحليلى لا يحتاج إلى تعليق. ويمكن أن نضيف إليه اعترافا آخر يسجله بكل العرفان عن سنوات الطلب والتحصيل في شبابه، فقد أقبل على قراءة نيتشه في نهم وحماس، ثم قرأ "هكذا تكلم زرادشت" فكانت قراءته لهذا الكتاب بجانب فاوست لجوته - أقوى تجربة مر بها في شبابه (راجع ليونج: ذكريات وأحلام وأفكار، نشرتها أنبيلا جافيه، زيورخ وشتوتجارت، 1963، ص 109 وما بعدها)(8). (*)ولعل أول أثر لهذه القراءة قد ظهر في رسالته الجامعية عن "سيكولوجية الظواهر المسماة بالظواهر الخفية وتشخيص أمراضها" (1902) فقد درس فيها حالة من حالات "الكريبتومنيزيا" التذكر الخفي واللاشعوري) والتى صادفها عند نيتشه. 
ولم تمض سنوات قليلة حتى رجع إلى نفس الموضوع، وحاول أن يتحسس طريقه إلى "شيطان اللاوعي" الذى وقع الفيلسوف تحت تأثيره السحرى. عند تدوينه لكتابه عن زرادشت: "أن هذه الاهتزازات الراجفة العميقة للمشاعر، وهى التى تتخطى مجال الوعى وتتجاوزه، هى القوى التى أظهرت للنور أقصى التداعيات تطرفا وخفاء، هنا اقتصر الوعى على القيام بدور العبد الخادم لشيطان اللاوعى الذى طغى على الوعى وراح يغمره بالخواطر الغربية، وما من أحد استطاع أن يصف حالة الوعى بمركب لا واع مثل نيتشه نفسه (الكلريبتومنيزيا، في المجلد الأول من مؤلفات يونج الكاملة ص 113 وما بعدها) - ويحاول الطبيب النفسى الشاب أن يتابع هذا الموضوع الشائك عن "الأرواح" والأرباب عند الإغريق وبخاصة عن شخصية ديونيزيوس مع الإشارة الصريحة إلى تأثيرها على نيتشه ابتداء من كتابه "ميلاد التراجيديا" فيقول في رسالة وجهها سنة 1909 إلى فرويد : "يبدو أن نيتشه قد أحس بهذا إحساسا قويا، ويخيل إلى أن الديونيزى" كأن يمثل موجة ارتداد جنسية لم تقدر قيمتها التاريخية حق قدرها، وقد تدفقت بعض عناصرها الجوهرية إلى المسيحية، وأن طبقت تطبيقا آخر يتسم بالاعتدال والتصالح (رسائل يونج، الجزء الأول، ص 35).
ولا يقف الأمر عند هذه النصوص وأشبابهها لبيان تاثير نيتشه على يونج، فالواقع أن خيوط هذا التأثير بشخصية نيتشه و"نمط" حياته وتفكيره بل وأحلامه ورؤاه تتخلل كتاباته من بداية حياته إلى نهايتها. ولا شك أنه كأن صادقا كل الصدق عندما قال في كتابه المشهور عن" سيكولوجية اللاوعي" 1912 (وطبع طبعات منقحة بعد ذلك) أنه قد بدأ حياته طبيبا نفسيا وعقليا، ولكن نيتشه هو الذى أعده إعدادا لعلم النفس الحديث (سيكولوجية اللاوعي، المجلد السابع من المؤلفات الكاملة، ص )128 (*).  ولولا ضيق المقام لتعرضنا للتجارب "الدينية" التي مر بها الفيلسوف وعالم النفس في صباهما وشبابهما، إذ أنحدر كلاهما من صلب قسيس، ووجد نفسه محاطا بعلماء اللاهوت الذين عجزوا عن الإجابة عن الأسئلة التي أرقتهما. 
ولكن الأهم من ذلك ألا ننساق وراء التأثير والتأثر - الذى يظل في تقديرى أمرا غامضا على كل المستويات!-  وأن علم أن مؤسس علم النفس التحليلى لم يكن مجرد معجب متحمس لفيلسوف الإرادة والحياة وأنما أتيح له أن يتطور وينضج ويجد ذاته وينظر إليه بعين ناقدة. ونكتفى في هذا الصدد بمثلين نقدمهما من مؤلفاته، فهو في كتابه عن "الأنماط النفسية" (1921) - وهو أول مؤلف كبير بعد كتابه عن تحولات اللبيدو ورموزه الذى شهد أنفصاله عن فرويد (1912/1913) - لا يكتفى بسرد نصوص يقتبسها من نيتشه، وأنما يتناول شخصيته كمثل على نوع من الوعى الذى يحاول بكل جهده ا لسيطرة على الدوافع المظلمة. أنه يذكر بالتقابل الأساسى الذى يعبر عن التضاد الحاسم بين طرفين هما ديونيزيوس وأبوللو - كما عرضه نيتشه في كتابه المبكر عن ميلاد التراجيديا من روح الموسيقى - ثم يتطرق إلى نقد دينامية الدوافع الكامنة وراء هذا التضاد، ويسوق أمثلة اخرى من التاريخ الحضارى والأدبي نذكر منها رسائل الشاعر الفيلسوف شيلر (1759 - 1805) عن التربية الجمالية ليعزز بها نقده.
لقد أهمل المفكران الشاعران في رأيه البعد الدينى واقتصرا على الاهتمام بالبعد الجمالى والفنى لشخصيتى أبوللو وديونيزيوس، وهو لا يكفى لتفسير مضمون التجربة الدينية والتاريخية التى تغلغلت في "اللاوعى الجمعى" لقدماء الإغريق فضلا عن أن نيتشه قد تجاهل الجانب الصوفى والتأملى الذى اتسمت به طقوس ديونيزيوس في أماكن مختلفة من بلاد الإغريق: "لقد اقترب نيتشه من الواقع إلى الحد الذى جعل تجربته الديونيزية المتأخرة أشبه بنتيجة ضرورية لا مفر منها، أما هجومه على سقراط في ميلاد التراجيديا فهو هجوم على العقلاني العاجز عن الإحساس بالنشوة والتوهج الديونيزى (الأنماط السيكولوجية)، المجلد السادس من المؤلفات الكاملة، ص 151)(*) وقد كأن من الطبيعى أن يحاول  يونج فحص الخصائص النفسية لهذين النمطين الأسطوريين وأن يحاول أن  يبين العلاقة بينهما وبين نظريته عن الوظائف النفسية والمواقف أو الأنماط الأساسية التى تؤدى في مذهبه دورا كبيرا (والمعروف أنه يحدد أربعة أنماط من الوظائف هى التفكير والشعور والإحساس والحدس، كما يحدد نمطين أو موقفين أساسيين هما الانطواء والانبساط). وهكذا يجد أن ما يصفه نيتشه "بالديونيزى" يقترب  في تصوره من الشعور المنبسط المتجه إلى الموضوعات الخارجية، إذ تظهر في هذه الحالة تأثيرات أو أنفعالات دافعية قاهرة وعمياء تعبر عن نفسها في صور جسدية عنيفة، أما ما سماه نيتشه "بالأبوللونى" فهو - كما أوضح بنفسه - تعبير عن إدراك الصور الباطنة للجمال والحب والمشاعر المعتدلة المنظمة. وتبرز طبيعة الحالة الأبوللونية إذا قارنا بينها وبين الحلم. فهى حالة استبطأن وتأمل متجه إلى الباطن مستغرق في عالم الحلم الغنى بالأفكار والمثل الأبدية، أى أنه في النهاية تعبير عن حالة الأنطواء (المرجع نفسه، ص 152) ثم يتطرق عالم النفس إلى تحليل شخصية نيتشه نفسه فيقول أنها تجمع بين الوظيفة النفسية للحدس من ناحية وبين وظيفة الإحساس والدافع من ناحية أخرى، أنه يمثل النمط الحدسى أو الوجدأنى الذى يميل للانطواء، يشهد ذلك طريقته الحدسية والفنية في الأنتاج كما يدل عليه أسلوبه في الكتابة بوجه عام وفي ميلاد التراجيديا. وزرادشت بوجه خاص. ومع ذلك فأن هذه النزعة الانطوائية تخالطها - كما نرى من كتبه العديدة التى وضعها في صورة حكم منثورة - نزعة عقلية ونقدية حادة متأثرة باعتراف صاحبها نفسه بإعجابه بحكم الكتاب الأخلاقيين الفرنسيين في القرن الثامن عشر، وتبقى الغلبة في نهاية المطاف للنمط الحدسي المنطوى الذى يفتقر عموما إلى التحدد والتنسيق العقلي والمنهجي. ويميل إلى إدراك "الخارج" عن منظور "الباطن" ولو على حساب الواقع. ويظل الفيلسوف طوال حياته واقعا تحت تأثير السمات الديونيزية للاوعى الباطن، إذ لم تبلغ هذه السمات سطح الوعى إلا بعد أن تفجر مرضه الأخير واستسلم لغيبوبته العقلية الطويلة التى انتهت بموته، ولم تظهر قبل ذلك إلا في مواضع قليلة متفرقة من كتاباته في صورة رموز وإشارات شبقية. 
أما المثل الثاني الذي يدل على مدى اهتمام يونج بشخصية نيتشه فيمكن أن نسوقه من النصوص المختلفة التي تعرض فيها العالم السويسري "للقدر" الألماني والمحنة التى جرها الألمان على ملايين البشر في حربين عالميتين، فنحن نجد في كتابه السابق الذكر عن الأنماط النفسية إشارات يفهم منها أن "زرا دشت" نيتشه قد ألقى الضوء على مضمونات من اللاوعى الجمعى مرتبطة بظهور "الإنسان القبيح" وبالمأساة اللاشعورية الفاجعة التى يعبر عنها هذا "النبى - الضد" أو المتنبئ المعذب (وقد كأن العصر يفيض في ذلك الحين بجرائم الفوضويين والعدميين ومقتل الأمراء والنبلاء والحكام وتطرف إليساريين .. الخ) أما عن اللمحات والرموز التى فاضت عن اللاوعى الأوربى للتعبير عن الخطر القادم على يدى الوحش الفاشى فنلاحظ أن يونج يتحدث عن "البربرى الجرماني" في دراسة صغيرة له عن "اللاوعى" ترجع إلى سنة 1918. والغريب في حديثه أنه يعهد إلى المسيحية بمهمة ترويض الجانب "الواضح والأعلى" من وعى هذه الجماعة الخطرة، ويترك مهمة التحكم في جانبها "السفلى" للعناية الإلهية! والأغرب من هذا أنه لا يذكر الخطر الجرماني وحده، وأنما يؤكد أن "الجنس الآرى الأوربى" يتعرض لنفس الخطر النابع من عمق اللاوعى الجمعى، ثم يشير إلى نيتشه إشارة غير خافية حين يقول أن "الوحش الأشقر يمكنه في سجنه السفلى أن يستدير إلينا فيهددنا أنفجاره بأفظع النتائج عن هذه الظاهرة تتم كثورة نفسية في داخل الفرد، كما يمكن أن تظهر في صورة ظاهرة اجتماعية، (عن اللاوعى، المجلد العاشر من المؤلفات الكاملة، ص 25)(*). 
لقد صدق تاريخ  العالم حدس يونج واستيقظ الوحش الأشقر وفجر حمم الكارثة، فهل نقول إليوم أنه ظلم نيتشه فصوره (كما فعل توماس مان بعد ذلك في روايته الرائعة عن الدكتور فاوستوس التى تحمل ملامح من نيتشه ومن المؤلف الموسيقى الغريب الأطوار أرنولدج شينبرج ..) في صورة النمط المعبر عن الوحش الأشقر، أم أنه أنصفه حين أكد أنه عبر عن ذلك "البربرى" الكامن في طبقات اللاوعى السفلى من كل جرمأنى وفي أعماق نيتشه نفسه وتجربته؟ مهما يكن الأمر فأن يونج قد اهتم من الناحية العلمية البحتة بإبراز قوى الدوافع "النمطية الأولية" التى وصفها نيتشه نفسه وأعلن عن عواصفها وصواعقها المقبلة وحذر من أخطارها، وكأنهما كأن هذا الشاعر الفيلسوف "الخبير بالنفوس" هو ساحر العصر الذى يستحضر أرواح الشياطين المدمرة، ويتنبأ بالكارثة المحتومة، ويعرى الأقنعة الحضارية والأخلاقية والفكرية الزائفة لتسقط وسط الحطام الهائل المتراكم على صدر أوربا العجوز: "ويل لهذه المدينة العظيمة - وأنا الذى تمنيت أن أشاهد أعمدة النار التى تحترق فيها! لأن هذه الأعمدة النارية يجب أن تسبق الظهر العظيم. ومع ذلك فلهذا أوأنه وقدره الخاص!!"
أن هذا النص الذى نجده في زرادشت كما نجد أشباهه في كتب نيتشه الأخرى يدل دلالة واضحة على أنه كأن فيلسوف الكارثة. ومع ذلك فأن أمثال هذه النصوص المزدحمة بصور الخراب ورموزه لا يصح أن تغرينا بتفسيرها تفسيرا تاريخيا ضيقا، ولا يجوز أن تنسينا لحظة واحدة أنها تعبر تعبيرا رمزيا عن "الزلزلة القادمة" التى ستتبعها إشراقة "الفجر الجديد" (ولا ننسى أيضا أن الرموز الأصيلة ذات أبعاد عميقة متعددة).
ونسأل أخيرا: ما هى هذه الزلزلة؟ وما هو هذا الفجر الجديد؟ ليس من السهل أن نحدد ما يقصده نيتشه بهاتين الكلمتين أو بغيرهما من كلماته ومصطلحاته الفنية المليئة بالإيحاءات والإشعاعات. ولكن ليس من الصعب كذلك أن نرى - على ضوء ما سبق وما سيأتي بعد أن نيتشه يمثل "صدعا في تاريخ البشرية" (والتعبير لفيلسوف الحياة لودفيج كلاجيس الذى تقدمت الإشارة إليه). ولقد أكد تأكيدا لا مزيد عليه أنه "آخر العدميين"، وأن رسالته هى الكشف عن تصدع عصره "البرجوازى" وأنهياره على رؤوس رجاله الجوف، وتعرية وعيه الكاذب بأسره، وتغيير ألواح قيمه التى فقدت قيمتها بعد أن تداعى عامود النظام الميتافيزيقى الذى كأن يستند عليه، ولكن من الذى سيطلع هذا الفجر الجديد؟ من الذى سيحول القيم من اللوجوس (المنطق والجدل العقلى) إلى البيوس (الحياة وإرادة المزيد من الحياة)؟ وأخيرا من الذى سيبدع هذا العالم الجديد؟ أنه جيل المبدعين من أفراد الإنسان الأعلى . وليس الإنسان الأعلى على الإنسان المبدع.  ومن أجل هذا الإنسان الذى اشتدت حاجتنا إليه كتب هذا البحث، تحية للمبدعين الحقيقيين ولكل من يساعدهم على فهم أسرار الإبداع.  

الجمعة، 28 أكتوبر 2016

نيتشه وعلم اللاهوت

د. مراد وهبه 

في كتابه المعنون "تاريخ الفكر اللاهوتي" يقول عالم اللاهوت الألماني بول تليخ "أن فريدريش نيتشه هو من أعظم المفكرين الذين  أثروا ,مؤخرا ,في تطور علم اللاهوت وذلك بسبب هجومه على المسيحية (1) وهذا النص يعنى ان ثمة نقطه التقاء بين نيتشه وعلم اللاهوت .
والسؤال أذن :-
أين تقع نقطة الالتقاء ؟
أنها تقع بالضرورة عند مفهوم الله بحكم أن علم اللاهوت محوره الله في علاقته مع العالم ومع الإنسان .
والسؤال:
ما هي  مكانة الله في فلسفة نيتشه ؟
في كتابة المعنون "هكذا تكلم زرادشت " يقول نيتشه :
"آيها الإنسان الأعلى, تعلم منى. في السوق لا أحد يؤمن بالإنسان ,الأعلى .إذا أردت أن تتكلم هناك فاذهب,ولكن الغوغاء تغمز وتقول: نحن جميعا متساوون …
أيها الإنسان الأعلى - هكذا تغمز الغوغاء - ليس ثمة إنسان أعلى . فالإنسان هو الإنسان .وأمام الله نحن متساوون …أمام الله ! ولكن الآن الله قد مات … دعونا نرفض أن نكون متساوين أمام الغوغاء "(2)
فى هذا النص ثمة مفهومان ينفى أحدهما الأخر وهما الله والإنسان الأعلى،  بمعنى أن الإنسان الأعلى لا يتحقق إلا إذا كان الله قد مات . وهنا ثمة سؤال لابد أن يثار :
من هو هذا الإله الذي قد مات عند نيتشه ؟
نجيب عن هذا السؤال من تاريخ الفلسفة. ففي العصر اليوناني القديم أتهم سقراط بأنه ينكر الآلهة, وبأنه يتجول في الأسواق لكي يحث الغوغاء على قبول هذا الإنكار فحكم عليه بالإعدام. وحقيقة الأمر أن سقراط كان ينكر آلهة معينة ويبحث عن بديل لها. وبفضل هذا الإعدام, وعلى الرغم منه, أتخذ الفلاسفة مسار لولبيا يتسم بحركة ديالكتيكية تترجم بين السلب والإيجاب. فمفهوم الله عند أفلاطون ليس واضحا فهو تارة الموجود الكامل أو المعقول في مقابل العالم المحسوس على نحو ما هو وارد في محاورة "فيدون" . وفي "المأدبة" يوحد أفلاطون بين الواحد ومثال الخير أو بين الواحد والجمال ذاته, أما أرسطو فالله عنده هو المحرك الأول وهو لابد أن يكون واحدا ومع ذلك يقول إلى جانب المحرك الأول عقول أزلية أبدية مثل الله,   وبأن هناك عقول صرفة مثله تماما. ولكن على الرغم مما يبدو من غموض في مفهوم الله عند أفلاطون أو أرسطو إلا أنهما متفقان على أن الله مفارق, وقد أصبح هذا المفهوم عن الله أنه مفارق هو السائد عند الفلاسفة الذين يؤمنون به باستثناء مذهب وحدة الوجود الذي ينكر هذا العلو لأنه يوحد بين الله والطبيعة كما هو الحال عند سبينوزا.
وقد أتخذ أصحاب مفهوم الإله المفارق مسارات متعددة في البرهنة على وجوده حتى جاء كانط وانتقد علم اللاهوت الذي يدور على التسليم بإله مفارق ويبرهن على وجوده, وحصر كانط هذه البراهين في ثلاثة: البرهان الأنطولوجي والبرهان الطبيعي والبرهان الطبيعي الإلهي. والبرهان الثاني والثالث يعتمدان على البرهان الأول فإذا ثبت أنه فاسد لزم أن البرهانين الأخريين فاسدان. ويبرهن كانط على فساد الأول بدعوى أنه يعتمد على تعريف الله بأنه الموجود الحاصل على جميع الكمالات. والوجود من الكمالات لأنه لو كان الكامل غير موجود لكان ناقصا وهذا خلُف. ونفَيْ كانط لهذا البرهان الأنطولوجي مردود إلى سببين. السبب الأول أن الوجود ليس كمالاً من الكمالات لأنه لا يضيف شيئا إلى معنى الله. والسبب الثاني أن هذا الوجود هو وجود ذهني وليس وجودا عينيا. والانتقال مباشرة من الوجود الذهني إلى الوجود العيني لا يتم بالحدس العقلي. والعقل الإنساني ليس حاصلا على هذا النوع من الحدس, ومن ثم فهو انتقال غير مشروع. وتأسيسا على ذلك ينتفي نظريا وجود إله مفارق. 
وأغلب الظن أن هذا النفي النظري لإله مفارق هو الممهد لموته على نحو ما يرى نيتشه. ودليلنا على ذلك مسألتان : المسألة الأولى أن ثمة علاقة تضاد بين نيتشه وعلم اللاهوت الكلاسيكي الذي يعتمد إلها مفارقا كعلة غائية. ويرى نيتشه أنه ليس من حقنا أن نبحث في طبيعة الوجود لكي نصل إلى العلة الأولى, أي ليس من حقنا الاستناد إلى البرهان الطبيعي لإثبات وجود إله مفارق. أما مفهوم الغاية فهو من اختراعنا لأنه ليس ثمة غاية في الواقع(1) أما المسألة الثانية فتدور على ما حدث لعلم اللاهوت من تطور في الستينات من القرن الماضي, أو على وجه التحديد بعد موت نيتشه بحوالي ستين عاما. ففي مارس عام 1963 صدر كتاب للأسقف وولوش جون روبنسون عنوانه "لنكن أمناء إلى الله" يقع في 141 صفحة من القطع الصغير. وصدرت منه تسع طبعات في ذلك العام منها أربع طبعات في شهر مارس. وصدرت منه 350.000 نسخة. وقبل صدوره بأسبوع نشر روبنسون مقالاً في جريدة "observer" تحت عنوان "أن صورتنا عن الله يجب أن تزول" أما الكتاب فيدور كله على التدليل على ضرورة زوال مفهوم الإله المفارق أو الإله الذي هو "هناك" أو الموجود الذي هو فوق لأن هذا الإله قد مات.
وفي عام 1966 أصدر توماس التيزر كتابه الضخم المعنون "إنجيل الإلحاد المسيحي" جاء فيه "أن الله قد مات في زماننا" وفي تاريخنا , وفي وجودنا وأن نيتشه قد اقتضى هذا المفهوم في القرن التاسع عشر , وبقى على اللاهوتيين في القرن العشرين التبشير بهذا الحدث وسط الجماهير على الإطلاق, والجماهير المسيحية على التخصيص ذلك أن المفهوم التقليدي عن الله من حيث هو مستقل عن العالم المخلوق ليس إلا مؤقتا من أساليب التفكير, وإسقاطا  للاغتراب الذي يعاني منه الإنسان مع ذاته وقد جاء الأوان للتحرر منه.  وأننا في حاجة إلى  إيمان جديد ينبع من تصورنا أن الله متطور وفي حركة دائمة. وأن هذا الإيمان الجديد ينفي المفهوم الكلاسيكي عن الله.
وفي عام 1966 نشر وليم هاملتون كتابا مع توماس التيزر  عنوانه "اللاهوت الراديكالي وموت الله" ويرى هاملتون, على الضد من التيزر أن المسألة ليست مسألة تحديد موت الله عند فترة معينة في التاريخ وإنما المسألة تقف عند حد أن "موت الله هو حدث تاريخي ثقافي تم في أوربا وأمريكا في القرنين الأخيرين" وما على الإنسان إلا التكيف مع هذا الحدث, وقبول الموت التاريخي الثقافي لله لأنه لم يعد صالحا لتحريره من القلق واليأس. ومع ذلك فأن هاملتون لم يفقد الثقة في عودة الله بشرط أن يؤدي دورا جديدا. وهو في ذلك قريب الصلة بدافع صمويل بيكت في روايته المشهورة والغامضة المعنونة "في انتظار جودو" ومن ثم تصبح حركة موت الله مزدوجة بمعنى أن تكون مسيحيا تعادل أن تكون منتبها إلى العالم ومبتعدا عن الدين, ولكن مع انتظار جودو في إطار يلائم هذا العصر التكنولوجي. ويعتقد هاملتون أن هذه الرؤية الجديدة تعبر عن مرحلة ما بعد عقدة أوديب, وهي عقد نشأت بسبب قتل الأب.
يبقى بعد ذلك بول فان بورن الذي يسير في اتجاه لاهوت موت الله, ولكن استناداً إلى التحليل اللغوي وذلك في كتابه المعنون "المعنى العلماني للإنجيل" فهذا القس البروتستانتي يرى أن القضية التي تقول إن "الله موجود" هي بلا معنى في ضوء مبدأ التحقيق الذي يشترط مطابقة القضية للمعطيات الحسية لكي يكون لها معنى. زمن ثم فهو يذهب إلى أبعد مما ذهب إليه نيتشه, إذ أن لفظ "الله" لم تعد في حاجة إليه لأنه بلا معنى 
هذا موجز لعلاقة نيتشه بحركة لاهوت موت الله وهي حركة تميزت عن الحركات اللاهوتية الأخرى بأنها حاولت أن تكون جماهيرية, ولهذا كانت منتجاتها رخيصة الثمن. ومع ذلك فأنها لم تستمر إذ توقفت عند السبعينات مع بزوغ الأصولية المسيحية كحركة جماهيرية 
وفي ضوء هذه النتيجة نثير هذا السؤال العمدة : ما العلاقة بين الجماهير والنخبة ؟ 

الخميس، 27 أكتوبر 2016

نيتشه بين فلسفة التاريخ والأخلاق

د.  على حسين الجابري
المقدمة :

نعرض في هذه الدراسة لفلسفة نيتشه في التاريخ والأخلاق بالمقارنة مع هيجل. وقد قسمناها إلى قسمين الأول حول فلسفة نيتشه والثاني مقارنة ذلك مع فلسفة هيجل.
فر يدريك نيتشه ( 1844-1900 ) مفكر فرزه القرن التاسع عشر بعد وفاة مواطنه هيجل بسنين قليلة, ليساهم هو الأخر, بنصيب ملحوظ في توجيه الفكر الأوربي الحديث   بعد أن سحر ببريق الدارونية, مستبطنا تاريخ العالم, يتصيد منه ما يؤيد فلسفته الخلقية, التي كانت في مجملها, حملة شعواء على قيم  عصره  محاولا إنقاذ الإنسانية والحضارة من التحلل الذي أصابها   وكاد يهددها بالسقوط. وبذلك حول نيتشه الفلسفة – كما يقول لافريه – إلى سلاح مصقول في صراعه من أجل الحفاظ على الذات  التي ركبها من خليط عجيب، اجتمعت فيه صورة الفيلسوف بالفنان المأساوي ، والقديس .
لقد تميز نيتشه بنظرة بيولوجية في تحري تاريخ الإنسانية، الماضي, ومظاهر الانحلال  الأوربي المعاصر, فأعلن نقمته على أوربا, قائلا "كل حضارتنا في أوربا ما زالت تئن وتتلوى كأنها في انتظار الكارثة"  لقد سيطرت الكمية على حساب النوع, وصارت الحضارة الخلاقة تختنق شيئا فشيئا, بدخان الانتاج الصناعي الجبار, فتطور الإنسان الخارجي , على حساب الإنسان الداخلي .
وكما وجدنا هيجل مرآة عصره, ظهرت أفكار نيتشه  مصطبغة بما عاناه من ظروف حياتيه وتربوية واجتماعية سيئة, دفعت به إلى أن يثور على أسرته وأصدقائه وعصره مدفوعا وراء نداء داخلي, يحثه على اتخاذ الموقف الذي يؤهله إلى احداث ثورة في ميدان الفكر  ويحق لنا أن نعده فيلسوفا غلب على تفكيره الجانب الخلقي المحكوم بالقوانين البيولوجية الصارمة, استبطن التاريخ باحثا لفكره عن موقع.
2- فلسفة ، نيتشه والتاريخ:
فكما وجدنا تاريخ هيجل محكوم بمنطقه، عمل نيتشه على أن يحكم التاريخ بأخلاقه فالتاريخ كله، عند هذا الفيلسوف يسير مدفوعا بإرادة الظفر خلال قوة لا تعرف الرحمة، أن القوة هي المبدأ الأول للحياة… وإن عذاب الكثرة ضروري للانتصار القلة، وأنبل عمل في العالم هو شن الحروب  لتحقيق طموحات القلة.
وهدف السادة الأقوياء، قلب المجتمع القديم (فالأنا) الكلي المقدس أو (الأثرة) المباركة، تعتمد على قوانين التطور التي لا رحمة  فيها والروح السامية لديه هي التي تبلغ أقصى درجات الأثرة.
سعى نيتشه من وراء ذلك إلى ممارسة عملية الهدم ليتسنى له البناء، فجاء ملخص رأيه في القيم قريبة من مقولة السوفسطائيين "الإنسان مقياس كل شيء"  حيث صبها في العبارة التالية "قيمة الأشياء ليست في ذاتها، وإنما الإنسان هو الذي يصنع القيم للأشياء، فخالق القيم إذن هو الإنسان 
فدعا إلى قلب القيم السائدة. وحاول متأثرا بالدارونية ، أن يرد القيم الأخلاقية إلى أصول حيوية عضوية  رافضا قيم عصره في كتابه "إرادة القوة"  بمحاولة فلسفية جدية، تناولت المبحث الفلسفي الجديد "القيم" بما ينم عن سعة تفكيره حيث عبر عن الفلسفة الكامنة في كل تقدم أحرزه العقل البشري في تأكيده على خلو العالم من القيم التي لا يخلقها الإنسان ذاته، والتي لا تضيفها على العالم ألا مطالبة وحاجاته  دون أن يعوقه عائق.
أن الحياة هي المحور الذي ربط من خلاله نيتشه بين الإنسان والقيم، ويضيفها فيما بعد، على كل ما في الطبيعة من مظاهر "فالحياة" أصل القيم العقلية والأخلاقية 
 أما فلسفته في التاريخ فيمكن متابعتها في الأخلاق ومبحث الصراع الذي يحكم العلاقات بين الناس،  منذ أقدم العصور .  والحضارات الكبرى، نشأت هي الأخرى بفضل الجهود العظيمة التي قامت بها طائفة من الأرستقراطيين (على شكل حيوانات شقراء) حينما فرضت إرادتها على الشعوب التي قطنت أسيا وأروبا، فكانت أساسا لنشأة الحضارات اليونانية والرومانية والجرمانية  حيث اخترعت لها الشرائع من القيم الأخلاقية المستندة على قوة جسمية وصحة زاهرة… وكل ما يتصل بالقوة والغزو والحرب والمخاطرة والصيد والرقص والألعاب البدنية  وظهر ذلك جليا في المدن اليونانية التي تحقق فيها بنجاح ذلك الانتصار المتمثل بالقول والتحطيم الباعث على شعور الأرستقراطي الأخاذ بالفوز وهو يعذب الأخرين .
ومن أجل ضمان ديمومة نفوذ هؤلاء الأرستقراطيين عملوا على تطبيق برنامج تربوي يتناول الفرد والأسرة. ويؤكد على الجسم والعقل، فكانت أسبرطة عزاء للنفوس المريضة.
ولا يعتقد نيتشه. أن كل إنسان (بالطبع) إما سيدا أو عبدا بل المقياس هو في انضواء الإنسان (بالتربية) تحت واحد من الأنماط الأخلاقية المتناقضة، وشعوره بالأنتماء إلى :
1- جماعة حاكمة تشعر باختلافها عن الجماعة المحكومة شعور يصاحبه إحساس بالسرور لتوكيد الذات (النبيلة) التي هي عنوان "الخير" 
2- أو جماعة محكومة (العبيد) الخاضعة للحكام الأشداء.
  أما مواصفات السادة عند نيتشه، فقريبة من وصف ارسطو للرجل ذي الروح العظيمة   
والتاريخ عنده يلخصه ذلك الصراع بين الحاكمين والمحكومين، بين السادة والعبيد وهو بالتالي صراع حاد بين أخلاق وقيم السادة  وأخلاق وقيم العبيد، حيث يبدأ العبيد بثورتهم، فيقلبوا ما أصطلح عليه السادة من أوضاع، فيبدلون قيم السادة بقيمهم المتخلفة، ويحاول السادة إعادة الأمور إلى طبيعتها بصراع مضاد.  أن هناك حربا شعواء بين قيم السادة، وقيم العبيد، وحرب العبيد ضد السادة في عرفه غير متكافئة، لأنها تعتمد على "القوة" و "البساطة" و "الشجاعة" بل دعامتها "اللؤم" و (الخبث و الضعف)  فيصبح الخير شرا والعكس بالعكس مما يحفز السادة إلى استعادة مكانتهم وحماية قيمهم، ويتحقق لهم ذلك لأن ذلك أخلاقهم أخلاق "أقوياء" ومقياس أخلاقية الفعل  عند نيتشه هو تعبيره عن روح "القوة"  التي يستشعرها المرء في ذاته،  وهذا  الفعل يجب أن يلائم تلك النفوس الزاخرة التي تشعر بأنها هي التي تمنح القيم وتخلقها . ولكن بسبب تكتل العبيد، "وكثرة" عددهم، يتحقق لهم الانتصار على السادة.
هذا هو جدل الصراع عند نيتشه، صراع ثنائي بين قيم متناقضة ورغبات متفاوت، تلعب فيه القوة تارة – دور المؤثر تقابلها الكثرة تارة أخرى وإن التاريخ صراع بين قيم القوة والكثرة مسيرة هذا الصراع متفاوتة بين الهدم والبناء ومهمة السادة (الهدامين) (الخالقين) كما أعلنها "زرادشت" هي العمل على (هدم) قيم العبيد، وبناء عالم (الأقوياء) بما يمهد لظهور رمز التطور التاريخي البيولوجي ونعني به (الإنسان السامي – السوبرمان).
يقابل ذلك نقيض يعمل (يهدم) قيم السادة، وبناء البديل الخلقي لعالم الكثرة والضعفاء ونعني به مجتمع المساواة، المعتمد على قيم يسميها نيتشه ( الضعف والذلة والخنوع)  
لقد جسد نيتشه (تاريخ العالم) بتأريخ الصراع بين القيم، مقتفيا أثر هيجل في استقراء مراحله، وأن مال إلى التفصيل، بفضل تأخر زمانه عن زمان هيجل وتوسع الدراسات التاريخية خلال تلك الحقبة، فظهرت له سلسلة الصراع بين (القوة) و(الكثرة) بتعاقب زمني لا يخلو من الانتخابية فكانت :-
1- المرحلة اليونانية التي تمثل التنافس الخالي من العاطفة، المعتمد على (إرادة القوة) على مستوى الواقع الاجتماعي "والفكري" لذلك لم يفقد الحماسة لمن سبق سقراط من الأغريق، ممن استخدموا طرقا تربوية لإنشاء الأفراد المتفوقين، العظماء المختلفين عن "هؤلاء الذين يدينون بوجودهم للصدفة وحدها"  
2- المرحلة المسيحية التي هي شذوذ عن الحقيقة، وإن كانت تعبيرا عن "قوة" الضعفاء (وكثرتهم) لكنها لا تطلب السيطرة على العواطف بل تطلب وأدها، وعملت على اعتبار الدافع (الجنسي) شيئا قذرا  مع أنه بالإمكان تهذيبه وهزأ بفكرة الحياة الثانية، وعالم آخر حلم فيه المسيحيون، حيث يقتص فيه الضعيف من القوي 
3- عصر النهضة وهو مرحلة كادت فيها أخلاق السادة أن تعود إلى أصالتها اليونانية (ممثلة بالنبلاء) لولا حركة الإصلاح الديني التي حالت دون عودة أخلاق السادة.
4- الثورة الفرنسية وهي من أخطر المراحل التي سيطرت فيها أخلاق العبيد ، ورفعت شعار (الحرية، الأخاء، المساواة) وغيرها من قيم (متخلفة) في مفهوم نيتشه.
5- المرحلة النابليونية أمل الأقوياء وحلم السادة، تحقق على يد نابليون (القوي) الذي لا يعرف (الرحمة) أنه "مزيج مما هو غير إنساني، ومن فوق الإنساني والذي يؤكد "امتياز العدد القليل على الأغلبية"  ولكن بسقوطه، زال أخر شعاع من قيم السادة في أوربا 
6- القرن التاسع عشر يمثل انتصار لقيم العبيد، التي اعتبرها علة انهياره، وسبب أزماته، ولم تشفع معه حتى الأخلاق (البرجوازية) التي أنتقدها نيتشه  بشدة  واعتبر النضال من أجل "الأهداف الاجتماعية" رجوعا بالإنسان إلى الوراء  وعلى خلاف هيجل، قال نيتشه بفكرة الشعب المختار، وقصد به الشعب الذي "يلائم رجاله زمانهم فيأتون أضدادا لمن لا تتفق أحوالهم مع الزمان"  وترك ذلك للتأريخ .
3- علاقة التأريخ بالأخلاق
أشرنا إلى  أن نيتشه واحد من فلاسفة الأخلاق، وكانت فلسفته في مجملها انتقادية لقيم عصره، لقد رفض أن تكون (أوامر الله) أو أحكامه  منبع الأخلاق.  بل الطبيعة الإنسانية وغريزة حب السيطرة وإرادة القوة هي مكمن الأحكام التقويمية، لا العقل الإنساني .
لقد طرح "المصدر الإلهي" و "العقل الإنساني" من التأثير على الأخلاق وقرنها (بالأنانية) ونقل ذلك إلى تاريخ الفلسفة، بذات المنطق، منطق الصراع بين (أفكار) العبيد، فاعتبر ثورة سقراط الفلسفية، انتصار لقيم العبيد، على أفكار السادة و (أفكار) العبيد، فاعتبر ثورة سقراط الفلسفية انتصار لقيم العبيد على افكار الفلاسفة العظماء من السابقين عليه .
فهاجم هذا الفيلسوف ناعتا إياه بشتى نعوت الضعف والخور كما اعتبر المسيحية مصدرا لقوة العبيد، من هذا جاء تاريخ العالم بعد المسيحية، ممثلا لسيادة قيم العبيد وأخلاقهم، وما ظهور أخلاق السادة ألا عرضي .
ولم تكن هذه السيادة كافية لأقناع نيتشه بمشروعية أخلاق العبيد، بل اعتبر هذه الأخلاق غريبة عن الواقع، وتتعارض مع قوانين الطبيعة الحقيقية 
إن نيتشه في كل ذلك كان مدفوعا بمنطق (الصراع) الذي كان يحكم فلسفته التأريخية والأخلاقية، على أساس (إرادة القوة)، فانتقد الفلاسفة الذين ادعوا أنهم حسموا المسألة الأخلاقية لصالح العصر، دون أن يعلموا، أنهم فشلوا في ذلك فشلا ذريعا، بسبب قلة معلومتهم، عن الماضي (التاريخ) وعدم اهتمامهم به، ولما كانت المشكلات لا تبرز ألا بمقارنة كثير من النظم، بعضها مع بعض  جاءت تحليلاتهم مضطربة وناقصة.
إن كتابه "أصل نشأة الأخلاق"  تضمن تفصيلات لا بأس بها لمسألة الصراع بين الخير والشر، والحسن والرديء، بين السيد والعبد، تنسجم ومنطقه التاريخي العام، لكنه يضطرب في كتابه "أفول الأصنام" حينما اعتبر كلا من أخلاق السادة وأخلاق العبيد، نمطين من الأخلاق، كلا منهما جديرا بالأخر . وبذلك استعار من هيجل منطقه الجدلي التأريخي، حينما جمع المتناقضات ليوجد المركب، مع أن نيتشه لم يؤشر لنا معالم ذلك المركب، وهو القائل أن الخير الأعظم يكمن بالشر الأعظم. لكنه قصر (السوبر مان) على السادة دون العبيد، وألا لأصبح ذلك الإنسان السامي هو المزيج الأفضل لجدلية (السادة والعبيد).
خلاصة القول : أن نيتشه لم يعترف بالنظام الأخلاقي إطلاقا، لأنه (استبداد) "يناقض الطبيعة والعقل"  ولكونه ينبع من معين أخلاق العبيد أما (الأنانية) فهي وحدها التي ارتقت بالإنسان من حالة الحيوانية إلى الإنسانية ، وستكون سببا بارتقائه إلى الكمال (السوبر مان) وبذلك كان نيتشه أمينا على منهجه التطوري البيولوجي التاريخي الذي تحكمه قاعدة "البقاء للأقوى" لأنه "الأصلح" والتي فرضت ارتقاء الكائنات جيلا بعد جيل. كما أنها فرضت قيما جديدة. لتحقيق "غاية الحياة" و"هدف" الإنسانية ونعني به ولادة "الإنسان السامي – السوبرمان" من صلب الأرستقراطية  التي خصها فيلسوفنا بأحسن الأشياء وأفضل الامتيازات وطالب الأكثرية (الضعيفة) بفضيلة (القناعة)   
أما النظم الخلاقية، فلقد هاجمها نيتشه، ودعا إلى (هدمها) لأنها وصفة يعيش بها المرء مع عواطفه، ليس ألا، فهي : من ناحية الشكل تسير على نسق غير معلوم كما أنها غير معقولة لأنها موجهة للجميع، فهي إذن تعميم ومن المستحيل أن إخضاع الناس إلى قوالبه مثلما من المستحيل أن يحيا القديس أوغسطين حياة أرسطو فرفض على هذا الاعتبار قيم "الشفقة" و "المساواة" و "المحبة" و "التعاون" و "العطف" و "الرحمة" …الخ. لأنها قيود اخترعها الضعفاء لتقييد الأقوياء كما رفض نيتشه كل إرث اجتماعي وتراث خلقي، ليعرض على الناس بضاعته (الأخلاقية) المتمثلة بقيم العصر الذي حلم به، وعاشه في داخله فدعا إلى المبادئ التالية:
1- مبدأ "الهدم" لكل ما هو قديم   
2- مبدأ "الحرية الفردية" ، وتحطيم القيود، ليكون الإنسان القوي فوق كل القيم والقوانين والناس والأخلاق .
3- مبدأ الفضيلة القصوى (الألم) والشعور بالخطر الدائم والتحفز والمجازفة .
4- مبدأ (الانتحار) والموت الاختياري، يمارسه الإنسان حينما يشعر أن النفس توشك على الذبول، والخمول، وفقدانها لقدرة الإبداع والخلق والإنتاج  يحثه مبدأ (عودة الحياة) وتكرارها مستقبلا.
5- مبدأ "الدورة" والعود الأبدي لحيواة مستقبلية، بهدف تجاوز رهبة الموت، فزرادشت يدعو إلى ذلك اليوم الذي تعود فيه من جديد سلسلة العلل التي أنا مشتبك فيها، وستخلق من جديد، وكأنه بذلك حقق انتصارا على مسألة "الموت" التي فشل جل المفكرين في حسمه لصالح (خلود الإنسان)  في عالمنا الأرضي.
6- مبدأ "الغائية"  و "الهدفية" في الحياة، قصد نيتشه من ورائه، السمو بالحياة نحو درجة أفضل، وبالإنسانية نحو نوع أرقى، ولا وجود غيرها، وإرادة الحياة، هي مقياس القيم في الحياة بسبب كونها، كفاحا لا هوادة فيه ولا رفق .
7- مبدأ "موت الآلهة"  ويمثل قمة تطرف هذا الفيلسوف، لأنه بذلك نسخ كل ما دعت إليه العقائد السماوية والأرضية : قصد من ورائه تهديم الجوهر الذي ترتكز عليه الأخلاق والطبيعة والمجتمع، مسوغا ينسجم ودعوته للعود الأبدي وتكرار المراحل.
إن الفلسفة الخلقية لنيتشه، عصارة"إنفجارية" حفزت عليها ظروفه النفسية والاجتماعية وضجيج هائل من الأراء والأقوال والادعاءات كانت تزخر بهاسوق الفكر، فحاول تجاوزها بالحديث عن الإنسان والكون بمنطق التطور العشوائي اللاواعي، فالإنسان عنده وتر مشدود بين الحيوان والإنسان الأعلى، وتر على هاوية فعلية إذن بهذا المنطق، أن يتشبث من أجل تحقيق النقلة النوعية، لا في الإطار البيولوجي بل وكذلك في حيز الأخلاق وفق المعايير التالية: 
(الخير) هو كل ما يرفع في الإنسان الشعور بالقوة وإرادة القوة  أما (السعادة) فهي الشعور بأن القوة تنمو وتتزايد باستمرار و (الحرب) طمأنينة الإنسان، والسلم حتفه (المهارة) درجة تسمو بنا نحو "الذات" بعيدا عن فضائل (الضعف). و (الشفقة) رذيلة من أشد الرذائل، لأنها نقيض لمبدأ إرادة القوة وجوهر الوجود. أما (الصراحة) فهي صفة تنم عن (الشجاعة) يناقضها "الضعف والعجز" كصفات مرفوضة، يتوجب علينا تطهير المجتمع منها حبا بالإنسانية و(المخاطرة) توتر دائم يشد الإنسان إلى قدرة السامي ويدلل على "الحيوية" باعتبارها صفة محببة من القوى لتجاوز (الخمول)، أما (العود الأبدي) فهو إيمان يساعدنا في السيطرة على الزمن ويشعرنا بقدر من الحرية. أن (الإيمان) مقولة لا تتحقق في أخلاق نيتشه ألا بموت الإله، ليكون الإنسان (السوبرمان) هو البديل.
أما (الشرف) فكلمة يكتنفها الغموض في قاموس الأقوياء، وتدلل على المسكنة والقذارة والغرور. و(الذكاء) قدر معقول يمتلكه الإنسان ليتكيف مع طوحاته. وليس هو كل شئ، بل يساهم مع الجسم بنصيب متساو في استيعاب الظواهر الخارجية.
و(العدل) حجر يقدح شررا ولا يشتعل. و(الراحة) مستنقع يشجع على الثرثرة – أما (المرأة) فمخلوق يوجب الحذر، لكنها جديرة بالاحترام لأنها ستساهم في ولادة السوبرمان. لا تحتاج إلى (العفة) لأنها في مفهوم نيتشه "أمر قريب من الهذيان" و(المواطنة) عنده تتلاشى أمام عالمية السوبرمان، الذي سنحققه (بالأنانية)، كما تحققت الإنسانية من الحيوانية. 
و(التأريخية) معناها أن يحيا الإنسان تاريخ الإنسانية بأسره من جديد وكأنه تأريخيه، فيجد أمامه ومن ورائه أفقا واسعا مكونا من آلاف السنين.. يشعر أنه الوارث لكل ما تناثر فيها من نبل روحي يحمله مسؤولية كبرى  وهذا ما حاول نيتشه أن يفعله.
الخلاصة :
  لقد سعى نيتشه، في فلسفته التاريخية والخلقية، إلى إيجاد الإنسان (النموذج) المتطور فيزيولوجيا، باعتباره المثال الرومنطيقي الفني (السوبرمان) المقابل للحالة التي كان عليها هذا الفيلسوف. مستخدما القوانين الطبيعية في تفسيره لحركة الإنسان، مما أوصله إلى (جبرية) حكمت على الكون وما فيه بالعشوائية   والعمى والتقدم لديه لا يتم إلا باتجاه قوة أعظم، تعتبر جوهر الوجود أنها (إرادة القوة، إرادة الحياة) مستعيرا من الرواقيين نظريتهم في تحرك الحوادث من خلال الزمن كله في سلسلة الدوائر المكررة  والتي تذكرنا بوحدة الكون والدورات الفلكية التي وجدناها في الفكر الرافدي القديم.
إن نيتشه مدفوعا وراء "نظرته الكونية" المؤكدة على سمو الحياة كان ينتقد الفلسفة والدين والأخلاق لأنها لا تحقق "فردية الإنسان" تلك الفردية التي يحث عليها القانون الطبيعي   بعيدا عن قيود الأخلاق الاجتماعية التي اعتبرها هي والأهداف الاجتماعية حالة نكوص في حياة الإنسان  لذلك هاجم الديمقراطية على الصعيد السياسي، لأنها تقف في طريق أطماع الوحوش الأرستقراطية الضارية . أن الركون إلى السلام سيؤدي حتما إلى التراجع والانشغال بالملاهي   لذلك فالحرب وحدها – وبكل أشكالها – هي التي تحفز الإنسان وتديم توتره من أجل التغيير والتفوق.
بعد أن عرضنا – باختصار – لموقف كل من هيجل ونيتشه في "فلسفة التأريخ" المحكومة بالجدلية المنطقية الهيجلية والأخلاقية التطورية لنيتشه ومن أجل أن تتكامل خطوط البحث نستخلص النتائج التالية :
أولا : دياليكتيك هيجل في نطاق الفكر مثله تاريخ الفلسفة والعكس على فلسفة التاريخ، أما عند نيتشه، فعكس الصراع بين السادة والعبيد على الفلسفة أيضا، واعتبر سقراط ممثلا لقيم العبيد، على خلاف هيجل الذي فضله على السيد المسيح.
ثانيا : الوعي : عند هيجل هو مقياس التطور الذي يأخذ منحى صوفيا "اتحاديا" ووحدة وجود كونية، على خلاف مقياس "القوة" الذي يحكم الصراع والتطور عند نيتشه. فالتطور الواعي لا  الأعمى هو الذي يحكم العالم.  لقد اعتبر هيجل أن وضوح الوعي، يفرضه إدراك المطلق في (الجدل) فيكون سببا للتطور المقترن بالحرية، أما نيتشه فاعتبر الأنانية، هي التي رفعت الإنسان من الحيوانية، وستوصله إلى (الكمال)  الأعلى، مقترنة بإرادة القوة.  إن النزعة الصوفية واضحة المعالم لدى كلا الفيلسوفين، فعند هيجل تشخصت (بوحدة الوجود الكونية) وعند نيتشه في حديثه عن المعنى الإنساني الذي يشمل العالم أجمع، وذلك ما تلخص بدعوته إلى الإنسان السامي الذي يشمل التلقائية لا العقل المجرد ولقد ظهر لنا تصوفه جليا في "هكذا تكلم زرادشت" لكنه تصوف معلق بالأرض ممجدا للحياة الحسية.
ثالثا : الحتمية : عند هيجل تمثلت في حكم الظروف للمرحلة التاريخيةالواحدة التي تكون بالضرورة سببا في ظهور المرحلة التاريخية اللاحقة. أما عند نيتشه فتشمل كل المراحل التاريخية التي تحكمها قوانين متشابهة، تلك القوانين التي رفضها هيجل كما رفض فكرة (الدور) و (العود الأبدي) التي وجدناها عند نيتشه.
رابعا : الغائية (الهدفية) سمة جلية في حركة المطلق عبر مسيرة التاريخ إلى أن يتحقق بالفعل : عند هيجل أما نيتشه، فسيرة التاريخ تنتهي بانبثاق (السوبرمان) وانتهاء الصراع بين الطبقات. وكلا الفيلسوفين، واجها صعوبات في التوفيق بين (حركة) التاريخ و(توقفه). لقد واجه هيجل صعوبة التوفيق بين قوله بديناميكية التطور الجدلي، وجبرية المنهج المنطقي الذي يصل إلى نقطة النهاية في (المطلق) ومثل ذلك يقال عن قوانين الصراع الطبيعية التي تنتهي بالسوبرمان. عند نيتشه. 
خامسا : التفاؤلية : يتجه التاريخ الهيجلي محكوما بمنطقه وجهه تفاؤلية تسمو دائما نحو المطلق، على خلاف نيتشه الذي يتشائم في تحريه لتاريخ الصراع. ولقيم عصره، مع أن فكرة (السوبرمان) تبقى ذلك العزاء الذي حاول به هذا الفيلسوف أن يحله بديلا عن (الإله).
سادسا : المثالية الخالصة : نلحظ في فلسفة هيجل منطقا مثاليا خالصا حافظ عليه هذا الفيلسوف حتى في تفسيره للتاريخ على خلاف نيتشه الذي سحب القوانين الطبيعية (البيولوجية) التي تحكم عالم الأحياء، كقانون الإنتخاب الطبيعي والبقاء للأقوى، والصراع من أجل البقاء، وغيرها من قوانين قالت بها المدرسة الدارونية التطورية، ليطبقها على المجتمع الإنساني دون حساب للعقلانية التي ميزت الإنسان عن غيره من الكائنات، بمعنى أن نيتشه لم يدرك مسألة (الوعي) التي اعتبر هيجل تطورها، علامة تقدم خلاق يتجه نحو أفاق رحبة، تنتهي إلى مثالية (الاتحاد بالمطلق).
لقد أخلص هيجل إلى مثالية حتى نهايتها، أما نيتشه فبقى متذبذبا بين حسية فجة ومثالية متطرفة، فلم ينحدر هيجل إلى التطورية الميكانيكية التي سقط فيها نيتشه. بل ميز بين القوانين البيولوجية، وقوانين مجتمع الإنسان. لذلك تحدث عن الطبيعة العضوية باعتبارها تقع خارج التاريخ، لأنها مجرد تكرار وترتيب آلي وهذا ما نظر إليه نيتشه معكوسا، حيث قال "بالعود الأبدي" وسحب المجتمع الإنساني إلى حظيرة المجتمع "البيولوجي" ليتلاشى فيه، بمعنى أنه جعل الأنسان يحتمي بعالم الأحياء الدنيا، ثم يتكلم عن (السوبرمان).
سابعا : دور العقل : العقل في التطور التاريخي الإيجابي محور (الجدل) عند هيجل، أما نيتشه فالدافع "إرادة القوة" المقترنة بالحرية الفردية للسيد الأرستقراطي.   إن هيجل لم يسقط الحرية من حسابه في تطور وعي الإنسان كما لم يسقط الانفعالات الشخصية، لكنه اشترط تهذيبا على قاعدة التوفيق بين (الأنا والنحن) العقلانية.
ثامنا : نشأة الحضارات : عند هيجل خاضعة لمنطق (جدلي ) علاماته إنبثاق الوعي وتجليه في الطبيعة، على شكل نشاطات تنسجم والروح الكلية (المطلقة) متجسدة على شكل جزئيات لا تخرج عن حتمية المنطق، أما عند نيتشه، فتنشأ الحضارات بفضل جهود فردية قامت بها "حيوانات شقراء مفترسة" هي مجموعة الأرستقراطيين السادة. 
تاسعا : فكرة الصراع عند هيجل تحكم كل شئ، لكنها تنتهي إلى التوافق في (المركب) والتي استعارها نيتشه حيث طبقها على التاريخ ووصل إلى ذوات الغايات النهائية في حركة التاريخ (السوبرمان) وانتهاء الصراع حيث كان المنطق الجبري وسيلة الأول والقوانين الطبيعية أداة الثاني.
عاشرا : فكرة الأدوار (الزمنية) خيط فكري يمتد من بلاد وادي الرافدين وقولهم في "الشر" وخصوصا عند "هرمس البابلي" ثم انتقلت إلى هيراقليطس في "السنة الكبرى".
ثم هيجل في (الأدوار اللانهائية) واخيرا نيتشه في "العود الأبدي" 
الحادي عشر : العالم والحياة : وجدنا هيجل لا يؤمن ألا بحياة واحدة، وعالم وحيد ! أما نيتشه فقال بتكرار الحيواة (بالعود الأبدي) لكنه رفض وجود عالم أخر غير عالمنا.
الثاني عشر : مراحل التاريخ، التي لا تخلو من الصراع:
عند هيجل هي ثلاث، (الفرد) الحر الحاكم في الممالك الأسيوية ، والقلة الحاكمة (الحرة) في الجمهوريات اليونانية والرومانية و"الأمة الجرمانية" ذات الثقافة المنتقاة من المسيحية والفلسفة. أما جدلية الصراع بين السادة والعبيد عند نيتشه فتتضمن تفصيلا أكثر، في مراحل "القوة" و "الكثرة" حيث بدأت بالأولى لتنتهي في القرن التاسع عشر  بالثانية مع أنه وعد بالسوبرمان الذي يكمن في رحم الأمة الجرمانية.
وفي تحرينا الدقيق لمسيرة ذلك التاريخ، نجد أن هيجل يعتبر أن تاريخ العالم ما هو ألا صراع وتناقضات واصطدامات،  أما فترات السعادة والتناغم وغياب التناقضات فليست فترات تاريخية. على خلاف نيتشه الذي تشخصت تشاؤميته في القول بسيطرة العبيد على معظم التاريخ.
الثالث عشر : النشاط الإنساني : عند هيجل يتم داخل حركة التاريخ، وجدلية العقل والمادة، وفق قوانين لا يمكن الافلات منها، والأهداف الخاصة للشخصيات التاريخية . تكمن في إدراكها لإرادة الروح ، وانسجامها مع قوانين الدولة والمجتمع الكوني، أما عند نيتشه فتعتمد على أساس (الأنانية) و (القوة) والبطش فالسوبرمان، فوق كل القيم والقوانين والناس والأخلاق والمؤسسات، أنه إنسان فوضوي، يجسد أخلاق الأرستقراطيين بكل مواصفاتها الاستعلائية. وهذا يناقض ما قاله نيتشه حول القوانين الطبيعية وضرورة الأنقياد لها.
ويبدو لنا في نهاية المطاف أتفاق في الموقف بين كلا الفيلسوفين، حينما أكد هيجل على توافق سلوك الإنسان مع قوانين العقل المطلق، ومع الطبيعة عند نيشه وبذلك وقعا في فخ الجبرية، دون أن يجدي – اشتراط الحرية – نفعا فالمطلوب طاعة الأخلاق الموضوعية في الدولة عند هيجل وتحقيق الفردية المتزمتة (الأنانية) عند نيتشه، مقترنة ب"خضوع" الأكثرية.
الرابع عشر : اهمال تراث الشرق الحضاري : حيث وجدنا كلا من هيجل ونيتشه يبدأ في حديثه عن حضارة اليونان بما يوحي وكأن الأمم السابقة عليهم كانت متخلفة، وتاريخها عقيما وبذلك أسقطوا منجزات حضارية في منتهى الأهمية لو أحاطا بها نظرة "أوربية" متعصبة وعنصرية. وأن أعلن نيتشه تجاوز أوربية هيجل إلى "عالمية" السوبرمان، لكن ذلك لن يغير من المحصلة النهائية لمجمل النظرتين.
الخامس عشر : الموقف من المسيحية كفكر ومرحلة : المسيحية النقية عند هيجل المقترنة بالصواب مع ما جاء به الفلاسفة تمثل لنا "الثقافة الجرمانية" الحقيقية الصالحة لمجتمعه، المجلية لوعي أوسع والمجسدة للروح الكلية. كما تجسد في ثالوثها وطبيعة السيد المسيح – الجدل الهيجلي بصورة واضحة أما عند نيتشه فالمسيحية مرحلة سقوط لأنها تمثل أخلاق العبيد هاجمها، كما هاجم السيد المسيح.
أن النقطة المشتركة بين كلا الفيلسوفين هي في مهاجمة المسيحية كما عرضها الكهنوت، وما تركته من تطبيقات تحكمت فيها مشيئة الأباء من أجل كسب ود الحكام. 
السادس عشر : الموقف من نابليون : مع أن الفيلسوفين يفيضان أخلاصا للأمم الجرمانية، وجدناهما يشتركان في تبجيل نابليون، لكن هيجل نظر إليه كرجل تاريخ من الطراز الأول، واع لمرحلته، مدرك للمهمة التي فوضتها الفكرة المطلقة إليه، أما نيتشه فنظر إليه على أنه قوي لا يعرف الرحمة.
السابع عشر : المسألة القومية : حظيت هذه المسألة باهتمام متفاوت من كلا الفيلسوفين، وبين أيدينا ما يؤيد شعورهما بالأنتماء الجرماني فقال هيجل "بالثقافة الجرمانية" علاج أمراض العصر الهيجلي، لكونها متفقة مع اختبارات (الروح) التي كانت ترفض بقاء النظام الأقطاعي في ألمانيا، ووجدت في نابليون، منفذا لهذه الرغبة، أما نيتشه فاعتبر "الأمم الجرمانية" واحدة من تطور التاريخ الإنساني وانتصار قيم السادة، التي كادت تنهض مجددا – بعد أن هددتها قيم العبيد في الثورة الفرنسية – على يد نابليون، الذي كان هو الأخر، علامة من علامات قيم السادة في أوربا، ولا نجد أي مبرر للملاحظة التي أوردها نيتشه في ملحق "هكذا تكلم زرادشت" من أنه كان يتمنى لو كتب "إرادة القوة" بالفرنسية لا الألمانية لكي لا يؤدي إلى أي طموح دولي ألماني، خصوصا والأمة قد حققت وحدتها. مع كل ذلك تبقى أطروحات "هيجل حافزا لطموح دولي، ألماني حاول بسمارك ثم هتلر أن يكونا بعض علاماته.
الثامن عشر : فكرة الشعب المختار : عند هيجل عبارة عن عملية تزييف للوثائق التاريخية، أما عند نيتشه فهي معادلة تتحقق بموجبها الملائمة بين الرجال وزمانهم، ورفض من يفشل في تحقيق تلك الملائمة من الأخرين.

الأربعاء، 26 أكتوبر 2016

نقد نيتشه لكانط وتأثيره علي ما بعد الحداثة

عمرو أمين الشريف
مقدمة:
ارتبط أسم فرديريك نيتشه ( 1844- 1900 ) بالظاهر الفلسفية التي سادت من النصف الثاني من القرن العشرين والمعروفة بأسم ما بعد الحداثة. فيورجن هابرماس يعتبره " المدخل إلى ما بعد الحداثة " الا ان تعبير ميشيل فوكو " مؤسس لنسق معرفي " initiator of discursivity يعد أفضل توصيف للعلاقة بين نيتشه وما بعد الحداثة، أذ أنه لا ينتهي عند توضيح علاقة التاثير بل يمتد ليوضح العلاقة الديناميكية بين نيتشه والعديد من الفلاسفة ما بعد البنيويين وما بعد الحداثين من أمثال جيل دولوز وجاك ديريدا وجان فرنسوا ليوتار وفوكو نفسه. ان العلاقة بينهم من ناحية وبين نيتشه من الناحية الاخري ليست علاقة تأثر فحسب، بل يمكن وصفها أيضا بأنها أعادة لقراءته وتفسيره وأكتشاف لنواح ثورية كامنة في فكره لم تتضح في القرن التاسع عشر والنصف الاول من القرن العشرين. ويعد رفض نيتشه لمفهومي الحقيقة والذات. المنبع الرئيسي لهجر فلاسفة ما بعد الحداثة لهذين المفهومين. الا ان الصعوبة الأولى التي تكتنف عملية قراءة نيتشه هي الطبيعة المفككة لكتاباته، أذ يقدم نيتشه أفكاره علي شكل شذرات وأقوال قصيرة مختلفا عن الدراسات الفلسفية المنظمة التي يتميز بها الفلاسفة السابقين عليه أمثال كانت وهيجل وتظهر تلك الطبيعة المفككة أول عوامل تأثير نيتشه في فكر ما بعد الحداثة الا وهو رفضه لروح النظام والنسق اللتين تحكمان الفلسفة السابقة عليه. وينبع رفض نيتشه لكرة النظامية من توضيحه لهذه الفكرة علي أنها ميتافيزيقية ومن رفضه لكل الميتافيزيقا. أما الصعوبة الثانية فهي رفضه نيتشه للغة الفلسفة التقليدية التي تتسم بالوضوح والصرامة وكتاباته لمعظم أعماله في شكل شعري أو علي شكل حكم أو تأويل تلفت النظر اليها ولجمال تعبيراتها وليس فقط لمدلولها وتنبع هذه الصعوبة الاخري من رفض نيتشه للدور الذي تلعبه الفلسفة الا وهو محاولةالبحث عن الحقيقة وتقديمها. فنيتشه لا يري كتاباته كاضافة الي هذا التراث بل كهجوم صريح عليه. ولهذا فانه يؤكد أن كتاباته لا تسعي الي تقديم حقيقة سار وأنها هي هدم الرؤي الميتافيزيقية السابقة عليها وفي خلال عملية الهدم لا تسعي الي بناء نسق فكري جديد بل تؤكد أنها لا تعدو مجرد محاولة للتفسير ولا تدعي تقديم أية حقيقة. فيقول في كتابه وراء الخير والشر :_ دعونا نعترف أيضا بأن هذه أيضا مجرد محاولة للتفسير وقد يكون البعض متشوقا لان يقدم هذا الاعتراض حسنا، هكذا أفضل فاذا كانت فلسفة نيتشه لا تسعي وراء أكتشاف حقيقة ما أو تقديم رؤية متكاملة فلم نقرأها أو نقتنع بها ونفضلها عن أي فلسفة أخري ؟ يؤكد نيتشه أن عباراته لا تركز علي إرادة will to truth وأنما علي ارادة القوة will to power فهي عبارات تصمد لقوتها وجمالها ولخلوها من الزيف الذي يسيطر علي الفلسفات الاخري تحت أسم الميتافيزيقا وهكذا يتضح لنا أن الشكل المميز لأعمال نيتشه ينبع من رؤيته الفلسفية، فأذا كان الفلاسفة السابقين عليه يقدمون أعمالا تتسم بالنظام وتطوير فكره ما فذلك لرؤيتهم الفلسفية المنظمة ولمحاولتهم لاقامة نسق شامل يفسر كل الظواهر التي تحيط بهم وأذا كانت لغتهم تتسم بالوضوح فذلك لرغبتهم في تقديم حقيقة ما أما فلسفة نيتشه فهي لا تسعي لاقامة نسق شامل ولذلك فهي تظهر علي شكل شذرات ولا تسعي لتأكيد حقيقة ما لذلك فهي تركز علي جمال العبارة وشعريتها بدلا من شفافيتها أو قدرتها حقيقة ما.

ولكن في ظل ذلك التشظي الذي تتسم به فلسفة نيتشه يلوح نظاما دفينا يعطي لكل جملة قد تبدو سطحية معني باطني دقيق وعمق فلسفي كبير ففلسفة نيتشه هي في الاساس نقد شامل للفلسفة الكانطية ورفض تام للفلسفةالهيجلية.

1- الفكر الكانطي :اساس للحداثة :-

وقعت فلسفة رنيه ديكارت (1596-1650) في مشاكل عديدة ولم تصمد أمامم عاول الفلسفات المادية والامبيرقية، ولذلك كانت المشكلة التي تواجه العقل الاوربي في ذلك الوقت هي أعادة الوصول لليقين الذي فقد بعد اتضاح التناقضات الكامنة في فكر ديكارت وكذلك علي الثنائيات التي أقامها ديكارت بين الروح والجسد والفرد والعالم. وقد تصدي عمانؤيل كانت ( 1724- 1804 ) لهذه المشكلة بجدارة وتعد أهم أهداف الفلسفة الكانطية هي محاولة أثبات وجود الذات واثبات وجود معرفة صادقة وأثبات قدرة الذات الوصول للحد الادني من اليقين اللزم لاستمرار العلم. وعلي النقيض من الذات الديكارتية cartesian التي تعتمد علي الفكر كوسيلة لاثبات ذاتها، فأن الذات الكانطية تعتمد علي المعرفة وتتلخص محاولة كانت لاثبات وجود الذات في قدرته علي أثبات وجود أحكام تركيبية قبلية وعن طريق دراسته للظواهر الطبيعية والرياضيات تمكن كانت من أثبات وجود تلك الاحكام. وهكذا تمكن كانت من اثبات تلك الاحكام. وهكذا اثبت كانت وجود معرفة تركيبية سابقة علي الخبرة. ويثبت كانت وجود أثني عشرة مقولة ضرورية سابقة علي الخبرة وهي نفسها التي تجعل من الخبرة الانسانية والمعلافة أمر ممكنا. ويفرق كانت بين المعرفة الظاهرية التي تتيح تلك المقولات التعرف عليها phenomena الحقيقة التي لا يمكن الوصول اليها أبدأ noumena فالشئ في ذاته ويثبت لا يمكن معرفته هوذلك لان الانسان لا يمكن ادراك الشئ الا في اطار زماني مكاني وكل ما يمكن للمرء الوصول اليه هو رؤية محدودة بالقوانين القبلية التي تتيح الخبرة. وهكذا فان الذات والموضوع ليسا منفصلين كما هي عند ديكارت، فاذا بدأنا باحداهما لابد وأن نصل حتما الي الاخر. وهكذا فان كانت يتغلب علي الثنائية الديكارتية ويثبت وجود ذات أمكانية الوصول الي اليقين وان كان محدودا بعوامل ما. ألا أن ثبات هذه العوامل كجزء أساسي من الذات الإنسانية يضمن هذا اليقين وتكون المقولات الاثني عشر بينة العقل النظري و هو ذلك العقل التي يهتم بالعلوم الطبيعية والرياضيات ويميز كانت كذلك نوعا أخرا من العقل إلا وهو العقل العملي والذي يهتم بالإطلاق والقواعد الأساسية للسلوك الإنساني. وفي إطار محاولة كانت تحديد مجالات الميتافيزيقا المشروعة وإقصائها عن المجالات الأخرى يوضح كانت التناقضات التي يقع فيها الإنسان عند البحث في مجال الميتافيزيقا في مجال الميتافيزيقا وهي الأربع تناقضات الشهيرة التي يثبت بها كانت قدرة العقل علي إثبات الشيء ونقيضه في أن واحد. فعلي سبيل المثال، يثبت كانت قدرة العقل الإنساني علي إثبات العلية causality ما يتبعه ذلك من رؤية ميكانيكية جبرية للكون، حرية الإرادة في أن واحد يقول كانت أنه إذا كان كل شئ يحدث في الطبيعة يحدث لسبب ما فان لكل تأثير سبب ما ولكل علة معلول وهكذا فأن الكون كله يتطور في سلسة في الأسباب والنتائج وعلي النقيض من ذلك، فأن العقل لا يمكنه أن يتخيل سلسلة أبدية من الأسباب والنتائج، إذ أن هذه السلسة لابد لها من نقطة بداية.

وهكذا، فأن كانت أعظم فلاسفة العقلانية،يثبت قدرة العقل علي إقامة الدليل علي الشيء ونقيضه في أن واحد. ألا أن كانت في دفاعه عن العقل لا يتوقف عند تلك المرحلة بل يتعداها موضحا سبب التناقضات التي يقع فيها العقل. فيقول كانت أن العقل النظري يقع في تلك التناقضات عندما يحاول أن يتعدي الحدود التي يجب أن يتوقف عندها. فالعقل النظري يصلح للتفكير في الجزئيات فقط وليس الكليات، فعندما يحاول العقل النظري أن يطبق مقولة كالعلية علي الكون بأكمله.

فسيقع حتما في التناقض. ولذلك فكانت يوضح حدود العقل النظري والعملي ويمنع محاولة تخطي الحدود المرسومة بينهما. وتتسم الحداثة بكل الصفات التي وضع كانت أساسها فهي تقوم علي أيمان لا يتزعزع بوجود الذات الإنسانية وعلي وجود حقيقة يمكن الوصول إليها علي الرغم من صعوبة ذلك. و هكذا فأن نقد نيتشه لمفهومي الحقيقة والذات في الفلسفة الكانطية يعد أول تأسيس لملامح ما بعد الحداثة. وأذا ما تصورنا الحداثة وما بعد الحداثة علي اهما قراءتين مختلفتين لنفس النسق الميتافيزيقا فأننا يمكن أن نتصور مدي عمق الهوة بين هيجل ونيتشه.

فكلا من الفيلسوفين يقدم رؤية مختلفة للفلسفة الكانطية. وبينما تعتمد الروية الهيجلية علي الوحدة تعتمد الرؤية النيتشوية علي التمزق والتشتت. فكل منهما يمكن أن يري علي أنه يتعامل مع التناقضات الكانطية بشكل أو بأخر. فبينما يقوم الديالكتيك الهيجلي علي محاولة الجمع بين النظرية thesis ونقيضها anti-thesis في شكل وحدة متعالية تعمل بعد ذلك علي أنها نظرية جديدة تؤدي الي استمرار الديالكتيك، يرفض نيتشه هذه الرؤية تماما بل ويروض أيضا فكرة التناقضات ذاتها.

ويقدم جيل دولوز في كتابه نيتشه والفلسفة وجه نظر يمكن من خلالها أن نري التناقض بين هيجل ونيتشه من زاوية أخري. فالديالكتيك الهيجلي يتغذي علي السلب، فكل نظرية تولد نقيضها ثم يتمحل هذا التناقض علي مستوي أعلي من الحقيقة. وعلي النقيض من ذلك فأن فلسفة نيتشه تقوم كلها علي الايجاب ورفض السلب الهيجلي وتأكيد الذات علي انها ارادة للقوة will to power ولهذا فلا يوجد في كتابات نيتشه كلها أي محاولة جادة لنقد هيجل وذلك لان هيجل سوف يمثل في هذه الحالة النظرية ويمثل نيتشه نيقيضها شر يتم حل النزاع بينهما وهكذا يقع في فخ الديالكتيك الهيجلي ؟ ولهذا يكتفي نيتشه بهدم الاسس التي ترتكز عليها الحداثة الا وهي مفهومي الحقيقة والذات.

2- نقد نيتشه لمفهوم الذات :-

علي العكس من الرؤية الهيجلية التي تحاول التوفيق بين التناقضات ويرفض نيتشه فكرة التناقضات ذاتها. فهو يري أن الاعتقاد بوجود تناقضات يقوم علي الإيمان بوجود كيان موحد يجمع بين الشئ ونقيضة وهذا الكيان يالنسبة لكانت هو الذات.أما نيتشه فهو يرفض وجود تلك الذات المتعالية travnscendentat . ويؤكد ان تلك التناقضات تعبر عن غرائز طبيعية يتسم بها الانسان بوصفه كائن بيولوجي وليس له اي علاقة بالتسام trascdentalism ويؤكد نيتشه أن كل الافكار المتسامية ليس لها اصل من العدمة ومنبعها رغبات مادية بحتة. ومن هنا تتحول مهمة الفيلسوف من البحث عن الحقائق المتعالية الي تأصيل هذه الأوهام المتعالية transcendental illusions في بيئتها المادية والبحث عن الظروف المادية التي أدت الي ظهور بعض الانماط الفكرية. وهذا ما يعرف بأسم الجينولوجيا. فنيتشه يري أن المقولة الثالثة للعقل النظري القائلة بوجود العلية تنبع من حالة الانسان الي العلم والمعرفة كوسيلة لفهم العالم وبالتالي السيطرة عليه. فالشئ يظل مخفيا طالما هو مجهول. أما أذا ما أدرج في سلسلة من الاسباب والنتائج فأن غموضه يزول ويصبح مألوفا للانسان وهكذا فأن العقل النظري ما هو ينبع من حاجة الانسان الي القوة will to power أما نقيض هذه النظرية فهو حاجة العقل العملي الي تأكيد الحرية وذلك لضرورة تلك الحرية لاي نسق أخلاقي. وهكذا فأن العقل العملي يتأصل في حاجة الانسان للشعور بالحرية وهي أيضا حاجة مادية. وهذا الرغبات بداخل الانسانم تعبر عن حاجات مختلفة لا يمكن رؤيتها علي أنها تناقضات antinomies الا اذا افترض الانسان وجود ذات متعالية تجمعها وهو ما يرفضه نيتشه.

ويطور نيتشه مشروعه الجينولوجي - وهو أول استراتيجية يتبناها لهدم الميتافيزيقا ويوسعه ليشمل تقويضا لكل الافكار الميتافيزيقة، وأحد أهم هذه الافكار هو مفهوم الذات. ويرفض نيتشه مفهوم الذات عند كانت كما يرفضه عند ديكارت. أذا كان كانت يؤكد علي ضرورة المعرفة فانه يؤكد ايضا ان تنظيم هذه المعرفة يرجع الي مفاهيم سابقة عليها فعلي سبيل المثال بيستطيع الانسان أن يدرك تمدد المعادن عند تعريضها للهب ويستطيع كذلك الاحساس باللهب ورؤية التمدد، ولكنه لا يستطيع استشعار السببية. ولكنه لا يستطيع تخيل الموقف بدون تلك العلاقة، وعلي هذا فان هذه العلاقة هي تصور قبلي يفرضه العقل علي الخبرة الحسية لتنظيمها وتوحيدها. ولكن نيتشه يرفض هذا التصور مثله في ذلك ككل الماديين، ويؤكد أن تلك التصورات القبلية apriori ما هي الا خبرات حسية يتم تخزينها في عقل الانسان ويؤكد كذلك أن كانت يوضح سبب تلك التصورات وأنما يقول أن الذات هي التي تجعلها لا يوضح سبب تلك التصورات وأنما يقول أن الذان هي التي تجعلها ممكنة. وعلي هذا فأن تلك التصورات ما هي الا مجرد خبرات حسية متراكمة ولا يجمع بينها أية وحدة متعالية.

ثم يتحول نيتشه بعد ذلك الي نقص مفهوم ديكارت عن الذات. فديكارت لم يتحرر من سجن اللغة ولا من الميتافيزيقا الموجودة بها. فقام بفرض قواعدها علي ادراكه للحياة. فعندما نقول " البرق يلمع" فاننا نفضل البرق علي اللمعان ونجعل من الاول فاعلا - المسبب - ومن الثاني حدثا بينما الاثنان هما نفس الشئ وهذا هو نفس المنطق في مقولة " أنا افكر " التي تفصل بين الحديث والفكر وبين ما يقوم به - بينما لا توجد هذه الانا التي تقوم بالتفكير. وكل ما يفعل ديكارت هو أنه يقوم بتشكيل عادة لغوية علي شكل حجة فلسفية مفترضا وجود فاعل وراء الفعل. أما نيتشه علي النقيض من ذلك، فأنه يؤكد أن فخ اللغة وهو الاخطاء التي يقودنا العقل الي الوفوع فيها وقد تم تخزينها في الغة يقدم لنا كل الانشطة علي أن المسؤول عنها هي الذات مما يعمي الابصار علي أنه لا وجود وراء الفعل، الحدث أو التحول، وان الفعل قد تم أضافته الي الفعل عن طريق الخيال - وأن الفعل هو كل شئ. وأما الانسانالعادي فانه يضاعف الحدث عن طريق جعل البرق مسؤلا عن اللمعان، وبهذا فأنه يكرر نفس الحدث مرة علي أنه سبب ومرة علي أنه مسبب أو معلول. وبالاضافة الي ذلك، فأن المرء عندما يقوم بتكوين مقولة " كأنا أفكر " فأنه لا يفترض فقط وجود الذات ولا حتي وجودها كعلة وأنما يدعي أن هذه الذات - في تلك المرحلة التي يتم السعي وراء أثبات وجودها - تعرف ماهية الفكرفاذا لم أكن قد حددت مسبقا ماهية الفكر، فكيف يتأتي لي أن أعرف أنا ما أفعله ليس ارادة أو حساسا ؟ باختصار، مقولة " أنا أفكر " تدعي أنني أقارن حالتي الحاضرة بحالات أخري خبرتها ذاتي وهكذا فانني استطيع أحدد كفهمها. وبسبب هذه الإشارة الي معرفة أخري سابقة لإنه لا توجد، علي الاقل بالنسبة لي، أي يقين.

وهكذا فان نيتشه يثبت أن مقولة " أنا أفكر " تفترض مسبقا وجود ذات مفكرة، وأن هذا الذات فاعلا، وأن هذه الذات تستطيع تحديد أن ما تمر به هو فكر وهو أمر يستدعي معرفة مسبقة بماضيه الفكر. ونيتشه لا يحاول أن ينكر أن هناك نشاط ما يحدث، وأن هذا النشاط هو التفكير ولكنه يرفض أن يذهب الي ما هو أبعد من ذلك. وحتي في أطار التعرف علي هذا النشاط علي أنه تفكير فأن هناك تفسير أو تأويل لكنه هذا النشاط.

واذا ما كان ديكارت يحاول تأسيس الذات علي الفكر وكانت تاسيسها علي المعرفة فان نيتشه ينكر ذلك أيضا. وهذا لانه لا فكر مطلق وانما تفكير في حدث ما ولا توجد معرفة مطلقة وانما بمعرفة بشئ ما. ولكن ما يحدث هو أن العقل يقوم باستخلاص مفاهيم مجردة من هذه الحالات المحددة. فالانسان لا يمكنه ان يتخيل وجود فكر مطلق بدون شئ ما يتم التفكير فيه ولا وجود معرفة مطلقة بدون وجود موضوع لهذه المعرفة. فالفكر المطلق أو المعرفة المطلقة سوف يكون فكرا في اللاشئ أو معرفة بالعدم وهو ملا يمثل فكرا أو معرفة. ولكنه فخ اللغة ايضا هو الذي يسمح للانسان باستخلاص مفهوم مجرد من الحالات المتعددة، ثم يسمع أيضا بافتراض وجود ذات وراء تلك المفاهيم المجردة بسبب فرض اللغة لمنطق الفاعل والفعل علي فهم الانسان للاحداث. وعلي هذا فأن الذات ما هي الا نتاج للمفاهيم التي تفرضها اللغة علي الانسان.

ويسعي نيتشه بعد ذلك لنقص الاعتقاد بوجود الوعي. وذلك لان هذا الاعتقاد هو المسئول عن كل المفاهيم الميتافيزيقية. فيؤكد ان الذات الديكتارتية ما هي الا تطوير للمفهوم المسيحي عن الروح التي ما هي الا وهم ميتافيزيقي تم أضفاءه علي ظاهرة الوعي الانساني. وهذا الوعي ليس متعاليا علي الخبرة وانما هو نتاج لظروف مادية بحته، ففي المجتمعات القديمة، قام فارق القوة بخلق نموذج السيد والعبد.

وقد قام السيد في التحكم في العبد وإخضاعه له. وبسبب حقده علي السيد، قام العبد، من خلال عدم قدرته علي هزيمة السيد، بخلق فكرة وجود شئ ما غير متجسد ومنفصل عن الجسد الذي يحكمه السيد. هذا الشئ هو الروح التي لا يستطيع السيد ان يخضعها والتي لابد وأن تقوم بتحقيق مالم يستطيع الجسد بتحقيقه الا وهو هزيمة السيد. وهذه الروح باقية لا تفني.وحيث ان هذه الروح باقية لا تفني. وحيث ان هذه الروح موجود لي البشر جميعا فأن هذا يعني أنهم متساوون.اما نتيشة فانه يري أن هذه الروح ما هي الا وهم تم أضافته علي الوعي. ويعتبر نيتشه الوعي مجرد أعلاء لحاجات اجتماعية ففي الحالة السابقة علي المجتمع، عاش الانسان حياة نقية غير لوثة أستطاع فيها أن يقوم بأشباع كل غرائزه تلقائيا وبدون تأجيل. ولكن لان الانسان أضعف الحيوانات جميعا. فكان لابد له من أن يعيش في مجتمعات توفر له الاحساس بألامان.

ومن هنا نشأت حاجة الفرد للتواصل مع الاخرين وللتعبير عن رغباته. وبسبب هذا التجمع الانسان وجدت ظاهرتين : أولا : ظاهرة الوعي. فكل الرغبات التي أصبح من المستحيل علي الانسان وأشباعها تلقائيا تم كبتها مما أدي الي حدوث صراع بين الفرد ورغبته في اشباع حاجاته أدي بعد ذلك الي ظهور الوعي. وكلما زاد ضغط العالم الخارجي علي الفرد، واتسع ذلك العالم الداخلي الذي يضم كل مالا يستطيع الانسان اشباعه.

والظاهرة الثانية هي اللغة. فاللغة ظهرت وتكونت في نفس الوقت التي ظهر فيه الوعي. وعلي هذا وسيلة يستخدمها الوعي في التعبير وأنما هي خطرة أساسية في خلق هذا الوعي وتطوره. وبسبب بقاء هذه اللغة والنظام الذي تفرضه علي الانسان فان كثير من المعتقدات الميتافيزيقية التي أمن بها الانسان في وقت ما بقت في مخيلة الانسان حتي الان. فالاعتقاد بوجود مفاهيم مجردة مثل " الضعيف و" الذات " أمر ممكن حدوثه فقط لان تلك المفاهيم الميتافيزيقية يتم اختزالها في اللغة وتتحول الي كلمات يستعملها الافراد في حياتهم اليومية. وهكذا فان الانسان حبيس في سجن اللغة. ولن يستطيع التحرر من الميتافيزيقا الا اذا تحرر من اللغة ذاتها. وهي فكره لها أثر كبير في فكر فلاسفة ما بعد الحداثة، اذ ان ما بعد الحداثة تحولا من فلسفات الوعي الي فلسفة اللغة.

وعلي هذا فكان نيتشه يقوم مفهوما جديدا عن الذات يمكن أن يعتبر النموزج الاول بمفهوم الفرد الذي تفضلة ما بعد الحداثة عن الذات subject الذي تؤمن به الحداثة.وفي هذا النموذج يعد الفرد مجموعة من المشاعر والرغبات والغرائز والافكار لا تجمع أية وحدة. ويقوم الاعتقاد بوجود مثل تلك الوحدة فقط علي استعمال الانسان لعين " أنا " الذي يشير الي الوحدة التي تفرضها اللغة علي الفرد. وهكذا فأن الفرد يتم الفردية إختزالة الي مجرد عادة لغوية. مجرد موقع تتلاشي فيه العديد من الاصدار الاجتماعية والفكرية. ويقوم مشروع فوكوه علي البحث عن العوامل السلطة والممارسات والاجتماعية المختلفة التي أدت الي تكوين الفرد علي الشكل الذي يظهر. بينما يؤكد ديريدا علي وجود هذا الوعي الذي يفترض ان تسكن فيه المدلولات التي الموجود التي تشير الي الدلالات الموجودة في اللغة. ويؤكد أن اللغة لا تنتج المعني عن طريق الاشارة الي المدلولات الموجودة في الوعي وأنما عن طريق الاختلاف والارصاء.

3- نقد نيتشه الحقيقية :-

يبدأ نيتشه نقده لمفهوم الحقيقة بأيضاح أن اي نظام فكري يؤكد وجود حقيقة ما أو يسعي لبلوغها لابد له من اساس ثابت يرتكز عليه تماما كما تأسس الحداثة ذاتها الي الذات الديكارتية. وعلي هذا فان نقد نيتشه لمفهوم الذات ينبغي أن يفهم أيضا علىانه نقد للاساس الذات تدعى الحداثة

ثباته والارتكازعليه وهكذا فان هدم هذااليقين هوزلزلة لثبات كل المفاهيم التى ترتكزعليه.واذا ما كان ديكارت يدعي بانه قام بتاسيس وجود علي انه الحقيقة الاولى فانه يقع في مازق خلقه انفصال تلك الذات الكلي عن العالم. ومن اجل التغلب علي تلك الفجوة بينها و ما سيتتبعه ذلك من عدم يقين المعطيات الحسية.يحاول ديكارت اثبات وجود اله يضمن ذلك اليقين المنشود. ولكن عدم صمود فلسفة ديكارت امام الفلسفات المادية والاسبيريقية الى زعزعة الدور الذي يؤديه الاله في ضمان يقين المعرفة.و علي هنا يصبح من الممكن النظر الى الاسمولوجيا الكانطية علي انها بديل يقوم بنفس الدور الذي قام به الاله في النسق الديكارتي. و بينما تلعب الذات الديكارتية دور الملتقي السلبي في عملية المعرفة تقوم الذات الكانطية بدور فعال الا وهو تنظيم المعطيات الحسية التي تستقبلها منالعالم الخارجي و علي هذا فان الانتقالة من ديكارت التي هي زيادة في الدور الذي تلعبه الذات في عملية المعرفة. ولكن النقد النيتشوي لكانت يؤدي إلى زيادة مطلقة في هذا الدور مما يؤدي إلى تحطيم فكرة الاتصال بين الذات والعالم الخارجي. كما يقوم نيتشه أيضا بتوضيح السبب الذي يحدو بالإنسان لافتراض وجود مفاهيم ميتافيزيقية مجردة كمفهوم الحقيقة.

يعتقد نيتشه أن الحياة في مجتمع تفرض على الوصول إلى إتفاقات جماعية لكي يتمكنوا من التعامل مع بعضهم البعض على مستوى الحياة اليومية. وهذا الاتفاق صالح فقط للموقف الذي يتم الوصول إليه فيه ولكنه لا يعبر عن حقيقة كونية دائمة. ولكن الخطاء الذي يقع فيه معظم البشر هو أنهم يتعاملون مع هذا الاتفاق على أنه حقيقة لا تقبل الشك وبهذا يتم تحويل الاتفاقات الجزئية إلى حقائق ميتافيزيقية غير قابلة للتغيير. ومن هنا تنشأ فكرة المطلق. ولكن نيتشه يرفض هذا الفكر تماما ويؤكد أنه "لا يوجد حقائق أبدية تماما كما لا يوجد صدق مطلق". وعلى هذا فإن نيتشه يعد أول فيلسوف حديث يرفض وجود حقيقة مطلقة.

إذا كان التحول من ديكارت إلى كانت يعد زيادة في الدور الذي تلعبه الذات في عملية المعرفة، فإن التحول من كانط إلى نيتشه هو زيادة مطلقة في هذا الدور. فبينما يقول كانط أن الدور الذي يلعبه العقل يقتصر على تنظيم المدراكات الحسية، يؤكد نيتشه أن العقل يكون جزءا كبيرا من المدرك أو يفرض مفهوما ما على هذا المدرك الحسي. وعلى هذا فإن كل الرؤية هي رؤية منظور ذاتي وكذلك أيضا كل المعرفة. فالفرد ليس صفحة خالية يتم ملؤها بالمدركات الحسية وإنما مجموعة من المفاهيم تم تشكيلها بالفعل عن طريق الخبرات السابقة. فكما يقول نيتشه : "من الأسهل على العين أن تطبع صورة ما على مدرك حسي من ان تدرك ما هو جديد ومختلف فيه" وعلى هذا فإن مفاهيمنا لا تتطابق مع المدركات ولا تتشكل لتطابقها وإنما يتم فرضها عليها. وعلى هذا فإننا نقوم بتكوين الجزء الأكبر مما نراه. وهذا الفهم لعملية الإدراك يقود نيتشه للبحث في طريقين : أولا، الوسيلة التي يتم بها تكوين المفاهيم ثانيا، حيث أن اللغة هي ما يحتفظ فيه بكل المفاهيم، فإن نيتشه يقوم ببحث لتوضيح إعتماد اللغة على المعنى الاستعاري وعدم إمكانية الإشارة إلى أي شئ بصورة مباشرة.

يبدأ نيتشه نقده بتوضيح عملية تكوين "المفهوم" وهي عملية تقوم أساسا على المساواة بين أشياء غير متشابهة أو متساوية. وبعد ذلك يتم استخلاص مفهوم مجرد من المدركات يعد صورة مطلقة. وبعد ذلك فرض ذلك المفهوم على المدركات المختلفة. وتنطوي عملية استخلاص المفهوم علي نسيان متعمد لكل الفروق بين الاشياء المختلفة. فعلي سيبل المثال، لا يري الإنسان مفهوم الامانة. وانما يري حالات مختلفة يتصرف فيها الشخاص بشكل ما ويتم تجاهل الفروق بين كل تلك الحالات المختلفة واستخلاص مفهوم واحد يتم بعد ذلك فرضه عليها. بل واعتبار كل هذه الحالات نماذج مشنقة من هذا المفهوم الاصلي. وهذه الحالات الفردية لا ترقي بالطبع لنقاء هذا المفهوم المطلق الذي لا يعدو مجرد وهم. وهكذا عندما يري الانسان حدثا ما يفرض عليه الصورة المسبقة الموجودة في خياله وعلي هذا فان حالات كثيرة شديدة الاختلاف عب بعضها البعض يتم فرض مفهوم موحد عليها واختزال التعدد الي الفرديه. أي اختزال ما لا يعرفه الانسان ولا يستطيع الوصول الي معرفة حقه به الي ما يغرفه وبهذا تتم عملية تتبع ما هو مجهول الي ما هو معروف والتغلب علي الخوف النابع من طبيعته الغامضة عن طريق السيطرة عليه وهنا تلعب اللغة دورها حيث انها الاطار الذي يحوي كل المفاهيم.

ولا يري نيتشه اللغة علي انها تشير الي الاشياء ويرفض وجود ما يدعوه البعض بالمستوي الحرفي فاللغة بالنسبة له تعمل فقط علي المستوي الاستعاري Metaphorical حيث انها الوسيلة التي يتم ربط المجهول بالمعلوم عن طريقها فالعملية الخلاقة التي يتم عن طريقها اضفاء المفاهيم علي المدركات هي عملية مستمرة. فاذا ما كان المدرك والمفهوم غير متساويين فان عملية توحيدهما هي عملية استعارية. فالاستعارة هي عملية نقل او تحويل من محيط الي محيط اخر. وعلي هذا فان ادراك الشئ يتم تحويله الي صورة عقلية – مفهوم – ثم بعد ذلك يتم تحويل تلك الصورة الي الصوت الدال عليها. وكل عملية تحويل هي اساسا عملية استعارة. وعلي المستوي اللغوي لا يوجد لفظ يشير الي مدلوله بصورة مباشرة بل عن طريق تحويل الاستعارة الي استعارة اخري. واذا ما ادرك الفرد التحويل الاستعارية فان المجهول سيظل مجهولا ولذلك فان الفرد يطمس ذلك التحويل ولا يري الستعارة بل يفضل ان يري المستوي الحرفي وذلك لان تعرفة علي الاستعارة يؤكد عدم التماهي بين المفهوم والمدرك ويعيد المدرك الي غربته. ولا يمكن التغلب علي هذه الغربة والاحساس بالخوف الناجم عنها الا عن طريق نسيان عملية الاستعارة ووهكذا فان فكرة الحقيقة ما هي الا مفهوم مجرد اخر. واذا كان معرفة الحقيقة عن ظاهرة ما يعني تتبع مجموعة من المفاهيم من خلال تحويلات استعارية، فان الحقيقة بالنسبة لنيتش ة ما هي الا جيش من الاستعارات والمجازات والتعبيرات التي تصتبغ بالصبغة الانسانية، باختصار مجموعة من العلا قات الانسانية يتم اعلاؤها بطريق شعرية وبلاغية وتتحول بعد مضي الزمن والاستعمال المتكرر لما يعتبره الناس حقائق ثابتة لا يمكن تجاهلها. كل الحقائق ما هي إلا أوهام نسى الناس طبيعتها الوهمية، إستعارات نسى الناس طبيعتها البلاغية أو عملات فقدت رسمتها وأصبحت مجرد قطعة معدنية وهكذا يتضح أن نقد نيتشه لمفهوم الحقيقة يتمركز حول محورين : أولهما يؤكد أن مفاهيم الإنسان تكون حقيقية إذا ما كانت تمثل. عالم الظواهر، ويرفض نيتشه هذا الرأي مؤكدا أن المفاهيم لا تمثل هذا العالم وإنما يتم فرضها عليه. ويتوارث الإنسان هذه المفاهيم عن طريق اللغة. وهذا يقودنا إلى المحور الثاني والذي يؤكد أن الكلمات تشير إلى الأشياء مباشرة. ونيتشه يرفض هذا الراى أيضا مؤكدا وجود فجوة بين الكلمات والأشياء وأن اللغة وسيلة للتواصل لا تشير وحداتها إلى أية ظواهر خارجية. وعلى هذا فإن الإنسان لا يدرك العالم وأنما يخلقه في عملية الإدراك.

ويقود رفض فكرة الحقيقة نيتشه لأن يقدم نقدا لنظرية كانت في المعرفة يميز كانت بين عالمي الأشياء في ذاتها Noumene.والأشياء كما تظهر للوعي Phenomena والأشياء كما تظهر للوعي متاحة للجميع ولكنها تقدم صورا متغيرة وعلة هذا فهي لا تصلح أساسا للمعرفة. أما الأشياء في ذاتها فهي حقيقية. ولكنها لا تخضع لأية منظور ولذلك فهي غير متاحة للفرد، ويرفض نيتشه فكرة الأشياء في ذاتها كلية ويتسائل لم يتم الاحتفاظ بفكره عن الأشياء لا يمكن الوصول إليه أبدا. وهكذا، فإن الأشياء في ذاتها ما هي إلا وهم. وعلى هذا، فإن نيتشه يؤكد أن الصفات التي تنسب إلى الشئ في ذاته هي صفات عدم الوجود أو العدم … ولذلك فإن تقسيم العالم إلى عالم حقيقي وعالم ظاهري، سواء بالطريقة المسيحية أو بالطريقة الكانطية … ما هو إلا علامة من علامات التدهور (4) وينتقض نيتشه كانط لإدعائه وجود "نظرة من اللامكان VISION – From – nowhere أو عين يمكنها رؤية كل شئ All – encompassing – eye .

يصل العقل إلى أعلى درجات السادية من خلال إحتفاءه لذاته وتكمه عليها عندما يقبل فكرة وجود حقيقة لا يمكنة الوصول إليها أبدا مما يحتم عليه البقاء في حجاب عنها. ويمكننا تمييز بقايا هذا الانشقاق بين التقشف والميل للشهوة في المفهوم الكانتي عن الأشياء في ذاتها والذي يستمتع بقلب العقل ضد نفسه. فبالنسبة لكانت، تمثل الأشياء في ذاتها هذا الجانب من الأشياء الذي يعلم العقل أنه لا يستطيع أن يتفهمه أبدا … فكل هذا المفاهيم تفترض مسبقا وجود عين لا يستطيع كائن حي أن يتخيلها، عين ليس لها منظور أو إتجاه، عين تهجر دورها التفسيري والفعال في عملية الإدراك.(5)

وبرفض وجود مملكة الأشياء في ذاتها، فإن رفض وجود حقائق تنتمي إلى الأشياء بطبيعتها يصبح حتميا. وكل ما هو متاح هو إدراك وتفسير الأشياء أو الظواهر من خلال مناظير مختلفة.وتعني فكرة المنظور Perspectivism أن الكائنات الآدمية ذات موقع محدد في الزمان والمكان والتاريخ. وعلى هذا، فإن قدرتها علي المعرفة لابد وان تكون محدود ة بحدود هذا الموقع أو الظرف الذي لا يمكن التسامي عليه transcendnce هكذا فان الافراد لا يمكنهم بلوغ معرفة موضوعية – وهذه هي فكرة ميتافيزقية أخري يجب التخلص منها. وبالاضافة الي محدودية الفرد بالمناظير الشخصية، فان كل عصر له منظوره الذي يتكون من الاستعارات المفضلة الذي يتبناها ذلك العصر يتعامل مع مختلف الظواهر.وعلي هذا فان تاثير علي ما بعد الحداثة يتضح اذا ما تم رؤيته في مواجه الخلفية الكانطية التي ظهرت فلسفته علي انها تقضي لها.

4- نيتشه وما بعد الحداتة :

لا يتضح تاثير نيتشه علي ما بعد الحداثة فقط في رفضه للمفاهيم الميتافيزقية التي تاسست عليها الحداثة وانما ايضا في التكنيكات التي يستخدمها لضحد الفكر الميتافيزيقي. واذا كان أهم ما يميز ما بعد الحداثيين هو رفض التام للميتافيزيقا، فان الاسلوبين الذين الذين يتبعانها في نقدهم لها الا هما التفكيكية والجينالوجيا يمكن رؤية بذورها في نقد نيتشه لكانط.



يقوم نيتشه بالبحث عن العوامل المادية – الاجتماعية والتاريخية – التي ادت الي ظهور أفكار دائما ما يتم وصفها علي أنها ترنستندالية. وهذا التاصيل لجميع أشكال الفكر في جذوره المادية يمكن ان يري علي انه النموذج الاولي لبحث فوكوه عن النبي المادية التي ادت الي ظهور نوع من المعرفة او تشكيل الذات حسب مفهوم معين.

فعلي سبيل المثال يتتبع نيتشه فكرة الحقيقة عبر اصولها من افلاطون الي المسيحية الي كانت الي الفلسفات الوضعية. ويمكن ان ينظر الي هذا التتبع علي انه تسجيل لتطوير المقابلة بين العالم الحقيقي /والعالم الظاهري وعندما يصل نيتشه الي التحلص من فكرة العالم الحقيقي فانه لا يبقي حبيسا في سجن المنيتافيزيقا فهو، علي كس المتوقع، لا يؤكد وجود العالم الظاهري." لقد محونا العالم الحقيقي : فاي عالم يتبقي ؟ العالم الظاهري ؟لا فقد محونا العالم الظاهري مع العالم الحقيقي " (6) ان التاكيد علي العالم الظاهري يحتفظ ضمنا بوجود عالم أخر. ولعل لغة التفكيك تعد أفضل وسيلة لطرح هذه الفكرة ما تم النظر لنيتشه علي أنه يقوم بعكس الثنائية لا يقوم oibary opposition العالم الحقيقي / العالم الظاهري، فان يظل حبيسا في سجن الميتافيزيقا وذلبك لان الشكل المعكوس لا يزال يحتفظ بنفس النسق الميتافيزيقي. وهكذا فان أفضل ما يمكن الوصول اليه هو استبدال الافلاطونية platonism بأفلاطونية معكوسة inverted platonism وليس التخلص منها ولكن نيتشه في نقضه لتلك الثنائية لا يقوم بعكسها وأنما بالتخلص منها كلية. وذلك لان العالم الظاهري يعد ظاهريا فقط بالتضاد مع عالم أخر أكثر عمقا. وهكذا فأن تاكيد العالم الظاهري هو تاكيد ضمن للعالم الحقيقي ولكن نيتشه يتخلص من كلا العالمين مؤكدا وجود " العالم " وخضوعه لمناظير مختلفة. وهكذا يمكن رؤية جذور التفكيكية في فلسفة نيتشه. وعلي هذا فأن كلا من الاسلوبين الذي يتبعها فوكوه وديريدا في نقد الميتافيزيقا قد تأصلا في فلسفة نيتشه.

وكذلك ايضا رفض ما بعد الحداثيين لفكرة الاصل the origin والتي يتضح تاثيرها عند كل من ديريدا وبودريار يمكن رؤية جذورها في فلسفة نيتشه بل وفي حياته الشخصية. فخبره نيتشه كعالم في فقه اللغة philolgy قد قادته الي دراسة اللغات اليونانية واللاتينية والنصوص المكتوبة بها. ومن خلال تتبع أصول النصوص الكلاسكية ومقارنة نسخة ما بنسخة أخري للوصول الي ايهما أكثر قربا الي النص الاصلي توصل نيتشه الي عدم وجود النص الاصلي أو علي الاقل عدم القدرة علي بلوغه. فكل نسخة من النص ما هي الا صورة من نسخة سابقة مع بعض التعديلات التني تفرضها الرؤية الذاتية لكاتب النسخة الجديدة عما يجب ان يكون عليه النص الاصلي. وبهذا تكوين كل نسخة تفسيرا ذاتيا لنسخة سابقة عليها ويتحول النص الاصلي الي اسطورة أو وهم. وهكذا يؤكد نيتشه هذه الرؤية قائلا :

لا توجد مجموعة من البديهيات اكثر اهمية للمؤرخ من هذه : ان الاسباب الواقعية لاصل الشئ واستعملاته، والاسلوب الذي يتم به ادخاله الي النظام من الغايات تبعد عن بعضها البعض، وان كل شئ موجود بغض النظر عن اصله، يتم اعادة تفسيره من خلال هؤلاء الذي يحتلون مواقع السلطة تبعا لاهتمام ونواياهم الجديدة، وان كل العمليات في العالم العضوي هي عمليات تجربة وتغلب، وان كل عمليات التجريد هي عمليات اعاادة تفسير واعادة ترتيب يضيع في خلالها المعني والهدف السابقين . وبغض النظر عن حسن فهمنا لشئ ما من عدمه ( مؤسسة قانونية ) عادة، تقليد سياسي، نوع فني، شعيرة دينية ) فاننا لا نفهم أي شئ عن اصله

وتؤثر هذه الفكرة علي ما بعد الحداثيين وعلي رفضهم لفكرة الاصل واحتفائهم بالنسخة المختلفة التي لا تدري الانتماء لاي اصل simulacra

وهكذا يتضح تاثير نيتشه علي فلاسفة ما بعد الحداثة ليس فقط في رفضهم للميتافيزيقا بل وفي الاساليب المختلفة التي اتبعوها لنقدها .

سارتر بين الوجوديين