الخميس، 26 يناير 2017

من كانط إلى كارل أتو آبل : نحو أخلاقية النقاش


رجاة العتيري

إن الظروف الراهنة على المستوى السياسي والاقتصادي والبيئي تفرض علينا طرح الإشكاليات على صعيد عالمي وكلي فلا يمكن الاكتفاء اليوم بأنساق أخلاقية جهوية ونسبية أو خلاق "فردية" تصلح لأفراد أو لمجموعات دون غيرها. فهل للعالم الصناعي المهيمن اقتصاديا وعسكريا الحق في احترام مبادئ أخلاقية تخدم مصالحه على حساب العالم الثالث أو على حساب البيئة ؟ إن التأمل في هذا السؤال يجرنا إلى تجاوز فكرة أخلاق نسبية أو جهوية ويجعلنا نفكر في أخلاق ذات الصلاحية الكلية في المعنى الذي أراده ايمانوال كانط في القرن الثامن عشر. ولكن تطور مفهوم المعقولية والتعمق في شروطها وجذورها في الظروف الحديثة والمعاصرة وما بعد الحديثة جعل مشكلة الأخلاق وتأسيسها مطروحة من جديد في سياق تصور معاصر للمعقولية العملية. لقد بدأ الجدل في النصف الأول من القرن العشرين بين ما يسمى بالمقررين D閏isionnistes  من جهة والمعرفيين Cognitivistes   من جهة أخرى. يعتبر ماكس فيبر Max Weber  ممثل للتصور القراري. ويمثل هابرماس وآبل الموقف "المعرفي" في مجال الأخلاق. ينتمي ماكس فيبر إلى المبدإ الهيومي (نسبة إلى دافيد هيوم David Hume) الذي لا يعترف إلا بوجود عقل نظري معرفي، رافضا وجود عقل عملي في المعنى الكانطي. ففي غياب عقل عملي يوجهنا في أفعالنا ويعطينا قيما وقوانين كلية، يصبح الإنسان مضطرا إلى اتخاذ قرارات حسب اعتبارات شخصية، فردية أحيانا لا معقولة ولا عقلانية.
ولكن هابرماس وكارل أتو آبل يرفضان ترك مجال الفعل الإنساني (في الأخلاق والسياسة) للقرارية والنسبية والحسابات الفردية ولخطر الاختيارات اللامعقولة. إن الأوضاع العالمية الراهنة في الشرق الأوسط وفي إفريقيا تجعلنا نفكر مع هابرماس وآبل في أخلاق كلية مبنية على أسس عقلية ومبادئ مقنعة على صعيد عالمي. أصبح طرح مشكلة أسس الأخلاق اليوم بعد كانط أمرا ضروريا نظرا لأفول الأخلاق التقليدية والقيم العملية الصادرة عن الأديان والتي أضعفتها النظم اللائكية المعاصرة وتجاوزها التقدم العلمي والتكنولوجي إبتداءا من القرن العشرين. وتبعا للخلط الذي حدث داخل مفهوم المعقولية بين ما يعود إلى العقل النظري العلمي وما يعود إلى العقل العملي الأخلاقي أصبح من الضروري الرجوع إلى التمييز الكانطي المرجعي. يجعل النقد الكانطي هوة بين العقل النظري العلمي والعقل العملي حيث لا يمكن للعقل العلمي أن يحدد العقل العملي و لا أن يوجهنا نحو ما يجب علينا أن نفعل. ولكن، رغم احتفاظ هابرماس وآبل بالتمييز بين العقل النظري والعقل العملي أصبح من الضروري البحث من جديد في حدود التصور الكانطي للأخلاق وفي العلاقات الممكنة بين المعرفة والفعل وبين مفهومي الحق والواجب وبين فكرتي الاقتناع الذاتي والمسؤولية الاجتماعية والإنسانية.
لقد تساءل كانط حول العقل وحول بنيته وحول استقرار تركيبته وتمفصلاته وحول طبيعة مبادئه وأنواع اهتماماته وحول مجالات نشاطه. وكانت نتيجة تساؤلاته تحقيق فلسفة كاملة نسقية هي الفلسفة النقدية التي تعتبر مرجعا أولا لفهم العقل ووظائفه وقدراته وحدوده. لقد ميز كانط من بين وظائف العقل وظيفتين : وظيفة نظرية معرفية ووظيفة عملية أخلاقية ووضع نشاطات الوظيفتين في حدود عقل الأفراد. (وإن كان الإنسان دائما حيوانا سياسيا) نعتبر أن نشاط العقل عند الأفراد معرض إلى الذاتية. هذه هي المفارقة التي يجب أن يخرج منها العقل : العقل مبدأ الموضوعية والكلية على المستوى النظري والعملي. إلا أنه يسقط في الوهم والخطإ طالما بقي منفردا بمجهوده الذاتي ومتقوقعا على قدراته الفردية في الفهم والتدبير.
هل كان كانط جاهلا لشروط الموضوعية والكلية؟ لا نعتقد ذلك لأننا وجدنا في النص المعنون "في فكرة تاريخ عالمي من وجهة نظر المواطنة الكونية" وفي النص المعنون "ما هي الأنوار؟" شروط تحقيق الموضوعية والكلية بصورة فعلية ولا نظرية. يقول كانط في القضية الثانية من أطروحاته حول "فكرة تاريخ عالمي من وجهة نظر المواطنة الكونية" ما يلي : "عند الإنسان (كالكائن العاقل الوحيد فوق الأرض) لم تحقق الإستعدادات الطبيعية التي تعد لاستعمال العقل نموها الكامل في الفرد ولكن في النوع البشري فقط. "ففي هذا المعنى نفهم أن العقل يحتاج إلى تظافر المجهودات الفكرية من طرف كل أفراد الإنسانية ويحتاج إلى زمن طويل ليكتمل ويتحقق في شكله الأفضل أي عندما يحقق العقل : الكلية والموضوعية في أعلى درجاتهما. إلا أن كانط اعتبر تقدم العقل نحو شكله الكامل ونشاطه الأمثل هو فكرة- مثال (Id閍l) مازال العقل بعيدا عنها ولكن لم يبين كانط الظروف الدقيقة التي يجب على الإنسانية أن توفرها لإنجاح حركة تطور العقل نحو الموضوعية والكلية بصورة فعلية، أي أنه لم يؤكد على ظروف الموضوعية المعرفية التي اتخذت صورة المنهج التجريبي (مع كلود برنارد) ثم باشلار مثلا ولم يبين كيف يمكن للإنسانية أن تحقق الكلية في مجــــال العقل العملي سوى مــــا سمي بمبدأ التـــعــــميـــم الكــلي (principe d'universalisation) المتضمن في الأمر القطعي الأساسي " افعل بصورة تجعلك تريد أن تكون قاعدة فعلك قانونا كليا". إن اليوم والعالم الغربي قد ابتعد عن المعايير المسيحية التقليدية (في الأخلاق) بينما الشعوب الأخرى مازالت تتخبط في محاولاتها البطيئة نحو النمو سياسيا واقتصاديا وعلميا وتقنيا تصبح مشكلة تحقيق العقل العملي أمرا ضروريا وحياتيا. إن ا لحرب في العراق (2003-2004) بينت لنا أن المعايير الكلية والمواقف الموضوعية كانت غائبة و كانت المفاهيم مستعملة بصورة مختلفة بين الأطراف المتنازعة : مفهوم الحرية ومفهوم الديمقراطية ومفهوم العدالة والنظام. وكيف نفرض على شعب من الخارج مفاهيم لم يقع الاتفاق على مدلولها بين كل الأطراف المعنية وكيف يمكن تحقيق اتفاق دون أن تلتقي جميع الأطراف المعنية أو من ينوبها حول مائدة الطرح والنقاش؟ هنا نفهم تصور كانط لظروف تحقيق الكلية ونتبين غيابها على الصعيد العالمي والتي لم يبينها الفيلسوف بصورة كافية وذلك رغم تلميحه إلى شرطها الذي هو طرح المسائل المتعلقة بالتشريع على الساحة العمومية (public) يقول كانط في نصه " ما هي الأنوار؟" ما يلي "تذهب طريقة تفكير رئيس دولة يشجع الأنوار إلى ابعد من ذلك لأنه يعترف حتى من جهة تشريعه، أنه لا خطر في تمكين رعيته من استعمال عقلهم علانية أمام العالم وإعلان أفكارهم المتعلقة بإعداد أفضل لذلك التشريع وإن كان ذلك عن طريق نقد صريح للتشريع الذي وقع إصداره"(1).
إن الظروف الراهنة على الساحة الدولية سياسيا واقتصاديا وبيئيا تبين عجز القيم التقليدية التي نعرفها في النظريات الأخلاقية القديمة والحديثة وتفرض علينا طرحا جديدا وبحثا عن مبادئ ومعايير وأوامر جديدة مناسبة للعصر وللظروف التي نعيشها. فقيم الأخوة والعدالة والحرية والاستقلالية والمساواة والخير كلها قيم معروفة ولكنها فقدت من فاعليتها ويجب تعريفها من جديد. فهل يعود ذلك إلى غياب العقل العملي كما ظن دافيد هيوم ومن بعده ماكس فيبر أم أن الأوامر التقليدية(والكانطية) منها أصبحت غير فاعلة أو غير كافية؟ إن الحدوس الكانطية في خصوص عقل يجادل ويناقش في الساحة العمومية، جعل هابرماس وكارل أتو آبل يدافعان بصورة ملحة على ضرورة تحقيق عقل تواصلي أو عقل يناقش.  يبقى هابرماس وآبل إذا في اتصال مع العقلانية الكانطية في أيمانهما بوجود عقل عملي ولكن عقل عملي غير منفرد باقتناعاته الذاتية وغير متقوقع إلى حد الأنانة Solipsisme  . فإذا اعتبر كانط أن العقل الإنساني لا يكتمل إلا في النوع والتاريخ يجب علينا اليوم إعطاء للعقل الظروف الملائمة لتحقيق "جوهره" أي صورته المثلى. ويسمي كارل أتو آبل مجموع هذه الظروف والشروط بأخلاقية النقاش. بنظرية أخلاقية النقاش يعلل آبل عقليا ويؤسس وجود العقل العملي. تعتبر أخلاقية النقاش الشرط الوحيد و الحل الوحيد اليوم (بعد أفول الأخلاق الدينية والتقليدية في العالم الغربي خاصة) لإرساء مبادئ وقيم ومعايير جديدة على أسس عقلية. فما يضمن الكلية والموضوعية للقرارات هو إخضاعها إلى الجدل والنقاش، ويفيد النقاش معنى التبرير والتعليل والحجاج – فمن يقبل النقاش ويتبادل الحجج يقبل العقل حكما – إن إخضاع الآراء والإقتناعات والإختيارات إلى النقاش شرط لتحقيق الموضوعية والنزاهة والاتفاق وبذلك يصبح في الآن نفسه شرطا لاجتناب العنف اللفظي والمادي ولاجتناب الحرب والظلم والإستبداد في كل مستويات الحياة الإنسانية. ليست أخلاقية النقاش مذهبا ولا نسقا من القيم والمعايير والأوامر المحددة في مضمونها. لا تأمر أخلاقية النقاش بفعل أشياء وترك أشيـــاء أخـــرى. تعــــود أخـــــلاقـــيـــة النقــــاش في الحقيقــــة إلى ما يسميه آبل بـإجرائية ترنسندنتالية Pragmatique transcendantale  تجمع شروط مناقشة أطروحات ومبادئ عملية في المجالين الأخلاقي والسياسي بحثا عن إمتحان مشروعيتها ومعقوليتها وصلاحيتها. إن الطابع الصوري النظري والترنسندنتالي والكلي لأخلاقية النقاش يجعل هابرماس ينقد حدودها ونقصها. من وظائف أخلاقية النقاش أنها توجهنا نحو ما يجب علينا أن نفعل. فهي مبنية على مبدأ تطابق الفعل مع الأخلاق ومع الظرف في آن واحد  وهي تؤمن في إمكانية الوصول إلى اتفاق يتوق إلى الإجماع كمثال نصوب نحوه في النقاش. ولكن أخلاقية النقاش إطار أمثل لطرح المسائل العملية قصد إيجاد الحلول المعقولة والصالحة كليا. يأخذ مفهوم الكلية هنا معنى خاصا في الظروف "عولمة" Globalisation  المشاكل السياسية والإقتصادية ومع التطبيقات العلمية التكنولوجية المهددة للإنسانية وللحياة فوق الأرض. إن رهان الكلية اليوم ليس مثالا عقليا كانطيا فحسب، لقد أصبحت الكلية Universalité ضرورة حياتية لا تخص فئة أو قطرا أو دولة بل تخص مصير الإنسان والحياة فوق الأرض تلك الدرة الزرقاء  المهددة بالتلوث .
إن المشكلة في نظر هابرماس متمثلة في الانتقال من المنهجية الترنسندنتالية لشروط النقاش الناجح بصورة عامة (Habermas :" logique de la discussion") إلى الاتفاق الفعلي حول قيمة أو قانون أو أمر للتطبيق ضرورة في ظروف إشكالية محددة. الأمثلة هنا ضرورية للفهم، نأخذ مشكلة الموت الرحيم في مجتمعات اتخذت اللائكية مبدأ في الحياة العامة والخاصة، نأخذ مشكلة الإنجاب المساعد طبيا على أساس استعارة رحم امرأة ثانية وأخذ مني رجل آخر غير الأب، ومثال تبني أزواج الجنسية المتجانسة لأطفال إلى غير ذلك. فكيف نظمن الاتفاق والإجماع في مسائل كهذه باعتبار أن هناك مشكلات أخطر على البيئة وعلى بقى شعوب كاملة في ظروف صحية واقتصادية وسياسية خطيرة، مثلا في إفريقيا (مرض السيدا والحروب والمجاعة والفقر المتزايد والاستبداد ...). يمكن لنا أن نذكر الصعوبات التالية في موضوع أخلاقية النقاش :
أ - هناك فرق بين منهجية ترنسندنتالية أو كما يسميها هابرماس "منطق النقاش" من جهة والخروج بحلول متفق عليها من طرف كل المعنيين في مشكلة خاصة (والمعنيون اليوم هم الإنسانية جمعاء) من جهة أخرى.
 ب - هناك فرق بين إيجاد حلول متفق عليها واحترام هذه الحلول وتطبيقها في الفعل و في الواقع.
ج- هناك فرق بين المجموعة المثالية المناقشة Communaut  communicationnelle id閍le  والمجموعة المناقشة في الواقع Communaut  communicationnelle r閑lle (بكل نقائصها وعيوبها).
هذه النقطة تجعلنا نذكر شروط النقاش المرضي وهي : صحة المبدأ المقدم كحجة ومناسبته للظرف الإشكالي وصلاحيته الأخلاقية وصدق المتدخل وبحثه الجدي عن الحقيقة( Justesse, v閞it , validit , sinc閞it .)
هناك نقاط عديدة تفرض البحث عن أخلاق ما بعد كانطية جديدة إلى جانب القاعدة العقلانية والطابع الصوري الكلي الذين تتسم بهما أخلاقية التواصل والنقاش.
لقد حرر كانط مفهوم الأخلاق من العنصر المادي أي من المعطيات التجريبية الواقعية لتقديم تصور خالص، قبلي، مثالي صارم إلى حد يجعلنا نتساءل إذا كان الإنسان العادي قادرا على احترام الأمر القطعي بكل شروطه العقلية الصارمة.
من جهة أخرى نتساءل عما إذا كان الفرد كذات منغمسة في ذاتيتها قادرا على طرح جميع الأسئلة ذات البعد الأخلاقي بما فيها المسائل التي تتجاوز شخصه وحدود العلاقات القريبة في الزمان والمكان والتي تتجاوز معنى المسؤولية الفردية بعد تجاوز حدود أخلاق الاقتناع نحو مفهوم أخلاق المسؤولية الكونية أو المسؤولية المعممة على كل الكائنات الحية فوق الأرض. 
هذه هي التساؤلات التي جعلت كارل أتو آبل يربط بين مفهوم المسؤولية وفكرة أخلاقية النقاش لتجاوز كل نقائص الأخلاق الكانطية الخاصة باقتناع الفرد. إن المبدأ الأساسي في أخلاقية النقاش هو أن كل الأفعال الإنسانية، الفردية والجماعية الأخلاقية والسياسية التكنولوجية والإقتصادية يجب إخضاعها إلى النقاش والحجاج حسب منهجية محددة وحسب قواعد معينة وحسب قيم متفق عليها لضمان الإتفاق بين كل الأطراف المعنية – إن الحالة الراهنة على الصعيد العالمي في كل المستويات تفرض الحوار والتواصل والنقاش على شكل نظام مداولات تنتقل من المجموعة الصغيرة للنقاش إلى مؤتمرات عالمية تجمع رؤساء الدول لاتخاذ القرارات والقوانين على مستوى عالمي.
إن المبدأ العقلي المؤسس لأخلاقية النقاش يجعل الإيمان في الإجماع ممكن كمثال (Id閍l) على شرط أن نحترم كل متطلبات النقاش الناجح والمجدي لذلك لا يمكن فرض نظام من القيم والمعايير والقوانين للتطبيق قبل دراسة الأوضاع الإشكالية وقبل البحث المشترك بين كل الأطراف المعنية أو من ينوبها. لذلك يؤكد آبل على الطابع الصوري والمنهجي الترنسيندنتالي لأخلاقية النقاش ويعتبر كارل أتو آبل أخلاقية النقاش الحل الوحيد لتحقيق القيمة الكلية في المبادئ والمعايير والاختيارات في عصر القوة العسكرية والقدرة التكنولوجية وعهد اللائكية والفلسفات ما بعد الحديثة – حيث يصبح الإعلام الذي يسير بسرعة الخطوط اللاسلكية والفضائية موضوع جدل وتقابل ونقاش على الصعيد العالمي، فكل فعل وكل قرارا وكل حكم في قطر ما يصبح موضوع نقاش وتحليل وتقييم من طرف الإنسانية المفكرة والمتسائلة باحثة في مدى معقولية هذه القرارات وقيمتها الأخلاقية. إن الخطر الكبير على الشعوب والإنسانية جمعاء أن يقرر شخص واحد (مثل رئيس الولايات المتحدة في حرب العراق) القيام بحرب "تحرير" بلاد آخر دون استشارة أحد وضد الرفض المبدئي لشعوب كاملة تتظاهر لتدخل في النقاش وتعبر عن موقفها وحججها. فنلاحظ كيف تتغلب الأقلية المهيمنة والمتفوقة عسكريا واقتصاديا على أغلبية رافضة للحرب لأسباب معقولة وبحجج مقنعة.
نفهم في هذا الظرف التمييز الذي جعله آبل بين التواصل المثالي Communication id閍le  والمجدي بين جميع الأطراف من جهة وبين التواصل المتداول الناقص المشوب بعوائق Communication r閑lleتمنعه من تحصيل الإجماع أو حتى الاتفاق المرضي من جهة أخرى. إذا عدنا إلى الظرف الذي سبق اندلاع الحرب في العراق نجد أن طرفا (الولايات المتحدة) قرر الدخول في الحرب رغم تحفظات فرنسا ورغم نداء شعوب كاملة متظاهرة ضد الحرب. فنتساءل بأي حق وحسب أي مبدأ أخلاقي أو دولي أو سياسي أو قانوني يقرر طرف القيام بحرب "احتياطية" لأسباب لا تقنع أحد؟ كيف يمكن أن تختلف الإنسانية إلى حد التقابل وكل طرف يدعي الكلام حسب مبدأ العقل والمعقولية والعدالة؟ إذا عرفنا العقل والمعقولية بالكلية والموضوعية كيف يمكن أن تختلف الإنسانية حول مضمون الحرب والسلم؟ يصبح من الضروري الالتقاء لتحديد معاني المفاهيم الأساسية التي نستعملها حتى يصبح التواصل ممكنا ومجديا وبناء. إن فكرة أخلاق النقاش هي الحل الذي وجده هابرماس وكارل أتو آبل لتجديد قدرات العقل العملي بعد كانط في العصر ما بعد الحديث.
إن إعطاء آبل قيمة تأسيسية للتواصل وللنقاش يعود إلى الأطروحة القائلة بأن الفكرة عند الإنسان مرتبطة بالعلامة اللغوية وبأن المتكلم يريد التعبير عن شيء وتبليغه لإنسان آخر(المتلقي). إلا أن وجود المتلقي يجعل المتكلم معرضا إلى الاعتراض والنقد والنقاش لأن المتلقي إنسان يفكر من وجهة نظر أخرى وله تصور آخر للموضوع المطروح. هذا الظرف الخاص بالتواصل الإنساني يمثل قيمة تأسيسية عند آبل على المستويين النظري والعملي، ففي هذا المعنى يحتاج العقل النظري والعقل العملي في ما بعد الحداثة إلى تبادل وجهات النظر بين الذات والآخر وإلى إرساء قواعد التبادل المجدي والحوار البناء ولتأسيس معقولية عملية مشتركة. إن أنصار "المعرفية" Cognitivisme في المجال العملي يرفضون النسبية في الأخلاق ويرفضون التناقض والإنفصام داخل العقل العملي. وبأنهم تجاوزوا فكرة عقل عملي فطري وما قبلي (مثل عند كانط) لم يبق لهم لتأسيس الكلية العملية إلا التواصل والنقاش.
يصبح التواصل المنهجي المنظم حسب قواعد الجدل الإيجابي أسلوبا إجرائيا، Pragmatique  طريقة مجدية. ليست أخلاقية النقاش إذا مذهبا ولا نظرية أخلاقية محددة المضمون القيمي ولكن هي منهج ترنسندنطالي، أي هي مجموعة من الشروط يصوب احترامها نحو تحقيق الإجماع أو على الأقل نحو تحقيق اتفاق مرضي بين الأطراف المعنية. يتفق هنا آبل مع هابرماس حول ضرورة احترام مبادئ يسميها مسلمات في كل علاقة تواصلية، وهي أربعة : إرادة المعنى، التعبير عن الحقيقة، الصدق وصحة ما يقال وما يبلغ.
ويضيف كارل أتوآبل إلى هذه الشروط قبول مبدأ النقاش في حالة خلاف أو اختلاف وضرورة تطبيق حل الحجاج للخروج من الإحراج ولمنع العنف(2).  إن أخلاقية النقاش إذا طريقة ومنهج يتأسس عليه الطرح الأخلاقي حسب شروط تضمن المعقولية والكلية والموضوعية والاتفاق أي تحقق فكرة العقل العملي في عصر ما بعد الحداثة. إن الحل اليوم في ظروف عالمية متأزمة موجود في أخلاق مبدأها التبادل والنقاش والحجاج العقلي. إن أخلاقية النقاش إطار إجرائي يسمح بإخضاع كل المبادئ وكل الاختيارات إلى التحليل والتقييم قصد التأييد أو التفنيد حسب شروط الحجاج المقنع عقليا في ظروف نقاش جدي بين الأطراف المعنية. إن هذا الإطار يمنع استعمال السفسطة والمغالطة والتمويه والعنف.
تمثل أخلاقية النقاش تقدما بالنظر إلى الأخلاق في المعنى الكانطي وذلك لأسباب عديدة منها : ضرورة اعتبار التأثير الإشكالي للعلم وللتكنولوجيا على حياة الإنسان الخاصة والاجتماعية وضرورة احتساب المسؤوليات المرتبطة بنتائج اختياراتنا وأفعالنا المختلفة، ونحن نعلم أن في ذلك تجاوز للفهم الكانطي للأخلاق القائل بالاستقلال التام للعقل العملي عن العقل النظري والقائل بأولوية احترام القانون الأخلاقي على البحث في النتائج. إن معقولية أخلاقية النقاش أي نسبتها إلى العقل العملي واضحة في نظر كارل أتو آبل لأن قبول مبدأ النقاش والدخول في حجاج جدي لتقييم كل وجهات النظر أدلة على رغبة المتحاور في احترام مبادئ العقل الكلية.
يتكلم كارل أتو آبل عن "تحول للعقل" وهو المعنى الذي أراده الفيلسوف الألماني في كتابه "تحول الفلسفة"(3)  وذلك "بعد المنعرج اللساني" Le tournant linguistique . و يتمثل تحول العقل في تجاوز شكله الكانطي المتمركز على الذات وعلى مقولات ملكة الفهم وعلى الأفكار- المثل Concepts de la raison ou Id閑s وقوانين العقل العملي المتسائل : "ماذا يجب علي أن أفعل". يبقى العقل العملي الكانطي (حسب آبل) معرضا إلى خطر التقوقع على الذات لسبب اكتفاء العقل على الحوار مع نفسه. وما أراد أن يقوله آبل هو إن الكلية المرتبطة بالعقل النظري والعملي ليست فطرية ولا ما قبلية ولا تلقائية وإن الحوار والحجاج والبحث المشترك عن الحقيقة هي شروط تحقيق الموضوعية والكلية والإجماع في المجالين النظري والعملي. يصبح هكذا مبدأ الحجاج داخل إطار أخلاقية النقاش هو العنصر التأسيسي لعقل عملي مناسب لعصر العلم والتكنولوجيا ومناسب لمناخ تسوده اللائيكية والذهنيات العلمانية وما بعد التقليدية وبعد النقد النيتشوي للواجب الكانطي وبعد ظهور التصور القراري للمشكلة العملية مع ماكس فيبر.  

الثلاثاء، 24 يناير 2017

من نقد الخرافة إلى نقد الاغتراب. فويرباخ وماركس امام "ما هو التنوير؟" لكانط

سامية الهواشـي



تمهيــــــــد
لقد أصبح مبحث التنوير محايثا للفكر الفلسفي الحديث والمعاصر باعتباره يتناقض مع كل الإرهاصات والعوائق التي تحول دون سيادة الإنسان على الطبيعة، ولارتباطه بالأفكار العلمية الجديدة فانه يمثل إشاعة لنور العلم ضد الأوهام والخرافات الدينية والقوى الرجعيّة وكل ما يمكن أن يشل أذهان الناس دون التطلع إلى حرية الفكر والبحث العلمي والفلسفي والسياسي أي الارتباط بالمعايير الحقوقية للدولة والمجتمع المدني .   و لذلك فان فوكو مثلا إنما ينزّل السؤال عن الأنوار ضمن مساءلة عن ماهية الكائن الموجود: ما نحـن ؟ أي ما الإنسان ؟ . وعن المعرفة: فيما نفكر وأيّ وجهة يمكن أن تتخذها أفكارنا ؟. وأخيرا عن الفعل: ماذا نفعل نحن اليوم وما هي طبيعة أفعالنا ؟، هل نختارها دون محدّدات خارجية أم أن هناك ما يجعلنا نفعل ما نفعل لزوما ؟ . و يعتبر أن سؤال » ما التنوير؟ « معضلة فعلية فهو يقول : » لا يوجد من فلسفة لم تواجه بشكل مباشر أو غير مباشر هذا السؤال : ما هو هذا الحدث الذي نسميه الأنوار L’Aufklنrung ومن الذي حدد ولو من جهة على الأقل، ما نحن وفيمـا نفكر ، وماذا نفعل نحن الـيوم ؟ «    . وبذلك يشمل هذا التنزيل كل مجالات الفلسفة التي تحتاج باستمرار لفعل التنوير: الوجود والمعرفة والعمل والممارسة، إنها في حاجة للوضوح والدقة وإضفاء المعنى والدلالة.
لقد كان مصدر فوكو في الإجابة عن هذا السؤال مقال كانط الشهير:"حول التنوير" في المجلة الشهرية البرلينيـة (Berlinische Monatsschrift) في ديسمبر 1784، الذي يقول عنــه: " ربما كان النص قصيرا . ولكن يبدو لي انه بواسطته دخلت في تاريخ الفكر خفية مسألة كانت الفلسفة الحديثة عاجزة عن الإجابة عنها ورغم ذلك فإنها لم تستطع ابدا التخلص منها". وان استعادة فوكو لسؤال ماهي الأنوار يندرج ضمن تاريخ طويل، وليس وليد  القرن العشرين ، بل إن اهتمام مدرسة فرنكفورت في كتاب " جدل الأنوار" لهوركهايمر وادرنو في أوج الحرب العالمية الثانية 1942 و اهتمام هابرماس به في اركيولوجيا الرأي العام في أطروحته حول الفضاء العمومي ( 1958) ،  يرتبط بأول تفكير نقدي في نص " ما هي الأنوار؟ " كان قد ظهر في كتابات فويرباخ حول الاغتراب الديني 1836-1843 التي اعتمدها ماركس لنقد الاغتراب الديني والاغتراب السياسي ولصياغة مفهوم مادي ونقدي عن التنوير. وهو ما نريد إن نتوقف عنده هنا .  
 وان إعادة البحث في السؤال ذاته من قبل فوكو ومن سبقه من أعضاء النظرية النقدية لتُبَيّنَ وجاهة هذا المشكل الفلسفي " العريق"، ونحن سنشير أولا إلى كانط مدشن الاستشكال، وبعد ذلك نستجلي نقد فويرباخ لكـانط ،الذي استعان به ماركس ، الذين كانا يشاطران كانط قيم التنوير وان طرحاه على أرضية مادية ، لنعيد طرح السؤال في عصرنا الذي يحتاج إلى تنوير جديد في تقدير الذين واصلوا الإيمان بقدرة العقل على التحرير مثل هابرماس  ، أو الذي  عليه أن يتوقف عن هذا المسعى ، كما يوحي بذلك كل نقاد التنوير الجذريين ومنهم فوكو.
1- غاية نقد كانط في " ما هي الانوار ؟ "
يجيب كانط في بداية نصّـه، انه: "خروج الإنسان من قصوره الذي هو نفسه مسئول عنه. قصور يعني عجزه عن استعمال عقله دون إشراف الغير، قصور هو نفسه مسؤول عنه لأنّ سببه يكمن ليس في عيب في العـقل، بل في الافتقار إلى القرار والشجاعة في استعماله دون إشراف الغير . تجرّأ على استعمال عقلك: ذاك هو شعار الأنوار"  .
 لقد كان رهان كانط في ذلك المقال كما في كل فلسفته،عقلانيا ، لذلك فانه اشترط لتحقيق التنوير القدرة الذاتية على استعمال العقل .
 ولذلك تخضع مسألة التنوير عنده لاعتبارين اثنين: اعتبار أول بمقتضاه يرتبط فعل التنوير بمستوى الفرق الانطو- بيولوجي الذي يجعل الإنسان بوصفه كائنا عاقلا ينتج الفرق بينه وبين الحيوان ، وينفتح بالتالي على فضاء تعقل العالم الخارجي بواسطة موضوعات المعرفة التي أنتجها العقل ذاته والتي تدين له بها الفيزياء ذاتها لعجزها على البحث في الطبيعة دون قوانينه الثابتة  . وثانيا على الاستعمال العمومي للعقل وههنا تكمن الإجابة عن سؤال »ما التنوير ؟ « بالنسبة لكانط .
لقد اقتضت هذه الإجابة تدرجا مرحليا ارتبط فيه التنوير بمفهومين مركزيين همـــا " الخــروج " و" القصور" وكلاهما يمثل " شعار الأنوار" على حد قول كانط. إذ يمثل الخروج حالة القطع مع وضعية يتساوى فيها الوجودين الانساني والحيواني ،  وان كانط يستدل على ذلك بقوله : " (....) وبعدما دفعوا  بقطيعهم الى هذا المبلغ من الحمق ، واحتاطوا بعناية كي لا تجرؤ هذه المخلوقات الوديعة على ان تخطوا خطوة واحدة للخروج من الحظيرة التي حبسوها  فيها ، فانهم يطلعونها على الخطر الذي يتهددها فيما لو غامرت بالخروج وحيدة "   .
 ان كل هذه المصطلحات انما تؤكد على فكرة مركزية واحدة : حالة الانسان في غياب العقل ودون استخدامه للملكة التي بها يستنير ويواجه العالم في " مغامرة " اثبات الذات . اذن لا بد من الخروج من حالة القصور هذه ، وقد ترتبط هذه " المغامرة " بمقتضيين :
 مقتضى اول ينتج عن قرار الخروج وانه يستوجب تحطيما للقيود ومطالبة بالحرية . ويتطلب الفعلان كذلك " الجهد الخاص " و " المشي بخطى ثابتة " . وقد ينجم عن ذلك نزوع وجهد والم وما اقرب كانط في هذا المستوى من سجل الدلالات الرمزية والفلسفية التي ساقها افلاطون مثلا في " أمثولة الكهف " في" الجمهورية " والمتعلقة بتلك الالتفاتة الاليمة الى العالم المعقول التي تتطلب ثورة فكريـة ، والتي نجد لها نظائر كثيرة عند ديكارت فـــي " التأملات " او قبل ذلك لدى القديس أغسطينوس في " الاعترافات" .
 اما المقتضى الثاني فيتمثل في الاضطلاع بمسؤولية المعرفة ، وانه يتعلق بالأداة الكامنة في الانسان أي العقل للانتقال من وضعية الوصاية الى الاسهام في بناء الواقع المادي العقلي.  غير ان التشابه بين كانط  وأغسطينوس و ديكارت وافلاطون ليس مطلقا لان هؤلاء وظفوا كل على طريقته الخاصة  الثورة الفكرية العقلية لاجل الارتقاء الى عالم المثال ، او عالم الاله ،او عالم الفكرة الصادقة ، اين تكمن الحقيقة ، لغاية تحصيل الفضيلة، او المعرفة ، او اليقين ، في حين لم تكن غاية كانط نظرية فحسب بل ولاجل مقتضيات عملية  تكمن في مجال ذلك الاستعمال العمومي والحر للعقل . فضمن أي فضاء يكمن الاستعمال الحر للعقل؟
يقول كانط بان التنوير يرتبط ضرورة بحرية استعمال العقل دون وصاية   وهذه المسلمة ليست خاصة بهذا المقال بقدر ما تمثل الخيط الناظم لمؤلفاته النقدية الثلاثة " نقد العقل المحض " (1781) السابق للمقــال  و " نقد العقل العملي" (1788) و " نقد ملكة الحكم " (1790) اللاحقين له.
غير ان هذا المقال يصدر عام 1784 وتحديدا بعد ان ضمن كانط كتابه الاول مذهبه في المعرفة والذي جنحت بعض  موضوعاته للمادية وان أعطت الاولوية المعرفية للعقل. كما كان بصدد الاعداد للمؤلف الثاني الذي ضمنه نظريته الاخلاقية . فكان المقال ثريا بشكل مزدوج :
 أولا يرتبط فيه قصور الإنسانية بالعجز عن الاستعمال الذاتي والمسؤول للعقل ومن ثمة فانه يؤسس لاصلاح طريقة التفكير.
 وثانيّـا يرتبط فيه التنوير الذاتي بالحرية في الاستعمال العمومي للعقل : »أفهم بالاستعمال العام لعقلنا ذلك  الاستعمال الذي يقوم به المرء بوصفه عالما أمام مجموع الجمهورالمتعلم «  ، فالحرية تقطع ضرورة مع كل خضوع لتعاليم يمليها الآخر، ومع مبدأ الطاعة ،الذي ينبغي ان ينحصر  في الاستعمال الخاص للعقل (ما يلزم به رجل الشرطة او رجل المال او الكاهن ) الذي يعده كانط من بين الحدود المضادة للانوار : » أسمي استعمالا خاصا ذاك الاستعمال الذي يحق للمرء ان يقوم به في مركز مدني او وظيفة معينة اسندت اليه «   .
ولذلك يرتبط استعمال العقل حسب كانط  بمهمة مزدوجة ،هي في الوقت ذاته فكرية ومؤسّساتية ، وكلاهما شرط لتحقيق انسانية الكائن الانساني على حد تعبير فوكو .
1-مهمة فكرية لان في استخدام العقل هناك خروج عن القصور وتحمل لمسؤولية ذاتية تجاه النفس ومسؤولية جماعية ترتبط بالإسهام في بناء الفضاء العمومي الذي ينتمي له الفرد ، لذك فان مدلول التنوير يرتبط بالنزوع الموضوعي للتطور لأجل بناء فضاء أفضل وأرقى . ولذلك يفترض الاستعمال العمومي للعقل " حرية لا حدود لها  " في التفكير والتعبير . وفي نفس الوقت تنطوي المهمة الفكرية على ابعاد ايتيقية أخلاقية تجعل الاستجابة لمقتضيات العقل لا تتناقض مع الخضوع لمبدأ طاعة جديد ، لن يخلف ذلك القصور القديم ولن يثقل الضمير في شيء لانه يرتبط بفعل الالتزام تجاه مرجعية خارجية . هذا الالتزام الذي يستوجب الطاعة يتعلق بسجل ديني . فالكاهن وان كان عالما مطالب بطاعة تعاليم الكنيسة وبتعليم المنافع العلمية والأخلاقية ، مؤمنا بوجود »حقيقة خفية« يعجز هو ذاته وان كان عالما عن البحث فيها . وهو ما سيعود كانط للبحث فيه  في " نقد العقل العملي " عندما افترض وجود " عالم العــقل " او " العالم المعقول "  الذي يلزم العقل العملي الإيمان بوجوده، ومن هنا يكون مبدا الطاعة واجبا لا لان العقل يقتضيه بل لانه يرتبط بالتزام تجاه مرجعية خارجية هي الدين . وكل ما يفعله كانط هنا هو الحد من المعرفة لصالح الايمان ، فالعقائد مثلا (الايمان بالثالوث والعناية الالهية وقيام المسيح...الخ ) لا يمكن اثباتها ولا نفيها بقوة العقل بل لا يمكن الايمان بها الا على اساس الوحي الإلهي .
    و رغم ذلك سيحاول كانط في كتاباته اللاحقة التخفيف من تبعية الاخلاق للدين مؤكدا بان الاخلاق لا تقوم على الدين بمعنى ان الدين لا يسبقها بل على العكس فان الدين يقوم على الاخلاق بمعنى ان الاخلاق هي التي تقود اليه .اما في المقال فتندرج مقولة الاخلاق ضمن اطار الواجب الاخلاقي الذي نستخلصه من الامر القطعي الذي  تحدث عنه كانط في " أسس ميتافيزيقا الاخلاق " والذي يجعل من الفعل مطابقا لقانون كلي مفـاده : » اعمل كما لو كنت مشرع القانون«   يشرّع له العقل الفاعل والحرّ  ..ولان الانسان كائن عاقل فان عمله يفترض شرطين هما : الارادة والحرية بحيث يصبح القانون الاخلاقي ممارسة الارادة الحرة للواجـب . فكيف سيوظف كانط الاستجابة للواجب الاخلاقي عندما يتعلق الامر بالمسألة السياسية ؟
2- عندما يتعلق الأمر بتناول المسألة السياسية ، يطرح كانط أرائه ، المتعلقة بالمهمة المؤسساتية (السياسية) ، بشكل لم يخل من التباس . إذ يبدو للوهلة الأولى وكأنه اقرب إلى المنحى الديمقراطي سواء في تحديده لواجبات المواطن أو لحقوقه . فمن واجبات الفرد المواطن المطالبة بإصلاح بعض القوانين (دفع الضرائب) » لن يكون تصرفه مضادا لواجباته بصفته مواطن فيما لو عبّر باعتباره عالم وعلانية عن طريقته في النظر …«  . ان الاساس الواقعي لاراء كانط من هذه الزاوية يقوم على معارضته للتعسف الاقطاعي بالحق البرجوازي النابع من حق الملكية الخاصة ، وفي نفس التوجه يطرح مسألة سيادة الشعب التي استقاها من روسو  محافظا على نفس مصطلحاته : حق الشعب في تحقيق مصيره، سهر السلطة التشريعية » على ان يكون كل تحسين واقعي او يفترض انسجامه مع النظام المدني «   ، اذ  يفهم كانط الحرية المدنية على انها حق الفرد في عدم الامتثال الا للقوانين التي وافق عليها مسبقا والتي هي حق لا ينازعه فيه منازع  ، وعندما يقول: "(...) ان هذا العصر هو عصر الانوار ، أو عصر فريديريك "، فذلك لكون فريديريك الثاني سمح للشعب بالحرية في استعمال عقولهم في كل ما يتعلق بضمائرهم ولكن عليهم بالطاعة ، وهذه الحرية لن تمس الاستقرار العام في شيء ، بمعنى انه عليها الا تضر الكيان السياسي (الدولة) .  ان حرية العقل التي تحدث عنها كانط خاضعة للرقابة الذاتية التي تستمد من الخضوع لمبدا الطاعة ذاته سواءا تعلق الامر بسجل عقائدي او سياسي (عدم تعارض الحرية مع سيادة الدولة وسلطانها) ، ولذلك  تختلف الحرية من هذا المنظور عن ذلك التصور الذي قد وجد عند بعض مفكري عصر الانوار الجذريين ، نقصد الذين دافعوا عن  حرية مطلقة في التفكير والتعبير والحوار والمشاركة في تأسيس وبناء الفضاء العموميّ الذي ينتمي له الفرد ، وهم في الحقيقة قلة من الماديين لم يكن كانط ليقبلهم.
و لعله لذلك يسال كانط ويجيب في نفس الان  : » هل نعيش حاليا في عصر التنويـر؟ ، فاليكم الجواب : "كلا بل في عصر يسير نحو الانوار"   . ان علة ذلك تعود الى ان التنوير يشترط ضرورة مبدئين :
1-الاستعمال الذاتي للعقل والمشاركة في بناء الفضاء العمومي وبذلك يتحول كل فرد عقله مستنير الى عَالِمٍ تحكمه ارادته الحرة .
وان هذه المبادئ : الاستقلالية والارادة والحرية هي التي  ستجعله من جهة يلتزم بالطاعة التي يقتضيها العقل تجاه النظام الذي انظوى تحته والذي هو نتاج لذلك العقل في بعديه النظري والعملي ، ومن جهة اخرى للدين الذي تُردُّ له الحقائق التي يعجز العقل عن البحث فيها والتي قد تجعله ، اذا بحث فيها ، لا ينتج حولها سوى الاوهام  .
2 -ما من ضمان لتحقق التنوير ان لم يرتبط ضرورة بوفاق ضمني بين من بيده السلطة (الحاكم) وبين الشعب ، فالاستعمال العمومي للعقل موجه سياسيا دائما. ولكن ، مع ذلك ، يظل العائق الاساسي دون الاستعمال الحر للعقل كامنا في الفضاء المدني وذلك لان حرية التفكير لا تنفصل عن حرية التعبير : ولان عمل العقل يفترض حوارا عموميا فانه يستوجب إزاحة كل العوائق النظرية التي تقيد الفكر بالإلزام والطاعة سواء تعلق الأمر بالسجل الديني اللاهوتي او بسجل الممارسة أي طاعة الحاكم المستنير .ولعل هذا ما يجعل فلسفة كانط تتعرض لمجموع من الانتقادات من قبل تيارات فلسفية اخرى ، بدأت منذ حياته في العقد الأخير من القرن الثامن عشر مع فيخته ، وتواصلت لاحقا مع المذاهب المادية وخاصة مع فيوربــاخ وماركس.
2- نقد فيورباخ لماهية الديــــن 
لقد تابع فيورباخ تقاليد مادية القرن الثامن عشر فساهم في تطوير النظرية المادية الحسية في المعرفـة . وان ما قام به ليتعارض مع التصور العقلاني المثالي الكانطي (ثنائية العقل والتجربة الحسية) باعتبار ان كل ما يوجد في الطبيعة وما يتجلى للانسان يمكن ادراكه في معزل عن الإيحاءات الغيبية للايمان الديني . يقول فويرباخ : " فلسفة كانط هي تناقض الذات والموضوع، الجوهر والوجود ، الفكر والكينونة ... ولكن ياله من تناقض ان نفصل الحقيقة عن الواقعية والواقعية عن الحقيقة "   . ولا يعني ذلك ان فيورباخ لا يعترف بالوظيفة المعرفية الخاصة بالتفكير النظري وبقدرته على فهم اعمق للواقع بل انه يعتبر ان وظيفة الفكر تقوم في جمع المعطيات الحسية ومقارنتها والتمييز بينها وتصنيفها والكشف عن محتواها الخفي. فالتامل الحسي يظل ابدا معيارا ليقينية التفكير . 
فبعد ان راينا ان التوجه العقلاني الذي كان كانط احد رواده يجعل العقل شرط تحقق انسانية الانسان والموجه لكل افعاله ، تقوم في المقابل مأْثرة فيورباخ على التفنيد العميق لمثالية كانط، تفنيدا مباشرا في عدة مستويات ، نذكر من بينها على سبيل المثال لا الحصر:
1 - ان فويرباخ يقدم فهما انتروبولوجيا لجوهر الدين يطور به المذهب الالحادي لماديي القرنين  السابع عشر والثامن عشر ، عكس كانط الذي يقوّض المعرفة لصالح الدين . فلقد اكد فويرباخ في أولى اطروحاته على ان تحقيق الدين يقتضي نفيه ، لذلك يتحول مذهب اللاهوت الى مذهب للانسان : " ان سر اللاهوت هو الانتروبولوجيا ، ان سر الفلسفة النظرية هي اللاهوت الذي ينقل دنيويا أي يُرَهّنُ ، يعيّنُ ويوقعنُ الجوهر الالاهي ، الذي كان الاخر ينفيه من هذا العالم الى ما ورائه، بدافع الجبن والحماقة "   ، فالدين يعكس الخوف والإله لا يولد إلا في الآلام البشرية ولا ينتج إلا الجبن ، لذلك لابد من أن يصبح للدين محتوى واقعي يرفض من خلاله الإنسان التصور العيني عن ماهيته ليحقق على الأرض ما كان الدين يعد بتحقيقه في العالم الآخر الذي لا يعدو  أن يكون مجرد وهم. وان نقد الدين يمتد من كانط ليشمل هيجل الذي ارتبط بفلسفة كانط الدينية خاصة في مؤلفه " الدين ضمن مجرد حدود العقل " (1793)، انه نقد موجه للدين بما هو تجسيد حسي لمفاهيم عقلية. 
2-يدحض فيورباخ المذهب الكانطي في الأمر القطعي (المطلق والقبلي) ، فالانسان يتصرف وفقا للحساسية وتمظهراتها عديدة : حب الحياة والنزوع الى السعادة ويحكمها المبدأ الذاتي أي الانانية والمصلحة واللذة . فلئن كان الانسان يسير وفقا للضرورة فانه يتصرف بحرية حقيقية تختلف عن تلك التي تصورها كانط أي الممكنة خارج الزمان والمكان .
3-يدحض فيورباخ مذهب كانط في قبلية الزمان والمكان ، مستدلا بالتصور العلمي عن أنّ تعين الأشياء في المكان لا ينفصل عن تواليها في الزمان بل يفترض الإدراك الحسي للحيّز : " نفي المكان والزمان في الميتافيزيا ، في جوهر الأشياء ينتج في العمل أوخم العواقب. فقط من يتبنى على طول الخط وجهة نظر المكان والزمان يملك في الحياة أيضا الحس والمعنى العملي "   . إذن ليس ثمة واقع خارج الزمان والمكان كما انه لا وجود لزمان أو مكان خارج الطبيعة ، ولذا فان المزاعم الدينية والمثالية باطلة .
لقد تجاوز فويرباخ الاعتقاد في أن الوجود مغاير للفكر وان الطبيعة تستمد من الفكر ومن المفهوم بناءها وحركتها ، فالطبيعة هي الحقيقة الأولية ، وان الفكر لمنبثق من الوجود لا العكس . وما الوجود الطبيعي للإنسان سوى وجود الإنسان المؤسس لواقعه . لقد اكتمل تشكل الرؤية المادية للطبيعة في فلسفة فويرباخ باعتبارها الواقع الوحيد ، وانه من خلال الإنسان فقط تحس الطبيعة ذاتها وتعقلها ، لذلك فانه يربط ما بين تأمل الطبيعة والإنسان وما بين الكشف عن أسرار الفلسفة .
هذا ما يتعارض بالتالي تماما مع هيجل الذي تمثل منظومة أفكاره امتدادا لكانط في تصوره للوجود على انه فكر منذ البداية . فالوجود بالنسبة لهيجل ليس الواقع والمعطى بل انه مغاير للفكر ، انه "مفهوم" . في المقابل يؤكد فيورباخ بان على الفلسفة ان تبدأ بالوجود لا الوجود المجرد في ذاته  كما عند هيجل : " ان كائنا لا يفعل سوى ان يفكر ولا يفكر الا في التجريد لا يملك اطلاقا أي تمثيل عن الكائن ، عن الوجود ، وعن الواقع "   . فان تبدأ الفلسفة بالوجود يعني الوجود العيني أي الطبيعة ، " فماهية الوجود بما هو وجود هي ماهية الطبيعـــة "   وان الفلسفة الجديدة  تستهدف الطبيعة  التي تتحكم في الوجود الانساني .
لقد استمد فيورباخ جذور نقده  من انشغالاته الاولى بدراسة فلاسفة القرن السابع عشر" من بيكون الى سبينوزا " وتخصيص كتاب لتلك الحقبة ، وتوجيه مجهوده النظري للبحث في ما استمدته الفلسفة المعاصرة له  من فلسفة القرن السابع عشر. ولذلك فانه تمكن من دحض الفهم المثالي الذي يعتبر ان الفكر جوهر قائم خارج الانسان ومن تفنيد القول بان الفكر او العقل هو المحدد للوجود ، فكانت ماديته نقدية بشكل مزدوج لعقلانية كانط ولمثالية هيجل  في الآن نفسه   . ولقد اسهم هذا التوجه المادي في بناء فضاء جديد يتموضع فيه الانسان بعد ان افرغ الالاهي من كل معنى لاجل تحديد هوية الانسـان ، واكتشاف اللامحدود في المحدود لاجل تعريف الانسان الذي فقد عبر امتثاله التاريخي لتعاليم اللاهوت ماهيته وكونه الخصوصي . لا يعدو الالحاد الفيورباخي في الحقيقة  ان يكون ضربا من " تأليه البشر"(anthropotheism)، بحيث يتوجه كل جهده النظري إلى السعي إلى استرجاع ماهية الانسان الدنيوية والواقعية. 
ان كل ما قام به فيورباخ انما  هو تحرير التفكير من النظرية او بالاحرى من التجريد الهيجلي وكذلك الكانطي من قبله : " جرّد : وضع جوهر الطبيعة خارج الطبيعة ، جوهر الانسان خارج الانسان ، جوهر الفكر خارج فعل الفكر"   ، وذلك  للعودة إلى العياني والواقعي " فالانسان الذي لا يهتم الا بجوهر التخيل والفكر المجرد ... ليس هو نفسه سوى كائن مجرد او خيالي "   . لذلك كانت مهمة الفلسفة الجديدة ايجاد سبل تحرير الوجود النوعي للانسان ، وما نفي الاله الا تاكيد على حرية الانسان . 
ترتبط راديكالية وجدية مشروع فويرباخ بنوعين من الإصلاح ، إصلاح داخلي للفلسفة وبمقتضاه يكون نفي الدين وتجاوز المسيحية ، واصلاح خارج حقل للفلسفة يوجه نحو الطبيعة ، وبالتالي الى ما يمكن ان يشبع الحاجيات الانسانية . ونحن يمكن ان نرصد ضمن  هذا الاصلاح الثاني انبثاق ملامح حاجة جديدة : هي  الحاجة للحرية السياسية ، وكذلك الحاجة السياسية ذاتها ، وهنا تحل السياسة محل الدين : بمعنى " ان تلمس السياسة لا فقط الراس ، ولكن بان تدخل الى حدود القلب "  . وان في اقتضاء تحقق مبدأ الحرية استعادة للخط العام لتطور صياغة المطالبة بالحرية التي امتدت من كونها مطالبة بالانعتاق من سلطة اللاهوت على الانسان الى مطالبة بالانعتاق من سلطة اللاهوت على السياسة ، وبذلك تتغير حدود وآفاق نقد اللاهوت لتمتد الى السياسة.  كما ان هذا النقد المتحول سينتهي الى نتائج نظرية على غاية من الاهمية لانها ستقود كارل ماركس لاحقا الى صياغة نظريته حول الدولة والمجتمع المدني .وبالتالي  سيتمكن ماركس ، بفضل النقد الفيورباخي  المتحرر تحررا  داخليا فقط ، لان حدوده انما هي حدود التحرر الديني ، من تقديم تصور جديد لمسالة التنوير  و الربط ما بين التحرر بمختلف اشكاله ومسألة التنويربمجملها .
3- ماركس ونقد الاغتراب الانساني
لقد استمدّ التطور الثري لفكر ماركس على الصعيدين النظري والسياسي مبادئه الاولى من الحركات الثورية الفكرية الالمانية من كانط الى هيقل . ولان شاغله انما هو " البحث عن  الفكرة في الواقع ذاته "   فانه كان مطالبا بالاستدارة عن الفلسفة المثالية التي ابتدات " بقراءة كانط وفيختة "   وبامتحان وعيه الفلسفي القديم وتحديدا التخلص من التجريد الهيجلي . وهنا كان نقده لمبادئ فلسفة الحق الهيجلية ، حيث يؤكد بان كل نظرية هيجل السياسية قائمة على مبدأ التجريد ، فلم يعد الاشكال الفلسفي  يُعنى بالمؤسسة السياسية في ذاتها بقدر ما يعمل على منح الدستور طابعا تجريديا ، تماشيا مع مسار الفكرة الموضوعية . اضافة الى نقده لتعامل هيجل مع مسألة الحق ومع الوجود الفعلي للحق كوجود حكومي سياسي غيّب الحريات الفردية للمواطنين وجعل المساواة تصبح وهما صعب التحقق .
غير ان هذه الاستدارة لم تمنعه ابدا من الاستفادة من مجموع الانساق الفلسفية الكبرى التي اطلع عليها زمن دراسته والتي وظفها في كل كتاباته تقريبا التي لم تخل من المضمون التنويري . فانشغال ماركس بمادية الذريين القدامى في اطروحته 1842  ، اسهم في تطوير اعتراضه على علم طبيعة الوعي بالذات في تعارضه مع العالم ، بحيث يصبح المضمون التنويري لاطروحته مبرهنا على ما استمده من مادية الذريين القدامى من انتصار للعقل ومن دفاع عن الحياة والحرية. فما استجلاه ماركس في " تنوير القدامى " في كل ما يتعلق بالذرة وما يعتبر من قبيل التعديلات الجوهرية لعلم الفيزياء ، سيتحول الى بحث في العالم الموضوعي الحسي والعياني  المتعلق بالفرد باعتباره كائنا حركيا ومهيأ للمشاركة مع الآخرين لأجل بناء معالم وجوده الاجتماعي .
وبقدر ما يرتبط التنوير بالانتصار للعقل بقدر ما يقطع مع مقولة الضرورة والقوى المتحكمة في الوجـود . وانه في هذا المستوى بالذات  يختلف جوهريا مع كانط . فالحرية بالنسبة لماركس هي قمة التطور في الطبيعة وبالتالي فهي دفاع عما يشرع لمبدأ الفكر الحر والفلسفة وضد كل اعتبار مثالي للعالم . وسيعود ماركس مجددا للبحث في البعد التنويري للمادية من القدامى الى المحدثين في مؤلفه " العائلة المقدســــة " (1845) ليؤكد بان هذا البعد ليس في نهاية الأمر سوى تأسيسا لوجود يتجاوز مظاهر الاغتراب سواء من نظام الطبيعة أو من سيطرة اللاهوت ، وبالتالي ما التنوير سوى كل أفق يؤسس لموقعة الإنسان المتحرر من قيود الدين في الطبيعة والمجتمع بحيث يكون الفرد من يصنع ظروفه ويحدد طبيعة وجوده في المجتمع كقوة مستقلة .
فلئن ربط كانط تحقق التنوير بضرورة الاستعمال الذاتي والمسؤول للعقل لبلوغ التحرر من الأوهام ومن المعارف الخاطئة. وتجلى التنوير بالنسبة لفويرباخ في التحرر من الدين وفي انفتاح الإنسان على الواقع وعلى الطبيعة ، فان ماركس سيستند إلى أهم مبدأ في مادية فويرباخ ، أي اكتشاف الاغتراب الديني " ليعثر على مفتاح كل التناقضات التي تعفن الفكر الانسانــي"   بل انه  سيذهب الى ابعد من هذا المستوى كاشفا عن الاسباب الرئيسية للبؤس الاجتماعي الذي يَسمُ الحياة الانسانية . فلئن  اعتبر فيورباخ الدين انعكاسا للعلاقات المشوهة بين الناس بوصفه "ايمانا بالاشباح " (الاطروحة 18) ، فان ماركس قد بين علاقة الوعي الديني بالاضطهاد  والاستغلال: " ان التعاسة الدينية هي في شطر منها تعبير عن التعاسة الواقعية، وهي من جهة اخرى احتجاج على التعاسة الواقعية. الدين زفرة المخلوق المضطهد، روح عالم لا قلب له ، كما انه روح الظروف الاجتماعية التي طرد منها الروح ، انه افيون الشعوب "  . تتحدد من هذا المنظور طبيعة الانسان ذاته في كليتها وشمولها ، والتي تتطلب لا فقط تحررا دينيا بل وكذلك تحررا من الشروط المادية . ومن هنا سيكون نقده "فيما ابعد"  من نقد فيورباخ وكانط معا .
ولتحقيق ذلك سيتجاوز ماركس " الفهم المثالي " الذي حملته مادية فيورباخ التي خلت ، حسب رأيـه ، من اهم شروط ومقومات الفلسفة المادية العملية، أي ادراك العنصر الاجتماعي والسياسي بصفتها العنصر الحاسم . فالبرغم من تاثر ماركس بمادية فيورباخ الانتروبولوجية وتقديره لنضاله ضدّ الفلسفة النظريـة، الا انه عاب عليه عدم تمكنه من بلوغ فهم مادي للحياة والوعي والاخلاق الاجتماعية ، وهو ما قصده بقوله : " ما ان توضع حقيقة الواقعة السياسية –الاجتماعية العصرية موضع النقد، وعموما ما ان يرتفع النقد الى معضلات انسانية حقة ، حتى يجد نفسه خارج الوضع الالماني القائـم ، والا سيكون عليه البحث عن موضوعه تحت او دون موضوعه ذاته "  . وسيؤكد ماركس موقفه هذا لاحقا  في اطروحاته حول فيورباخ   عندما يقول بان كل ما فعله الفلاسفة هو تأويل العالم في حين كانوا مطالبين بتغييره، وبالتالي باستجلاء المعايير والشروط المنظمة لقوى الافراد الاجتماعية الخاصة ، مما يمكنهم من تجاوز مستوى التحرر من الدين كظاهرة من ظواهر الاغتراب الانساني الى المطالبة بتحرر انساني مكتمل. ولكن قبل ذلك اعتبر ماركس مع فويرباخ ان "نقد" الاغتراب الديني " انما هو شرط كل نقد ، على الاقل "بالنسبة إلى المانيا " كما جاء في نص1843 الشهير، ولذلك  افترضت مسألة التنوير بالنسبة لماركس ، في كل هذه المرحلة – 1842-1844 ، الفكر الحر بما هو معيار تحقق الحرية الواقعية المرادفة للقدرة والاستقلالية ، وانه لا يمكن الحديث عن حرية التفكير في سجل الخضوع للدين ولتعاليم اللاهوت .
لذلك فان ماركس سيدرج مسألة نقد الدين ضمن مقالاته الصحفية وتحديدا في مقالاته الخاصة بنقد الرقابة   التي تفرض خضوع الفلسفة والعقل لللاهوت والدين . فكان موضوع نقد ماركس مزدوجا:
1-نقد أساسه العجز عن الفصل بين المجالين الديني والسياسي والغاية منه الكشف عن دور  وغاية الرقابة الفعلي أي منع تأسس الدولة على مبدأ العقل الحر .
2-لم يخرج حديث ماركس عن " العقل الحر " عن تيار العقلانية اللاهوتية الذي تطور في المانيا بفضل كانط ، الا انه يحدث فصلا ما بين قوانين الاخلاق العامة والعقلانية والتي تستمدها من ذاتها مما يجعلها غاية في ذاتها ، وما بين اخلاق الدين الوضعية والخاصة . بالنسبة لماركس عندما يخدم فعل ما غايات غريبة عنه فانه ينحط بالاخلاق من استقلاليتها إلى جعلها في مصاف الوسائل ، الامر الذي يعد اعتداءا وسرقة للكرامة الانسانيـة .
فاذا ما اعتبر الحاكم المسيحي بان الأخلاق تستوجب اعتبار من لا يستجيب لأخلاق المسيحية فرد لا أخلاقي فان في ذلك استعباد للفكر الإنساني يتناقض مع الأخلاق بما هي استقلالية وحرية . ويؤكد ماركس ذلك بقوله : " إذ لا يمكنكم القبول بهذا ، لانكم لا تريدون تأسيس دولة أساسها العقل الحرّ "  . فكيف يمكن الانتصار إذن للدين المسيحي الذي يعد " المذهب المكتمل " والحال انه لا ينجم عنه سوى الكراهية والعدائية المناقضة لماهية الدين ولما هو خصوصي فيه ؟
من هنا سيوظف دفاع ماركس عن الفكر الحرّ والمستقل : أولا للقضاء على الوحدة بين اللاهوت والسياسة ، وستكون مبادؤه مستمدة مما وجده عند سبينوزا من فصل بين الحق واللاهوت ، وبين الدين والفلسفـة ، خاصة وانه قد تاكد لماركس قارئ " رسالة اللاهوت والسياسة " لسبينوزا بانه  ما من تعارض بين حرية التفكير والتعبير وبين مبادئ الايمان  . وثانيا للبرهنة على التناقض القائم بين طموح الفكر للتحرر وبين كل القوانين والتشريعات التي تريد السيطرة على الفضاء العمومي .
فدفاع ماركس عن الفكر الحرانما  يستمد موضوعيته وصرامته من العقلانية الكانطية ولكنه يريد ان يكون وثيق الصلة بالفضاء الخاص لفكر الشعب ووعيه الذي يجب ان يتبلور في استقلالية عما تمليه الحكومة من معايير وضوابط . فاذا ما شرّع كانط للفكر الحر وللاستعمال العمومي للعقل شريطة ان لا يمس هذا الاستعمال الكيان السياسي واستقرار الدولة وسلطة الحاكم ، فان حرية الفكر بالنسبة لماركس انما  هي بمثابة تأشيرة الدخول في صلب المعارضة والصراع المعلن ضد سيطرة الحكومة على "المجتمع المدني" وفق عبارة روسو ، و لذلك تحديدا كان نقده لهيجل بمثابة صياغة جديدة لشروط تحقق التحرر الانساني بعيدا عمـــــا " أتـاه " الماهية الفعلية للانسان في صلب التضاد الكامن بين ما تمليه الحكومة من معايير وضوابط وبين فكر الشعب ووعيه وتطلعه لبناء فضاء عمومي يستجيب لمطالبه في الحرية والعدالة والمساواة . وان الوصول الى هذا الافق التنويري سيجعل ماركس يبحث في الاسباب المباشرة للتأخر الالماني والتي يمثل مركزها تصورالدولة المستخلص من الفلسفة الهيجلية . لذلك فانه قد  وجه أوّل نقده لمفهوم الدولة بما هي الفكرة الإلهية متجلية على الارض .
وسيتضمن هذا النقد نقدا مزدوجا :
1-نقد لمفهوم التنوير المستخلص من الفلسفات السياسية الليبرالية ، ويتضمن قراءة نقدية للثورة الفرنسيــة (1789) التي اعتبرها  مجرد ثورة سياسية ، وبالتالي ثورة غير مكتملة ، ونقدا لاعلان حقوق الانسان  الذي وان تمثلت غايته في ايجاد ضمانات لحقوق الانسان الفعلية في العدالة وفي الفعل والاخلاق وفي السياسة فانه لم يستهدف في النهاية مصلحة الكل بقدر ما نهض بالمصالح الخاصة بالدولة ككيان سياسي ، كما جذر الانفصال بين الحقوق المدنية والسياسية .
2-وسيتوقف ماركس عند نقد هيجل للتجريد الذي سقطت فيه الثورة الفرنسية التي زعزعت الاسس الفلسفية والسياسية والاقتصادية للدولة ، وللارادة العامة الروسوية  التي مثلت نوعا من الاغتراب لماهية الانسان وجوهره العاقل والحر. ولكن  ذلك لن يمنع ماركس ، ناقد فلسفة الحق الهيجلية ، من نقد السلطة التشريعية التي مثلت اعلى هرم الدولة السياسية والمتحكمة في الدستور وفي سن القوانين باعتبارها كذلك  المسؤولة عن تجذير فكرة الوساطة الوهمية بين الدولة والمجتمع المدني ،قائلا : " الدولة والحكومة يوجدان في نفس الصف متماثلين والشعب يذوب في هذه المجالات والافراد يتموضعون من جهة اخرى "   ، ليقر بالتالي عجز هيجل على ايجاد حل لواقع الانفصال بين الفضائين السياسي والاجتماعي الذي كان قد وجهه هيجل ذاته  للثورة الفرنسية . كما ينقد ماركس  تصور هيجل عن ضرورة تحقق دولة عقلية كغاية مطلقة في ذاتها تكون فيها السيادة مطلقة للنظام الملكي المتحكم في سن القوانين ، فيرتبط التنوير بتحرر المواطن من سلطة القانون لانه تحديدا من أوجده .
فلئن تأكد لنا بان هيجل لم يخرج عن عصر النقد الذي افتتحه كانط وبالتالي حافظ على القول بان الوجود الحقيقي هو العقل الذي يزيد وعي الناس بماهية ما يقومون به وما يشغلون به انفسهم مما يجعل العقل التنويري يمتدّ ليشمل مختلف اشكال الوعي الاجتماعي (الدين والسياسة والحق والاخلاق والفن) ، فان ماركس قد حافظ على نفس هذا الدور الوظيفي للعقل بل لقد اعتبره ما به يبرهن الانسان عن كونه الواعي والعاقل والفاعل وان ذلك تحديدا ما سيجعل تصوره يصبح توجها يشترط التحرر الانساني المكتمل من سيطرة الخطاب السياسي ومن سيطرة تعاليم الدين واللاهوت ومن نظام المصالح الخاصة وهنا تحديدا يكمن وجه الاختلاف بينه وبين كانط وهيجل . 
فليس التنوير بالنسبة لماركس سوى شرط تحقق التحرر من النظام الاجتماعي الذي تنتصب فيه الحرية الدينية ذاتها سلطة على مستويي العقائد والممارسة ، بالإضافة الى التحرر من كل القيود التي تمنع الأفراد من حق المشاركة في العملية السياسية .و لذلك فان التحررانما  يرتبط ضرورة بكل مبادئ التنوير مجتمعة : أي العدالة والمساواة وحرية التفكير والتعبير ، فحرية الفكر تعدّ نموذجا ومعيارا للحرية الإنسانية وإعلانا عن تغيير ضمني للواقع من اجل التأسيس للحياة العادلة والحرة .
4- تعقيبـــــات نقديّــــــة
ومما لا شك فيه ان مقولة التنويرذاتها تندرج  ضمن هذا السياق تحديدا ، فليس التنوير كاتجاه فلسفي قبل أن يتحدد اجرائيا في ابعاده الاجتماعية او السياسية ، سوى اتجاها يتميز بفكرة التقدم والتفاؤل والحركية الواعية والاستعداد للتغيّر من اجل المشاركة في بناء الفضاء العمومي الذي اليه ينتمي الفرد والذي اسهم في انشائه عبر عملية تفكيره وتعقله واقامته للعلاقات مع الاخرين ومع النظام وتأسيسه للحوار . ليس التنوير سوى القطع مع الوجود السكوني الغير القابل للتطوّر والتقدّم المؤسّس للإرادة الحرّة .
ونحن اذا نظرنا إلى الامر تاريخيا فاننا يمكن ان نؤكد على ان التنوير وليد القرن السابع عشر الذي نشد بنية متينة وتسلسلا منطقيا في الافكار بنقد السكولائية وبالبحث في شروط بلوغ حلم ديكارت في السيطرة على الطبيعة باصلاح العلم وتنظيف العقل من رواسبه واوهامه واعتماد المنهج التجريبي الذي يعمل على حد تعبير بيكون على جمع اكبر عدد ممكن من الوقائع شانه في ذلك شان النملة التي تحمل الى وكرها كل ما تستطيع حمله مما تصادفه في طريقها ، وتوظيف كل الانتصارات العلمية التي قدمها كوبرنيك وكابلار وقاليلي في فهم بناء العالم ، فنؤكد بذلك قول برنار غروتزين : " دائرة المعارف هي صنيع عصر النور. ومن صنع الذهن الذي يخضع لقوانين عقل مبدع والذي يعترف بتفوق هذا العقل. ان العلم في خدمة العقل"   . فاذا ما ارتبط التنويربمراهنة على قدرة العقل وعلى اولويته في عملية المعرفة كان نضالا ضد الاوهام والخرافات . وان جذور هذه القدرة ابتدأت منذ افلاطون وارسطو الذين نعتبرهما ولا شك من انصار العمل بمقتضى العقل ، وصولا الى كانط الذي وان اراد الحسم في السؤال الالح أي قدرة العقل على التفكير ونسبة الحقيقة في التفكير الا انه لم يخرج ابدا عن اطار نقد يمارسه العقل على الممارسة العقلية ذاتها في استعمالها غير المشروع لمقولات الذهن، وصولا الى هيجل في مسلمته بان " الواقع هو المعقول ، والمعقول هو الواقع " ،  متجاوزا الثنائية الكانطية بين العقل والعالم الحسي ومشرعا لقيام اللاهوت النظري الذي كان مذهب التنوير منذ كانط يرفضه ، بالرغم من انه ينشأ عن العقل وعن الحرية كعاملين يُعَيّنَان مفهوم الطبيعة الانسانية الذي اصبح موضوع البحث في الفلسفة الحديثة وخاصة بعيدا عما تفترضه العقيدة المسيحية من احتقار عميق للانسان وخرافة ساطعة في فهمه  . 
   وان التنوير في القرن الثامن عشر الذي مثلما ارتبطت حركة التنوير فيه بنقد الايديولوجيا الاقطاعية وتفنيد الاوهام والمعتقدات الدينية نضالا لفائدة الفكر العلمي ، فانه وخاصة في فرنسا  ارتبط بتوجه مادي يتخلص من ربط المعرفة بالعقل وجعله ديدنها الوحيد ، للبحث في الاصل التجريبي للمعرفة (بول هولبـــاخ (1723-1789)، نظام الطبيعة) ولدور النزعة الحسية (كوندياك ، بحث في اصل المعارف الانسانية (1746) ، رسالة في المذاهب (1749)) وللبحث في القوى الحقيقية المحركة للانسان ولافكاره (لامتري ، المعجم التاريخي النقدي (1695-1697)) . وقد ارتبط إذن بنظرية مادية ذاتية تستغني عن اختزال حقيقة العالم في المقولات والقوانين الصورية للواقع . وبعد ان تقوّضت مقولة مطابقة العقل لذاته وللواقع ، فان رواد المادية لن ينضووا تحت لواء الدين كما فعل كانط موفرا للاعتقاد مكانا ، بل سيكون شاغلهم الكشف عن عرج الفلسفة المثالية والكشف عن مهمة الفيلسوف الكامنة في مقولة التعالي نفسها . ولكن سيكون لهذا التعالي مدلول ومعنى مختلفين عن المعنى التقليدي ، لانه تحرر من الحتمية ومن القوى الغيبية واللاهوتية وترسيخ لنضال الانسان ضدّ الدين وكل ميتافيزيقا ديكارت وسبينوزا وليبنيتز وكشف عن عجز العقل وحده على وضع  قوانين الكون وهو ما انتهى اليه بيار بايل (1674-1707) عندما  تحدث عن "العقل البشري المسكين"  القاصر على فهم ما يسود الواقع من تناقضات (القاموس التاريخي والنقدي (1695-1697)).
    وسيجد هذا البعد التنويري امتداده في القرن التاسع عشر حيث يرتبط بالنظم السياسية الجديدة الرافضة للمجتمعات الفردية النزعة والمناصرة للملكيات الخاصة ولنظام الامتيازات والبناء التراتبي، وبالتالي المدافعة على مبادئ الحرية والاستقلالية وحق الشعوب في تقرير مصائرها وهو ما سنجده مع كارل ماركس في مناشدته لتصور انساني مكتمل بعيدا عن التجريد الذي أتاه الماهية الفعلية للانسان في صلب التضاد الكامن ما بين التاريخ الظاهر والتاريخ الفعلي وفي الانفصال المحدث ما بين الثورات السياسية التي حققت تحررا سياسيا جزئيا دون ان تنفتح على الانشغالات الفعلية والكلية للأفراد التي كانت مطلب الثورات الاجتماعية . لذلك ارتبط المعنى التنويري في كتاباته بتغليب مرتبة الانسان في الكون ضد كل مرجعية دينية وباحداث تطابق ما بين مفهوم الفرد كمواطن في الدولة وما بين حقه في المشاركة في الحياة السياسية ، مما جعل التنوير يرتبط أساسا بحرية الفكر العمومي باعتباره نموذجا ومعيارا للحرية الانسانية . و سيجد هذا التوجه التنويري امتداده الى مشارف القرن العشرين في مجهود الحركات الثورية العالمية في الصراع من اجل الاشتراكية التي هي وريثة افكارالحرية و العدالة والمساواة التنويرية .
خـــــــــاتمــة
لقد اتخذت أفكار التنوير كأساس لها مبدأ الإيمان المطلق بالعلم وبالعقل الذي أنتـجه، بحيث يمكن تنظيم حياة الانسان وجعلها تصبح مدينة الله على الارض بعد ان يئس الانسان من بلوغ مدينة الله في السماء . وقد حاول ممثلو الاتجاه العقلاني بالاساس ، الذين يمكن ان نضع ضمنهم كانط وفورباخ وماركس رغم الفروق بينهم ،  " ان يصحّحوا نقائض المجتمع القائم وان يغيروا اخلاقياته واساليبه وسياسته واسلوبه في الحياة بنشر آراء في الخير والعدالة والمعرفة العلمية "  . اذ انه للتخلص من النظام القديم القائم كان لابد من نشر المعارف العلمية ، ولذلك ارتبط التنوير " بالتحولات العلمية والصناعية الكبرى التي عرفها تاريخ الانسانية لاول مرة وصحبتها قاعدة تغيير في طبيعة الانتاج والتسويق والعلاقات الاجتماعية الناجمة عن التغيرات الطبقية "   . ولكن التنوير لم يشترط فقط هذه الواقعية العلمية المؤسسة على مبدأ العقل لانه وليد كل الثورات التي صارعت لاجل الخروج من الظلمات ومن الاسر ، اسر الخرافات والمعارف الخاطئة وتعاليم اللاهوت والاستبداد السياسـي .
بل انه يمكن ان نذهب مع نقاد التنوير التاريخيين إلى اعتبار ان  تقدم الانوار في القرن التاسع عشر والقرن العشرين لم يفترض فحسب صراع المعرفة ضدّ الجهل والعقل ضد أوهامه  بل تنوع واختلاف المعارف بل وحتى تعارضها فيما بينها ، وهو ما يترادف مع نسبة الغنى والثروة في الفئات الاجتماعية ومقدرتها على اقتناء المعارف التكنولوجية . وان مبرّرات طرح هذا المشكل الخارجة عن الفلسفة لارتباطها بتطوّر العلوم من ناحية ، و من ناحية ثانية بنزوع العقل البشري ذاته للتخلص من أوهامه المترسّبة من معارفه القديمة ،  يجعل فهم  التنويرالتاريخي لنص كانط حول التنوير ، انما يرتبط بجينيالوجيا المعارف .
فالنظر النقدي لحركة التنوير يبين من جانبه  ان هذه انما تتضمن ظلمة ، ليست هي  الاغتراب والاستغلال فحسب بل تحول العقل ذاته من وسيلة لتجذير مبدأ استقلالية الافراد ، إلى تناقض وتعارض ونفي للعقلانية

الجمعة، 20 يناير 2017

منزلة كانط في مدرسة فرانكفورت

محسن الخوني

قـد ينشـدّ فكرنا  دوما –ونحـن منغمسون في الإطلاع على النّصوص الفلسفية المنتمية إلى مـذاهب وتيـارات شتـّى- إلى البحث عن الشّروخ التي تسمح بالخروج من انغلاق الأنساق وعن الكيفية التي ينشأ فيها فكر ويبحث عن نفسه بحركة متوتّرة ومتعثّرة أحيانا أو ملهمة وثابتة أحيانا أخرى. وفي خضمّ ذلك قـد يلقى الـواحد مـنا متعة عقلية في متابعة كيفية انتظام فكر وتهيكله عبر إنشائه لحوار مع نفسه ومع غيره. ولمـا كانت الحقيقة هي ديـدن المتفلسفين فإن المقحـم لنفسه في هذا الصنف من التفكيـر يشهـد لديـه نشأة شعـور مفاده أنّ البحث عن الحقيقة يتطلّب مغامرة ومثابرة، مغامرة لأنّ ليس كلّ باحث عن الحقيقة بواجد لها، ومثابرة لأنّ جهد البحث ومعاناته أبلغ تعبيرا عن هويّتنا الفلسفيّة.
إن انطباعا مثـل هـذا حـريّ بأن يحصـل لمـن يتتبـّع أثـر كــانط في فلسـفة مـدرسة فرانكفورت.
أهمية طـرفي العلاقــــــة
ولكـن قبل الخوض في هذه العلاقة وفي محتواها سنفرد كلمة حول كـل طـرف من هـذه العلاقة. 
فمدرسة فرانكفورت [ وهي التّسمية التي تطلق على ما كان يسمّى بمركز البحوث الاجتماعية والذي تأسّس في جامعة فرانكفورت سـ1923ـنة] بإنشائها للنّظرية النّقدية وبتركها لنا  كمّا هائلا من الكتابات تزجّ بنا زجّا في الإحراجات الجوهرية  التي تخترق العقلانية الحديثة والمعاصرة.ودون ادعاء بأنها الفلسفة الوحيدة القادرة على تبصيـر وعينا بمفارقات الحقبـة التاريخية وانسداداتها التي لا زلنا نحيا في ضلها يمكـن الجـزم بأنها معبـر ضـروري في سبيل تجذيــر هذا الوعي خصـوصا بالنسبة لنا نحـن بوصفنا جـزءا من البشريـة ينـوء بأعباء تزداد أثقالها يوما بعد يوم.
 أمـّا كانط فهو الفيلسوف الذي لم يكفّ الفكر الفلسفي عن محاورته وذلك منذ حياته. بل هو الفيلسوف الذّي لازال العديد من مفكّري عصرنا يستوحون أفكارهم الأساسية من فلسفته. ويمـكن أن نلقي الآن، ونحـن واقفون على أعقاب المئوية الثانية بعـد وفاة فيلسوف كونكسبورغ، نظـرة خـاطفة على التيارات الفلسفية التي نشأت من خلال حوار مباشـر يبني مع فلسفة كـانط علاقـة من الـداخل مثـل فلسفة فيشته أو مدرسة ماربورغ المسماة بالكانطية الجديدة {فلسفة كوهان وكاسيرار} أو فلسفة كارل أوتّو آبل الذي أعـاد بناء فلسفة كانط مستفيدا بالمستجـدّات على الساحـة الفلسفيـة خـلال القرنين الماضيين2.  ومن بين الفلسفات التي أرادت لنفسها أن تتموقع، من منطلـق نسقي أو معادي للنسق، يمكن لنا ذكـر أسمـاء هيقل ونيتشة وهايدقار والوضعيين والهرمنوطيقيين والتاريخويين وفلاسفـة اللغـة. 
أهمية العلاقــة في ذاتـــها 
 صحيح إن ما ذكـرناه خلال هذه النبذة لا يبـرر مـوضوع مقالنا لذلك لا بـد ّ من طـرح السؤال المتعـلق به وهـو: لماذا كانط ضمن مدرسة فرانكفورت؟
إنّ الإجـابة عن هذا السؤال ليست بالأمـر العسيـر لأن هذه المدرسة لم تنغلق في مذهبية حزبية ضيّقة بل نشأت في شكل مؤسّسة أكاديمية شدّدت على طابع البحث وذلك رغم انتمائها منذ نشأتها إلى الماركسية مع مديرها الأوّل غــرونبارغGRUNBERG ووفقا لرغبة مؤسّسها المالي، الثـريّ Felix Weil. وقد دفعتها خاصية كونها مركـز بحث ،منذ البداية، إلى ربط صلة وثيقة بالفلسفة المثالية الألمانية.
وقـد تعلق الربـط منذ الكتابات الأولى بفلسفتي كانط وهيقل إذ مثّل فيلسوف الروح المطلق في نظر هوركهايمر منذ ألقى درسه الافتتاحي سـ1931ـنة والذي رسم فيه برنامج البحث في المركز مرجع المشروع النّظري للفلسفة الاجتماعية لمدرسة فرانكفورت. 
ويـعدّ تنزيل هيقل في هذا المقام الرفيع من المرجعيات النظرية للفلسفة الاجتماعية حصرا للمـرجعية الكانطية في ما يمكـن تسميته « حقبة ما قبل تاريخ النّظرية النّقدية ». 
ولكن اختلافا مع هذا الاستنتاج الأوّلي والذي يأخذ الأمـور ببـداياتها  يمكـن التأكيـد علـى أن فلسفة كانط  تحضى بمكانة أهمّ بكثير ممّـا يبدو سائدا في القراءات المتأثّرة بالرّؤية الهيقليّة.4
فعلا لقد احتلّت فلسفة كانط مكانة متميّزة لدى فلاسفة النّظرية النّقدية [ونعني بالذّات ماكس هوركهايمر وادورنو وماركوز وهابرماس] وذلك خلال مراحل بنائها وتطـوّرها وإعـادة بنائها. وهذا خلافا للسّائد من القراءات وأعني بالخصوص تلك التي تغفل هذا المعـطى الحاسم فـي تاريخ النّظرية النّقدية.
إن الـدفاع عن وجـود دور جوهري لعبته الفلسفة النقدية في النظـرية النقدية ماضيا وحـاضرا يتعارض مع موقف شائع بين الشّراح الذين يعدونّ مدرسة فرانكفورت إحدى تفريعات الماركسية. هذا الموقف الذي نجده لدى العديد من مؤرّخي الفلسفة إنّما يستند إلى عدّة نصوص ومواقف صريحة لمنظّري مدرسة فرانكفورت. ولكن تكتنفه صعوبة تكمن، في نظرنا، في كونه يهمل نصوصا أخرى ومواقف لنفس المنظّرين تكشف عن صورة ثانية لكانط وتنسّب الموقف منه، لأنّها تحمل شهادة على أن نظرة فلاسفة مدرسة فرانكفورت لكانط لم تكن واحدة أو أحادية الجانب أو جاهزة. وهذا ما يسمح لنا بتناول مفهوم المنزلة بالمعاني الموالية: فالبحث عن منزلة كانط في فلسفة مدرسة فرانكفورت هو تساؤل عن موضع النّزول وعن الرّتبة والدّور.
معاني المنــزلة
وعلى هذا الأساس يتجـه معنى البحث في المنزلة، في مرحلة أولى، نحـو تقصـّي موضع أو مواضع نزول فلسفة كانط في كتابات مدرسة فرانكفورت. إن تـوجيه البحث في هذا المسار يكون على غاية من الأهمية لو لازمـه حرص على أن لا يكون تتبـّع موضع نزول كانط في كتابات منظّري المدرسة مجرّد إحصاء باهت للنصوص التي ورد فيها تناول الفلسفة الكانطية دون تساؤل عن الخلفيات والسياقات والرهانات المصـاحبة لتلك النصوص. إن عملا مثل هذا قادر على تقصّي هذه المكانة وتحديد علاقتها بالنّظرية النّقدية وعلى البحث في جوانبها الإيجابية والسّلبيّة.
أما الـمعنى الثاني للمنزلة فهو الرتبة. ويمكن لنا صياغة السؤال المتعلق بذلك المعنى على النحـو التالي: ما هي مرتبة فلسفة كـانط في كتابات منظري مدرسة فرانكفورت؟ هل هي في صـدارة الفلسفات التي أثـّـرت في صياغة النظرية النقـديـة وفي تطـوّرها أم أنها تحـتل مكانـة ثانويـــّة؟ والإجـابة الفورية على هذا السؤال تنطلق من التنبيه إلى الدور الهام الذي لعبتـه فلسفة كانط في تحديد مصيـر كـل الفلسفة الحديثـة والمعاصرة ولا نستثني من ذلك الفلسفات المدافعة عليها والمعارضة لها. أما الإجابة الثانية فهي لا تنكـر الأولى بل تؤكـّد تزايد أهمية فلسفة كانط بالنسبة لمنظري المدرسة. فالمقارنة البسيطـة بين الكتابات الأولى والكتابات المتأخـرة تظـهر للعيان مدى تعاظم منزلة كانط في النظرية النقدية7. أما لو نظـرنا للمسألة من زاوية المسار النظري ليورقن هابرمـاس فإننا نجـده ،منذ كتابة المعرفة والمصلحة إلى كتابة الحـق والديمقراطية، ثابتا على إيلاء كانط المنزلة العليا في إعادة صياغة النظرية النقدية8.
وفهم المنزلة في مرحلة ثالثة بمعنى الــدّور يوجه البحث في سبيل تقصـّي الـدّور النّظري والمنهجيّ الذي لعبته الكانطية خلال مختلف مراحل تاريخ النّظرية النّقدية. وليس أدل على ذلك من منهج النقـد الذي أصبح منذ كـانط السبيل الوحـيد الباقي مفتـوحا أمـام الفلسفة9
وفعلا إن عودة  منظري مدرسة فرانكفورت إلى الفلسفة بوصفها نقدا وبوصفها أيضا إطارا جامعا للمعارف تمثل مواصلة للمشروع النقدي الذي انطلق مع كانط وتجذيرا له. فقد نقل كـانط النقـد من عمــل مهمتـه تفحـص صحـة الآثار وأصالتهـا إلى عمل  يهتم أولا وقبل كـل شيء بتفحص الأداة-الذات التي هي أساس أو شرط إمكان كل علم وعمل وأمـل10 . ومن كـونه منهجـا لدراسـة النصوص الدينيـة أو على الأصح النصـوص الفنيـة إلى نقد الذات وهي الآلـة التي تجعـل كـل الإنتاجات ممكنـة من فـن وعلم وفلسفة... وبذلك تحـول مجال ممارسة منهج النقد إلى الميتافيزيقا التي بقيت ساحـة قتال بين المذاهب ولم يكتب فيها النصـر لأحـد إلى حـدّ عصـر كانط مثلما يؤكـّد هـو ذلك في مقدمة الطبعة الثانية لنقـد العقل المحـض11. ومن نقـد العقل وفق براديقم الوعي الذاتي  إلى نقد الأسس الاجتماعية التي جعلت الوعي الذاتي ممكنا.تلك هي حركـة التجذير التي سار فيها فلاسفة النظرية النقدية على إثـر ماركس الذي لا يفهم النقـد لديه دون ربطـه بجذوره في الفلسفـة الكـانطية12. 
كما يمكن أن يختلف البحث في منزلة كانط في النظرية النقدية عن الدّراسات التي تقدّم النّظرية النّقدية من أحد المنطلقين التّاليين:
الإقتصار على يورقن هابرماس عند الحديث عن النّظرية النّقدية وكأنّه الوحيد الذي يمثّلها. أو الاطلال على ماضي النّظرية النّقدية عبر الآفاق التي فتحتها فلسفة هابرماس. إذ يبدو دون أن نـدخل في عرض هذه الأفكـار أو مجادلتها أنّ هذه الأعمال تنقصها نظرة تاريخيّة تستبصر تاريخ النّظرية النّقدية منذ تكوّنها وتُتابع تطوراتها اللاّحقة. فقسط هام ممّا كتبه هابرماس منذ كـان المساعـد لأدورنو في مهنـة التدريس وإلى حـد كتاباته الأخيرة يفهم على شكـل أفضـل لما نربطـه بما كتبه المنظّرون الأوائل وهذا ينطبق أيضا على العلاقة التي أنشأها مع الفلسفة النّقدية13.
وفي هذا السّياق يصبـح من غير الجائز أن نقول إنّ اعتماد هابرماس على كانط في إعادة بناء نظريّة المعرفة تحوّل جذريّ في تاريخ النّظرية النّقدية من النّموذج الهيقلي إلى النّموذج الكانطي. فالنّموذج النّقدي الكانطي كان حاضرا باستمرار في الأعمال الكبرى والأولى لمنظّري مدرسة فرانكفورت وحضوره كان متطوّرا وذا أدوار متغيّرة. ولم يتمّ إقصاء كانط حتّى في فترة النّشأة حين جثمت الهيقلية والماركسية على فكر المدرسة.
ولكن الباحث المتفحـص لمنزلة كانط في تاريخ مدرسة فرانكفورت قد يقـف منذ البداية أمام الخيارين التّاليين:
1-تحديد صورة لكانط يُعلّـق بها بحثه ثم يتقصّى حضورها بصفتها تلك في النّظرية النّقدية. فتاريخ الفلسفة لم يترك لنا صـورة واحدة لكانط بل إن هذا الفيلسوف نفسـه متعدد الأبعاد لا على مستوى تطوره الفكري فحسب بل أيضا على صعيـد الميادين التي كتب فيها وترك عليها للفلسفة بصمات فكـره الثاقب.
2-أو البحث عن منزلة كانط في النّظرية النّقدية كما تحدّدها نصوص الفلسفة الكانطية ووفق المسائل والمواقف الفلسفية عبر تاريخ النّظرية النّقدية.
يبـدو أن الحلّ الثّاني يعصم الباحث الذي يختاره من الوقوع في تحديد جاهز لفلسفة كانط يجعل من التعسّف على النصوص أمـرا واردا . لذلك فالالتزام بمتابعة النّصوص ومساءلتها عن هذه المنزلة هو الطريق الأفضـل لمن اختار البحث في منزلة كانط في مدرسة فرانكفورت. إن بحثا عن< كانط في ذاته> لا يهـمّ من اختار هذا الحـلّ لأن عمله سيتوجـّه في طريق معرفة ما قدّمته الفلسفة النقـدية لهؤلاء الذين ركّزوا على كونهم ورثة المثالية الألمانية وبحثوا للمشاكل المتعدّدة التي كان وعيهم بها حافزا لمشروعهم النّقدي عن حلول من خلال إعادة النّظر في إرث الفلسفة الألمانية.
بعــض الجوانب الأساسية للمنزلة
-النـّــقد
يمثّل النّقد أهمّ المسائل الأساسيّة للنّظرية النّقدية. فهو المرجع المشترك بين النّظرية النّقدية والفلسفة النّقدية. 
إنّ المنعرج الكانطي في تاريخ هذا المفهوم حاسم. فمنذ حدوثه أصبح النّقد مفهوما ومنهجا وقيمة. ولئن كان النّقد كما مارسه فلاسفة فرانكفورت يحـمل تأثـرهم بهيقل وبماركس وشوبنهاور ونيتشة فإنـه يستمدّ أصوله من الكانطية التي هي خلف هذه الفلسفات. 
والنّقد كما مارسه فلاسفة مدرسة فرانكفورت لا يستثني أصوله. لذلك فقد فصلوا منذ البدء بين صورتين للكانطية: فلسفة الشخصية المفردة وفلسفة العقل النّقيضي14ّ. فلقد رفضوا الصّورة الأولى وفق مقتضيات فلسفة اجتماعية تجعل من الهيقلية مرجعها.وتمّ استغلال الصّورة الثّانية للوقوف على وجه المصالحة الهيقلية وبالفعل لم يخف هوركهايمر ومنظّرو جيله إنكارهم للكانطية بوصفها فلسفة تعلي من شان القيم الفردية ولذلك تمّ إعلاء فلسفة هيقل عليها بما هي أوّل فلسفة أولت مكانة مرموقة لتجربة الوعي الاجتماعيّ. ولكن رفض النّتيجة التي آلت إليها الفلسفة الهيقلية أدّى بفلاسفة النّظرية النّقدية إلى تثمين الفلسفة النّقدية بوصفها [وفق عبارة هوركهايمر وأدورنو عن كانط] فلسفة حذرة ونزيهة15 ساعدت على دفعها فعلا إلى التّفكير في الصّعوبات التي وقع فيها الوعي داخـل المجتمعات الليبرالية الحديثة.
ويعود اعتراف فلاسفة مدرسة فرانكفورت بعظمة الفلسفة الكانطية إلى منهجها الذي لا يطمس التّناقضات بل يظهرها على أنّها المصير المحتوم للعقل. وقد حدّد حكمهم هذا على الكانطية أهمّ مقوّمات المنزلة الموجبة لها في النّظرية النّقدية.
لذلك يصـحّ إقـرار أنّ كتاب جدلية التّنوير لهوركهايمر وأدورنو والكتابات التي تدور في فلكه تستقي من الكانطية شكلها ومضمونها وذلك رغم حضـور خلفيات هيقليّة ماركسيّة بيّنة في هذه الحقبة من تاريخ النّظرية النّقدية.
إن عقد موازنة بين نقد كانط للعقل ونقد هوركهايمر وأدورنو للتّنوير أو العقل التّنويري يسمـح بالنّظر إلى جدلية العقل باعتبارها تجديدا للنّقد الكانطي وتجذيرا له. وتمثّل هذه الموازنة مدخلا إلى طرق أعوص مشكلة تعترض المهتم بهذا البحث ألا وهي مشكلة منزلة الجدل الكانطي في كتاب جدلية التّنوير والكتابات التي تدور في فلكه.
لقـد كتب أدورنو منذ سنة 1953 في كتاب ثلاث دراسات عن هيقل: "إنّ الدّعوى القائمة بين كانط و هيقل والّتي آلت فيها الكلمة الأخيرة إلى المرافعة الصّداميّة والعنيفة لهيقل لم تحسم بعد. ربّما لأنّ هذا المنحى الصّداميّ [سيادة الصّرامة المنطقية نفسها] يمثّل اللاّحقيقة مقابل نقائض الفكر الكانطي"16.
لذلك كانت المراوحة أو لعلّها المناظرة مستمرّة بين هيقل وكانط في هذه الحقبة من تاريخ النّظرية النّقدية. هذه الحقبة التي أشرنا إليها بالمؤلّف المشترك بين هوركهايمر وأدورنو وهو جدلية التّنوير. ونقطة البدء في هذه المراوحة داخل النّظرية النّقدية هي رفض المصالحة أو التّوفيقية الهيقلية بوصفها تعبيرا عن كلية خاطئة واعتبار الفكر النّقيضي الكانطي أقرب إلى الحقيقة.
أمـا التّساؤل الذي يقود إلى البحث في رهانات هذه المراوحة هو التّالي: ماذا يتبقّى من الهيقلية إذا ما حذفنا عنها المصالحة الأخيرة بين الذات والموضوع أو بين العقل والواقع؟
ماذا يتبقّى من فلسفة هيقل إذا ما اعتبر المطلق الذي توصّلت إليه لإغلاق النّسق مقولة إيديولوجية  مزيّفة؟
أليست هذه النّتيجة  بالنّسبة للهيقيليّة أكثر من أن تكون مجرّد نتيجة؟ 
فالنّسق يقوم عليها منذ البدء، والنّهاية إنّما هي البداية بعد أن قطعت جميع أطوارها عبر مسارها الجدلي؟
جدلية النقائض 
بهذا تبدو عمليّة رفض المصالحة الهيقلية- وهو الجانب الايديولوجي الذي سبق وأن نبهت إليه فلسفة ماركس بوصفها نقـدا للايديولوجيا- متجددة، ومدفوعة بعوامل جديدة، من قبل النظرية النقدية .وهي بذلك أكثر من أن تكون مجرّد حذف لجزء إضافي في فلسفة هيقل لا يؤثّر غيابه تأثيرا يذكر في بقيّة النّسق وفي المنهج الذي يقوم عليه.
والإجراء الذي يترتّب عليه رفض المصالحة الهيقلية من قبل منظّري إشكالية جدلية التّنوير هو إعادة النّظر في الخصومة التي أثارها هيقل مع كانط بشأن الجدل التّرنسندنتالي، إذ يفقد النّقد الهيقلي أهمّ مقوّماته لأنّ أشدّ ما عابه على الفلسفة الكانطية هو عدم توفّقها إلى حلّ فعليّ لنقيضات العقل. وقد قدّم حلّه في اللّحظة الثالثة من المنطق وهي، كما هو معلوم، اللّحظة التّأمّلية أو العقلية على نحو موجب.
وهذه اللّحظة التي تحمل، حسب عبارة أدورنو، "الكلّية الخاطئة" مرفوضة بواسطة الجدل السّلبي. وعلى هذا الأساس يمكن إعادة قراءة الجدل الكانطي دونما وقوع تحت تأثير التّأويل الهيقلي بحيث يتبين للمرء أنّ جدليّة التّنوير تستمدّ أصولها الحقيقية من الجدل التّرنسندنتالي الكانطي وتستفيد من الأعمال التي انضافت إلى ذلك في تاريخ الفلسفة الألمانية الحديثة والمعاصرة.
إن النتيجـة الأوكـد بالنسبة لمن يثير مسألة الخصومة الهيقلية الكانطية، في كتابات فلاسفة مدرسة فرانكفورت، هي أنّ كانط كان الفيلسوف الأشدّ حضورا في الفكر المنتج لـجدلية التّنوير والكتابات التي تدور في فلكها ويتبين ذلك من خلال تركيز فلاسفة النّظرية النّقدية على النّقائض التي تحوم حولها. وهكذا نجد أنّ نقائض {العقل والطبيعة} و{الهيمنة والخوف} و{الوضعية والخرافة} و{الظّلامية والتّنوير} و{التقدّم والتّقهقر} و{الحريّة والاستلاب} و{الأخلاقية والإباحية} كلّها تفهم بنفس آليات الجدل الكانطي إذ يجد العقل نفسه مدفوعا من أعماقه إلى الوقوع في تناقض يكشف عنه النّقد ويدلّ على حلّه.
فالنقيضة، كما هو معروف لدى كانط، تتأسّس على طبيعة العقل الإنساني ومن ثمّة فهو غير قادر على الحياد عنها. كذلك الأمر في كتب جدلية التّنوير لهوركهايمر وأدورنو وخسوف العقل لهوركهايمر والجدل السّالب لأدورنو وإيروس وحضارة لماركوز لا شيء كان بالإمكان أن يمنع العقل في التّاريخ من الهذيان. فضلاله قدر عليه والنّقد وحده هو الذي يمنحنا القدرة على إدراك ذلك والتّحرّر منه. لهذا كانت ممارسة التّنظير على الشّكل الذي تصوّرها به هوركهايمر وأدورنو هي النّقد كما سبق أن وضّحت معالمه الفلسفة الكانطية.
 وقد كان كانط، إذن، هو مرجع النّظرية النّقدية خلال هذه المرحلة لأنّ ممثّليها لم يتخلّوا عن رفضهم للمصالحة الهيقلية وعن تأكيدهم انفصام العلاقة من جديد بين النّظرية والبراكسيس.
وعلى خلاف ما أكّده هيقل ولازال يؤكّده هيقليّون من بعده فإنّ كانط قد حلّ نقائض العقل وذلك بفضل المنهج النّقدي الذي يقود إلى مسلّمات العقل العملي. كذلك تبيّن أنّ النّظرية النّقدية –بإعلان أصحابها أنّ الشكل الوحيد المتبقّي أمام الممارسة لهو فعل ممارسة النّظرية- قد دلّت بواسطة النّقد على الحل الذي لا يحيد عن إنقاذ ملكة التّفكير والنّظر العقلي من طمس الإيديولوجيا الكليانية لها وبذلك تكون الفلسفة وفق عبارة هوركهايمر في خسوف العقل "مصحّحة للتّاريخ"17 .
إنّ مهمّة النقد الفلسفي في كتب جدلية التّنوير وخسوف العقل والجدل السّالب وإيروس وحضارة لهي كشف الزّيف والخداع الذي يخفي الحقيقة وراء الأطروحات ونقيضاتها. وهو بتعبير من المرجعية الماركسية نقد الإيديولوجيا.
يلوح للمتتبع لهذا التمشّـي أنّ الحلّ النّظري الذي تحتوي عليه هذه الكتابات يفسّر الإحراجات العديدة التي أفضت إلى فشل العقلانية الحديثة وسقوطها مع الأحداث التّاريخية المعاصرة والدّامية لهذا القرن إلى ميدان للتّوحش وللاّعقل. وقد تمّ النّظر من خلال هذا التّفسير، إلى الكانطية نفسها، كعلامة بارزة على هذا الفشل وحلقة في سلسلته. ولكن بقدر ما كانت رغبة منظّري المدرسة جارفة في تجاوز المصالحة الهيقلية والعقل التّنويري الكانطي من خلال تجذير نقده وكشف تورّطه في سلبيات التّنوير كان النموذج الكانطي مسيطرا على كتاباتهم شكلا ومنهجا18.
والأكيد أن  هذا التوجّه في القراءة يطرح صعوبات مرتبطة بالكمّ الهائل من الفلاسفة الذين تأثّر بهم مفكّرو مدرسة فرانكفورت مثل فيشته وشلّينق وشوبنهاور ونيتشة وزيمل وفيبار وهيدقر ولوكاتش...فالمدرسة تمثّل بالفعل توليفة جامعة وأصيلة للفلسفة الغربية المعاصرة. وهذا ما سعى هابرماس إلى بيانه بصورة منسّقة ومنطلقا من كانط وذلك في كتاب المعرفة والمصلحة.1968 ثم 1973.
منـزلة الترنسندنتالي
وإلى جانب مسألتي النّقد والجدليّة يمثـل الترنسندنتالي مشكـلا أساسيا في النظرية النّقدية لأنـه يعـدّ الإطار العام لطرح معضلة الجدلية. فقد تبـيّن من قراءة الكتابات الأولى أنّ فلاسفة مدرسة فرانكفورت قد أوّلوا التّرنسندنتالي بأنّه الذّاتية الجمعية في حين أنّ الامبريقي هو الذّاتي الفردي أو الشّخصي. والتباس معنى الترنسندنتالي وغموضه يعود، في الكتابات الأولى، إلى أنّ المجتمع لازال مسرحا لصراعات وتفاعلات بين قوى بعيدة عن التّلقائية للأفراد الأحرار19.
وقد تسنّى لهوركهايمر بواسطة تأويل أنتربولوجي مادّي لفلسفة كانط التّرنسندنتالية إخراج التقابل < بين الأمبريقي والتّرنسندنتالي> من ميدان العقل ليقذف به في ميدان المجتمع والتّاريخ.20
ولكن لا يعني اخضاع التّرنسندنتالي إلى النّقد الإيديولوجي اعتبار فلاسفة النّظرية النّقدية فلسفة كانط مجرّد إيديولوجيا.فللفلسفة حقيقتها التي تمنع من ردّها إلى مجرّد إيديولوجيا. وليست مقولات العقل والنّقد والأخلاق والحقيقة...مجرّد مقولات للإيديولوجيا البورجوازية وإنّما هي مقولات كلّ الإنسانية21. وتعدّ الذّاتية التّرنسندنتالية من أكثر المسائل عرضة للنّقد والمراجعة. ويمكن القول دون مجـازفة بأنّ انجذاب فلاسفة مدرسة فرانكفورت إلى النّموذج الكانطي  قـد قوي بسبب يأسـهم من إمكان قيام الثّورة ومـن ثورية الطبقة العاملة22.
ولا يخفى علينا أنّ موقفهم المرن من المسألة التّرنسندنتالية سيجد صداه العميق في كتابات هابرماس بدءا بكتاب معرفة ومصلحة الذي يتحدّث فيه عن أطر شبه ترنسندنتالية للمعرفة. ثم تتخذ هذه المسألة بالذات منعرجا حاسما من خلال المناظرة بين كارل أوتو آبل وهابرماس انطلاقا من براديقم اللغـة كأرضية مشتركة بينهما في تناول القضايا الفلسفية23.
ويمكـّن البحث في منزلة التّرنسندنتالي من إدراك التّحول الذي حصل في تاريخ النّظرية النّقدية التي نشأت منذ البداية في شكل نظريّة نقدية للإيديولوجيا تفصل بين القيمة المعرفية والقيمة الإيديولوجية وتخضع إلى تأمّل مزدوج يربط القيمة الأولى بالبراكسيس. ومن ثمّة كان النّقد الذي خضعت إليه الكانطية، في هذه المرحلة، عمليّا يركّز على قيم الحرّية والتّحرّر24
ورغـم أن تناول موضوع الترنسندنتالي قـد نقصت حـدّته اليوم دون أن تنتفي فإن الأمر يعود ، في اعتقادنا، إلى طبيعة العمل الفلسفي ذاته.إذ لا يمكن للفلسفة أن تتخلّص من التّأمّل التّرنسندنتالي دون أن تتخلّى أيضا عن خصوصيتها كتأمّل كلّي أو في الكلّي. ذلك ما فهمه هابرماس <منذ تعاونه مع كارل أوتّو آيل> بشكل معمّق ومنسّق من خلال انجازه لكتاب المعرفة والمصلحة في شكل إبيستيمولوجا عامّة. 
المسألـة الخلقيــة
لقـد أدان فلاسفة مدرسة فرانكفورت في المرحلة الأولى صورية العقل العملّي الكانطي واعتبروها تكريسا للإيديولوجيا الليبرالية وقد انبنى النّقد على خلفية هيقليّة. هذه الخلقية تدعمها الأسس التي قامت عليها النظرية النقدية بوصفها فلسفة اجتماعية تعطي أولوية في تفسير حياة البشر وأنماط سلوكهم للظروف المادية المحيطة بهم.  
ورغم استمرار نقدهم للمنحى الصّوري في فلسفة كانط العمليّة في مرحلة مشروع جدلية التّنوير فإنّ اعتمادهم على الجدل الكانطي كان وراء تفجيرهم لما يمكن تسميته بنقيضة الخلقية والإباحية فإذا بكانط وساد (Sade)ليسا متناقضين فعلا بل هما متواطئان في استعمالهما الأدواتي والصّوري للعقل. فتناقضهما ظاهري فحسب: وليس الأمر القطعيّ الأخلاقيّ الكانطي متناقضا فعلا مع الأمر الإباحي السّادي. ومثلما استعمل ماركس الجدلية الهيقلية ضد انغلاق نسقها فإن هوركهايمر وأدورنو قد وجها الجدل الكانطي ضد النتيجة التي وصل إليها كانط نفسه. لقد وجّـها الجدل الكانطي ضد كانط نفسه. إذ نعلم أن هذا الفيلسوف قد حل نقيضة العقل العملي بمبدإ الخلقية[الأمر القطعي] وبمفهوم الخير الأسمى.لكن النقيضة،كما عرضها كانط وبسط حلها، وفق ما كتب في جدلية التنوير تظل قائمة لأن كل ما بذله كانط من جهد فلسفي للفصل بين اللاخلقية التي تسقط فيها كل التوجهات التي تخلط بين نظام السببية [ظواهر الطبيعة] ونظام الحرية [الشيء في ذاته] والتي تعتقد أن الخير الأسمى يتمثل في الفضيلة [الرواقية] أو في السعادة [الأبيقورية]. هكذا يكون كل جهد كانط قد باء بالفشل لأن التناقض بين الخلقية [ القائمة على العقل العملي بفضل المبدإ الأخلاقي] والإباحية القائمة على "مبدإ" اللذة والسعادة الشبقية يصبح غير فعلي. لذلك تتساوى الأطروحة ونقيضتها أي تفقد الفلسفة الكانطية المكانة المرموقة التي تكون للتوليفة أو الحـل النقـدي الذي يخرج من التصادم العقيم وغير الثري.
ويتمثّل حلّ نقيضة الخلقية والإباحية في مبدإ المحافظة على الذات وهو لا شيء ، من منظور النظرية النقدية،غيرالمحتوى الموضوعيّ لوحدة الوعي الترنسندنتالي. لذلك يكون إفراغ كانط للذّات وللطبيعة من محتواهما الإمبريقي تحت ضغط نزعته الصّورية والتّرنسندنتالية سببا يفسّر استعمالهما الأدواتي وتحويلهما إلى مجرّد ميدان للسّيطرة والاستغلال. والحل الذي يخص هذه النقيضة مستمد في جزء منه من فلسفة شوبنهاور الرافعة لإرادة الحياة إلى مصاف المبدإ. كما أن النقد النيتشي للقيم قد ساعدهم على الكشف عن أوهام فلسفة التنوير حول علاقة القيم والفعل بالحقيقة والعقل. 
ويتّخذ مبدأ الحفاظ على الذّات الفردية القيمة الخلقيّة التي أدينت في السّابق ثمّ تمّ التّراجع عن ذلك لاعتبارها قيمة إنسانية.
الخـاتمـــة
لقد كان السّؤال الملازم لتفكيرنا ونحـن نراوح النّظر من طرف إلى آخر، كانط من جهة وفلاسفة مدرسة فرانكفورت من جهة أخرى، عبر النّصوص المتعدّدة والإشكالات المتنوّعة هو الآتي: كيف أمكن لهذا الفكر التّأمليّ الذي انطلق مع كانط أن يولّد من حركته الذّاتية مراجعة لذاته دون توقّف أو جمود؟ وبتعبير آخر: كيف أمكن للفكر الفلسفي الرّاهن <والذي تمثّل النّظرية النّقدية أفقا مرشدا له> أن يتقبّل أصوله ويتعامل مع تراثه نقديا؟
وقد يكون تقبل إرث مـا بوضع النفس في منزلة التلقي والدفاع عنه على نحو مذهبي تقديسي أو أيضا سلفي وثوقي وقد يكون على عكس ذلك رفضا له ونفيا لقيمته وقد يكون التقبل بالدخول في محاورته على أساس مفتوح واستئناف التفكير فيه لغاية تجاوزه على نحـو بنـّاء. 
إن الأدلة على أن فلاسفة مدرسة فرانكفورت قد تعاملوا مع إرث الفلسفة الألمانية على النحو الأخير ليست قليلة ولعل ما يسر ذلك أن تواصل حلقات الفلسفة لم ينقطع في هذه الجهة من أوروبا وإلى حد يومنا هذا. وثمة أمر يهمنا في ذلك وبشكل مخصوص وهو يتجاوز البعد الذاتي الذي اعترفنا في البداية بوجوده والمتعلق بالدواعي الشخصية التي حدت بنا إلى اختيار هذا المبحث بالذات.
فتناول منزلة كانط في مدرسة فرانكفورت إنما يقصد منه تقصي مفهوم النقد ومنهجـه عبر أهم أقطابه وذلك خلال القرنين الماضيين والنقد مثلما ألمحنا إلى ذلك سابقا يستمد أصوله من الفلسفة ويرمي إلى الكشف عن مصلحـة تحرّرية يلتزم المتفلسف بالعمل على تحققها.فمنذ كتابة هوركهايمر لنصه الذي يميز فيه بين النظرية التقليدية والنظرية النقدية اتضحت الخاصية الجوهرية لهذه الأخيرة وهي التزامها بمصلحة عملية كان كانط رائدا في تحكيمها على نقـد العقل.فالنظرية النقدية حتى في فترة وقوعها في أزمة حادة لم تتخلّ عن النقـد ولم تفقـد الصلة بمصلحـة عملية ولو كانت مكتفية بممارسة النظرية كنـقد. 
والنظرية النقدية هي أيضا فلسفة اجتماعية وهنا تكمن أهميتها لدينا. فمن تعود على النظر إلى الفلسفة نشاطا تأمّـليا وتفكّـريا مرتبطا باختيارات ودوافع نظرية يعتقد في كونها خالصة فيفقد من ثمّـة صلته بواقعه الذي هو غير ثابت ويسلم بوجود ضرورة تتجاوز البشر في تحديد حركة التاريخ. وغالبا ما تؤول الفلسفة لدى هؤلاء إلى مجرد ميدان خاضع لذوق استطيقي أرستقراطي على النمط النيتشوي أو إلى نظرية خالصة بالشكل الهوسرلي أو أيضا إلى قول في الكينونة مقطوع عن التفكر في استتباعاته العملية إيتيقية كانت أم سياسية.
إن العمل انطلاقا من الحقل الفلسفي الموسوم بالنظرية النقدية يقودنا ضرورة نحو تناول القضايا الخاصة بنا وذات البعد التاريخي والاجتماعي. فعلاقتنا بالحضارة الغربية وعقلانيتها تفهم على نحو متميز من منظور الآثار السلبية التي خلفتها المعقولية التقنوية والايديولوجيا المصاحبة لها أو المعقولية الاستراتيجية وتشييئها للبعد الإنساني في حياتنا. ولكن توجه الفهم في هذا المساق لا يعفينا من تحمـل مسؤولية بقائنا، كجزء من البشرية، في شكل دوائر مغلقة لم تنخرط أنظمتها جديا في نمط من الحياة يجعل من التواصل البينذاتي الإطـار المرجعي لتفضيل تكـوُّن إرادة سياسية شرعية وقانونية على إرادة فردية وأبوية متنصلة من كل مراقبة تتـولـّى أمرها مؤسسات ولم تنخرط أيضا في معقولية جعل الحلول تسوية نسبية وظرفية لخلافات.          
إننا في أمـسّ الحاجـة إلى نقـد يستمـدّ مرجعيته من النظرية وإلى حرية تكون هـدف الممارسة التي مسرحها المجتمع السياسي والنظرية النقدية تمنحنا مثالا عن الاستجابة لهذين المطلبين. ونعتقـد أننا لو تعاملنا معها على هذا الأساس لألهمتنا جملة من الحدوس الفلسفية المفيدة لنا في تناول قضايانا من الجهة التي تهمنا وبالشكل الذي يخدم مصلحتنا العامـة. وإننا لو اتبعنا هذا المسار بالحـذر الذي يقتضيه البحث والتفكير الملتزم لما خرجنا عن المعنى الذي قصده كانط لما أرجع السؤال عن الفلسفة إلى السؤال عن التفلسف. ذلك أن فلسفتنا رهينة ،في وجودها وبقائها بل وفي تقدمها، فعل التفلسف الذي أوجبه علينا أسلافنا. 

سارتر بين الوجوديين