رجاة العتيري
إن الظروف الراهنة على المستوى السياسي والاقتصادي والبيئي تفرض علينا طرح الإشكاليات على صعيد عالمي وكلي فلا يمكن الاكتفاء اليوم بأنساق أخلاقية جهوية ونسبية أو خلاق "فردية" تصلح لأفراد أو لمجموعات دون غيرها. فهل للعالم الصناعي المهيمن اقتصاديا وعسكريا الحق في احترام مبادئ أخلاقية تخدم مصالحه على حساب العالم الثالث أو على حساب البيئة ؟ إن التأمل في هذا السؤال يجرنا إلى تجاوز فكرة أخلاق نسبية أو جهوية ويجعلنا نفكر في أخلاق ذات الصلاحية الكلية في المعنى الذي أراده ايمانوال كانط في القرن الثامن عشر. ولكن تطور مفهوم المعقولية والتعمق في شروطها وجذورها في الظروف الحديثة والمعاصرة وما بعد الحديثة جعل مشكلة الأخلاق وتأسيسها مطروحة من جديد في سياق تصور معاصر للمعقولية العملية. لقد بدأ الجدل في النصف الأول من القرن العشرين بين ما يسمى بالمقررين D閏isionnistes من جهة والمعرفيين Cognitivistes من جهة أخرى. يعتبر ماكس فيبر Max Weber ممثل للتصور القراري. ويمثل هابرماس وآبل الموقف "المعرفي" في مجال الأخلاق. ينتمي ماكس فيبر إلى المبدإ الهيومي (نسبة إلى دافيد هيوم David Hume) الذي لا يعترف إلا بوجود عقل نظري معرفي، رافضا وجود عقل عملي في المعنى الكانطي. ففي غياب عقل عملي يوجهنا في أفعالنا ويعطينا قيما وقوانين كلية، يصبح الإنسان مضطرا إلى اتخاذ قرارات حسب اعتبارات شخصية، فردية أحيانا لا معقولة ولا عقلانية.
ولكن هابرماس وكارل أتو آبل يرفضان ترك مجال الفعل الإنساني (في الأخلاق والسياسة) للقرارية والنسبية والحسابات الفردية ولخطر الاختيارات اللامعقولة. إن الأوضاع العالمية الراهنة في الشرق الأوسط وفي إفريقيا تجعلنا نفكر مع هابرماس وآبل في أخلاق كلية مبنية على أسس عقلية ومبادئ مقنعة على صعيد عالمي. أصبح طرح مشكلة أسس الأخلاق اليوم بعد كانط أمرا ضروريا نظرا لأفول الأخلاق التقليدية والقيم العملية الصادرة عن الأديان والتي أضعفتها النظم اللائكية المعاصرة وتجاوزها التقدم العلمي والتكنولوجي إبتداءا من القرن العشرين. وتبعا للخلط الذي حدث داخل مفهوم المعقولية بين ما يعود إلى العقل النظري العلمي وما يعود إلى العقل العملي الأخلاقي أصبح من الضروري الرجوع إلى التمييز الكانطي المرجعي. يجعل النقد الكانطي هوة بين العقل النظري العلمي والعقل العملي حيث لا يمكن للعقل العلمي أن يحدد العقل العملي و لا أن يوجهنا نحو ما يجب علينا أن نفعل. ولكن، رغم احتفاظ هابرماس وآبل بالتمييز بين العقل النظري والعقل العملي أصبح من الضروري البحث من جديد في حدود التصور الكانطي للأخلاق وفي العلاقات الممكنة بين المعرفة والفعل وبين مفهومي الحق والواجب وبين فكرتي الاقتناع الذاتي والمسؤولية الاجتماعية والإنسانية.
لقد تساءل كانط حول العقل وحول بنيته وحول استقرار تركيبته وتمفصلاته وحول طبيعة مبادئه وأنواع اهتماماته وحول مجالات نشاطه. وكانت نتيجة تساؤلاته تحقيق فلسفة كاملة نسقية هي الفلسفة النقدية التي تعتبر مرجعا أولا لفهم العقل ووظائفه وقدراته وحدوده. لقد ميز كانط من بين وظائف العقل وظيفتين : وظيفة نظرية معرفية ووظيفة عملية أخلاقية ووضع نشاطات الوظيفتين في حدود عقل الأفراد. (وإن كان الإنسان دائما حيوانا سياسيا) نعتبر أن نشاط العقل عند الأفراد معرض إلى الذاتية. هذه هي المفارقة التي يجب أن يخرج منها العقل : العقل مبدأ الموضوعية والكلية على المستوى النظري والعملي. إلا أنه يسقط في الوهم والخطإ طالما بقي منفردا بمجهوده الذاتي ومتقوقعا على قدراته الفردية في الفهم والتدبير.
هل كان كانط جاهلا لشروط الموضوعية والكلية؟ لا نعتقد ذلك لأننا وجدنا في النص المعنون "في فكرة تاريخ عالمي من وجهة نظر المواطنة الكونية" وفي النص المعنون "ما هي الأنوار؟" شروط تحقيق الموضوعية والكلية بصورة فعلية ولا نظرية. يقول كانط في القضية الثانية من أطروحاته حول "فكرة تاريخ عالمي من وجهة نظر المواطنة الكونية" ما يلي : "عند الإنسان (كالكائن العاقل الوحيد فوق الأرض) لم تحقق الإستعدادات الطبيعية التي تعد لاستعمال العقل نموها الكامل في الفرد ولكن في النوع البشري فقط. "ففي هذا المعنى نفهم أن العقل يحتاج إلى تظافر المجهودات الفكرية من طرف كل أفراد الإنسانية ويحتاج إلى زمن طويل ليكتمل ويتحقق في شكله الأفضل أي عندما يحقق العقل : الكلية والموضوعية في أعلى درجاتهما. إلا أن كانط اعتبر تقدم العقل نحو شكله الكامل ونشاطه الأمثل هو فكرة- مثال (Id閍l) مازال العقل بعيدا عنها ولكن لم يبين كانط الظروف الدقيقة التي يجب على الإنسانية أن توفرها لإنجاح حركة تطور العقل نحو الموضوعية والكلية بصورة فعلية، أي أنه لم يؤكد على ظروف الموضوعية المعرفية التي اتخذت صورة المنهج التجريبي (مع كلود برنارد) ثم باشلار مثلا ولم يبين كيف يمكن للإنسانية أن تحقق الكلية في مجــــال العقل العملي سوى مــــا سمي بمبدأ التـــعــــميـــم الكــلي (principe d'universalisation) المتضمن في الأمر القطعي الأساسي " افعل بصورة تجعلك تريد أن تكون قاعدة فعلك قانونا كليا". إن اليوم والعالم الغربي قد ابتعد عن المعايير المسيحية التقليدية (في الأخلاق) بينما الشعوب الأخرى مازالت تتخبط في محاولاتها البطيئة نحو النمو سياسيا واقتصاديا وعلميا وتقنيا تصبح مشكلة تحقيق العقل العملي أمرا ضروريا وحياتيا. إن ا لحرب في العراق (2003-2004) بينت لنا أن المعايير الكلية والمواقف الموضوعية كانت غائبة و كانت المفاهيم مستعملة بصورة مختلفة بين الأطراف المتنازعة : مفهوم الحرية ومفهوم الديمقراطية ومفهوم العدالة والنظام. وكيف نفرض على شعب من الخارج مفاهيم لم يقع الاتفاق على مدلولها بين كل الأطراف المعنية وكيف يمكن تحقيق اتفاق دون أن تلتقي جميع الأطراف المعنية أو من ينوبها حول مائدة الطرح والنقاش؟ هنا نفهم تصور كانط لظروف تحقيق الكلية ونتبين غيابها على الصعيد العالمي والتي لم يبينها الفيلسوف بصورة كافية وذلك رغم تلميحه إلى شرطها الذي هو طرح المسائل المتعلقة بالتشريع على الساحة العمومية (public) يقول كانط في نصه " ما هي الأنوار؟" ما يلي "تذهب طريقة تفكير رئيس دولة يشجع الأنوار إلى ابعد من ذلك لأنه يعترف حتى من جهة تشريعه، أنه لا خطر في تمكين رعيته من استعمال عقلهم علانية أمام العالم وإعلان أفكارهم المتعلقة بإعداد أفضل لذلك التشريع وإن كان ذلك عن طريق نقد صريح للتشريع الذي وقع إصداره"(1).
إن الظروف الراهنة على الساحة الدولية سياسيا واقتصاديا وبيئيا تبين عجز القيم التقليدية التي نعرفها في النظريات الأخلاقية القديمة والحديثة وتفرض علينا طرحا جديدا وبحثا عن مبادئ ومعايير وأوامر جديدة مناسبة للعصر وللظروف التي نعيشها. فقيم الأخوة والعدالة والحرية والاستقلالية والمساواة والخير كلها قيم معروفة ولكنها فقدت من فاعليتها ويجب تعريفها من جديد. فهل يعود ذلك إلى غياب العقل العملي كما ظن دافيد هيوم ومن بعده ماكس فيبر أم أن الأوامر التقليدية(والكانطية) منها أصبحت غير فاعلة أو غير كافية؟ إن الحدوس الكانطية في خصوص عقل يجادل ويناقش في الساحة العمومية، جعل هابرماس وكارل أتو آبل يدافعان بصورة ملحة على ضرورة تحقيق عقل تواصلي أو عقل يناقش. يبقى هابرماس وآبل إذا في اتصال مع العقلانية الكانطية في أيمانهما بوجود عقل عملي ولكن عقل عملي غير منفرد باقتناعاته الذاتية وغير متقوقع إلى حد الأنانة Solipsisme . فإذا اعتبر كانط أن العقل الإنساني لا يكتمل إلا في النوع والتاريخ يجب علينا اليوم إعطاء للعقل الظروف الملائمة لتحقيق "جوهره" أي صورته المثلى. ويسمي كارل أتو آبل مجموع هذه الظروف والشروط بأخلاقية النقاش. بنظرية أخلاقية النقاش يعلل آبل عقليا ويؤسس وجود العقل العملي. تعتبر أخلاقية النقاش الشرط الوحيد و الحل الوحيد اليوم (بعد أفول الأخلاق الدينية والتقليدية في العالم الغربي خاصة) لإرساء مبادئ وقيم ومعايير جديدة على أسس عقلية. فما يضمن الكلية والموضوعية للقرارات هو إخضاعها إلى الجدل والنقاش، ويفيد النقاش معنى التبرير والتعليل والحجاج – فمن يقبل النقاش ويتبادل الحجج يقبل العقل حكما – إن إخضاع الآراء والإقتناعات والإختيارات إلى النقاش شرط لتحقيق الموضوعية والنزاهة والاتفاق وبذلك يصبح في الآن نفسه شرطا لاجتناب العنف اللفظي والمادي ولاجتناب الحرب والظلم والإستبداد في كل مستويات الحياة الإنسانية. ليست أخلاقية النقاش مذهبا ولا نسقا من القيم والمعايير والأوامر المحددة في مضمونها. لا تأمر أخلاقية النقاش بفعل أشياء وترك أشيـــاء أخـــرى. تعــــود أخـــــلاقـــيـــة النقــــاش في الحقيقــــة إلى ما يسميه آبل بـإجرائية ترنسندنتالية Pragmatique transcendantale تجمع شروط مناقشة أطروحات ومبادئ عملية في المجالين الأخلاقي والسياسي بحثا عن إمتحان مشروعيتها ومعقوليتها وصلاحيتها. إن الطابع الصوري النظري والترنسندنتالي والكلي لأخلاقية النقاش يجعل هابرماس ينقد حدودها ونقصها. من وظائف أخلاقية النقاش أنها توجهنا نحو ما يجب علينا أن نفعل. فهي مبنية على مبدأ تطابق الفعل مع الأخلاق ومع الظرف في آن واحد وهي تؤمن في إمكانية الوصول إلى اتفاق يتوق إلى الإجماع كمثال نصوب نحوه في النقاش. ولكن أخلاقية النقاش إطار أمثل لطرح المسائل العملية قصد إيجاد الحلول المعقولة والصالحة كليا. يأخذ مفهوم الكلية هنا معنى خاصا في الظروف "عولمة" Globalisation المشاكل السياسية والإقتصادية ومع التطبيقات العلمية التكنولوجية المهددة للإنسانية وللحياة فوق الأرض. إن رهان الكلية اليوم ليس مثالا عقليا كانطيا فحسب، لقد أصبحت الكلية Universalité ضرورة حياتية لا تخص فئة أو قطرا أو دولة بل تخص مصير الإنسان والحياة فوق الأرض تلك الدرة الزرقاء المهددة بالتلوث .
إن المشكلة في نظر هابرماس متمثلة في الانتقال من المنهجية الترنسندنتالية لشروط النقاش الناجح بصورة عامة (Habermas :" logique de la discussion") إلى الاتفاق الفعلي حول قيمة أو قانون أو أمر للتطبيق ضرورة في ظروف إشكالية محددة. الأمثلة هنا ضرورية للفهم، نأخذ مشكلة الموت الرحيم في مجتمعات اتخذت اللائكية مبدأ في الحياة العامة والخاصة، نأخذ مشكلة الإنجاب المساعد طبيا على أساس استعارة رحم امرأة ثانية وأخذ مني رجل آخر غير الأب، ومثال تبني أزواج الجنسية المتجانسة لأطفال إلى غير ذلك. فكيف نظمن الاتفاق والإجماع في مسائل كهذه باعتبار أن هناك مشكلات أخطر على البيئة وعلى بقى شعوب كاملة في ظروف صحية واقتصادية وسياسية خطيرة، مثلا في إفريقيا (مرض السيدا والحروب والمجاعة والفقر المتزايد والاستبداد ...). يمكن لنا أن نذكر الصعوبات التالية في موضوع أخلاقية النقاش :
أ - هناك فرق بين منهجية ترنسندنتالية أو كما يسميها هابرماس "منطق النقاش" من جهة والخروج بحلول متفق عليها من طرف كل المعنيين في مشكلة خاصة (والمعنيون اليوم هم الإنسانية جمعاء) من جهة أخرى.
ب - هناك فرق بين إيجاد حلول متفق عليها واحترام هذه الحلول وتطبيقها في الفعل و في الواقع.
ج- هناك فرق بين المجموعة المثالية المناقشة Communaut communicationnelle id閍le والمجموعة المناقشة في الواقع Communaut communicationnelle r閑lle (بكل نقائصها وعيوبها).
هذه النقطة تجعلنا نذكر شروط النقاش المرضي وهي : صحة المبدأ المقدم كحجة ومناسبته للظرف الإشكالي وصلاحيته الأخلاقية وصدق المتدخل وبحثه الجدي عن الحقيقة( Justesse, v閞it , validit , sinc閞it .)
هناك نقاط عديدة تفرض البحث عن أخلاق ما بعد كانطية جديدة إلى جانب القاعدة العقلانية والطابع الصوري الكلي الذين تتسم بهما أخلاقية التواصل والنقاش.
• لقد حرر كانط مفهوم الأخلاق من العنصر المادي أي من المعطيات التجريبية الواقعية لتقديم تصور خالص، قبلي، مثالي صارم إلى حد يجعلنا نتساءل إذا كان الإنسان العادي قادرا على احترام الأمر القطعي بكل شروطه العقلية الصارمة.
• من جهة أخرى نتساءل عما إذا كان الفرد كذات منغمسة في ذاتيتها قادرا على طرح جميع الأسئلة ذات البعد الأخلاقي بما فيها المسائل التي تتجاوز شخصه وحدود العلاقات القريبة في الزمان والمكان والتي تتجاوز معنى المسؤولية الفردية بعد تجاوز حدود أخلاق الاقتناع نحو مفهوم أخلاق المسؤولية الكونية أو المسؤولية المعممة على كل الكائنات الحية فوق الأرض.
هذه هي التساؤلات التي جعلت كارل أتو آبل يربط بين مفهوم المسؤولية وفكرة أخلاقية النقاش لتجاوز كل نقائص الأخلاق الكانطية الخاصة باقتناع الفرد. إن المبدأ الأساسي في أخلاقية النقاش هو أن كل الأفعال الإنسانية، الفردية والجماعية الأخلاقية والسياسية التكنولوجية والإقتصادية يجب إخضاعها إلى النقاش والحجاج حسب منهجية محددة وحسب قواعد معينة وحسب قيم متفق عليها لضمان الإتفاق بين كل الأطراف المعنية – إن الحالة الراهنة على الصعيد العالمي في كل المستويات تفرض الحوار والتواصل والنقاش على شكل نظام مداولات تنتقل من المجموعة الصغيرة للنقاش إلى مؤتمرات عالمية تجمع رؤساء الدول لاتخاذ القرارات والقوانين على مستوى عالمي.
إن المبدأ العقلي المؤسس لأخلاقية النقاش يجعل الإيمان في الإجماع ممكن كمثال (Id閍l) على شرط أن نحترم كل متطلبات النقاش الناجح والمجدي لذلك لا يمكن فرض نظام من القيم والمعايير والقوانين للتطبيق قبل دراسة الأوضاع الإشكالية وقبل البحث المشترك بين كل الأطراف المعنية أو من ينوبها. لذلك يؤكد آبل على الطابع الصوري والمنهجي الترنسيندنتالي لأخلاقية النقاش ويعتبر كارل أتو آبل أخلاقية النقاش الحل الوحيد لتحقيق القيمة الكلية في المبادئ والمعايير والاختيارات في عصر القوة العسكرية والقدرة التكنولوجية وعهد اللائكية والفلسفات ما بعد الحديثة – حيث يصبح الإعلام الذي يسير بسرعة الخطوط اللاسلكية والفضائية موضوع جدل وتقابل ونقاش على الصعيد العالمي، فكل فعل وكل قرارا وكل حكم في قطر ما يصبح موضوع نقاش وتحليل وتقييم من طرف الإنسانية المفكرة والمتسائلة باحثة في مدى معقولية هذه القرارات وقيمتها الأخلاقية. إن الخطر الكبير على الشعوب والإنسانية جمعاء أن يقرر شخص واحد (مثل رئيس الولايات المتحدة في حرب العراق) القيام بحرب "تحرير" بلاد آخر دون استشارة أحد وضد الرفض المبدئي لشعوب كاملة تتظاهر لتدخل في النقاش وتعبر عن موقفها وحججها. فنلاحظ كيف تتغلب الأقلية المهيمنة والمتفوقة عسكريا واقتصاديا على أغلبية رافضة للحرب لأسباب معقولة وبحجج مقنعة.
نفهم في هذا الظرف التمييز الذي جعله آبل بين التواصل المثالي Communication id閍le والمجدي بين جميع الأطراف من جهة وبين التواصل المتداول الناقص المشوب بعوائق Communication r閑lleتمنعه من تحصيل الإجماع أو حتى الاتفاق المرضي من جهة أخرى. إذا عدنا إلى الظرف الذي سبق اندلاع الحرب في العراق نجد أن طرفا (الولايات المتحدة) قرر الدخول في الحرب رغم تحفظات فرنسا ورغم نداء شعوب كاملة متظاهرة ضد الحرب. فنتساءل بأي حق وحسب أي مبدأ أخلاقي أو دولي أو سياسي أو قانوني يقرر طرف القيام بحرب "احتياطية" لأسباب لا تقنع أحد؟ كيف يمكن أن تختلف الإنسانية إلى حد التقابل وكل طرف يدعي الكلام حسب مبدأ العقل والمعقولية والعدالة؟ إذا عرفنا العقل والمعقولية بالكلية والموضوعية كيف يمكن أن تختلف الإنسانية حول مضمون الحرب والسلم؟ يصبح من الضروري الالتقاء لتحديد معاني المفاهيم الأساسية التي نستعملها حتى يصبح التواصل ممكنا ومجديا وبناء. إن فكرة أخلاق النقاش هي الحل الذي وجده هابرماس وكارل أتو آبل لتجديد قدرات العقل العملي بعد كانط في العصر ما بعد الحديث.
إن إعطاء آبل قيمة تأسيسية للتواصل وللنقاش يعود إلى الأطروحة القائلة بأن الفكرة عند الإنسان مرتبطة بالعلامة اللغوية وبأن المتكلم يريد التعبير عن شيء وتبليغه لإنسان آخر(المتلقي). إلا أن وجود المتلقي يجعل المتكلم معرضا إلى الاعتراض والنقد والنقاش لأن المتلقي إنسان يفكر من وجهة نظر أخرى وله تصور آخر للموضوع المطروح. هذا الظرف الخاص بالتواصل الإنساني يمثل قيمة تأسيسية عند آبل على المستويين النظري والعملي، ففي هذا المعنى يحتاج العقل النظري والعقل العملي في ما بعد الحداثة إلى تبادل وجهات النظر بين الذات والآخر وإلى إرساء قواعد التبادل المجدي والحوار البناء ولتأسيس معقولية عملية مشتركة. إن أنصار "المعرفية" Cognitivisme في المجال العملي يرفضون النسبية في الأخلاق ويرفضون التناقض والإنفصام داخل العقل العملي. وبأنهم تجاوزوا فكرة عقل عملي فطري وما قبلي (مثل عند كانط) لم يبق لهم لتأسيس الكلية العملية إلا التواصل والنقاش.
يصبح التواصل المنهجي المنظم حسب قواعد الجدل الإيجابي أسلوبا إجرائيا، Pragmatique طريقة مجدية. ليست أخلاقية النقاش إذا مذهبا ولا نظرية أخلاقية محددة المضمون القيمي ولكن هي منهج ترنسندنطالي، أي هي مجموعة من الشروط يصوب احترامها نحو تحقيق الإجماع أو على الأقل نحو تحقيق اتفاق مرضي بين الأطراف المعنية. يتفق هنا آبل مع هابرماس حول ضرورة احترام مبادئ يسميها مسلمات في كل علاقة تواصلية، وهي أربعة : إرادة المعنى، التعبير عن الحقيقة، الصدق وصحة ما يقال وما يبلغ.
ويضيف كارل أتوآبل إلى هذه الشروط قبول مبدأ النقاش في حالة خلاف أو اختلاف وضرورة تطبيق حل الحجاج للخروج من الإحراج ولمنع العنف(2). إن أخلاقية النقاش إذا طريقة ومنهج يتأسس عليه الطرح الأخلاقي حسب شروط تضمن المعقولية والكلية والموضوعية والاتفاق أي تحقق فكرة العقل العملي في عصر ما بعد الحداثة. إن الحل اليوم في ظروف عالمية متأزمة موجود في أخلاق مبدأها التبادل والنقاش والحجاج العقلي. إن أخلاقية النقاش إطار إجرائي يسمح بإخضاع كل المبادئ وكل الاختيارات إلى التحليل والتقييم قصد التأييد أو التفنيد حسب شروط الحجاج المقنع عقليا في ظروف نقاش جدي بين الأطراف المعنية. إن هذا الإطار يمنع استعمال السفسطة والمغالطة والتمويه والعنف.
تمثل أخلاقية النقاش تقدما بالنظر إلى الأخلاق في المعنى الكانطي وذلك لأسباب عديدة منها : ضرورة اعتبار التأثير الإشكالي للعلم وللتكنولوجيا على حياة الإنسان الخاصة والاجتماعية وضرورة احتساب المسؤوليات المرتبطة بنتائج اختياراتنا وأفعالنا المختلفة، ونحن نعلم أن في ذلك تجاوز للفهم الكانطي للأخلاق القائل بالاستقلال التام للعقل العملي عن العقل النظري والقائل بأولوية احترام القانون الأخلاقي على البحث في النتائج. إن معقولية أخلاقية النقاش أي نسبتها إلى العقل العملي واضحة في نظر كارل أتو آبل لأن قبول مبدأ النقاش والدخول في حجاج جدي لتقييم كل وجهات النظر أدلة على رغبة المتحاور في احترام مبادئ العقل الكلية.
يتكلم كارل أتو آبل عن "تحول للعقل" وهو المعنى الذي أراده الفيلسوف الألماني في كتابه "تحول الفلسفة"(3) وذلك "بعد المنعرج اللساني" Le tournant linguistique . و يتمثل تحول العقل في تجاوز شكله الكانطي المتمركز على الذات وعلى مقولات ملكة الفهم وعلى الأفكار- المثل Concepts de la raison ou Id閑s وقوانين العقل العملي المتسائل : "ماذا يجب علي أن أفعل". يبقى العقل العملي الكانطي (حسب آبل) معرضا إلى خطر التقوقع على الذات لسبب اكتفاء العقل على الحوار مع نفسه. وما أراد أن يقوله آبل هو إن الكلية المرتبطة بالعقل النظري والعملي ليست فطرية ولا ما قبلية ولا تلقائية وإن الحوار والحجاج والبحث المشترك عن الحقيقة هي شروط تحقيق الموضوعية والكلية والإجماع في المجالين النظري والعملي. يصبح هكذا مبدأ الحجاج داخل إطار أخلاقية النقاش هو العنصر التأسيسي لعقل عملي مناسب لعصر العلم والتكنولوجيا ومناسب لمناخ تسوده اللائيكية والذهنيات العلمانية وما بعد التقليدية وبعد النقد النيتشوي للواجب الكانطي وبعد ظهور التصور القراري للمشكلة العملية مع ماكس فيبر.