مجاهد عبد المنعم مجاهد
حالما ندخل حقل الحرية ، نكون قد انتقلنا من صحراء الفكر إلى أرض الواقع- المعاش .... لا نعود في مجال الفلسفة والتأمل المحض، بل نكون قد ولجنا إلى دنيا الناس والأحداث والعلاقات.. فكيف يا ترى ولج سارتر إلى هذه الأرض التي حار في فهم طبيعتها كثير من الفلاسفة وضلوا فيها الطريق؟ قد يفضل قبل أن تتبين الجديد الذي أتى به سارتر أن نتعرف على التراث الفلسفي السابق حول هذه المشكلة .. ولكن تعرفنا هذا من خلال التاريخ الذي رسمه لنا جان فال في الفصل الثامن من كتابه "درب الفيلسوف" وهو الفصل الذي خصصه لمشكلة الحرية.. لنتعرف هذا التاريخ من خلاله ولكن بعد أن نسلمه من الأحكام المغلوطة التي أصدرها على الحرية (1) .
لقد سادت عند اليونان فكرة القدر وانعكس هذا في التراجيديات اليونانية.. ونادى شعراء التراجيديا بأن الأفعال التي تظهر أنها من نتاج الإرادة الإنسانية إنما تحددها في الحقيقة قوة إلهية. غير أن جان فال يرى في هذا قدرية أكثر مما يرى فيه جبرية هذه الأفعال إنما ترجع إلى سبب كلى ولا ترجع إلى أحداث جزئية بعينها سواء كانط فسيولوجية أو سيكولوجية والجبرى يقم تأكيده على اعتبارات منطلقة إما من الفيزيقا أو الفسيولوجيا أو الاقتصاد أو الأيدولوجيا.. ثم يذهب جان فال إلى ما ذهب إليه برجسون من أن كل شكل من أشكال الجبرية يجب أن يتأسس على أساس الجبرية السيكولوجية ما لم يؤمن الجبري بنظرية الظاهرية المتعالية epiphenomenalism ويقول بأن الظاهرة السيكولوجية ليس لها تأثير مهما كان على الظاهرة الفيزيقية. ومن هنا يصل جان فال إلى أنه من العبث مناقشة الأشكال المختلفة للجبرية والأفضل دراسة الجبرية السيكولوجية كما تظهر عند هوبز وستيوارت مل وهيبوليت تين وهربرت سبنسر.
ويذهب جان فال إلى أن معنى الحرية يتراوح بين اعتبار الحرية الجبرية هي ما يتفق مع العقل وبين اعتبارها صدفة محضة.. ومن ثم نجد المفهوم السقراطى والرواقي من جهة والمفهوم الابيقورى لها من جهة أخرى.. لقد قال سقراط أن الفضيلة معرفة وعلى هذا فالرذيلة جهل أي أنه إذا تبين الإنسان بجلاء ما يجب عمله فانه سيعمله بالضرورة.. وكانط هذه النظرية نفسها هي عين نظرية أفلاطون على الأقل في محاوراته الأولى حيث يؤكد في محاورة (الجمهورية) أن الإنسان يختار مصيره. ونحن نجد التطابق نفسه بين الحرية وتقرير المصير الذاتي عن طريق العقل عند كل من الرواقيين وسبينوزا و هيجل.
وفى الطرف الآخر نجد نظرية الأبيقوريين حيث الحرية هي أشبه بانحراف الذرات في أماكن ولحظات غير محدودة عن الخط المستقيم المفروض أن تسقط فيه في الفراغ اللانهائي. ومعنى هذه الحرية هو الصدفة المحضة، وهو ما يمكن مقارنته بحرية عدم الاكتراث التي يقرر الإنسان بمقتضاها ودون ما دافع بين فعلين من الأفعال. وقد ساد هذا التصور للحرية في العصور الوسطي " ونجده أيضا عند رينوفييه حيث يستطيع الإنسان أن يبدأ سلسلة معينة من الأفعال بدون شروط مسبقة. إن نظرية أبيقور هي نظرية في الصدفة، ونحن نجد لدى الفلاسفة الذريين في القديم التأكيدات الأولى للصدفة. وان لوكريشيوش ليؤكد عدم تحددية اللحظات والأمكنة التي تنحرف إليها الذرات من سيرها لتلتقي بها. غير أن الذريين لم يقولوا إطلاقا بتحليل محكم لمفهوم الصدفة فربما يحول تأكيد الصدفة دون تحليلها والعكس صحيح. ولقد حلل أرسطو الصدفة فقال إنها نتاج لعلل ميكانيكية محضة. وكذلك حللها كورنو على أنها التقاء سلسلتين مستغلتين من العلل كل واحدة منهما محددة والالتقاء بينهما نفسه محدد، لكن مظهره الكيفي جديد.
ويواصل جان فال تناوله لمشكلة الصدفة فيقول أن نظرية الاحتمالات كان لها تأثير على القرن العشرين وعلينا أن نرتد إلى باسكال وليبنتز لنرى أصول هذه النظرية وان كان تأثيرها ظهر بصورة كبيرة في منتصف القرن التاسع عشر وقرب نهايته. وقد ذهب بحض العلماء إلى أن القوانين التي نكتشفها في الطبيعة لا تنتج إلا من تكافؤات عدد كبير من حركات الجزيئيات دون ما قانون. وهذه الفكرة نجدها عند بوانكاريه وفى فلسفة بوترو ثم نجد الفيلسوف الأمريكي بيرس يبتدع مذهبا أطلق عليه اسم Tychism وهو يعنى به أن في باطن الأشياء يوجد عنصر من الصدفة.
وهناك ثلاثة فلاسفة لديهم أفكار مختلفة عن الحرية هم ديكارت وليبنتز وكانط. فديكارت يوحد بين الإرادة والحرية كما يؤكد عدم تحددية الحركة، كما يوحد بين الحرية والتصميم من جانب العقل. وقد نبه ديكارت نفسه إلى المعاني المختلفة التي أطلقها على الحرية وتبين ن هناك سلما متدرجا من حرية عدم الاكتراث التي هي أدنى أشكال الحرية في الإنسان إلى الفعل الحر الذي يصدر عن نور الفهم. ويقول جان فال أن علينا أن نلاحظ أيضا أن ما هو أدنى. شكل من أشكال الحرية في الإنسان ليس في حد ذاته أدنى أشكال الحرية على الإطلاق، حيث أن الله يحدد نفسه بدون دوافع وبدون أن يلقى انتباها للحقائق الخالدة لا!نه هو نفسه المصدر الحر لهذه الحقائق.
أما ليبنتز فهو. يعرف الحرية. بأنها تلقائية الكائن العاقل.. غير أن جهود ليبنتز في هذه الناحية بلا جدوى.. فبمقتضى مذهبه أن كل ما يحدث في الذرة الروحيةmonad إنما يتحدد بماضي الذرة الروحية وكل ما يحدث للذات إنما يستوعب في مفهوم الذات. ومثل هذا المذهب لا يترك أملا كبيرا الإمكان وجود الحرية.
وبالنسبة لكانط فانه يذهب إلى أن جميع أفعالنا محددة. ولكن لما كنا نعرف فانه يترتب على هذه المعرفة أن الزمن والمكان لا وجود لهما في حد ذاتهما، فالزمن شكل يوجده فهمنا لتنظيم التجربة. وان صوت الواجب الذي نسمعه في أنفسنا إنما يقول لنا أننا أحرار، وهذا الصوت موجه إلى كائن يستطيع إما أن يطيعه أو بعصيه. ونحن نعرف أن الأشياء في ذاتها خارج الزمن، وكل واحد منا هو شئ في ذاته. ومن هنا فلا توجد دوافع محددة لأي من أفعالنا طالما أن الفعل هو فعل من أفعال الشئ في ذاته. ومن هنا فعند كانط أن فعلنا الحاضر لا يحدده فعلنا الماضي ، غير أن فعلنا الحاضر شأنه شأن فعلنا الماضي هو تأمل، هو صدى الفعل الذي نشيد به. وجودنا خارج الزمن، ومن هنا نتبين أن كانط قد ترك للجبرية عالم الظواهر واحتفظ بالحرية لعالم الأشياء في ذاتها. ومن هنا ألغى كانط تجربة الحرية في حياتنا وجعلهما قاصرة على حياتنا الخالدة المجهولة بالنسبة لنا.
ويحلل جان فال الحرية عند المفكرين الثلاثة ويصل إلى أن ليبنتز إنما يستبعد في الممارسة الحرية التي أكدها في النظرية، وكانط لم يعطنا الحرية في هذا العالم، وديكارت يتصور الحرية القصوى على أنها الجبرية المطلقة القائمة على نور العقل.
فإذا أتينا إلى برجسون فإننا نجده قد ذهب شوطا بعيدا في نقد النظريات المعتادة للحرية والجبرية. فقد أفضت به ملاحظته للحياة العقلية إلى نبذ رأى رينوفييه المؤمن بتقطع الزمن. وأرجع برجسون خطأ كانط إلى أنه لم يدرس بعناية حقيقية الزمن حيث أن الزمن في رأيه ليس شكلا من أشكال الفهم شأنه في هذا شأن المكان التصوري ، وان تصور الحرية خارج الزمن كما فعل كانط ليس تصورا لها على الإطلاق، بل هو قضاء عليها. وإذا كانت الحرية ستوجد فهي إنما توجد في حياتنا الزمنية. وعند برجسون أنه نظرا لأن هذه الحياة أساسا في جوهرها هي الزمن، الزمن المحسوس والذي يسميه الديمومة duration فإننا أحرار.. ولا توجد عند برجسون لحظة منفصلة عن الأخرى.. ومن هنا لا توجد لحظات.. بل لا يوجد إلا تدفق الديمومة.. ومن ثم فان حقيقة الزمن الحقيقي هي التي تسمح لنا بتأكيد الحرية، وبالتالي تسمح لنا بتأكيد المستقبل، تأكيد انفتاحية المستقبل. ويرتب برجسون على هذا أنه لا يمكن إصدار أحكام على المستقبل. وقد رأى جان فال في هذا أن كل ما يسمح لنا من حرية للحديث عن الحرية هو أن نقول انه مستحيل الحديث عنها، ومن ثم يقضى برجسون على محاولته لتعريف الحرية. وان كان قد حاول إعطاء بعض التعاريف لها عندما يقول أن الفعل يكون حرا عندما تكون علاقته بمبدعة مماثلة لعلاقة العمل الفني بمبدعه أو عندما ينضج الفعل داخلي أشبه بالثمرة وهو ما يسميه برجسون خلق أنفسنا بأنفسنا.
ويرى جان قال أن أكثر الفلاسفة المحدثين تأثيرا بالنسبة لمشكلة الحرية هم أولئك. الفلاسفة الذين ينطلقون من كيركجورد الذي أصر على حقيقة الإمكانية وكانط الحرية ضرورية عنده حتى يكون للفعل الأخلاقي وللفعل الديني معناه الكلى. وان مفهوم الخطيئة إنما يتضمن اختيارا حرا من بين الممكنات. وأكد هيدجر أن الحرية مرتبطة بطبيعة الإنسان الذي هو الكائن الذي على علاقة دائمة بالمستقبل وأنه دائما قدام نفسه. ومن هنا فان الوجود الإنساني هو هذا الانقذاف الذاتي وبهذا ربط هيدجر بين الحرية والزمن كما فعل برجسون. هذه هي الأرضية الفلسفية التاريخية التي وجد سارتر نفسه فيها.. فما هو الجديد الذي أضافه؟ وهل استطاع أن ينقل المشكلة خطوة أبعد مما فعل غيره من المفكرين السابقين؟
- لكي يمكن تقديم المفهوم الذي أسسه سارتر عن الحرية يحسن أن نتبين نقط انطلاق سارتر إلى المشكلة ذلك أن نقط الانطلاق ستحدد المسار الذي سيتخذه سارتر وسيترتب عليه ما إذا كان قد وصل إلى مفهوم سليم للحرية أم لا.
لقد أقبل جان بول سارتر على مشكلة الحرية بفعل من أفعال النفي.. وربما كان الإقبال عليها بفعل من أفعال النفي هو المسئول عن وصوله إلى تصور الحرية على أنها شكل من أشكال النفي.. لم تكن نقطة انطلاق سارتر إلى المشكلة من التأمل النظري المحض، وهذه هي الإضافة الجديدة التي أضافها سارتر لمن درس مشكلة الحرية من سابقيه ومعاصريه، بل كان الانطلاق هو من أرض الواقع المعاش.. وكان الواقع المعاش عنده هو الماركسية، لا النظرية، بل العملية.. الحضور الثقيل للطبقة العاملة وحقيقة البروليتاريا التي لا يمكن إنكارها.. انطلق سارتر من أن إرادة التغيير في مجتمعه سيحققها الواقع العملي للبروليتاريا.. الطبقة الثورية التي ستحقق الثورة.. لكن كيف تستطيع هذه الثورة أن تتحقق؟ أو بمعنى أدق كيف يمكن أن يصبح العامل ثوريا؟ " بالابتعاد الخالص عن نفسه وعن العالم يستطيع العامل أن يضع معاناته على أنها معاناة لا تحتمل، وبالتالي (يستطيع أن يجعل منها الدافع) لعمله الثوري " (2) ومن هنا جاء اهتمام سارتر بمشكلة الحرية.. انه يريد بها أن يؤسس للعامل ثوريته القائمة على الفعل.. ومن هنا جاء هجومه على المادية الجدلية حيث تصور أنه لا يوجد مكان للحرية فيها.
لقد فرق سارتر بين ماركسية ماركس التي تتيح مجالا للإنسان في الحقل الاجتماعي والتاريخي وبين ماركسية الماركسيين وبخاصة الستاليين منهم الذين هم في نظره إنما يجعلون الظروف التاريخية والاجتماعية هي العامل الوحيد في الثورة.. إن سارتر فضل بدل أن يتعمق ماركسية ماركس في بدء حياته أن ينفيها وأن يبتدع الفلسفة الوجودية التي هي في رأيه المذهب الوحيد الذي يؤسس الحرية.. ثم بعد هذا التأسيس سيندمج المذهبان في مركب جديد يعمل على أحداث الثورة.
إذن فالهدف من بحث الحرية عند سارتر ليس هو التوصل إلى مفهوم نظري مجرد لها، بل الوصول إلى مفهوم عملي لها يساعد على الفعل والعمل.. فما هو هذا المفهـوم؟ وهل يستطيع هذا المفهوم حقا أن يساعد على العمل؟
إذا كان سارتر قد انطلق من أن المادة عند الماركسيين- كما تصور- خالية من الحرية، فان الحرية توجد في مكان أخر غير المادة. وإذا كانط مشكلة المشاكل عند كانط هي كيف تكون القضية تركيبية أي منطلقة من التجربة وقبلية في الوقت نفسه أي سابقة على التجربة، فان مشكلة المشاكل عند سارتر هي كيف يكون الإنسان مشروطا بالظروف البيئية والطبقية والعرقية والاقتصادية وفى الوقت نفسه لا يكون نتاج كل هذه الشروط .. "إننا نرفض أن نتوزع بين الأطروحة والنقيض. أننا نتصور من دون ما صعوبة أن الإنسان يستطيع أن يكون على الرغم من أن وضعه يشرطه كليا، مركزا لعدم تحديد لا يمكن إرجاعه (3)إن سارتر يطرح الأزمة التي يمر بها الإنسان المعاصر وذلك في تقديمه لمجلته الأزمنة الحديثة عام 1946 يقول: " هكذا يبدو الوعي المعاصر يمزقه التناقض. فالذين يتمسكون قبل كل شئ بكرامة الشخص الإنساني ، بحريته، بحقوقه غير القابلة للفسخ، يميلون من هذه الناحية بالذات إلى التفكير حسب. الروح التحليلية التي تدرك الأفراد خارج شروط وجودهم الحقيقية،. والتي تمهرهم بطبيعة ثابتة مجردة، والتي تعزلهم وتتعامى عن تضامنهم، في حين أن من فهموا جيدا من جهة أخرى أن الإنسان متأصل في الجماعية، ومن يريدون أن يؤكدوا أهمية. العوامل الاقتصادية والتكنيكية والتاريخية يرتمون في أحضان الروح التركيبية التي تتعامى عن الأشخاص لا ترى إلا الزمر. ويتجلى هذا التناقض على سبيل المثال في الاعتقاد الشائع جدا بأن الاشتراكية. بعيدة كل البعد عن الحرية الفردية وعلى هذا فمن يتمسكون باستقلال الشخص سيجمدون عند ليبرالية رأسمالية، نتائجها المشئومة معروفة، ومن" ينادون بتنظيم اشتراكي للاقتصاد سينادون به باسم استبدادية كلية. والاستياء الحالي راجع إلى أنه ما من إنسان يستطيع أن يقبل بالنتائج العضوي لهذه المبادئ"(4) وإذا كان كانط قد هجر التجربة هجرانا تاما لكي يؤسس القبلية على شكل قوالب وأفكار لملكتى الفهم والعقل فان سارتر لم يهجر التجربة هجرانا تاما في الظاهر لا أن هدفنا هو بالضبط إرساء مملكة الإنسان كنموذج للقيم يتمايز عن العالم المادي لكن الذاتية التي نعترضها كمعيار للحقيقة ليست ذاتية فردية ضيقة نظرا.. لأن الفرد لا يكتشف ذاته في الكوجيتو فحسب، بل يكتشف أيضا ذوات الآخرين"(5) غير أننا سنتبين بعد قليل أن التأمل سرق سارتر بالفعل وجعله يهجر التجربة هجرانا تاما.. ومن ثم يقضى أحد القطبين على القطب الآخر مع أنه ، نرفض أن تتوزع بين الأطروحة والنقيض".. وما صرح به لولفريد ديزان عام 1956 "لا أزال أعتقد أن الحرية الفردية كلية وذلك إذا ما تحدثنا أنطولوجيا، ولكن من جهة أخرى أنا أزداد اقتناعا بأن هذه الحرية مشروطة وتحددها الظروف " (6) .
فما هي يا ترى هذه الحرية التي تعد الشغل الشاغل لسارتر في حقبة كبيرة لحياته والتي لاتزال سائدة عنده حتى الآن وان كانط بصورة مخففة؟ هل الحرية يمكن تعريفها؟ من الواضح أن التعريف لابد أن يكون تعريفا بالماهية، فهل للحرية ماهية؟ إن سارتر ينفى هذا بصراحة: " إن وصف شئ هو عملية جعله واضحا بالإشارة إلى أبنية ماهية معينة. والآن إن الحرية ليس لها ماهية .. الحرية تجعل نفسها فعلا، ونحن نحصل عليها عبر الفعل الذي تنظمه مع الأسباب والدوافع والغايات التي يتضمنها. الفعل، (7)الحرية إذن عند سارتر لا ماهية لها، إنها أساس كل الماهيات حيث يكتشف الإنسان بها جميع الماهيات وذلك بتجاوزه لنفسه "الحرية هي أساس كل الماهيات حيث أن الإنسان يكشف الماهيات الأرضية المتشابكة بتجاوز العالم تجاه إمكانياته"(8)
إن سارتر يميز بين نوعين من الحرية: حرية الفهم والتدبر والحرية بمعنى الخلق الإنساني.. " إن اختبار حريتك في عالم الفعل أو النشاط الاجتماعي والسياسي أو الخلق الفني شئ، واختبارها في فعل الفهم والاكتشاف شئ آخر، (9) وهو يرى أن. المفكرين- تحت تأثير ديكارت- قد ركزوا على المعنى الأخير للحرية .. يقول في مقالته عن "الحرية الديكارتية": "وهذا هو السبب الذي يدفعنا نحن الفرنسيين الذين تعودوا العيش على الحرية الديكارتية لمدة ثلاثة قرون إلى أن نفهم ضمنيا بـ (الإرادة الحرة) ممارسة (التفكير) المستقل أكثر مما أن نفهم منها إنتاج الفعل الخلاق وتوصل فلاسفتنا في النهاية—كما فعل ألان Alain إلى التوحيد بين الحرية وفعل إصدار الحكم" (10) ومن هنا فان سارتر لا يدرس الحرية حقا وإنما هو يريد دراسة التحرر، فعل ممارسة الحرية حيث أن الحرية "ليست سوى الحركة التي يؤسس بها الإنسان دائما نفسه ويحررها. لا توجد حرية معطاة. على الإنسان أن يحرز نصرا داخليا على عواطفه وجنسه وطبقته وأمته وعليه أن يقهر الرجال الآخرين مع قهره لنفسه"(11) هذا هو القصد عند سارتر لكننا سوف نتبين بعد قليل كيف سينتهي بها إلى أن تكون (حرية، وليس تحريرا" (12) .
ليس الإنسان عند سارتر حرا فحسب، بل هو أيضا الحرية .. فكيف توصل سارتر إلى هذا؟ لنبدأ منذ البداية عنده: الإنسان هو الكائن القادر على إلقاء أسئلة ومعنى السؤال إمكان عدم معرفتي بالشئ الذي أسأل عنه وامكان أن ألقى جوابا بالنفي على سؤالي.. وهذا يعنى أنني محاط بالعدم من جهتين: العدم من ناحية المعرفة، والعدم من ناحية الكينونة.. بل إن إجابتي عن سؤال بأنة هذا (وليس) ذاك إنما يفترض أيضا عدما من ناحية التعيين.. وهكذا فإنني مخلوق يحيط به العدم من كل الجهات.. وهذا العدم يفصلني عن العالم الخارجي.. وإذ (استخدمنا مصطلحات سارتر فإننا نقول أن الكينونة لذاتها التي هي أنا محاطة بقوقعة من العدم تفصلهما عن الكينونة في ذاتها.. فإذا فحصت الكينونة لذاتها فماذا أجد؟ أن الشئ لذاته هو الوعي " ومن طبيعة الوعي أن يكون قصديا وان الوعي الذي يكف عن أن يكون وعيا بشئ، إنما يكف- لهـذا السبب- عن الوجود، (13) .. فما هو مضمون الوعي؟ الوعي ليس له مضمون حيث أنه نفى للشئ في ذاته "إذا كان الوعي يوجد في حدود المعطى، فهذا لا يعنى أن المعطى يحدد الوعي، الوعي هو نفى محض وبسيط لما هو معطى، (14) وهذه هي الإضافة الجديدة التي أضافها سارتر لهوسرل.. أن جوهر الوعي هو القصدية.. انه لا يشتغل على نفسه، بل يشتغل على الشئ في ذاته.. (إن الشئ لذاته هو نوع من غيبة الكينونة (الكينونة في ذاتها) انه ثقب في الكينونة كما يسميه سارتر ، نقص الكينونة، وبسبب هذا (الثقب) فان حادثا هائلا يحدث للكينونة في ذاتها(15)إن الوعي إذن لا يضيف شيئا كما لاحظ شامبنى في كتابه: "مراحل على طريق سارتر:1938-52 : "الوعي لا يضيف (شيئا)، انه يضيف العدم، (16) الوعي بلا محتوى، وهو متجه إلى الخارج " الوعي يتحدد بالقصدية. والوعي بالقصدية إنما يتجاوز ذاته، (17) لقد تأمل سارتر في عبارة ديكارت المشهورة: " أنا أفكر إذن فأنا موجود" فماذا وجد؟ لقد تبين سارتر أن هذا الكوجيتو ليس هو الكوجيتو البدئى وإنما هناك كوجيتو سابق عليه.. ذلك أن الكوجيتو الديكارتى إنما يفكر في أنه يفكر في شيء.. أي أنه تأمل التأمل وعند سارتر هناك كوجيتو أخر سابق على مرحلة التأمل هو ما يسميه سارتر الكوجيتو البكر أو السابق على التأمل pre-reflexive cogito ذلك على أساس (أن الوعي الذي يقول (أنا أفكر) هو بالدقة ليس الوعي الذي يفكر"(18) وأن هناك وعيا أخر يشتغل على العالم الخارجي.. وان وعيك ليس هو العالم " انك تعرف تماما أن الشجرة ليست أنت. وأنك لا تستطيع أن تدخلها أحشاءك المظلمة وأن المعرفة لا يمكن مقارنتها بالتملك اللهم إلا إذا تحللنا من الأمانة. والوعي في الوقت نفسه إنما يخلص نفسه من الشوائب، وهو جلي أشبه بالهوا، الشديد، وما فيه من شئ سوى حركة يهرب بها من نفسه وسوى تفلت لخارج النفس، وإذا حدث المستحيل وولجت إلى (داخل) الوعي فانك ستتعرض لزوبعة تلقى بك إلى الخارج، قرب الشجرة، وسط الأتربة نظرا لأن الوعي ليس من (الداخل)، انه ليس شيئا سوى ما هو خارج عن ذاته وأن هذا التهرب المطلق، هذا الرفض من أن يكون له جوهر هو الذي يكونه باعتباره وعيا، (19) كما أوضح في مقالته: "فكرة أساسية في فينومينولوجيا هوسرل: القصدية".
فلماذا هذا الاهتمام بتفريغ الكينونة لذاتها من كل محتوى؟ وذلك حتى تتجه إلى الخارج ويكون جوهرها العمل والقيام بعمليات النفي والسلب من التحطيم إلى التساؤل إلى إصدار الأحكام السلبية إلى سوء الطوية bad-faith وكما لاحظ ولفريد ديزان: "إن الكينونة لذاتها إنما تلعب باستمرار ( لعبة) السلب"(20) لقد أصبحت النفس عند سارتر هي العدم، أصبحت فاعلية، فاعلية عادمة.. وبهذا "لم يحدث في فكر الغرب من قبل أن أحيطت النفس بمثل هذا السلب. وعلى الإنسان أن يرجع إلى الشرق، إلى الفيلسوف البوذي ناجارجونا (حوالي 200 قبل الميلاد) بمذهبه في عدم جوهرية النفس Anatma حتى نلتقي بقائمة السلوب التي يضعها سارتر. والنفس في الحقيقة في تناول سارتر كما في البوذية، هي فقاعة، والفقاعة لا مركز لها(21) وهكذا أصبح الوعي عند سارتر هو الفاعلية، الفاعلية السالبة القادرة على أن تقول لا وان هذه القدرة على النفي لا تحدث فحسب في التساؤل والتهديم والحكم السلبي ، بل يذهب سارتر إلى أنها تحدث في كل فعل للمعرفة مهما كان" (22).. وهكذا استحالت العدمية إلى ارادة عمل بحكم القصدية والاتجاه إلى الخارج، نحو الأشياء " الفقاعة فارغة وستنهار، ومن ثم فان ما يبقى لنا ليس سوى الطاقة والعاطفة لتمديد الفقاعة"(23) ومن هنا فان " العدم يقبع ملتفا في قلب الكينونة- أشبه بالدودة" (24).
لماذا كل هذا الجهد إذن عند سارتر لإثبات أن جوهر الوعي هو الحرية، هو الفاعلية السالبة؟ لقد لاحظ سارتر مقدار الاغتراب الذي يعانى منه الإنسان، لقد لاحظ كما لاحظ ماركس من قبل: " في المرحلة الحالية لتاريخنا، نجد أن القوى المنتجة دخلت في صراع مع علاقات الإنتاج. والعمل الخلاق أصبح مغتربا، ولم يعد الإنسان يتعرف على نفسه في إنتاجه، وان عمله المستوعب يبدو له كقوة معادية. ولما كان الاغتراب يأتي نتيجة هذا الصراع فان الاغتراب هو حقيقة تاريخية ولا يمكن جبره ورده إلى أية فكرة"(25) وهو على أساس اغتراب الإنسان سيصبح الإنسان سؤالا مطروحا أمام نفسه.. " حتى يمكن لفكرتين مثل التشيؤ والاغتراب أن يكون لهما معناهما الكامل فمن الضروري أن يكون السائل والمسئول واحدا"(26).
لقد أجهد سارتر نفسه كثيرا حتى يوحد بين الحرية والعدم وذلك حتى يصل إلى أن الحرية بطبيعتها سالبة " نستطيع أن نتبين كيف أن الحرية السارترية سالبة نظرا لأنها قائمة على العدم، (27) إن سارتر ينظر إلى "شكل الحرية" لا إلى "محتواها".. وشكل الحرية قائم على النفي.. قائم على أن تقول لا.. وعلى هذا رتب سارتر أن الفرنسيين لم يكونوا أكثر حرية في وقت ما عما كانوا عليه زمن الاحتلال كما أوضح في مقالته المشهورة: "جمهورية الصمت".. يقول سارتر: " إننا لم نكن أحرارا قط بمثل ما كنا في ظل الاحتلال الألماني، (28) وذلك أن " سر الإنسان ليس عقدة أوديب أو عقدة النقص فيه، بل حدود حريته نفسها، مقدرته على مقاومة أشكال التعذيب والموت"(29)أن حريتنا اليوم ليست شيئا آخر سوى اختيارنا الحر في أن نناضل كي نصبح أحرارا، (30).
إننا لو دققنا النظر في مفهوم سارتر عن الحرية نجد أنه يخلط بين عدة معان لها.. معناها من حيث هي فعل.. ومعناها من حيث هي قيمة.. ومعناها من ناحية أنها طبيعة ركبت فينا.. كما أنه يتأرجح بين اعتبارها مطلقة وبين اعتبارها مقيدة.. ولعل السبب في كل هذا لتأرجح أن سارتر لم يدرسها في بعدها الثاني باعتبارها حركة في موقف.. حقيقة انه لا ينسى الموقف لكننا- كما سوف نتبين بعد قليل- سنرى أنه رد الموقف إلى عنصره الطبيعي لا إلى عنصره الاجتماعي.. وهو في كل هذا الخلط وكل هذا لتأرجح إنما يدور في فلك القطبين: الحرية والاشتراكية اللذين يخفت صوت أحدهما أحيانا فيعلو صوت الآخر..
لقد وضع سارتر المشكلة وضعا خاطئا منذ البداية.. يقول: "الإنسان لا يستطيع أن يكون عبدا أحيانا وأحيانا أخرى حرا، إما أنه حر كلية والى الأبد أو أنه ليس حرا على الإطلاق" (31).. وواضح من هذا النص أن سارتر أخطأ عندما طرح الحرية طرحا "مطلقا".. إن الإنسان محاط بأشياء طبيعية تسير وفق قوانين معينة خاصة بها.. فهل إذا استجاب الإنسان لهذه القوانين يكون عبدا ؟.. والإنسان الخادم في علاقته مع سيده انه يستطيع أن يثور.. فهل إذا أطاع هذا العبد قوانين الطبيعة في معاملته للأشياء لا يكون حرا إذا ثار على سيده؟ ألا يمكن أن يكون عبدا وحرا في أن واحد؟ ولنعدل العبارة قليلا فنقول: انه يستطيع أن يتمشى مع قوانين الطبيعة ولا يمنعه هذا من الثورة والتمرد على عبوديته.. وبهذا يمكن أن يكون الإنسان مقيدا وحرا في الوقت نفسه.. وسارتر قد خلط بين الضرورة والإرغام "فالعكس الصحيح للحرية ليس الضرورة، بل الإرغام.. أن تكون حرا يعنى من الناحية السلبية (ألا تسلك تحت الإرغام) (32) .
ثم إن التوحيد بين الحرية وعدم القدرة على التنبؤ مسألة وقع فيها سارتر في الخطأ كما وقع فيها معظم الذين سبقوه من المفكرين. يقول سارتر: إن ما نسميه بالحرية إن هو إلا ذلك القطاع من عدم قابلية التنبؤ الذي ينفصل على هذا النحو عن الحقل الاجتماعي، كما أن الشخص ليس شيئا آخر سوى حريته، (33).. انه الخطأ القائم في إقامة تعارض بين الحرية والعلية Causality وربما كان !الخوف من رد الحرية إلى العلية هو جوهر فهم سارتر للحرية، وربما كان هو المسئول أساسا عن كل الأخطاء التالية.. يقول سارتر عن الحرية في مقاله " رد على البير كامو: "إنها كائنة أو غير كائنة: لكنها إذا كانط كائنة فإنها تفلت من تسلسل المعلولات والعلل،(34) حقيقة أنني أستطيع أن أحمل الكوب الممتلئ وفتحته إلى أعلى أو إلى أسفل.. أنا في كل منهما حر، ولا يمكن التنبؤ بما سأفعله.. لكنني إذا كنت أعرف من قبل قانون الجاذبية واننى إذا حملت الكوب الممتلئ وفتحته إلى أسفل فان الماء سيسقط على الأرض.. ثم حدث وحملت الكوب وفتحته إلى أسفل فان قانون الجاذبية، أو العلية، ليس هو الذي قضى على حريتي، بل أن حريتي هي التي قضت على نفسها حيث قضت على إمكانية احتفاظي بالكوب وفتحته إلى الأعلى وبه الماء.. والعكس صحيح أيضا.. فإذا كنت أريد أن أسقى الزرع في الأصيص فان على أن أميل الكوب.. أنا حر في ألا أميل الكوب أولا.. ولا يمكن التنبؤ بهذا قطعيا.. لكن اختياري للفعل المعادى لاحتياجاتي هو قضاء في الوقت نفسه على حريتي.. أن سارتر لم يزل يتحرك، داخل الماركسية التي يريد غزوها من الداخل على حد تعبيره، من داخل الفكر المثالي الذي يريد أن يعلو عليه.. انه يلجأ إلى تلك النزعة التحليلية التي أدانها هو نفسه باعتبارها جوهر المنهج لدى الطبقة البرجوازية لتشويش الوعي الثوري.. أن سارتر يخشى للغاية على الحرية الإنسانية ويخشى أن ترد إلى النظام الطبيعي".. "أن ما نسميه الحرية هو عدم قابلية رد النظام الثقافي إلى النظام الطبيعي" (35) فمن قال بأن الحرية هي ردها إلى النظام الطبيعي؟ لكن عدم ردها للنظام الطبيعي لا يعنى أن النظام الطبيعي (متطاحن) معها.. كل ما هنالك أنه (مختلف) عنها.. وأن كليهما في خدمة الإنسان..
ثم أن سارتر يقع في المتناقضات.. إذا كان الشئ لذاته هو العدم هو الحرية حيث أن الحرية في أساسها تتطابق مع العدم الذي هو في قلب الإنسان" (36) فكيف يمكن للعدم الذي هو "لا شيء" آن يصبح (فعلا)، (حرية).. أي يصبح (شيئا)؟ انه خطأ من أخطاء سارتر الشائعة وخاصة في كتابه (الكينونة والعدم) وهو فكرة التساوي بين المصطلحات التي لا يثبتها بالواقع المعاش بل يثبتها بالمنطق الرياضي والمنطق الأرسطى اللذين قال هو عنهما في كتابه " نقد العقل الجدلي" أنه درسهما بالتفصيل إبان دراسته بالجامعة..
لقد وقع سارتر في مأزق كبير عندما جعل الحرية" مساوية للعبث.. وذلك على أساس أن الحرية تخلق نفسها وليست أساسا لنفسها.. " الاختيار.. عبث. وهذا لان الحرية هي (اختيار) لكينونتها. وليست (أساس) كينونتها" (37).. فارق ألا يكون لكينونة الإنسان أساس على وبين أن أجعل من كينونته عبثا.. وسارتر إنما يخلط بين الغاية والوسيلة.. أن جوهر فلسفته جميعا أن ما يريد أن يحققه الإنسان هو أن يخلق كينونته لأنه نقص أي انه يريد أن يخلق ماهيته انطلاقا من واقعة وجوده.. فإذا سلمنا بهذا فكيف تصبح الحرية لا الكينونة هي الغاية؟ بمنطق سارتر كان يجب أن تكون الحرية هي وسيلة لتحقيق كينونة الإنسان ومصيره لكن سارتر تمشيا مع التحليل المنطقي الشكلي الأرسطى إنما يوحد بين الحرية والغاية. لما كانط الحرية متطابقة مع وجودي فإنها أساس الغايات التي سأحاول الحصول عليها سواء بالإرادة أم بالجهود العاطفية"(38).. ولما كان الوعي عند سارتر هو الكوجيتو السابق على التأمل وكانط الحرية هي هذا الوعي فان الحرية تصبح هي الكوجيتو السابق على التأمل.. إنها تصبح التلقائية وتصبح هذه التلقائية في الوقت نفسه هي الغاية، هي غاية الغايات، ومن ثم " يخلط بين التلقائية الطبيعية والحرية الأخلاقية وزيادة على ذلك فانه يفهم هذه التلقائية على إنها تلقائية سالبة" (39).. قد يكون أحد جوانب الحرية هو أن نقول لا.. لكننا عندما نقول لا- إنما في الحقيقة نقصد نعم.. فأنا عندما أقول لا للاستعمار أقصد أن الاستقلال رائع .. وعندما أقول للرجعية لا أقصد أن أقول نعم لقوى التقدم.. وعندما أقول لا للرأسمالية أقصد أن أقول نعم للاشتراكية.. وسارتر في تحليله للحرية ينسى (النعم) المتضمنة في (ال"لا") وبهذا نتبين أن لا الحرية السارترية سالبة نظرا لأنها قائمة على العدم(40) أن الحرية عند سارتر ينزع عنها طابع التدبر وتصبح أشبه بالغريزة في الإنسان.. وإذا كان سارتر ينفى أن هناك طبيعة ثابتة للإنسان ومن هنا فانه يخلق نفسه بنفسه، إلا انه ناقض نفسه وأثبت طبيعة ثابتة للإنسان هي الحرية.. وأصبحت "هذه الحرية لا تخدم أية قيمة أخرى. إنها هي نفسها قيمة قصوى" (41) أن الحرية هي التي تضع الحرية.. تفترضها ثم تصبح هي البرهان والنظرية.. " وكما أن الكريتى يناقض الصدق في عبارته (أن كل الكريتيين كذابون) فان العبارة الوجودية عن الحرية المحض تحطم نفسها بمجرد أن تضعها.
حالما ندخل حقل الحرية ، نكون قد انتقلنا من صحراء الفكر إلى أرض الواقع- المعاش .... لا نعود في مجال الفلسفة والتأمل المحض، بل نكون قد ولجنا إلى دنيا الناس والأحداث والعلاقات.. فكيف يا ترى ولج سارتر إلى هذه الأرض التي حار في فهم طبيعتها كثير من الفلاسفة وضلوا فيها الطريق؟ قد يفضل قبل أن تتبين الجديد الذي أتى به سارتر أن نتعرف على التراث الفلسفي السابق حول هذه المشكلة .. ولكن تعرفنا هذا من خلال التاريخ الذي رسمه لنا جان فال في الفصل الثامن من كتابه "درب الفيلسوف" وهو الفصل الذي خصصه لمشكلة الحرية.. لنتعرف هذا التاريخ من خلاله ولكن بعد أن نسلمه من الأحكام المغلوطة التي أصدرها على الحرية (1) .
لقد سادت عند اليونان فكرة القدر وانعكس هذا في التراجيديات اليونانية.. ونادى شعراء التراجيديا بأن الأفعال التي تظهر أنها من نتاج الإرادة الإنسانية إنما تحددها في الحقيقة قوة إلهية. غير أن جان فال يرى في هذا قدرية أكثر مما يرى فيه جبرية هذه الأفعال إنما ترجع إلى سبب كلى ولا ترجع إلى أحداث جزئية بعينها سواء كانط فسيولوجية أو سيكولوجية والجبرى يقم تأكيده على اعتبارات منطلقة إما من الفيزيقا أو الفسيولوجيا أو الاقتصاد أو الأيدولوجيا.. ثم يذهب جان فال إلى ما ذهب إليه برجسون من أن كل شكل من أشكال الجبرية يجب أن يتأسس على أساس الجبرية السيكولوجية ما لم يؤمن الجبري بنظرية الظاهرية المتعالية epiphenomenalism ويقول بأن الظاهرة السيكولوجية ليس لها تأثير مهما كان على الظاهرة الفيزيقية. ومن هنا يصل جان فال إلى أنه من العبث مناقشة الأشكال المختلفة للجبرية والأفضل دراسة الجبرية السيكولوجية كما تظهر عند هوبز وستيوارت مل وهيبوليت تين وهربرت سبنسر.
ويذهب جان فال إلى أن معنى الحرية يتراوح بين اعتبار الحرية الجبرية هي ما يتفق مع العقل وبين اعتبارها صدفة محضة.. ومن ثم نجد المفهوم السقراطى والرواقي من جهة والمفهوم الابيقورى لها من جهة أخرى.. لقد قال سقراط أن الفضيلة معرفة وعلى هذا فالرذيلة جهل أي أنه إذا تبين الإنسان بجلاء ما يجب عمله فانه سيعمله بالضرورة.. وكانط هذه النظرية نفسها هي عين نظرية أفلاطون على الأقل في محاوراته الأولى حيث يؤكد في محاورة (الجمهورية) أن الإنسان يختار مصيره. ونحن نجد التطابق نفسه بين الحرية وتقرير المصير الذاتي عن طريق العقل عند كل من الرواقيين وسبينوزا و هيجل.
وفى الطرف الآخر نجد نظرية الأبيقوريين حيث الحرية هي أشبه بانحراف الذرات في أماكن ولحظات غير محدودة عن الخط المستقيم المفروض أن تسقط فيه في الفراغ اللانهائي. ومعنى هذه الحرية هو الصدفة المحضة، وهو ما يمكن مقارنته بحرية عدم الاكتراث التي يقرر الإنسان بمقتضاها ودون ما دافع بين فعلين من الأفعال. وقد ساد هذا التصور للحرية في العصور الوسطي " ونجده أيضا عند رينوفييه حيث يستطيع الإنسان أن يبدأ سلسلة معينة من الأفعال بدون شروط مسبقة. إن نظرية أبيقور هي نظرية في الصدفة، ونحن نجد لدى الفلاسفة الذريين في القديم التأكيدات الأولى للصدفة. وان لوكريشيوش ليؤكد عدم تحددية اللحظات والأمكنة التي تنحرف إليها الذرات من سيرها لتلتقي بها. غير أن الذريين لم يقولوا إطلاقا بتحليل محكم لمفهوم الصدفة فربما يحول تأكيد الصدفة دون تحليلها والعكس صحيح. ولقد حلل أرسطو الصدفة فقال إنها نتاج لعلل ميكانيكية محضة. وكذلك حللها كورنو على أنها التقاء سلسلتين مستغلتين من العلل كل واحدة منهما محددة والالتقاء بينهما نفسه محدد، لكن مظهره الكيفي جديد.
ويواصل جان فال تناوله لمشكلة الصدفة فيقول أن نظرية الاحتمالات كان لها تأثير على القرن العشرين وعلينا أن نرتد إلى باسكال وليبنتز لنرى أصول هذه النظرية وان كان تأثيرها ظهر بصورة كبيرة في منتصف القرن التاسع عشر وقرب نهايته. وقد ذهب بحض العلماء إلى أن القوانين التي نكتشفها في الطبيعة لا تنتج إلا من تكافؤات عدد كبير من حركات الجزيئيات دون ما قانون. وهذه الفكرة نجدها عند بوانكاريه وفى فلسفة بوترو ثم نجد الفيلسوف الأمريكي بيرس يبتدع مذهبا أطلق عليه اسم Tychism وهو يعنى به أن في باطن الأشياء يوجد عنصر من الصدفة.
وهناك ثلاثة فلاسفة لديهم أفكار مختلفة عن الحرية هم ديكارت وليبنتز وكانط. فديكارت يوحد بين الإرادة والحرية كما يؤكد عدم تحددية الحركة، كما يوحد بين الحرية والتصميم من جانب العقل. وقد نبه ديكارت نفسه إلى المعاني المختلفة التي أطلقها على الحرية وتبين ن هناك سلما متدرجا من حرية عدم الاكتراث التي هي أدنى أشكال الحرية في الإنسان إلى الفعل الحر الذي يصدر عن نور الفهم. ويقول جان فال أن علينا أن نلاحظ أيضا أن ما هو أدنى. شكل من أشكال الحرية في الإنسان ليس في حد ذاته أدنى أشكال الحرية على الإطلاق، حيث أن الله يحدد نفسه بدون دوافع وبدون أن يلقى انتباها للحقائق الخالدة لا!نه هو نفسه المصدر الحر لهذه الحقائق.
أما ليبنتز فهو. يعرف الحرية. بأنها تلقائية الكائن العاقل.. غير أن جهود ليبنتز في هذه الناحية بلا جدوى.. فبمقتضى مذهبه أن كل ما يحدث في الذرة الروحيةmonad إنما يتحدد بماضي الذرة الروحية وكل ما يحدث للذات إنما يستوعب في مفهوم الذات. ومثل هذا المذهب لا يترك أملا كبيرا الإمكان وجود الحرية.
وبالنسبة لكانط فانه يذهب إلى أن جميع أفعالنا محددة. ولكن لما كنا نعرف فانه يترتب على هذه المعرفة أن الزمن والمكان لا وجود لهما في حد ذاتهما، فالزمن شكل يوجده فهمنا لتنظيم التجربة. وان صوت الواجب الذي نسمعه في أنفسنا إنما يقول لنا أننا أحرار، وهذا الصوت موجه إلى كائن يستطيع إما أن يطيعه أو بعصيه. ونحن نعرف أن الأشياء في ذاتها خارج الزمن، وكل واحد منا هو شئ في ذاته. ومن هنا فلا توجد دوافع محددة لأي من أفعالنا طالما أن الفعل هو فعل من أفعال الشئ في ذاته. ومن هنا فعند كانط أن فعلنا الحاضر لا يحدده فعلنا الماضي ، غير أن فعلنا الحاضر شأنه شأن فعلنا الماضي هو تأمل، هو صدى الفعل الذي نشيد به. وجودنا خارج الزمن، ومن هنا نتبين أن كانط قد ترك للجبرية عالم الظواهر واحتفظ بالحرية لعالم الأشياء في ذاتها. ومن هنا ألغى كانط تجربة الحرية في حياتنا وجعلهما قاصرة على حياتنا الخالدة المجهولة بالنسبة لنا.
ويحلل جان فال الحرية عند المفكرين الثلاثة ويصل إلى أن ليبنتز إنما يستبعد في الممارسة الحرية التي أكدها في النظرية، وكانط لم يعطنا الحرية في هذا العالم، وديكارت يتصور الحرية القصوى على أنها الجبرية المطلقة القائمة على نور العقل.
فإذا أتينا إلى برجسون فإننا نجده قد ذهب شوطا بعيدا في نقد النظريات المعتادة للحرية والجبرية. فقد أفضت به ملاحظته للحياة العقلية إلى نبذ رأى رينوفييه المؤمن بتقطع الزمن. وأرجع برجسون خطأ كانط إلى أنه لم يدرس بعناية حقيقية الزمن حيث أن الزمن في رأيه ليس شكلا من أشكال الفهم شأنه في هذا شأن المكان التصوري ، وان تصور الحرية خارج الزمن كما فعل كانط ليس تصورا لها على الإطلاق، بل هو قضاء عليها. وإذا كانت الحرية ستوجد فهي إنما توجد في حياتنا الزمنية. وعند برجسون أنه نظرا لأن هذه الحياة أساسا في جوهرها هي الزمن، الزمن المحسوس والذي يسميه الديمومة duration فإننا أحرار.. ولا توجد عند برجسون لحظة منفصلة عن الأخرى.. ومن هنا لا توجد لحظات.. بل لا يوجد إلا تدفق الديمومة.. ومن ثم فان حقيقة الزمن الحقيقي هي التي تسمح لنا بتأكيد الحرية، وبالتالي تسمح لنا بتأكيد المستقبل، تأكيد انفتاحية المستقبل. ويرتب برجسون على هذا أنه لا يمكن إصدار أحكام على المستقبل. وقد رأى جان فال في هذا أن كل ما يسمح لنا من حرية للحديث عن الحرية هو أن نقول انه مستحيل الحديث عنها، ومن ثم يقضى برجسون على محاولته لتعريف الحرية. وان كان قد حاول إعطاء بعض التعاريف لها عندما يقول أن الفعل يكون حرا عندما تكون علاقته بمبدعة مماثلة لعلاقة العمل الفني بمبدعه أو عندما ينضج الفعل داخلي أشبه بالثمرة وهو ما يسميه برجسون خلق أنفسنا بأنفسنا.
ويرى جان قال أن أكثر الفلاسفة المحدثين تأثيرا بالنسبة لمشكلة الحرية هم أولئك. الفلاسفة الذين ينطلقون من كيركجورد الذي أصر على حقيقة الإمكانية وكانط الحرية ضرورية عنده حتى يكون للفعل الأخلاقي وللفعل الديني معناه الكلى. وان مفهوم الخطيئة إنما يتضمن اختيارا حرا من بين الممكنات. وأكد هيدجر أن الحرية مرتبطة بطبيعة الإنسان الذي هو الكائن الذي على علاقة دائمة بالمستقبل وأنه دائما قدام نفسه. ومن هنا فان الوجود الإنساني هو هذا الانقذاف الذاتي وبهذا ربط هيدجر بين الحرية والزمن كما فعل برجسون. هذه هي الأرضية الفلسفية التاريخية التي وجد سارتر نفسه فيها.. فما هو الجديد الذي أضافه؟ وهل استطاع أن ينقل المشكلة خطوة أبعد مما فعل غيره من المفكرين السابقين؟
- لكي يمكن تقديم المفهوم الذي أسسه سارتر عن الحرية يحسن أن نتبين نقط انطلاق سارتر إلى المشكلة ذلك أن نقط الانطلاق ستحدد المسار الذي سيتخذه سارتر وسيترتب عليه ما إذا كان قد وصل إلى مفهوم سليم للحرية أم لا.
لقد أقبل جان بول سارتر على مشكلة الحرية بفعل من أفعال النفي.. وربما كان الإقبال عليها بفعل من أفعال النفي هو المسئول عن وصوله إلى تصور الحرية على أنها شكل من أشكال النفي.. لم تكن نقطة انطلاق سارتر إلى المشكلة من التأمل النظري المحض، وهذه هي الإضافة الجديدة التي أضافها سارتر لمن درس مشكلة الحرية من سابقيه ومعاصريه، بل كان الانطلاق هو من أرض الواقع المعاش.. وكان الواقع المعاش عنده هو الماركسية، لا النظرية، بل العملية.. الحضور الثقيل للطبقة العاملة وحقيقة البروليتاريا التي لا يمكن إنكارها.. انطلق سارتر من أن إرادة التغيير في مجتمعه سيحققها الواقع العملي للبروليتاريا.. الطبقة الثورية التي ستحقق الثورة.. لكن كيف تستطيع هذه الثورة أن تتحقق؟ أو بمعنى أدق كيف يمكن أن يصبح العامل ثوريا؟ " بالابتعاد الخالص عن نفسه وعن العالم يستطيع العامل أن يضع معاناته على أنها معاناة لا تحتمل، وبالتالي (يستطيع أن يجعل منها الدافع) لعمله الثوري " (2) ومن هنا جاء اهتمام سارتر بمشكلة الحرية.. انه يريد بها أن يؤسس للعامل ثوريته القائمة على الفعل.. ومن هنا جاء هجومه على المادية الجدلية حيث تصور أنه لا يوجد مكان للحرية فيها.
لقد فرق سارتر بين ماركسية ماركس التي تتيح مجالا للإنسان في الحقل الاجتماعي والتاريخي وبين ماركسية الماركسيين وبخاصة الستاليين منهم الذين هم في نظره إنما يجعلون الظروف التاريخية والاجتماعية هي العامل الوحيد في الثورة.. إن سارتر فضل بدل أن يتعمق ماركسية ماركس في بدء حياته أن ينفيها وأن يبتدع الفلسفة الوجودية التي هي في رأيه المذهب الوحيد الذي يؤسس الحرية.. ثم بعد هذا التأسيس سيندمج المذهبان في مركب جديد يعمل على أحداث الثورة.
إذن فالهدف من بحث الحرية عند سارتر ليس هو التوصل إلى مفهوم نظري مجرد لها، بل الوصول إلى مفهوم عملي لها يساعد على الفعل والعمل.. فما هو هذا المفهـوم؟ وهل يستطيع هذا المفهوم حقا أن يساعد على العمل؟
إذا كان سارتر قد انطلق من أن المادة عند الماركسيين- كما تصور- خالية من الحرية، فان الحرية توجد في مكان أخر غير المادة. وإذا كانط مشكلة المشاكل عند كانط هي كيف تكون القضية تركيبية أي منطلقة من التجربة وقبلية في الوقت نفسه أي سابقة على التجربة، فان مشكلة المشاكل عند سارتر هي كيف يكون الإنسان مشروطا بالظروف البيئية والطبقية والعرقية والاقتصادية وفى الوقت نفسه لا يكون نتاج كل هذه الشروط .. "إننا نرفض أن نتوزع بين الأطروحة والنقيض. أننا نتصور من دون ما صعوبة أن الإنسان يستطيع أن يكون على الرغم من أن وضعه يشرطه كليا، مركزا لعدم تحديد لا يمكن إرجاعه (3)إن سارتر يطرح الأزمة التي يمر بها الإنسان المعاصر وذلك في تقديمه لمجلته الأزمنة الحديثة عام 1946 يقول: " هكذا يبدو الوعي المعاصر يمزقه التناقض. فالذين يتمسكون قبل كل شئ بكرامة الشخص الإنساني ، بحريته، بحقوقه غير القابلة للفسخ، يميلون من هذه الناحية بالذات إلى التفكير حسب. الروح التحليلية التي تدرك الأفراد خارج شروط وجودهم الحقيقية،. والتي تمهرهم بطبيعة ثابتة مجردة، والتي تعزلهم وتتعامى عن تضامنهم، في حين أن من فهموا جيدا من جهة أخرى أن الإنسان متأصل في الجماعية، ومن يريدون أن يؤكدوا أهمية. العوامل الاقتصادية والتكنيكية والتاريخية يرتمون في أحضان الروح التركيبية التي تتعامى عن الأشخاص لا ترى إلا الزمر. ويتجلى هذا التناقض على سبيل المثال في الاعتقاد الشائع جدا بأن الاشتراكية. بعيدة كل البعد عن الحرية الفردية وعلى هذا فمن يتمسكون باستقلال الشخص سيجمدون عند ليبرالية رأسمالية، نتائجها المشئومة معروفة، ومن" ينادون بتنظيم اشتراكي للاقتصاد سينادون به باسم استبدادية كلية. والاستياء الحالي راجع إلى أنه ما من إنسان يستطيع أن يقبل بالنتائج العضوي لهذه المبادئ"(4) وإذا كان كانط قد هجر التجربة هجرانا تاما لكي يؤسس القبلية على شكل قوالب وأفكار لملكتى الفهم والعقل فان سارتر لم يهجر التجربة هجرانا تاما في الظاهر لا أن هدفنا هو بالضبط إرساء مملكة الإنسان كنموذج للقيم يتمايز عن العالم المادي لكن الذاتية التي نعترضها كمعيار للحقيقة ليست ذاتية فردية ضيقة نظرا.. لأن الفرد لا يكتشف ذاته في الكوجيتو فحسب، بل يكتشف أيضا ذوات الآخرين"(5) غير أننا سنتبين بعد قليل أن التأمل سرق سارتر بالفعل وجعله يهجر التجربة هجرانا تاما.. ومن ثم يقضى أحد القطبين على القطب الآخر مع أنه ، نرفض أن تتوزع بين الأطروحة والنقيض".. وما صرح به لولفريد ديزان عام 1956 "لا أزال أعتقد أن الحرية الفردية كلية وذلك إذا ما تحدثنا أنطولوجيا، ولكن من جهة أخرى أنا أزداد اقتناعا بأن هذه الحرية مشروطة وتحددها الظروف " (6) .
فما هي يا ترى هذه الحرية التي تعد الشغل الشاغل لسارتر في حقبة كبيرة لحياته والتي لاتزال سائدة عنده حتى الآن وان كانط بصورة مخففة؟ هل الحرية يمكن تعريفها؟ من الواضح أن التعريف لابد أن يكون تعريفا بالماهية، فهل للحرية ماهية؟ إن سارتر ينفى هذا بصراحة: " إن وصف شئ هو عملية جعله واضحا بالإشارة إلى أبنية ماهية معينة. والآن إن الحرية ليس لها ماهية .. الحرية تجعل نفسها فعلا، ونحن نحصل عليها عبر الفعل الذي تنظمه مع الأسباب والدوافع والغايات التي يتضمنها. الفعل، (7)الحرية إذن عند سارتر لا ماهية لها، إنها أساس كل الماهيات حيث يكتشف الإنسان بها جميع الماهيات وذلك بتجاوزه لنفسه "الحرية هي أساس كل الماهيات حيث أن الإنسان يكشف الماهيات الأرضية المتشابكة بتجاوز العالم تجاه إمكانياته"(8)
إن سارتر يميز بين نوعين من الحرية: حرية الفهم والتدبر والحرية بمعنى الخلق الإنساني.. " إن اختبار حريتك في عالم الفعل أو النشاط الاجتماعي والسياسي أو الخلق الفني شئ، واختبارها في فعل الفهم والاكتشاف شئ آخر، (9) وهو يرى أن. المفكرين- تحت تأثير ديكارت- قد ركزوا على المعنى الأخير للحرية .. يقول في مقالته عن "الحرية الديكارتية": "وهذا هو السبب الذي يدفعنا نحن الفرنسيين الذين تعودوا العيش على الحرية الديكارتية لمدة ثلاثة قرون إلى أن نفهم ضمنيا بـ (الإرادة الحرة) ممارسة (التفكير) المستقل أكثر مما أن نفهم منها إنتاج الفعل الخلاق وتوصل فلاسفتنا في النهاية—كما فعل ألان Alain إلى التوحيد بين الحرية وفعل إصدار الحكم" (10) ومن هنا فان سارتر لا يدرس الحرية حقا وإنما هو يريد دراسة التحرر، فعل ممارسة الحرية حيث أن الحرية "ليست سوى الحركة التي يؤسس بها الإنسان دائما نفسه ويحررها. لا توجد حرية معطاة. على الإنسان أن يحرز نصرا داخليا على عواطفه وجنسه وطبقته وأمته وعليه أن يقهر الرجال الآخرين مع قهره لنفسه"(11) هذا هو القصد عند سارتر لكننا سوف نتبين بعد قليل كيف سينتهي بها إلى أن تكون (حرية، وليس تحريرا" (12) .
ليس الإنسان عند سارتر حرا فحسب، بل هو أيضا الحرية .. فكيف توصل سارتر إلى هذا؟ لنبدأ منذ البداية عنده: الإنسان هو الكائن القادر على إلقاء أسئلة ومعنى السؤال إمكان عدم معرفتي بالشئ الذي أسأل عنه وامكان أن ألقى جوابا بالنفي على سؤالي.. وهذا يعنى أنني محاط بالعدم من جهتين: العدم من ناحية المعرفة، والعدم من ناحية الكينونة.. بل إن إجابتي عن سؤال بأنة هذا (وليس) ذاك إنما يفترض أيضا عدما من ناحية التعيين.. وهكذا فإنني مخلوق يحيط به العدم من كل الجهات.. وهذا العدم يفصلني عن العالم الخارجي.. وإذ (استخدمنا مصطلحات سارتر فإننا نقول أن الكينونة لذاتها التي هي أنا محاطة بقوقعة من العدم تفصلهما عن الكينونة في ذاتها.. فإذا فحصت الكينونة لذاتها فماذا أجد؟ أن الشئ لذاته هو الوعي " ومن طبيعة الوعي أن يكون قصديا وان الوعي الذي يكف عن أن يكون وعيا بشئ، إنما يكف- لهـذا السبب- عن الوجود، (13) .. فما هو مضمون الوعي؟ الوعي ليس له مضمون حيث أنه نفى للشئ في ذاته "إذا كان الوعي يوجد في حدود المعطى، فهذا لا يعنى أن المعطى يحدد الوعي، الوعي هو نفى محض وبسيط لما هو معطى، (14) وهذه هي الإضافة الجديدة التي أضافها سارتر لهوسرل.. أن جوهر الوعي هو القصدية.. انه لا يشتغل على نفسه، بل يشتغل على الشئ في ذاته.. (إن الشئ لذاته هو نوع من غيبة الكينونة (الكينونة في ذاتها) انه ثقب في الكينونة كما يسميه سارتر ، نقص الكينونة، وبسبب هذا (الثقب) فان حادثا هائلا يحدث للكينونة في ذاتها(15)إن الوعي إذن لا يضيف شيئا كما لاحظ شامبنى في كتابه: "مراحل على طريق سارتر:1938-52 : "الوعي لا يضيف (شيئا)، انه يضيف العدم، (16) الوعي بلا محتوى، وهو متجه إلى الخارج " الوعي يتحدد بالقصدية. والوعي بالقصدية إنما يتجاوز ذاته، (17) لقد تأمل سارتر في عبارة ديكارت المشهورة: " أنا أفكر إذن فأنا موجود" فماذا وجد؟ لقد تبين سارتر أن هذا الكوجيتو ليس هو الكوجيتو البدئى وإنما هناك كوجيتو سابق عليه.. ذلك أن الكوجيتو الديكارتى إنما يفكر في أنه يفكر في شيء.. أي أنه تأمل التأمل وعند سارتر هناك كوجيتو أخر سابق على مرحلة التأمل هو ما يسميه سارتر الكوجيتو البكر أو السابق على التأمل pre-reflexive cogito ذلك على أساس (أن الوعي الذي يقول (أنا أفكر) هو بالدقة ليس الوعي الذي يفكر"(18) وأن هناك وعيا أخر يشتغل على العالم الخارجي.. وان وعيك ليس هو العالم " انك تعرف تماما أن الشجرة ليست أنت. وأنك لا تستطيع أن تدخلها أحشاءك المظلمة وأن المعرفة لا يمكن مقارنتها بالتملك اللهم إلا إذا تحللنا من الأمانة. والوعي في الوقت نفسه إنما يخلص نفسه من الشوائب، وهو جلي أشبه بالهوا، الشديد، وما فيه من شئ سوى حركة يهرب بها من نفسه وسوى تفلت لخارج النفس، وإذا حدث المستحيل وولجت إلى (داخل) الوعي فانك ستتعرض لزوبعة تلقى بك إلى الخارج، قرب الشجرة، وسط الأتربة نظرا لأن الوعي ليس من (الداخل)، انه ليس شيئا سوى ما هو خارج عن ذاته وأن هذا التهرب المطلق، هذا الرفض من أن يكون له جوهر هو الذي يكونه باعتباره وعيا، (19) كما أوضح في مقالته: "فكرة أساسية في فينومينولوجيا هوسرل: القصدية".
فلماذا هذا الاهتمام بتفريغ الكينونة لذاتها من كل محتوى؟ وذلك حتى تتجه إلى الخارج ويكون جوهرها العمل والقيام بعمليات النفي والسلب من التحطيم إلى التساؤل إلى إصدار الأحكام السلبية إلى سوء الطوية bad-faith وكما لاحظ ولفريد ديزان: "إن الكينونة لذاتها إنما تلعب باستمرار ( لعبة) السلب"(20) لقد أصبحت النفس عند سارتر هي العدم، أصبحت فاعلية، فاعلية عادمة.. وبهذا "لم يحدث في فكر الغرب من قبل أن أحيطت النفس بمثل هذا السلب. وعلى الإنسان أن يرجع إلى الشرق، إلى الفيلسوف البوذي ناجارجونا (حوالي 200 قبل الميلاد) بمذهبه في عدم جوهرية النفس Anatma حتى نلتقي بقائمة السلوب التي يضعها سارتر. والنفس في الحقيقة في تناول سارتر كما في البوذية، هي فقاعة، والفقاعة لا مركز لها(21) وهكذا أصبح الوعي عند سارتر هو الفاعلية، الفاعلية السالبة القادرة على أن تقول لا وان هذه القدرة على النفي لا تحدث فحسب في التساؤل والتهديم والحكم السلبي ، بل يذهب سارتر إلى أنها تحدث في كل فعل للمعرفة مهما كان" (22).. وهكذا استحالت العدمية إلى ارادة عمل بحكم القصدية والاتجاه إلى الخارج، نحو الأشياء " الفقاعة فارغة وستنهار، ومن ثم فان ما يبقى لنا ليس سوى الطاقة والعاطفة لتمديد الفقاعة"(23) ومن هنا فان " العدم يقبع ملتفا في قلب الكينونة- أشبه بالدودة" (24).
لماذا كل هذا الجهد إذن عند سارتر لإثبات أن جوهر الوعي هو الحرية، هو الفاعلية السالبة؟ لقد لاحظ سارتر مقدار الاغتراب الذي يعانى منه الإنسان، لقد لاحظ كما لاحظ ماركس من قبل: " في المرحلة الحالية لتاريخنا، نجد أن القوى المنتجة دخلت في صراع مع علاقات الإنتاج. والعمل الخلاق أصبح مغتربا، ولم يعد الإنسان يتعرف على نفسه في إنتاجه، وان عمله المستوعب يبدو له كقوة معادية. ولما كان الاغتراب يأتي نتيجة هذا الصراع فان الاغتراب هو حقيقة تاريخية ولا يمكن جبره ورده إلى أية فكرة"(25) وهو على أساس اغتراب الإنسان سيصبح الإنسان سؤالا مطروحا أمام نفسه.. " حتى يمكن لفكرتين مثل التشيؤ والاغتراب أن يكون لهما معناهما الكامل فمن الضروري أن يكون السائل والمسئول واحدا"(26).
لقد أجهد سارتر نفسه كثيرا حتى يوحد بين الحرية والعدم وذلك حتى يصل إلى أن الحرية بطبيعتها سالبة " نستطيع أن نتبين كيف أن الحرية السارترية سالبة نظرا لأنها قائمة على العدم، (27) إن سارتر ينظر إلى "شكل الحرية" لا إلى "محتواها".. وشكل الحرية قائم على النفي.. قائم على أن تقول لا.. وعلى هذا رتب سارتر أن الفرنسيين لم يكونوا أكثر حرية في وقت ما عما كانوا عليه زمن الاحتلال كما أوضح في مقالته المشهورة: "جمهورية الصمت".. يقول سارتر: " إننا لم نكن أحرارا قط بمثل ما كنا في ظل الاحتلال الألماني، (28) وذلك أن " سر الإنسان ليس عقدة أوديب أو عقدة النقص فيه، بل حدود حريته نفسها، مقدرته على مقاومة أشكال التعذيب والموت"(29)أن حريتنا اليوم ليست شيئا آخر سوى اختيارنا الحر في أن نناضل كي نصبح أحرارا، (30).
إننا لو دققنا النظر في مفهوم سارتر عن الحرية نجد أنه يخلط بين عدة معان لها.. معناها من حيث هي فعل.. ومعناها من حيث هي قيمة.. ومعناها من ناحية أنها طبيعة ركبت فينا.. كما أنه يتأرجح بين اعتبارها مطلقة وبين اعتبارها مقيدة.. ولعل السبب في كل هذا لتأرجح أن سارتر لم يدرسها في بعدها الثاني باعتبارها حركة في موقف.. حقيقة انه لا ينسى الموقف لكننا- كما سوف نتبين بعد قليل- سنرى أنه رد الموقف إلى عنصره الطبيعي لا إلى عنصره الاجتماعي.. وهو في كل هذا الخلط وكل هذا لتأرجح إنما يدور في فلك القطبين: الحرية والاشتراكية اللذين يخفت صوت أحدهما أحيانا فيعلو صوت الآخر..
لقد وضع سارتر المشكلة وضعا خاطئا منذ البداية.. يقول: "الإنسان لا يستطيع أن يكون عبدا أحيانا وأحيانا أخرى حرا، إما أنه حر كلية والى الأبد أو أنه ليس حرا على الإطلاق" (31).. وواضح من هذا النص أن سارتر أخطأ عندما طرح الحرية طرحا "مطلقا".. إن الإنسان محاط بأشياء طبيعية تسير وفق قوانين معينة خاصة بها.. فهل إذا استجاب الإنسان لهذه القوانين يكون عبدا ؟.. والإنسان الخادم في علاقته مع سيده انه يستطيع أن يثور.. فهل إذا أطاع هذا العبد قوانين الطبيعة في معاملته للأشياء لا يكون حرا إذا ثار على سيده؟ ألا يمكن أن يكون عبدا وحرا في أن واحد؟ ولنعدل العبارة قليلا فنقول: انه يستطيع أن يتمشى مع قوانين الطبيعة ولا يمنعه هذا من الثورة والتمرد على عبوديته.. وبهذا يمكن أن يكون الإنسان مقيدا وحرا في الوقت نفسه.. وسارتر قد خلط بين الضرورة والإرغام "فالعكس الصحيح للحرية ليس الضرورة، بل الإرغام.. أن تكون حرا يعنى من الناحية السلبية (ألا تسلك تحت الإرغام) (32) .
ثم إن التوحيد بين الحرية وعدم القدرة على التنبؤ مسألة وقع فيها سارتر في الخطأ كما وقع فيها معظم الذين سبقوه من المفكرين. يقول سارتر: إن ما نسميه بالحرية إن هو إلا ذلك القطاع من عدم قابلية التنبؤ الذي ينفصل على هذا النحو عن الحقل الاجتماعي، كما أن الشخص ليس شيئا آخر سوى حريته، (33).. انه الخطأ القائم في إقامة تعارض بين الحرية والعلية Causality وربما كان !الخوف من رد الحرية إلى العلية هو جوهر فهم سارتر للحرية، وربما كان هو المسئول أساسا عن كل الأخطاء التالية.. يقول سارتر عن الحرية في مقاله " رد على البير كامو: "إنها كائنة أو غير كائنة: لكنها إذا كانط كائنة فإنها تفلت من تسلسل المعلولات والعلل،(34) حقيقة أنني أستطيع أن أحمل الكوب الممتلئ وفتحته إلى أعلى أو إلى أسفل.. أنا في كل منهما حر، ولا يمكن التنبؤ بما سأفعله.. لكنني إذا كنت أعرف من قبل قانون الجاذبية واننى إذا حملت الكوب الممتلئ وفتحته إلى أسفل فان الماء سيسقط على الأرض.. ثم حدث وحملت الكوب وفتحته إلى أسفل فان قانون الجاذبية، أو العلية، ليس هو الذي قضى على حريتي، بل أن حريتي هي التي قضت على نفسها حيث قضت على إمكانية احتفاظي بالكوب وفتحته إلى الأعلى وبه الماء.. والعكس صحيح أيضا.. فإذا كنت أريد أن أسقى الزرع في الأصيص فان على أن أميل الكوب.. أنا حر في ألا أميل الكوب أولا.. ولا يمكن التنبؤ بهذا قطعيا.. لكن اختياري للفعل المعادى لاحتياجاتي هو قضاء في الوقت نفسه على حريتي.. أن سارتر لم يزل يتحرك، داخل الماركسية التي يريد غزوها من الداخل على حد تعبيره، من داخل الفكر المثالي الذي يريد أن يعلو عليه.. انه يلجأ إلى تلك النزعة التحليلية التي أدانها هو نفسه باعتبارها جوهر المنهج لدى الطبقة البرجوازية لتشويش الوعي الثوري.. أن سارتر يخشى للغاية على الحرية الإنسانية ويخشى أن ترد إلى النظام الطبيعي".. "أن ما نسميه الحرية هو عدم قابلية رد النظام الثقافي إلى النظام الطبيعي" (35) فمن قال بأن الحرية هي ردها إلى النظام الطبيعي؟ لكن عدم ردها للنظام الطبيعي لا يعنى أن النظام الطبيعي (متطاحن) معها.. كل ما هنالك أنه (مختلف) عنها.. وأن كليهما في خدمة الإنسان..
ثم أن سارتر يقع في المتناقضات.. إذا كان الشئ لذاته هو العدم هو الحرية حيث أن الحرية في أساسها تتطابق مع العدم الذي هو في قلب الإنسان" (36) فكيف يمكن للعدم الذي هو "لا شيء" آن يصبح (فعلا)، (حرية).. أي يصبح (شيئا)؟ انه خطأ من أخطاء سارتر الشائعة وخاصة في كتابه (الكينونة والعدم) وهو فكرة التساوي بين المصطلحات التي لا يثبتها بالواقع المعاش بل يثبتها بالمنطق الرياضي والمنطق الأرسطى اللذين قال هو عنهما في كتابه " نقد العقل الجدلي" أنه درسهما بالتفصيل إبان دراسته بالجامعة..
لقد وقع سارتر في مأزق كبير عندما جعل الحرية" مساوية للعبث.. وذلك على أساس أن الحرية تخلق نفسها وليست أساسا لنفسها.. " الاختيار.. عبث. وهذا لان الحرية هي (اختيار) لكينونتها. وليست (أساس) كينونتها" (37).. فارق ألا يكون لكينونة الإنسان أساس على وبين أن أجعل من كينونته عبثا.. وسارتر إنما يخلط بين الغاية والوسيلة.. أن جوهر فلسفته جميعا أن ما يريد أن يحققه الإنسان هو أن يخلق كينونته لأنه نقص أي انه يريد أن يخلق ماهيته انطلاقا من واقعة وجوده.. فإذا سلمنا بهذا فكيف تصبح الحرية لا الكينونة هي الغاية؟ بمنطق سارتر كان يجب أن تكون الحرية هي وسيلة لتحقيق كينونة الإنسان ومصيره لكن سارتر تمشيا مع التحليل المنطقي الشكلي الأرسطى إنما يوحد بين الحرية والغاية. لما كانط الحرية متطابقة مع وجودي فإنها أساس الغايات التي سأحاول الحصول عليها سواء بالإرادة أم بالجهود العاطفية"(38).. ولما كان الوعي عند سارتر هو الكوجيتو السابق على التأمل وكانط الحرية هي هذا الوعي فان الحرية تصبح هي الكوجيتو السابق على التأمل.. إنها تصبح التلقائية وتصبح هذه التلقائية في الوقت نفسه هي الغاية، هي غاية الغايات، ومن ثم " يخلط بين التلقائية الطبيعية والحرية الأخلاقية وزيادة على ذلك فانه يفهم هذه التلقائية على إنها تلقائية سالبة" (39).. قد يكون أحد جوانب الحرية هو أن نقول لا.. لكننا عندما نقول لا- إنما في الحقيقة نقصد نعم.. فأنا عندما أقول لا للاستعمار أقصد أن الاستقلال رائع .. وعندما أقول للرجعية لا أقصد أن أقول نعم لقوى التقدم.. وعندما أقول لا للرأسمالية أقصد أن أقول نعم للاشتراكية.. وسارتر في تحليله للحرية ينسى (النعم) المتضمنة في (ال"لا") وبهذا نتبين أن لا الحرية السارترية سالبة نظرا لأنها قائمة على العدم(40) أن الحرية عند سارتر ينزع عنها طابع التدبر وتصبح أشبه بالغريزة في الإنسان.. وإذا كان سارتر ينفى أن هناك طبيعة ثابتة للإنسان ومن هنا فانه يخلق نفسه بنفسه، إلا انه ناقض نفسه وأثبت طبيعة ثابتة للإنسان هي الحرية.. وأصبحت "هذه الحرية لا تخدم أية قيمة أخرى. إنها هي نفسها قيمة قصوى" (41) أن الحرية هي التي تضع الحرية.. تفترضها ثم تصبح هي البرهان والنظرية.. " وكما أن الكريتى يناقض الصدق في عبارته (أن كل الكريتيين كذابون) فان العبارة الوجودية عن الحرية المحض تحطم نفسها بمجرد أن تضعها.