سيد محمد أحمد
بعد أكثر من ثلاثة عقود من انتصار الثورة الفرنسية ظهر مفهوم "المجتمع المدني" CIVIL SOCIETY في كتابات هيجل عندما نشر كتابه الشهير "أصول فلسفة الحق" ولم يكن هيجل صاحب السبق في إرساء هذا المفهوم ولكن المفهوم حافل فهو تاريخ تحولات دلالته منذ تشكيله اللاتيني SOCIETAS CIVILIS ماراً بتشكيلات المعرفة التي تعبر عن معرفية تاريخية متميزة جدا كالتي عاشها فيرجسون و هيجل وجرامشي ، وفي كل تكون للمعرفة يأخذ مفهوم المجتمع المدني معنى جديد يعبر عن قطيعة واضحة مع المعنى القديم .(1)
وبداية المفهوم كانت مع بداية الفترة الحديثة وعصر النهضة وهي المرحلة التي مهدت للثورة البرجوازية وفي مقدمتها الثورة الفرنسية (هوبز ، ديريدو ، روسو ) وقد ظهرت مع المفهوم مفاهيم جديدة أخرى مثل الوطن والدولة ، ومن الملاحظ أن المفهوم قد ولد ونشاء في الصراع السياسي والاجتماعي الذي عرفه المجتمع الأوربي منذ القرن السابع عشر ، فيجب إنزال المفهوم في ظرفيته التاريخية ، ولا يمكن أن نفهم المكانة البارزة التي حظى بها المفهوم عند هيجل إلا من خلال مرحلته التاريخية، فقد تطور بتطور الرأسمالية وخاصة بتطور حقوق البرجوازية السياسية والاقتصادية وتعد أساسا قويا من أسس أيديولوجية الليبرالية ، فالمرحلة التي كانت تمر بها ألمانيا كانت تتسم بضعف الدولة وبروز الأرستقراطية البروسية وكان لابد من ظهور دور حاسم للدولة ، وكان هيجل يطالب بقيام دولة قوية مستقلة ومتموقعة فوق المجتمع المدني ، فهو لا يعتقد في وجود حقوق طبيعية للإنسان بل أن المجتمع المدني لديه حقيقة طبيعية أو ما قبل تاريخية وإنما هو لحظة في التطور التاريخي متميزة بالتنافس في المصالح الفردية طبقا لطبيعة الاقتصاد البرجوازي . فالفردية هي أخلاقية المجتمع المدني دائرة من الحياة الأخلاقية التي تقع بين العالم البسيط للعائلة الأبوية والدولة المتميزة بأخلاقية عالية ، فهيجل لا يعتقد في وجود اتجاه لدى البرجوازيين الذين يكونون هيكل المجتمع المدني للتصرف عفويا كمواطنين .
إذن المجتمع المدني يحتاج حسب هيجل لدولة متموقعة فوقه وتتحرك بطريقة مستقلة لفرض النظام وضمان التعددية .(2)
ومن هنا يتضح دور الدولة وعلاقته بمفهوم المجتمع المدني لدى هيجل وهو مفهوم يسير داخل منظومة هيجل الجدلية ، فالنظرية السياسية عند هيجل هي "العقل" وقد تموضع أو تجسد في مؤسسات اجتماعية عينية ، ولذا انقسمت الفلسفة السياسية عنده إلى ثلاثة أقسام تناظر المنطق وهي : الحق المجرد ، ثم الأخلاق الذاتية "الضمير" وأخيرا الأخلاق الاجتماعية ، أما الحق المجرد فهو يدرس الحقوق التي تنشأ بوصفها مطالب للموجود البشري بصفة عامة لا بوصفه مواطن في دولة أو عضو في مجتمع ومن هنا جاء التجريد ، أما الأخلاق الذاتية أو أخلاق الضمير فهي تجعلنا ننتقل من الخارج حيث كانت تتموضع الحرية إلى الداخل مثلما تفعل في دائرة الماهية تماما . فلا شك أننا هنا أمام الجانب الباطني في الإنسان : الغرض ، النية ، الخير ، الشر ..الخ.
لكن لا الحق المجرد ولا الخير ذاتيا يظلان في دائرة التجريد أو الذاتية ، بل لابد لهما من التحقق الفعلي في عالم الواقع ، فالأسرة هي الكلي من حيث الرابطة بينها، والغاية التي تسعى إليها . بل أن قيمة كل عضو فيها إنما تستمد من هذه الكلية فإذا تفككت الأسرة عن طريق زواج الأعضاء أو موت العائل أو لأي سبب أخر تحول كل عضو إلى جزء مستقل قائم بذاته يبحث عن مصالحه الخاصة ، وتلك هي الذرات الجزئية التي يتألف منها المجتمع المدني ، أما الدولة فهي الفرد الذي يشمل في جوفه الكلي والجزئي ، ومن ثم فلا يمكن أن تكون الدولة استبدادية ، لأن الاستبداد يعني أن الدولة تقوم على الكلية الصورية التي تخلو تماما من عنصر الجزئية ، وهو ما كان قائم في النظم القديمة ، بل ما عبرت عنه جمهورية أفلاطون ، أما الدولة الهيجلية فهي فرد يشمل الكلي العيني لأنه يرعى مصالح الجزئي . (3)
ومفهوم المجتمع المدني من المفاهيم الأولى التي جادل فيها ماركس عام 1843 في نقده حقوق الدولة في الرؤية الهيجلية ، وهدف في نقده إلى إضفاء محتوى مادي أكثر على المفهوم ونشره باعتباره مفهوم ثوري وليس مجرد مفهوم فلسفي . فالمجتمع المدني هو الفضاء الذي يتحرك فيه الإنسان ويدافع عن مصالحه الشخصية ويضع مقابل ذلك التي لا تمثل في نظره إلا فضاء بيروقراطي يتحول فيه الإنسان إلى عضو ضمن جماعة مسيرة .(4)
إن موقف ماركس فعلا قريب من موقف هيجل تجاه المجتمع المدني وأنه بمثابة ساحة المواجهات بين المصالح الاقتصادية طبقا للأخلاق البرجوازية ولكن تأويل ماركس لهيجل يعطي نتيجة مضادة فلقد نقد ماركس فكرة الدولة عند هيجل من خلال تحليلاته لفلسفة الحق وتحليلاته أيضا للإيديولوجية الألمانية ، التي تتناول تاريخية الدولة وعلاقتها بالمجتمع المدني ، تفاعلها مع مالكي الثروة ، بل مع شتى الطبقات..الخ .(5)
عندما يناقش هيجل في مؤلفه "فلسفة الحق" الدولة والمجتمع فإنه يعتبر المجتمع المدني هو ميدان الخاص أو الجزئي أما تعميم المجتمع بوصفه العام أو الكلي فيتوقف على النظام القائم في حقل أخر مختلف تماما ، حقل منفصل ومستقل هو الحق السياسي ، إن هيجل يعتبر البيروقراطية هي الطبقة العامة الشاملة ، فإذا خلطنا بين الدولة والمجتمع المدني وإذا جعلنا الغاية الخاصة من الدولة هي الأمن وحماية الملكية الخاصة والحرية الشخصية ، كانت مصلحة الأفراد بما هم كذلك الغاية النهائية التي اجتمعوا من أجلها . وينتج عن ذلك أن تكون عضوية الدولة هي مسألة اختيارية غير أن علاقة الدولة بالفرد شئ مختلف عن ذلك أتم الاختلاف ، فما دامت الدولة هي الروح وقد تموضعت فإن الفرد لن تكون له موضوعية ولا فردية أصيلة ولا حياة أخلاقية إلا بوصفه عضو من أعضائها ، إن الاتحاد الخالص والبسيط هو المضمون الحقيقي والهدف الصحيح للفرد ، ومصير الفرد هو أن يعيش حياة كلية جماعية ، والإشباع الجزئي الأبعد من ذلك والنشاط ونمط السلوك تتخد من هذه الحياة الجوهرية والمشروعة على نحو كلي ، نقطة البداية والنهاية .(6)
خلاصة القول هو أن الدولة عند هيجل تمثل الوجه الأخر للعملة في علاقاتها بالمجتمع المدني ، وأن مفهوم المجتمع المدني مفهوم سياسي ولذلك أرتبط بمفهوم الدولة والليبرالية والديمقراطية ، فلا يمكن أن تكون ديمقراطية بدون مجتمع مدني ولا يمكن أن يقوم المجتمع المدني بعيدا عن الدولة ، بشرط البعد عن الحكم المطلق الاستبدادي ، نعم أنه لا بديل عن وجود دولة قوية مهيمنة ولكن بشرط أن تكون دولة ليبرالية ديمقراطية وليست استبدادية . فالدولة عند هيجل هي الوجود بالفعل للفكرة الأخلاقية . ففي الروح الأخلاقي من حيث هي إرادة جوهرية تتجلى وتظهر وتعرف وتفكر في ذاتها وتنجز ما تعرف بمقدار ما تعرف .
وتوجد الدولة على نحو مباشر في العرف والقانون ، وعلى نحو غير مباشر في الوعي الذاتي للفرد ومعرفته ونشاطه ، في حين أن الوعي الذاتي بفضل ميله تجاه الدولة يجد فيها ـ بوصفها ماهيته وغاية نشاطه ومحصلته ـ حريته الجوهرية .
فأساس الدولة عند هيجل القانون ، والقانون ليس عاملا خارجيا وليس بقوة خارجة عن الفرد إنما هو وعي ، على اعتبار أن الفرد موجودا عاقلا حرا ، فالقانون يتفق مع العقل "لأن مضمون القانون هو الحق ، أو ينبغي أن يكون هو الحق" وهناك شروط أربعة أساسية للتحديد العقلي للحق بحيث يصبح قانونا ، " تشريعا" ، وهي:
1- لابد أن يكون عاما وشاملا ، يطبق على الجميع ، وبالتالي فهو المبدأ الأقصى للعدالة التي تحسم أي نزاع بين الناس
2- لكي يكون القانون مشروعا "لابد أن يعرف على نحو كلي" بمعنى أنه لابد لكل مواطن أن يعرف مضمونه ، حتى يكون مسئولا أمام بنوده.
3- يجب أن ينفذ ويدعم هذا القانون سلطة عامة ، ومهمة هذه السلطة أن تتحقق من أن العدالة قد أخذت مجراها في حالة انتهاك القانون.
4- لا يكون قانونا مشروعا ما لم يتمثل روح الشعب كواقع تاريخي ويعبر عنه، أي مستمد من قيمه وطموحاته وعاداته وتقاليده وتأثير وضعه الجغرافي على مزاجه الثقافي. (7)
فمفهوم المجتمع المدني ومفهوم الدولة عند هيجل ما هما إلا مفاهيم يوتوبية فمفهوم الدولة موجه نحو تسلط الدولة واستبدادها وضد احتكار الثروة الاجتماعية ومفهوم المجتمع المدني هو حلم سعادة البشرية ورفاهيتها . فهو الصورة المثالية لأشكال التضامن والوفاق الجماعي من أجل الدفاع عن مصير المجتمع وذلك من خلال تقنين سلطة الدولة وليس بإلغاء الدولة وبالإبقاء على الطبقات والثروات فلا يخلو المجتمع المدني من الطبقية والأهلية ولكن في ظل وجود دولة بل بالشراكة مع الدولة .