الأربعاء، 23 نوفمبر 2016

نيتشه ضد كانط أو التقدم الوهمي للنقد الكانطي

الدكتور جمال مفرج

إن نظرة نيتشه إلي كانط هي نظرة مزدوجة فهو من جهة، يشير إلي منزلته العظيمة، ومن جهة أخري، هو يزدريه. وإذا عدنا إلي التقدير الأول، وهو تقدير ايجابي، نجد أن لكانط في نظر نيتشه، أهمية استثنائية؛ لأنه قدم خدمة لا تقدر للفكر عندما بين الوهم، الذي هو في قلب الفلسفة السابقة عليه، عندما قام في مشروعه بإيقاظ العقل من نومه الوغماطي Dogmatique، وساعده علي الانتصار علي التفاؤل النظري. لقد كان، إلي جانب شوبنهاور، أول من قدم تحديا جذريا لتفاؤل الحضارة الغربية ومعتقداتها الميتافيزيقية والإلهية. وبالفعل فقد كانت الفلسفة المتقدمة علي كانط تعتقد بأن العالم قابل للمعرفة وان جميع أسرار الكون يمكن معرفتها والتأكد من صحتها، علي أساس أن كل ما فيه قائم علي مبدأ "العلية" و"الحقائق الأبدية ". وقد كان سقراط، في نظر نيتشه، هو النموذج الأصلي للمتفائل النظري الذي كان يعتقد اعتقادا واهما في إمكان فهم الوجود. وجاء كانط فتسائل في نظريته عما إذا كان العقل الإنساني يستطيع النفاذ إلي ماهية الأشياء في ذاتها ويستطيع استخدام مبدأ العلية للوصول إلي الله، وهو المبدأ الاسمي للأشياء في ذاتها، يقول نيتشه في كتابه " نشأة المأساة "، وهو يبين الدور الذي لعبه كانط، إلي جانب شوبنهاور في نقد الثقافة القديمة: " أن الشر النائم في قلب الثقافة النظرية، قد بدأ يقلق الإنسان الحديث الذي أخذ يفتش بنفاذ صبر في كنوز تجربته عن الوسائل التي يتحاشى بها هذا الخطر، دون أن يؤمن كثيرا بهذه الوسائل... ، وفي هذا الوقت عرفت بعض العقول الكبيرة المتفتحة علي الرؤى الشاملة كيف تستعمل أسلحة العلم، بدقة بالغة، لكي يبرهن علي نسبية المعرفة... أن هذا البرهان هو الذي اثبت لأول مرة أن الاعتراف بان محاولة معرفة ماهية الأشياء عن طريق العلية ما هي إلا وهم من الأوهام ، إذ بشجاعة وحكمة خارقتين للعادة انتصر كانط وشوبنهاور في أصعب المعارك . لقد انتصر علي التفاؤل المخفي في قلب المنطق الذي تأسست عليه ثقافتنا . وبالفعل ، فلقد كان هذا التفاؤل يرتكز علقي الحقائق الخالدة " ــ وكان يظن بأنها لا تدحض ــ وبأن كل طلاسم العالم وألغازه قد حلت ، وكان يعتبر الزمان والعلية قوانين مطلقة وذات صلاحية مطلقة ، وجاء كانط فكشف أن هذه القوانين لا تساعد إلا علي رفع الظاهر إلي مستوي الحقيقة العليا ... وان معرفتنا الحقيقية بها هي مستحيلة " (1)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) طرح هذا البحث في الملتقي الدولي حول "كانط والحداثة"، الذي نظمته الجمعية الفلسفية التونسية أيام 17، 18، 19 مارس 2004 بالحمامات. وحمل عنوان:"نيتشه وحدود النقد الكانطي".



إن قيمة كانط ، في نظر نيتشه ، تتمثل في انه اخذ علي عاتقه أن يحارب أية ميتافيزيقا تدعي معرفة الأشياء في ذاتها ، وراح يبرهن لنا انه ليس لدينا ولا يمكن أن يكون لدينا تصور ايجابي للشيء في ذاته ؛ فالشيء في ذاته عند كانط لا يمكن أن ’يعرف لان العقل العملي لا يمكن أن يتجاوز حدود الظواهر الحسية ، وليس في مقدوره أن يقدم إلا معرفة من نوع محدود . ويقول نيتشه في" العلم المرح " : " مع كانط صرنا نشك كألمان في القيمة القطعية للمعارف العلمية ، كما صرنا نشك ، فضلا عن ذلك ، في كل ما تسهل معرفته سببا ، وصار حتى الممكن معرفته ذاته يبدو لنا بما هو كذلك ذا قيمة اقل " (2)

وبالفعل فان كانط لا يشك في مقدرة العقل العملي علي الوصول إلي العالم في ذاته فقط ، بل هو يشك حتى في مقدرته علي فهم العالم التجريبي ، ذلك أن العالم هو ما نجده بالفعل ، وهو غير قابل للتنبؤ ، كما انه يتصف باكتفاء ذاتي . إنه لم يعد من الممكن إيجاد مجال يتدخل فيه العقل أو الله لان قوانين الطبيعة تامة وكاملة . وحتى قانون الطبيعة الذي يسمي " علية " فانه أصبح من صنع عقولنا ، أي أصبح قانونا للمعرفة لا للوجود (3)
وهكذا فإن النتائج التي تترتب علي تفكير كانط في ميدان الميتافيزيقا مهمة جدا ، في نظر نيتشه ؛ فهو عندما يؤكد أن الفكر العلمي صحيح ، ونافع إذ ينظم التجربة ويجعلها ممكنة ليس إلا ، ولا غير ، فانه يترتب علي ذلك أن الاستعمال الوحيد لهذا النوع من التفكير إنما يكون في مجال التجربة ، بحيث يصبح العقل عقيما إذا انفصل عن عالم التجربة وفقد ارتباطه به ، وبالتالي فان الميتافيزيقا ، أي معرفة ذلك الذي يكمن بعد التجربة ، لا وجود لها(4)

ولا شك أن هذا الموقف يعتبر هجوما علي وجهة نظر " سبينوزا " و " وديكارت " و " لايبتز " بأسرها ؛ لأنه يضع كانط علي الفور في صفوف فلاسفة التنوير ؛ فطريقته هي طريق حقق بها ما حققه " لوك " و "هيوم" و " فولتير " بطرق أخري . وبالفعل ، فمبادئ العقل بالنسبة لهؤلاء ؛ وهم من عصر التنوير : " صالحة للاستعمال طالما اكتفينا باستعمالها لوصف جزء معين محدود من الطبيعة ؛ أي عندما نطبقها علي تحليل حدث معين ، ولكنها تنهار إذا ما أردنا ، أن نجعل منها أعمدة للكون المطلق . فالعقل ... له حدوده الكامنة فيه ، ولهذا فهو الخادم الذي لا غني عنه للعلم التجريبي ، ولكنه لا جدوى منه إذا انفصل عن التجربة ، كما هي الحال في الميتافيزيقا "(5)
إن العقل النظري عندما يصل إلي هذا الحد ، أي عندما يصل إلي الأمور المتعلقة بحاجتنا الدينية والأخلاقية ، يتخلى عن حقه في التحليل والنقد ، ويفسح المجال أمام عقل أخر هو العقل العملي الذي لا يتطلع إلي النقد ، بل يسعى إلي طمأنة النفس ، لان " الإمبراطورية الأخلاقية " أو عالم " النومين " ، غير قابل للبرهنة ، وغير قابل للاعتراض عليه ما دام يقع خارج الفهم . وهذا يعني ، بالنسبة لنيتشه ، أن كانط لم يعتمد علي النقد لصالح العلم ، ولكن ، أولا وقبل كل شيء ، لصالح العقيدة والأخلاق . ويعني ، ثانيا ، أن كانط يسترجع ، في نقد العقل العملي ، المطلقات التي كان يبدو أن النقد الخالص قد هدمها . ويعني ، ثالثا ، أن جعل العالم الأخلاقي ممتنعا عن النقد يرجع إلي إحساس كانط بقابليته للعطب أمام أي محاولة نقدية جدية . 
وعلي هذا الأساس فان نيتشه لا يعتبر النقد الكانطي نقدا حقيقيا ، ولا يعتبر تقدمه تقدما حقيقيا ، بل يعتبر نوعا من " الشك الماكر " أو " السفسطة " ؛ لأنه أراد الوصول إلي حقيقة متعالية بوسائل غير فلسفية .
هذا ، ولسد الطريق الكانطي للوصول إلي العالم الأخلاقي لجا نيتشه إلي شوبنهاور وحجته الاعتراضية علي العقل العملي الكانطي . فبالنسبة لشوبنهاور يخلو العقل العملي من كل مضمون متميز ، وقد كان من واجب كانط ، في رأي شوبنهاور ، أن يخضعه للحدود العامة التي يفرضها مبدأ السبب الكافي . وامتدادا لنقد شوبنهاور لكانط يتساءل نيتشه  : كيف نخضع نحن البشر الساكنين وسط الأشياء الحسية والمحكومين بنظام العالم الطبيعي إلي قانون يأتينا من عالم لا محسوس يسمو فوق كل تجربة ومنفصل عن الظواهر ؟ ، وما هو نوع العلاقة الذي يربط بين عالم " الفينومين " وعالم " النومين " إذا كان مبدأ العلية لا يسري إلا بين الأشياء الحسية ؟ ويجيب : بين المنطقة المتعالية الكانطية والظواهر لا يوجد أي اتصال .(6)
إن تحليل نيتشه للنقد الكانطي قاده إلي الاعتقاد بان هذا النقد ليس نقدا علي الإطلاق ؛ إذ: " لم يحدث (كما يقول دولوز ) أن رأينا من قبل نقدا كليا أكثر تسامحا أو نقدا أكثر احتراما " (7) ، ولم يحدث أن رأينا ، من قبل نقدا للعقل بواسطة العقل ؛ أي جعل العقل المحكمة والمتهم في الوقت ذاته أو تشكيله كقاض وطرف ، حاكم ومحكوم (8) ، بل لم يحدث أن رأينا ، من قبل ، عقلا عاجزا عن البرهان (9) .
إن هذا العقل الذي يتخلى عن حقه في النقد يثير ،ــ في نظر نيتشه ــ الرثاء ، ولذلك فهو يزدريه ، ويميز فيه انتصار القوي الارتكاسية . وهو عقل يكشف لنا كم يمكن للعقل الذي تحركه ارادة سلبية أن يكون بائسا ومنحطا ، فهذا العقل السلبي والكاذب بدل أن يتطلع إلي النقد الحقيقي ، لا يبحث ، في نظر نيتشه ، إلا عن طمأنة النفس ، وعلي" الرضا البيتي" بتعبير هيغل.
هذا ، وكما يرفض نيتشه النقد الكانطي ، فانه يرفض ، أيضا ، الأخلاق الكانطية التي تمثل احدي المرجعيات الكبرى للأخلاق الفلسفية في العصر الحديث ، ويعتبرها هي الأخرى زائفة وسلبية . ويتجه نيتشه في نقده للأخلاق الكانطية ، أول ما يتجه ، إلي فحص أساسها ، ونعني به "الآمر المطلق" ، أو : الآمر القطعي " الذي يقول عنه في كتابه " العلم المرح " : " وها انتم أولاء تعجبون بالآمر المطلق في داخلكم ، وبمتانة حكمكم الأخلاقي المزعوم هذا ؟ وبـ" مطلقية الإحساس بأنه في هذا يجب علي الأخرين أن يحكموا مثلي أنا " إنه لمن الأنانية حقا أن يشعر الواحد بحكمه الخاص كقانون كوني ، وأنها الأنانية عمياء خسيسة ... لأنها تكشف انك لم تجد نفسك بعد ؛ وانك لم تخلق لنفسك مثلا شخصيا محضا ... أن الذي لا يزال يحكم بأنه " في الحالة كذا يجب علي كل واحد أن يفعل كذا " هو إنسان لم يتقدم في معرفة ذاته ولو قليلا ، وإلا فانه كان سيعرف انه ليس هناك ، ولا يمكن أن تكون هناك أفعال متطابقة أبدا ــ إن كل فعل قد تم بطريقة فريدة ولا يمكن الاهتداء إليه ثانية ، وسينطبق نفس الشيء علي كل فعل مقبل "(10)
إن تأكيد كانط علي أن ما يكون مقبولا أخلاقيا هو ما يكون مقبولا للجميع هو زيف أو خطأ؛ لأنه ، بالنسبة لنيتشه ، لا يمكن أن توجد أخلاق مطلقة إلا إذا كان البشر من طبيعة واحدة ، وهذا شيء غير صحيح .
والحقيقة ، انه وراء الآمر المطلق تختبئ ، في نظر نيتشه ، " ديكتاتورية أخلاقية " ، وتختبئ رغبة كانط في تحويل البشر إلي قطيع ، وتدجينهم . وبعبارة أخري ، يدخل الآمر المطلق ضمن مجال الطاعة العسكرية ، وكانط لا يبحث من خلاله إلا علي ممارسة قوته وخياله المبدع علي حساب الإنسانية (11)
هذا ، ويمتد نقد نيتشه إلي عنصر أخر من عناصر فلسفة كانط الأخلاقية ؛ ونعني به قيمة العمل الأخلاقي . فلقد كان كانط ، في نظر نيتشه مسئولا علي انقلاب خطير في القيم الأخلاقية عن طريق تحويله للقيمة الأساسية للعمل من نتائجه إلي أسبابه ؛ أي تحويل قيمة العمل إلي قيمة النية . يقول نيتشه : " خلال أطول مرحلة في التاريخ الإنساني ، أي مرحلة ما قبل التاريخ ، كانت قيمة ــ أو عدم قيمة ــ عمل تأتي من نتائج هذا العمل ... وكانت تلك هي الفضيلة ، فضيلة النجاح أو الفشل التي تجعل الناس يحكمون علي عمل ما بالجودة أو بالرداءة ... ولكن ، ودفعة واحدة ، بدت تباشير سيطرة خرافة جديدة وقاتلة ، سيطرة تأويل ضيق تشرق في الأفق : أن اصل العمل نسب إلي النية التي كان ينبثق عنها ، واتفق علي أن قيمة العمل تكمن في قيمة النية . وهكذا صارت النية تشمل سبب العمل وما قبل تاريخه"(12) . ويستطرد نيتشه ، زاعما انه فضح حقيقة النية ، قائلا : " نظن اليوم ، نحن اللاأخلاقيين ، أن القيمة الأساسية لعمل ما تكمن خارج النية تحديدا ، وان نية العمل بكاملها ، وكما تظهر لنا ، تنتمي إلي قشرتها أو بشرتها التي تكشف كأية بشرة عن شيء ما ، ولكنها تخفي ، شيئا أعظم . إننا نعتقد ، وباختصار ، أن النية ليست أكثر من علامة ودلالة تتطلب تفسير بالدرجة الأولي ، وعلامة محملة بالمعاني ، وبالتالي ليس لها أي معني خاص بها وحدها ، ونعتقد أن أخلاق النوايا كانت ... شيئا ما يشبه علم التنجيم ، أو علم الكيمياء ، وهي شيء ينبغي علي أية حال ، أن يتم تجاوزه "(13)
هذا ، ولا تظهر سلبية كانط ، بالنسبة إلي نيتشه ، في نقده الأخلاقي فقط ، بل تظهر ، أيضا، في نقده الجمالي . فلقد اعتقد كانط انه قد شرف الفن وعلم الجمال حين نوه ، في معرض نقده للحكم الجمالي ، هاتين الصفتين اللتين تشرفان المعرفة : التجرد والشمول . ففي صفة التجرد أو الحياد ، التي تشكل احد أعمدة موقفه الجمالي ، يقول كانط أننا نتأمل الجمال ونتذوقه دونما رغبة أو منفعة ؛ أي أن العملية الجمالية هي عملية يحكمها تأمل جمالي خالص (14) ، وعلي حد تعبير "نوكس" ، فان كانط في صفة التجرد قد أحال التجربة الجمالية جزيرة خالية لا يسكنها غير شعور مجرد ومنعزل (15).  أما في الصفة الثانية ، فيدافع كانط عن كلية الحكم الجمالي ، بعد أن دافع عن كلية الحكم الأخلاقي ،ويؤكد أن الجميل هو موضوع رضا كلي ، أي انه يستند إلي كينونة قبلية قائمة في كل الناس . وهاتين الصفتين وغيرهما استهدف كانط المشكلة الجمالية ليس استنادا إلي تجربة الفنان ؛ أي تجربة المبدع ، وإنما استنادا إلي تجربة المتذوق أو المشاهد . وذلك ، في نظر نيتشه ، خطأ فادح ؛ ذلك أن هذا المشاهد ليس معروفا بما فيه الكفاية من معشر فلاسفة الجمال ، وليس واقعة أو تجربة عظيمة ، ولا هو نتيجة طائفة من الاختبارات المتينة (17). وبعبارة أخري ، يأتينا الحكم في الفن عند كانط من وجهة نظر مشاهد اقل فنا أو موهبة . أما مفهوم التجرد ، فقد رأي نيتشه أن كانط قد " لطخ " به الحكم الجمالي ؛ لان ما نادي به كانط يشبه ، في نظر نيتشه ، سذاجة أسقف القرية (19). ولذلك فان الفن يجب أن يظهر في نظر نيتشه ، من وجهة نظر جديدة ؛ وهي وجهة نظر بيجمالونية (20). والمقصود بها أن الفن يجب أن لا يكون حياديا كما يطالب كانط ، بل يجب أن يكون هو المحرض الكبير للحياة ، أو لإرادة القوة المترسبة في اللذة الجنسية ؛ فحالة اللذة الجمالية ، التي يسميها نيتشه " سكرا" " IVRESSE " ، ترجع إلي الجهاز العصبي المشحون بطاقات جنسية ، وإن حاجتنا إلي الفن والجمال هي حاجة إلي اللذائذ الجنسية (21). وإذن فوجهة النظر الجديدة تشدد ، علي العكس من وجهة نظر كانط ، علي الأصل الحسي والجنسي ، أو الحالة العضوية للفن .
كانت هذه هي أهم الاعتراضات التي واجه بها نيتشه فلسفة كانط النقدية . لكن نيتشه الجينالوجي لا يكتفي بدحض آراء كانط بل يتوجه إلي ما هو ابعد من ذلك ، ويتساءل عن السبب الذي يجعل من كانط يتوقف بنقده في منصف الطريق ، ودفعه إلي رفع العالم الأخلاقي فوق النقد ، واشتراط التجرد في الحكم الجمالي ؟
والذي يراه نيتشه هو أن العلة في ذلك ترجع إلي صلة كانط العميقة بالدين ؛ ففلسفة كانط تعد ، في نظر نيتشه ، استمرار للدين ، و" ونجاح كانط ليس غير نجاح لاهوتي" (22) . ولهذا فنقد نيتشه للفلسفة الكانطية يطالها بوصفها ، وبالأساس ، لاهوتا مخادعا واحتياليا ؛ أي بوصفها انحطاطا . يقول نيتشه :" أن الانحطاط الألماني ، في شكل فلسفي هو كانط "(23)
ولكن السؤال الذي يجب طرحه هنا هو : لماذا تعتبر النزعة الدينية التي تتحكم في كانط خصوصا ، وفي الفلاسفة عموما ، وتقف وراء أفكارهم ، علامة علي الانحطاط في نظر نيتشه ؟
إن الإجابة علي هذا السؤال تتطلب العودة قليلا إلي الوراء : لقد برزت في القرن الثامن عشر نزعات الحادية احتذت حذو " بيل " " BYLE " (1647-1706 ) و " فونتيل " (1657- 1757) . وهي نزعات كانت تنظر إلي الأديان باعتبارها منتجات اصطناعية استحدثها القساوسة حتى يستبقوا السواد الأعظم من الناس تحت وصايتهم ، وكأنما هم أطفال لا يملكون من أمرهم شيئا (24) . وفي القرن التاسع عشر ولد مذهب كامل في الإلحاد : مذهب يرمي إلي استبعاد الله بلا قيد ولا شرط من معتقداتنا ، بعد أن كان من النادر ــ فيما سبق من العصور ــ أن يعتنق الإلحاد علانية مفكرون بارزون . لقد كان ينظر إليه علي انه موقف هدام ، وصار ينظر إليه بعين أخري خلال الفترة التي أعقبت هيغل ، إذ اعتنقه جهارا نهارا عدد من زعماء الفكر الذين ربطوا بين الإلحاد والاتجاهات الرئيسية في حياة أوروبا العلمية والثقافية الأخلاقية . وبعبارة أخري ، ربطوا بين الإلحاد والحداثة . وهكذا فبدلا من أن يبقي الإلحاد موقفا سلبيا أضحي مقوم بناء من مقومات الاتجاه الحداثي في المجتمع الأوروبي الحديث (25)، ونظر إليه علي انه نظرة محررة ، سواء في مجال البحث النظري أو في مجال الشؤون العلمية (26). 
لقد كان الإلحاد الصريح بلا قيد أو شرط هو الافتراض المسبق ، بالنسبة لأصحاب مذهب الإلحاد ، للانتصار النهائي علي فكرتي " الله " ، " والعالم الأخر" ؛ لان الدين ــ والدين المسيحي خصوصا ــ لم يعد ، في نظرهم ، مجرد فكرة تتناقض تناقضا صارخا مع المؤسسات الحديثة من سكك حديدية وعربات بخارية ومدارس مهنية ومسارح(27)، ومع الاهتمامات العلمية والسياسية والاجتماعية للعالم ، وهو تناقض لا يقبل الحل في نظر أصحاب مذهب الإلحاد ، ولكنه أصبح يمثل بالنسبة إليهم ، أداة لإذلال الإنسان : فبقدر ما يرفع الإنسان من شان الله بقدر ما يحط من نفسه في نظر "فيور باخ" ، " وبقدر ما يؤمن الإنسان بالعالم الأخر الديني بقدر ما يستبقي نفسه في حالة عبودية مستديمة في نظر" ماركس" ، وبقدر ما يمجد الإنسان القيم المسيحية ، ويرفع القانون الأخلاقي فوقه وفوق عالم الحواس بقدر ما ينقلب علي الحياة ، وذلك خطر لا ينازعه منازع في نظر نيتشه .
هكذا نكون قد عرفنا بالتدقيق السبب الحقيقي الذي يكمن وراء عداوة نيتشه لكانط : انه يرجع لصلة كانط العميقة بالدين ؛ فربطه الأخلاق والدين بعالم "النومين " وابعادهما عن النقد وعن عالم الظواهر ، والتفرقة بين عالمين ووصفه العالم الذي تجري فيه تجاربنا الإنسانية المعتادة بأنه العالم الأدنى أو عالم الظواهر ، أن هو إلا اثر من أثار التفرقة الدينية المعروفة بين عالمين ، وهي تفرقة ، في نظر نيتشه ، من وحي الاضمحلال . ومن هذا الجانب تعد الفلسفة الكانطية استمرارا للدين ، وللبروتستانتية خصوصا . ولهذا فكانط هو ، في نهاية الأمر ، مسيحي مستتر ، أو "نصف قس " : لقد كان القس البروتستانتي هو جد الفلسفة الألمانية ، ودم اللاهوتيين هو الذي افسد الفلسفة ، في نظر نيتشه ، وبالتالي أخر ، في نظره ، انتصار الإلحاد "(28)
وهكذا يمكن القول أن النتيجة المهمة التي أمكننا التوصل إليها في خاتمة هذا التحليل هي أن إعلان نيتشه للحرب علي كانط كان بمثابة إعلان الحرب علي المسيحية . ومع ذلك فنحن نشعر أن بحثنا سيكون ناقصا إذا لم نكمله بعرض موقف نيتشه من نظرية كانط عن الدولة والقانون الدولي ؛ لأنه علي أساس من أخلاقياته أقام كانط نظريته السياسية .
لقد كانت الفكرة المركزية للتنوير كما رآها كانط هي فكرة تحرير الذات من خلال المعرفة . وهي فكرة وجه بها كانط ضربة قاسية لتقسيم الناس إلي جمهور وخاصة ، وبعد أن سادت في الفكرين  القديم والوسيط . فلم يعد القصور المعرفي منسوبا إلي فطرة أو طبيعة تميز العامة من الناس كما كان عليه الأمر لدي الاوائل والوسيطيين من الفلاسفة ، بل صار ظاهرة قابلة للسيطرة والمعالجة . وهو ما لم يكن يراه نيتشه الذي لم يكن ينظر إلي التعليم المتزايد الانتشار والي التربية الصائرة تربية عامة أكثر فأكثر علي انه تحرير من الجهل بقدر ما كان ينظر إليه كخطر أو كمرض يتهدد أوروبا من البربرية القادمة ؛ ففي كتابه " أفول الأصنام " ، وبعد أن يطرح السؤال التالي : ما الذي يحدد انحطاط الثقافة الألمانية ؟ ، يجيب : " إنه كون " التعليم العالي " لم يعد امتيازا ــ وأنها النزعة الديمقراطية في الثقافة العامة التي أصبحت شائعة وعامية "(29). وهذا ، ولقد أحس " بوكهارت " Burckhardt ، زميل نيتشه في جامعة " بال " ، بالبربرية القادمة من التعليم العام قبل أن يحس بها نيتشه ؛ فلقد وصفها سنة 1846 قائلا : " أن القرن التاسع عشر سيسمي ذات يوم القرن " المتعلم " ، إذ تتطاير اليوم نحو كل إنسان مهما كانت درجة غباؤه ، شرارات كثيرة من نيران التربية العامة التي تزداد انتشارا ، فلا يقدر احد بعد ذلك علي قطع جميع رؤوس هذا الغول إلا إذا فعل ذلك هرقل الحقيقي . أزمنة كان كل واحد حمارا علي مسئوليته الخاصة ، أما اليوم ، فإن المرء يعتبر نفسه متعلما فيشرع بنسج نظرته الخاصة إلي العالم " ويبدأ بإلقاء المواعظ علي الأقربين من حوله ... وهكذا فان هذه التربية المنتشرة في كل مكان تقيم كل يوم صرحا من المخادعات التي تتحرك ضمنها فيما بعد فئات كاملة من المجتمع ، تدفعها إلي ذلك حماسة زائفة "(30).
لقد رأي نيتشه أن الخطر الذي يتهدد الألمان يأتي من مؤسسات التربية والتعليم ، وفي انحراف التربية باتجاه التوسع وتعميم التعليم ، بعد ما لاحظه من زيف التربية الحديثة . لقد أصبحت المؤسسات التعليمية ، في نظره ، المكان الذي يضم ثقافة مشبوهة ، لأنها بدل أن تقوم بانتخاب حقيقي للعقول والمواهب ، تقوم بإقصاء كل ثقافة ممتازة وأرستقراطية (31)؛ فكل ما تنجزه المدرسة هو تزويد الأفراد بقابلية الانتساب إلي الحياة العامة ، وتنصيب المجموع ضد " الاستثناء " ، أو تقويض الاستثناءات لصالح القاعدة (32). وله9ذا ، ففي مواجهة الدافع نحو أوسع انتشار ممكن للتربية كان كانط هو المسؤول عن ذيوعه ، يدافع عن نيتشه نحو تضييق وتمركز التربية  والتعليم ، واقتصارهما علي الاستثناءات ، وفي مواجهة الترويض العنيف الذي تقوم به المدرسة لتكوين " أفراد متوسطي القامة " " يدافع نيتشه عن ترويض فني وجدي يقوم به عباقرة ويكون غرضه هو بعث ثقافة حقيقية وسامية . وهكذا فان : " التعليم العالي لاغ يجب أن يخصص إلا للاستثناءات ، ويجب علي المرء أن يكون موهوبا لكي يطمح إلي مثل هذا الامتياز السامي جدا . فالأشياء العظيمة كلها لا يمكن أن تكون من الأملاك العامة "(33)
إن التنوير الكانطي الذي يتعلق بتربية الإنسان يتعارض إذن ، في نظر نيتشه ، مع هدف التربية الحقيقي ؛ الذي هو تكوين الإنسان الممتاز أو التحضير له . وتكفي نظرة واحدة علي نوع الإنسان الذي تهدف إليه التربية عند كانط للتأكد من أن هذا الأخير قد اخطأ هدف التنوير الحقيقي : فكانط يتصور أن الإنسان متوحش ، وطابع التوحش هذا هو خاصية الاستقلال عن أي قانون ، وهو كذلك خاصية الشطط في استعمال الحرية . ففي حالة التوحش تسود الحرية والاستقلال عن أي قانون . أن الرضيع ، مثلا ، لا يطيع إلا ميوله الحيوانية ، ولا يخضع كذلك إلا لنزواته : إنه يسود مستبد بالآخرين . ويظهر الاستبداد عنده باعتباره حالة طبيعية للإنسان ، انه تعبير فوري عن ارادة لا تخضع لأي قانون . وهذا ما يسميه كانط " حيوانيته " أو " وحشيته " . وعليه ، فلكي يصير الإنسان إنسانا فانه يجب أن يفقد وحشيته ، ويصير كائنا أخلاقيا ، وهو ما يقتضي إخضاعه لعملية ترويض مؤقتة ، تكون هي الخطوة الأولي في تربيته (34)
هذا وإذا كان كانط يقصد من الترويض " انسنة الوحش الذي هو الإنسان ، فان نيتشه يري ، علي العكس من ذلك ، أن الإنسان المتوحش ، أو الوحش الأشقر الكاسر ، هو بمعني ما ، المثل الاعلي للجنس البشري أو الإنساني ، وانه بسبب الخوف من هذا الإنسان ــ الوحش ، تم ترويض وتحقيق النوع المعاكس أو المخالف ، أي " الحيوان المدجن " ، " والحيوان التجمعي " ، و " الحيوان الضعيف " ، و" حيوان الحقوق المتساوية " ، و " الحيوان المسيحي أو الكانطي "(35)
ومن هذا التشخيص لطبيعة الإنسان ينطلق نيتشه إلي تحليل نظرية الدولة أو القانون الدولي ، ونقد فكرة " السلام الدائم " عند كانط . لقد كانت الغاية من " السياسة الكبرى " عند نيتشه هي ــبالضرورة ــ توحيد أوروبا سياسيا . ومع هذا لم يكن يتصور قط أن يجري هذا التوحيد علي أساس اتفاق بالتراضي بين الدول ، بل هو يستخلصها من الصراع ، أو من أعظم الحروب وأشدها هولا (36)، وبعبارة أخري ، لا يمكن أن يتحقق" توحيد أوروبا" ، في نظر نيتشه ، إلا بالرجوع إلي الهمجية ، هذا ، وتوحيد أوروبا لا ينفصل ، عنده ، عن تجديدها . فقبل أن تتوحد أوروبا يجب أن تجدد نفسها ، لان أوروبا اليوم ( القرن التاسع عشر ) بالغة التعب ، لا نتيجة للحروب ، بل من جراء الشبع والسلام . أن هذا هو السبب الرئيسي في انحطاط الأمم الأوربية وتدهور العروق "المتفوقة " (أو"تدهور الإنسان ـ المتوحش" إلي " الإنسان ـ الممدن ") التي كانت تسود القارة الأوربية فيما مضي من الزمان . لقد كانت هذه العروق المتوحشة تتضرس في الحروب وفي النضال وفي النزاع ، ولكنها ابتعدت عن نمطها منتجة عددا كيرا من الاضطرابات والتشوهات عندما آلت إلي الإفراط في تحصيل الغذاء والجنوح إلي السلام (37).
إن الحرب ، بالنسبة إلي نيتشه ، هي وحدها تخلق عظمة الشعب وتضمن تطور الحياة الصاعدة ، وترد للشعوب المتعبة تلك الطاقة الصلبة التي تجدد بها نفسها . وهذا معناه أن الحضارة لا تستطيع بتاتا أن تستغني عن الأعمال الوحشية ، وان كل رأي يمنح السلام قيمة هي أعظم مما يمنح للحرب مناهض للحياة :" أن الحياة نتيجة الحرب ، والمجتمع نفسه وسيلة لها (38).
أن نيتشه يسخر من كانط الذي رسم خطة لتحقيق السلام الدائم علي الأرض بواسطة هيئة أو عصبة تكون حكما في جميع قضايا الخلاف لتجعل من المستحيل علي المتنازعين أن يلجأوا إلي الحرب لإقرار تلك القضايا ، ويرد علي خطته أو مشروعه بالدفاع عن الحرب ، بقوله :" أحبوا السلام كوسيلة لتجديد الحروب ، وخير السلام ما قصرت مدته . إنني لا أشير عليكم بالسلم ، بل بالظفر ، فليكن عملكم كفاحا وليكن سلمكم ظفرا . لا اطمئنان في الراحة إذا لم تكن السهام مسددة علي أقواسها . وما راحة الأعزل إلا مدعاة للثرثرة والجدال . فليكن سلمكم ظفرا . تقولون أن الغاية المثلي تبرر الحرب ، أما أنا فأقول لكم أن الحرب المثلي تبرر كل غاية ، فقد أتت الحروب والإقدام بعظائم لم تأت بمثلها محبة الناس ، وما أنقذ الضحايا حتى الآن إلا أقدامكم لا إشفاقكم (39)
إن نيتشه لا يأسف للحرب ولا يقابلها مثل كانط بمشروعات سلام دائم ؛ لأن الحرب هي وحدها القادرة، في نظره، علي إقامة "العدالة"، وذلك راجع إلى أن العلاقات بين الدول لا يحكمها قانون العقل بل الاتفاق، والعرضية. وهذا يعني أن الدول في مواجهتها بعضها لبعض هي في حالة الطبيعة، ولا تكون علاقاتها شرعية أو قانونية أو أخلاقية. فالحرب بين القوي هو القاعدة، وأما التصالح أو السلم الذي نلحظه بينها ، في بعض الأحيان، فليس إلا تصالحا مؤقتا بين ارادات أو قوي متساوية، تظل تترقب وتتربص التوثب علي غيرها عندما تتاح لها ادني فرصة (40). فالعقود والعهود التي هي أساس القانون الدولي لا تعبر ، عند نيتشه ، إلا عن حالة مؤقتة لإرادة القوي . وبعبارة أخري، فان الإلزام الذي ينشأ عن المعاهدة والعقد ليس إلزاما أخلاقيا وإنما هو إلزام حرص وفطنة ؛ أي مشروط بالضرورة التاريخية أو الوضع القائم . ولهذه الأسباب فانه يمكن للدولة أن تخرق المعاهدات، بل أن تغزو الدول الأخرى، دون أن تتوقع عقوبة مبررة، إذ لا توجد سلطة يمكن أن تنفذ هذه العقوبة . وتلك النقطة المحورية في نقد نيتشه لفكرة كانط عن "السلام الدائم".
هذه هي إذن جملة الاعتراضات التي واجه بها نيتشه فلسفة كانط . وهي اعتراضات مخيبة للآمال؛ فنيتشه يعترض علي الأيمان بالله بالدعوة إلي الإلحاد ، ويعترض علي الجمال المنزه بالدعوة إلي جمال "باخوسي" حيواني ، ويعترض علي الإنسان المتمدن بالدعوة إلي الإنسان المتوحش، ويعترض علي السلم بالدعوة إلي الحرب. أن نيتشه مخطئ كثيرا فيما يدلي به ، والحقيقة أن اعتراضاته علي كانط لا تتقدم بنا إلي الأمام بل تعود بنا القهقرى؛ لان الإطاحة بكانط كانت تتطلب ، في نظره الظلم الاجتماعي ، ورد الاعتبار إلي العبودية ، ومواجهة الله؛ وهي كلها مطالب تزيد من شقاء الإنسان وتدفعه إلي الوقوع في أنواع لا تحصي من الانحراف . أما أفكار كانط فقد أثبتت حيويتها وقدرتها علي تحمل اقسي الهجمات . وربما كان كارل بوبر علي حق حين قال عن أفكار كانط "انه بدلا من تفسير ضرورة زوالها والتنبؤ بتدهورها الوشيك، ربما كان من الأفضل أن نحارب من اجل بقائها"(41)   
مصادر ومراجع البحث
1. Nietzsche (F.), La naissance de la tragedie, trad. Genevieve Bianques, Gallimard, 1988,§18.
2. Nietzsche (F.),  Le gai savoir, trad. P. Klossowski, Gallimard , 1989, §357.
3. Voir kant (e), La raison pure, textes choisis par c. Khodoss et traduit par tremesaygues et pacauds. Coll. "sup", puf, 1968, p.191 et suivantes. Voir notamment kant, La raison pratique,trad. Picaver. Coll."sup", puf, p.159 et suivantes.
4- لويس (جون)، مدخل إلي الفلسفة ، ترجمة أنور عبد الملك ، دار الحقيقة ، بيروت، 1978، ص128 .
5- ميلر، مدخل تاريخي إلي الفلسفة الحديثة، ذكره جون لويس في المرجع السابق، ص129.
6. Andler (c), Nietzsche, sa vie et sa pensee, t.lll, " Nietzsche et le transformisme intellectualiste – la derniere philosophie de Nietzsche", N.R.F, Gallimard, paris,5e edition, 1985, p.398.
7- جيل دولوز، نيتشه والفلسفة، ترجمة أسامة الحاج، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت ، 1993، ص115.
8- المرجع نفسه، ص117. 
9- Andler (c), op.cit.,p.397.
10- Nietzsche (F.), Le gai savoir, op.cit.,  §335.
11- Nietzsche (F.), par dela le bien et le mal,trad.Genevieve Bianquis, paris,union Generale d,editions, 1988, §187.
12. Ibid., §32
13. Ibidem.
14. Kant (e), critique de la faculte de juger suivi de qu,est-ce les lumieres, traduit par un group,coll. "folio/ Gallimard", 1985,1eresection,liv.I,1er moment, §2.
15- نوكس (إسرائيل)، النظريات الجمالية (كانط – هيجل - شوبنهاور ) ، ترجمة محمد شفيق شيا ، منشورات بحسون الثقافية ، بيروت 1985، ص49 .
16. Kant (e), critique de la faculte de juger op.cit.,2eme moment, §6.
 17 – نيتشه (فريدريك)، أصل الأخلاق وفصلها، تعريب حسن قبيسي، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع ، بيروت 1981، البحث الثالث ، الفقرة 6 .
18. Nietzsche (F.),la volonte de puissance, t.I,trad. Genevieve Bianquis, N.R.F., gallimard,1935,liv.2, §435.
19- نيتشه (فريدريك)، أصل الأخلاق وفصلها،مرجع سابق، البحث الثالث،الفقرة 6.  20-في المكان نفسه.
21. Nietzsche (F.),la volonte de puissance, t.I,trad. op.cit., §440.
22. Nietzsche (F.), L,Antechrist , traduction et presentaion de Dominique tassel, union generale d,editions,1985, §10.
23.Ibid., §11.

24- إبراهيم (زكريا)، مشكلة الإنسان، مكتبة مصر، القاهرة، (ب.ت.)، ص ص 181 – 182. 
25- كولينز (جيمس)، الله في الفلسفة الحديثة، ترجمة فؤاد زكريا، مكتبة غريب، 1973، ص334. 
26- المرجع نفسه، ص335.
27- لوفيث (كارل), من هيجل إلي نيتشه، الجزء الثاني ، ترجمة ميشيل كيلو، منشورات وزارة الثقافة السورية ، دمشق 1988، ص127.
28. Nietzsche (F.), L,Antechrist , op.cit., §10.
29. Nietzsche (F.), le crepuscule de idols,trad. Henri  albert,paris,flammarion,1985, ce qu les allemands sont en train de perdre, §5.
30- لوفيث(كارل)، من هيجل إلي نيتشه ، الجزء الثاني، مرجع سابق، ص83.
31. Nietzsche (F.),sur L,avenir de nos etablissment,trad.jean-lois backes, coll."idees /gallimard ",1981,4emeconference,p.97.
32. Nietzsche (F.),les oeuvres philosophiques completes, tome xiv,"fragments posthumes, debut 1888-debut 1889", trad. Hemery,N.R.F.., Gallimard,1977,p.238.
33. Nietzsche (F.), le crepuscule de idols, op.cit., §5.
34. Kant (E), reflexions sur L, edcation, vrin, paris, 1993,p.123
35. Nietzsche (F.), les oeuvres philosophiques completes, tome xiii, "fragments posthumes,automne 1887-mars 1888", trad. P.klossowski,N.R.F, GALLIMARD,1986,P.365.
36. Nietzsche (F.),Humain, trop humain, 1er volume, trad. Robert rovini, gallimard, 1987, §261
37. Nietzsche (F.),par dela le bien et le mal, §242.
38. Nietzsche (F.), la volonte de puissance, le livre de poche, trad. Henri albert, libarairie generale francaise, 1991, §215.
39- نيتشه (فريدريك)، هكذا تكلم زرادشت، ترجمة فليكس فارس، دار القلم بيروت، (ب.ت.) ،i، الحرب والمحاربون.
40. Nietzsche (F.),les oeuvres philosophiques completes, tome xi,op.cit.,p.220.
41- بوبر (كارل)، بحثا عن عالم أفضل، ترجمة احمد مستجير، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2001، ص 182.

الجمعة، 18 نوفمبر 2016

هيجل في مدرسة فرانكفورت

محسن الخوني

لا شكّ أنّ فلسفة هيجل تمثّل لحظة حاسمة في الفلسفة المعاصرة. لقد أنشأ نسقه في اتّصال وثيق مع معاصرين له مثل شيلنج وغوته. وإضافة إلى كون نسقه قد مثّل الأرضيّة التي انبنت عليها فلسفات فورباخ و روجا وباور وماركس فإنّ فلاسفة آخرين مثل كيركيغارد ونيتشه قد كان التّعارض مع النّسق الهيجلي رحى فكرهم ومحرّكه. 
ولعلّ أهميّة فلسفة هيجل تعود إلى رفعها الفلسفة الألمانيّة إلى درجة الكونيّة مثلما فعل غوته بالأدب الألماني [1] . ولم يقف الاهتمام بفلسفة هيجل عند القرن العشرين. ولا أدلّ على ذلك من ذكر أسماء مثل هيبوليت وكوجيف هيدجر ولوكاتش [2]
وتمثّل الأعمال الفلسفيّة المنسوبة إلى مدرسة فرانكفورت عيّنة عن حضور الهيجليّة في التّيارات الفلسفيّة الرّاهنة.وهذا هو الموضوع الذي نودّ التّركيز عليه في هذا المقال.فحضور فلسفة هيجل نعاينه لدى هوركهايمر وفي المقال الذي مثّل الدّرس الإفتتاحي بمناسبة تولّيه مهمّة إدارة البحث في مركز البحوث الاجتماعيّة<وهو الاسم الرّسميّ لما سمّي فيما بعد مدرسة فرانكفورت>.
وفي المقال الذي يعود تاريخه إلى سنة 1931  جعل هوركهايمر من هيجل رائدا للفلسفة الاجتماعيّة. وهي التّسمية المشيرة إلى مجموع المشروع الذي ينظّر له المدير الثّاني لمركز البحوث الاجتماعيّة. وتعني ريادة هيجل للفلسفة الاجتماعيّة حسب هوركهايمر أنّ الفلسفة مدينة بنشأتها إلى تجربة الوعي الفينومونولوجي مثلما نجدها في كتاب فينومونولوجيا الرّوح.  
كماأنّ جدليّةالتّنوير [3] بوصفها أوذيسا العقل تحاكي على صعيد الشّكل ،فينومولوجيا الرّوح الهيجلي. أمّا على مستوى المضمون فهي تسند أهميّة كبرى إلى كلّ من التّجربة التّاريخيّة والحركة الجدليّة. إنّه كتاب يروي مسيرة العقل في التّاريخ [4] وفق عبارة مؤلّفيه . وهو يذكّرنا أيضا بكتاب هيجل : العقل في التّاريخ. ولئن كانت مسيرة العقل لدى هيجل مظفّرة فإنّها وفق جدليّة التّنويرمتقهقرة. وهذا ما يسمح بالحديث عن جدل سلبيّ< عنوان كتاب أدرنو. [5] في مقابل الجدل الهيجلي الموجب وعن خسوف العقل <عنوان كتاب هوركهايمر> [6] بدلا من فكرة انتصار العقل الّتي غذت فكر هيجل وأسندته في خصومته ضدّ التّنوير مثلا .
أما ماركوز فقد مرّت علاقته بهيجل بمرحلتين مختلفتين: 
الأولى وتعود إلى الفترة السابقة لانضمامه إلى مركز البحوث الاجتماعيّة وذلك لمّا كتب أنطولوجيا هيجل [7] وهو منخرط في الخط الذي فتحه هيدجر آنذاك لتجاوز الكانطيّة الجديدة في كتابيه : الوجود والزّمن و كانط ومعضلة الميتافيزيقا.
الثّانيّة وهي موضوع اهتمامنا المباشر في هذه المحاولة ونردها إلى فترة هجرة ماركوز إلى الولايات المتّحدة الأمريكيّة إبّان الحرب العالميّة الثّانية وهو عضو في مدرسة فرانكفورت. ونعني بذلك كتابه العقل والثّورة [8] الذي يشهد بتحرّر مؤلّفه، ماركوز، من الوضعيّة الأنطولوجيا الهيدقريّة وبارتباطه بالتّقليد الماركسي في فهم الفلسفة الهيجليّة وفي تخليصها من الإيديولوجيا والفاشيّة.
ويمثّل كتاب هابرماس معرفة ومصلحة [9] أيضا فينومونولوجيا الرّوح كما يراها مؤلّفه. فهو متابعة لتجربة الوعي في العديد من المجالات العلميّة و الفلسفيّة وذلك منذ اللّحظة الكانطيّة وإلى حدود القرن العشرين.
تسمح لنا إذن الإشارات السّابقة بالتّأكّد من حضور هيجل في كتابات مدرسة فرانكفورت ولكن الأهمّ من ذلك هو التّساؤل عن الدّور الذي لعبته الهيجليّة في فلسفة هذه المدرسة. لهذا التّساؤل مظهران أحدهما بسيط والآخر معقّد. يظهر هذا السؤال بسيطا لمّا نقول إنّ الدّور الذي لعبته فلسفة هيجل لا يتعدّى نفس الدّور الذي قامت به في فلسفة ماركس . فمدرسة فرانكفورت لم تقم إلاّ بإحياء الماركسيّة التّي بدأ نجمها يأفل لأسباب مرتبطة بالإيديولوجيا وبالأوضاع العالميّة خلال فترة ما بين الحربين العالميّتين. صحيح إنّ النّظر إلى الأمر بهذه الطّريقة ليس عديم المعنى ولكنّه ينمّ عن تسطيح للموضوع.
فالعودة إلى هيجل قد تزامنت مع إحياء كتابات ماركس الشّاب التي طمستها النّزعة الماديّة والاقتصاديّة المستفحلة منذ الأمميّة الثاّنية. ولقد فتحت عدّة كتابات الباب أمام تطعيم الماركسية المغرقة في المنحى الوضعي <التعصّب للعلم > والمادّي <إرجاع كلّ التّفسيرات في النّهاية إلى الاقتصاد > بروح فلسفي بدا تحريفا للمتعصبين أو مثاليّا.
ومن هذه الكتابات يمكن ذكر مؤلّف جورج لوكاتش التّاريخ والوعي الطّبقي[10] الذي بوّأ ماركس منزلة الحلقة الواصلة للتّقليد الفلسفي للمثاليّة الألمانيّة عموما وللهيجليّة بصورة خاصّة.
إضافة إلى ذلك اقترح كارل كورش منذ سـ1923ــنة،أي خلال نفس الفترة التي ظهر فيها كتاب لوكاتش المذكور سابقا،مخرجا للماركسيّة المتأزّمة في نظر هذا المفكّر من أوربا الغربيّة والذي لم ير في القراءة اللّينينيّة سوى علامة بارزة لتقهقر الفلسفة الماركسيّة [11]. ويتلخّص مقترح كورش لخروج الماركسيّة من مأزقها في أن تصبح موضوعا لنقدها. أي أن تتخذ طابعا تفكّريا و تأمّليا لأن ذلك أهمّ خصوصيّة تتّصف بها كلّ فلسفة نقديّة منذ كـــــــــانط.
ّكما شدّدت كتابات ماكس فيبر منذ بداية القرن الماضي على ضعف الماركسيّة الّتي تفسّر كلّ الظواهر الاجتماعيّة والثّقافيّة بإرجاعها إلى العامل الاقتصادي.وبيّنت الإحراجات اللّصيقة بالعقلانيّة الحديثة والمعاصرة والتي أهمّها أنّ الحداثة مدينة للعلم والتّكنولوجيا بالتّقدم الذي أحرزته على صعيد القوّة والثّروة ولكن ّالوظيفة الأساسيّة للعلم والتّكنولوجيا هي إخلاء الإنسان من الأوهام التي علّقها بالعالم. وهذا سبب الصّدام بين العقلانيّة العلميّة والموروث الحضاري الرّوحي والثّقافي. ومعلوم أنّ أخطر النّتائج المنجرّة عن ذلك في حياة الإنسان المعاصر هي ضياع المعنى من وجوده هوووجود العالم عموما. ومن ثمّة تشيّؤ الوعي [12] وفقدان القيم لموضوعيتها وفي مقدّمتها الحريّة. 
ضياع المعنى وفقدان القيم لقيمتها موضوعان لا ينسجمان مع فلسفة هيجل بوصفها فلسفة الحقيقة المطلقة والعقل والحّرية المتعيّنة. وهما موضوعان ضاربان بجذورهما في عمق الفلسفات اللاّهيجليّة بدءا بكيركيغارد و نيتشه. إنّهما موضوعان ينطلق منظّرو مدرسة فرانكفورت من معاينتهما وخاصة في فترة الهجرة التي تزامنت مع صعود النازيّة على الساحة الألمانيّة ثمّ على الساّحة العالميّة ومن ثمة تأثيرها على مجرى أهمّ الأحداث التي لا يزال العالم إلى الآن يتخبّط في مزالقها ومتاهاتها.
ولعلّنا بهذه الملاحظة نكون قد شرعنا في الإجابة عن منزلة العلاقة التي ربطت منظّري مدرسة فرانكفورت بالهيجليّة. وبالفعل فإن ّهذه المدرسة قد تعاملت منذ الكتابات الأولى مع فلسفة هيجل نقديّا. وبما أنّ من معاني النقّد الفصل والتّمييز فإنّه قد تمّ منذ البداية تمييز هيجل رائد الفلسفة الاجتماعيّة بفضل تجربة الوعي الفينو مو نو لو جي عن هيجل التّوفيقي الذي أوجد حلاّ في فلسفته لمعضلة التّوتّر القائم بين العقل والعالم أو بين الذّات والموضوع.
1(هيجل مرجع الفلسفة الاجتماعيّة لمدرسة فرانكفورت
تتنزّل مدرسة فرانكفورت إذن ضمن هذا التّقليد الألماني المتمثّل في اعتبار صرح الفلسفة مترابط الحلقات. إذ نجد اعتبارا ثابتا في كتابات المنتسبين إلى هذا التّيار وهو أنّ ما ينتجونه امتداد طبيعي ّلتاريخ الفكر الأوربي. صحيح إنّ هيجل قد سبقهم في ذلك وقد بلغ ذلك الاعتبار لديه أوجه في التّأليفيّة التي أوجدها لمسيرة الرّوح في التّاريخ. لقد ذهب هيجل إلى حدّ اعتبار الرّوح الذي يتحدّث عنه روحا كونيّا والتاّريخ تاريخ العالم وليس فقط تاريخ اوربا .
وهذا الاعتبار نجده أيضا لدى كانط، فيلسوف التّنوير الذي قدّم حلّه للأزمة التي تردّت فيها الفلسفة ومن ثمّة العقل. ويتمثّل الحل ّالكانطي في النّقد الذي يستطيع أن يخلّص الميتافيزيقا من البقاء مجرّد حلبة صراع بين الأمبريقيين والعقلانيين وبين المدافعين عن العقيدة والمنتصرين للعلم أو أيضا بين العقل النّظري والعقل العملي.
كما نجد هذه الفكرة أيضا لدى كارل ماركس المدين بفلسفته إلى المثاليّة الألمانيّة وفي مقدّمتها مثاليّة هيجل ، ناهيك أنّه لخّص عمله الفلسفي في جعل الجدليّة تمشي على قدميها بعد أن كانت مقلوبة، مع هيجل ، على رأسها. هذه الصّورة التي رسمها ماركس تسمح لنا بأن نقول إن ّالجدليّة الماركسيّة هي نفسها جدليّة هيجل. فما تغيّر هو وضعها وليس جوهرها.
هذه الخصوصيّة الألمانية إذن نجدها لدى فلاسفة النّظريّة النّقديّة  - وهي التّسمية الفلسفيّة التي ارتضاها هؤلاء للبحوث التي كانوا يقومون بها- [13] الذين رغم انخراط أغلبهم في التّيارات الماركسيّة قد سعوا إلى ربط المشروع الفلسفي الذي كانوا بصدد إنشائه بالهيجليّة.
لقد كتب هوركهايمر منذ سنـ1937ــة ،أي منذ تولّيه إدارة المركز:«  إنّ الفلسفة وبالخصوص الفلسفة الاجتماعيّة لمدعوّة بإلحاح متزايد إلى الاضطلاع من جديد بالدّور السّامي الذي أناطه هيجل بعهدتها – وقد لبّت الفلسفة الاجتماعيّة هذا الدّور ».[14]
ومن شأن هذا الانتساب إلى هيجل أن يجعل التّمشّي الفلسفي لهذا التّيّار الفكري مضادّا لتوجّه فلسفيّ يحتوي على وجوه بارزة مثل شوبنهاور المعروف بعدائه لهيجل وبتشاؤمه وهيدقر الذي رفض قطعيّا في وجود وزمن أن يكون مشروعه فلسفة اجتماعيّة واكتفى بالبحث داخل الحقل الأنطولوجي عن الوجود الحقيقي في باطن الكينونة الفرديّة للبشر.[15]
ويمثّل هيجل خلال الفترة الأولى من تاريخ مدرسة فرانكفورت رائدا للفلسفة الإجتماعيّة . ويعني ذلك أنّه خلّص الفلسفة من قيود الشّخصيّة المفردة الّتي أوقعها فيها كانط بفلسفته الّتي لم تتعدّ آفاق براديقم[16] الذّات. لقد ألقى هيجل بالوعي في تجربة جماعيّة وكونيّة يخوضها الرّوح منذ اللّحظة الأولى الّتي انفصل خلالها عن الطّبيعة وتتجلّى هذه التّجربة في الدّين والفنّ والسّياسة وتجد في الفلسفة تعبيرتها المفهوميّة . وبالإضافة إلى ذلك اعتبر هوركهايمر أنّ هيجل قد خلّص الفكر الفلسفي من النّزعة التّرنسندنتاليّة الّتي تبحث عن كلّ الإنجازات الفكريّة والثّقافيّة في شروطها القبليّة والذّاتيّة إذ لم ينخرط هيجل في ما أسماه كانط ثورة كوبرنيكيّة .[17]
وتظهر ذاتيّة الفلسفة الكانطيّة في هذا السّياق النّظري والتّاريخي لفلاسفة مدرسة فرانكفورت بوضوح أشدّ في الفلسفة العمليّة عندما نجد الذّات لا تخضع إلى أيّ سلطة خارجها فهي التي  تسنّ القانون الأخلاقي وتخضع له حرّة.
فالكانطيّة فلسفة الشّخصيّة المفردة أمّا الهيجليّة فقد حرّرت عمليّة توعّي الذّات من قيود الاستبطان ودفعت الذّات في غمار التّّّاريخ ليكسبها شكلا موضوعيّا يعبّرعنه هيجل بمصطلح العقل أو الرّوح.[18]
وفلسفة هيجل اجتماعيّة  لأنّها حسب تعبير هوركهايمر تقوم بـ « تحديد الفردي في مصير الكوني ولا تظهر ماهية الفرد ومحتواه الجوهري في نشاطاته الشّخصيّة وإنّما في حياة المجموع الذي ينتمي إليه. وبهذا تصبح المثاليّة مع هيجل في أجزائها الجوهريّة فلسفة اجتماعيّة »[19]
كما كتب ماركوز في العقل والثّورة وبعد مدّة من كتابة هوركهايمر لنصّه المذكور سابقا :
« ولقد كان هيجل آخر من فسّر العالم على أنّه عقل ،وأخضع الطّبيعة والتّاريخ معا لمعايير الفكر والحريّة . وقد اعترف في الوقت ذاته بالنّظام الاجتماعي والسّياسي الذي توصّل إليه النّاس بالفعل، إلى وضع الفلسفة على حافة الطّريق المؤدّي إلى سلبها أو إنكارها ، ومن ثمّ فقد كان هو حلقة الوصل الوحيدة بين الشّكل القديم والجديد للنظريّة النّقديّة، بين الفلسفة والنّظريّة الاجتماعيّة  ».[20]
ويتمثّل الاختلاف الرّئيسي بين هذين التصورين في أنّ ما يحدث لدى هيجل هو في العقل أوّلا في حين أنّ الحدث المرتقب من النّقد الماركسي وفلاسفة النّظريّة النّقديّة يخصّ المجتمع وكلّنا يعلم أصل هذه الفكرة في أطروحات ماركس حول فورباخ وخاصّة الأطروحة الحادية عشر والقائلة بأنّ « الفلاسفة لم يفعلوا إلى حد ّالآن[ الّذي يتكلّم فيه ماركس] غير تأويل  العالم في حين أن المطروح هو تغييره » .[21]
ولنا أن نتساءل ، الآن ، عن السّبب الّذي دعا فلاسفة النّظريّة النّقديّة إلى الإعتماد على هيجل وليس على ماركس ؟
لقد كان هؤلاء المنظرون في حاجة إلى هيجل لكي يتجاوزوا التّحجّر الذي آل بالفلسفة الماركسيّة إلى الانتهاء إلى نوع من تضخيم العلم وإعلاء البراكسيس وفي كلّ ذلك تفقد الفلسفة قيمتها. إعادة الاعتبار إلى الفلسفة هو العودة إلى اللّحظة الهيجليّة .
2- التـــّوفيقيّة الهيجليّة 
إنّ رفع هيجل إلى درجة الرّائد والمؤسّس للفلسفة الاجتماعيّة لم يمنع فلاسفة مدرسةفرانكفورت من نقده في مسألة رئيسيّة تتعلّق بنزعته التّوفيقيّة بين العقل والواقع وبين الذّات والموضوع وبين التّاريخ والمطلق وبين المفهوم والاعتقاد.
هذا التّوفيق بشتّى أشكاله موروث عن الفكر الدّيني ويعني لدى هيجل في فينومولوجيا الرّوح  آخرأشكال الحقيقة أي الرّوح المطلق والذي هو  التّوفيق بين الوعي والوعي بالذّات. ويتحقّق التّوفيق على صعيد المفهوم في الفلسفة بوصفها ، لدى هيجل ، موسوعة العلوم. ويوضح هيقل ذلك بقوله: « بما أن ّالفلسفة من كلّ جوانبها علم عقليّ فإنّ كلّ جزء يمثّل كلاّ فلسفيّا ودائرة من الكلّية تنغلق على ذاتها ...ويظهر الكلّ تبعا لذلك كدائرة دوائر تمثّل كل ّواحدة لحظة ضروريّة ، إلى حدّ أن يمثّل نسق عناصرها الخاصّة الفكرة كلّها التي تتجلّى أيضا وبالتّأكيد في كلّ عنصر مفرد ».[22]
تجد جميع إنتاجات الوعي لدى هيجل مكانتها في صلب الكل ّالذي تمثّله الفلسفة. وليس هذا الكلّ سوى المطلق الذي تكشف الفلسفة عن حقيقته المفهوميّة.
والتوفيقيّة الهيجليّة لا تعرف فقط على مستوى الوعي وإنتاجاته وإنّما أيضا على مستوى علاقة العقل بالواقع ، وهذا ما تعلن عنه مقدّمة  مبادئ فلسفة الحقّ: « ما هو عقلي واقعي وما هو واقعي عقلي ».[23] 
أمّا تبرير ذلك فهو كما يلي : إنّ ما يعلّمه لنا المفهوم –في الفلسفة – هو نفسه ما يكشف عنه التّاريخ عبر التّجربة الجدليّة التي يخوضها الوعي. ومنتهى التّجربة الفينومونولوجيّة يكون بتأليفية تتم فيها المصالحة بين الذّات والموضوع اللّذين كانا بدورهما وحدة قبل أن ينشطرا إلى قطبين تربط بينهما حركة جدليّة معقّدة وطويلة.
لم تكن التوّفيقيّة الهيجليّة موضع قبول مفكري مدرسة فرانكفورت . وقد تعقّبوا في البداية خطى ماركس واعتبروا أنّ ذلك يمثّل العنصر الإيديولوجي في فلسفة هيجل.
ومعلوم ان ّهيجل قد تجاوز فلسفة كانط بواسطة توفيقيّته. وفلسفة كانط هي الفلسفة التي ارتبطت فيها النّقائض والإحراجات بالعقلانيّة لتصبح مصيرها المحتوم.وهي أيضا فلسفة الهوّة القائمة دوما بين الممكن والواجب وبين الحرية والضّرورة وبين الشيء في ظاهره والشّيء في ذاته. ورغم الحلول الّتي قدّمها كانط لتلك النّقائض في جدله التّرنسندنتالي فإنّ الفلاسفة الّذين جاءوا إثره وهيجل أحدهم قد انبهروا بكيفيّة كشف كانط عن مشاكل العقل وبسطه لها أكثر من انبهارهم بالحلول الّتي اقترحها. وباختصار لقد تجاوز هيجل بتوفيقيّته  [ وهي الحلّ الّذي قدّمه لكي لا يبقى التّناقض الجدلي مستمرّا أبدا ] ترنسندنتاليّة الوعي [وهو بدوره ركيزة المنهج النّقدي الّذي قدّم كانط بواسطته الحلّ لتناقض العقل مع ذاته ]. 
وقد بدت المصالحة الهيجليّة لماركوز، منذ كتب ماركسية ترنسندنتاليّة؟[24] رمزا لانسياق هيجل في الأيديولوجيا البورجوازيّة. لذلك فقد انصبّ النّقد على هذا الحلّ "المزيّف" بماهو  العائق الأيديولوجي الّذي منع المنهج الجدلي الّذي اتّبعه هيجل من بلوغ النّواة الثّوريّة للنّقد. فنقد الأيديولوجيا الهيجليّة يبيّن أنّ توحيد هيجل بين الفكر والوجود ليس إلاّ مجرّد عقيدة ذاتيّة خالية من كلّ حقيقة كونيّة.
وتتمثّل مهمّة الأيديولولوجيا التّوفيقيّة ،وهذا أمر قائم منذ ماركس ، في إخفاء الفكر لحقيقة الواقع البائس. ذلك ما عناه هوركهايمر عندما كتب عن هيجل " إنّ الفيلسوف قد اختار لنفسه الهدنة مع عالم غير إنسانيّ ".[25] وكذلك كتب أدورنو، في نفس السّياق ، ردّا على الأطروحة الهيجليّة" لا يصبح العقل عاجزا عن فهم الواقع بسبب عجزه الشّخصيّ بل لأنّ الواقع ليـــــس هو العقل".[26] لذا تكون الخلاصة الّتي انتهى إليها فيلسوف الرّوح المطلق غير مطابقة للواقع التّاريخي ومشوّهة له.
وهذه المماهاة الّتي أنجزها هيجل في فلسفته ،أي في مجرّد فكره ، بين الّذات والموضوع أو أيضا بين النّظريّة والواقع علامة انغلاق النّسق وبلوغ الحركة الجدليّة منتهاها الموجب. وهي أيضا السّبب الأساسي وراء انهيال النّقد على هيجل بوصفه تارة فيلسوف الدّولة البروسيّة وطورا رائد الدّولة التّوتاليتاريّة.
لقد انتهت تجربة الوعي الّتي بنى عليها هيجل كلّ فلسفته إلى إسقاط البعد الفردي منها بما أنّ الذاتي ينصهر في الجماعي ليصبح موضوعيّا وكذلك آلت إلى حذف الاختلاف القائم بين المشروط والمطلق لكي يكتسب المشروط مظهر اللاّمشروط. لذلك فإنّ أساس نقد فلاسفة النّظريّة النقديّة لهيجل هو تطبيق قاعدته الجدليّة على فلسفته هو بالذّات.لذا لا يستثني القول بأن لا قيمة للفلسفة إلا ّفي كونها عصرها ملخّصا في الفكر فلسفة هيجل نفسها.
وبما أنّ النّسق هو الأيديولوجي في فلسفة هيجل فإنّ نقده لا يتمّ ، حسب أدورنو، من الخارج فقط [ أي بربطه بسياقه الاجتماعي والتّاريخي من أجل الكشف عن زيف التّناغم المزعوم بين العقل والواقع] وإنّما يخضع النّقد أيضا لقراءة داخليّة للنّسق تكشف عن الخلفيات المنطقيّة والمسلّمات الميتافيزيقيّة الّتي توجّه مسار فكر الفيلسوف وتعوقه عن إدراك حقيقة حدوده.
وهذه القراءة نجدها في ثلاث دراسات حول هيجل[27] حيث يسعى أدرنو إلى التّمييز  [والتّمييز أحد معاني النّقد ] بين وجهين لهيجل.فأحد الوجهين [وهو موضوع اهتمامنا في هذه المرحلة من التّحليل ] يتعلّق بالمطلق الذي جعل من هيجل ممثّلا للنزعة المحافظة أي النّزعة الممجّدة للدولة في شكلها اللّيبرالي. وهذا الوجه في نظر أدورنو شاهد على انغلاق الوعي على ذاته وعدم قدرته على الاعتلاء فوق ذاته ليصبح موضوع تأمّله. وهذا ما أوقع الوعي الذي تروي الفينومونولوجيا ملحمته في حيويّتها وحركيّتها المعقّدة وتبسط الموسوعة الفلسفيّة نسقه بشكل يبدو للوهلة الأولى سكونيّا . 
وجدليّة التّنوير، كتاب مشترك بين هوركهايمر وأدورنو، حمل تطوّرا في تصوّراتهما الفلسفيّة وهما في المهجر إبّان الحرب العالميّة الثّانية. هذا الكتاب  يمكن اعتباره، مثلما ذكرنا ذلك سابقا ،إعادة كتابة لفينومونولوجيا الرّوح  على ضوء نتيجة سلبيّة فرضتها الأحداث المؤلمة التي شهدها القرن العشرون. هذه النتيجة التي تشابكت فيها هيمنة الحرب ومنتجات العلم التّخريبيّة وويلات التّوحّش النّازي كذّبت عينيّا كل ّتوفيقيّة. وعلى ضوء هذه النتيجة السّلبيّة أصبح كلّ قول بالمصالحة في نظر فلاسفة النّقد تعتيما إيديولوجيا يخدم النّظام البورجوازي وذلك بإخفاء التناقضات التي تنخره من الداّخل وتبقى بدون حلّ. وهذا هو المعنى الذي يقصده أدرنو ردّا على المصادرة الهيجليّة القائلة بأن الكل هو الحقيقة عندما يكتب أن « الكلّ هو اللاّحق ».[28] وحقيقة ذلك أنّ هيمنة المفهوم على الوجود في كلّيته انعكاس لواقع محكوم بالهيمنة والقمع. وليس أدلّ على ذلك من أن الدولة التوتاليتارية تمثل نتيجة منطقية للتنوير وحجة دامغة على إفلاس قيم الحرية والعقل والتقدم وانتشار عدمية واسعة النطاق لاحظ نيتشه بوادرها الأشدّ خطورة.
وتمثل النازية وكارثة معاداتها للسامية على وجه التحديد الخلفية الأساسية التي حركت كتابات مدرسة فرانكفورت منذ هاجر أغلب أفرادها [اليهود] إلى الولايات المتحدة الأمريكية. وقد تحدث هوركهايمر آنذاك عن خســـــوف العقل الموضوعي في المسائل العملية والإسطيتيقية وانتصار العقل الذاتي عليها أي العقل مثلما تتصوره الوضعية والبراجماتية.[29]  ذلك ما جعل هوركهايمر يكتب: «إن الدفاع على أن للمبدإ الوضعيّ صلات خفيّة مع المثل الإنسانيّة، مثل الحريّة والعدالة ، أكثر من بقيّة الفلسفات ، لهو اقتراف لخطإ  ».[30] 
كلــيانية العقل[وهو التعبير الفلسفي عن الأيديولوجيا التوتاليتارية] هي الوجه الآخر للعقل الأداتي. ويمثل العقل الهيجلي السلف المباشر له. وهذا ما ركز عليه يورغن هابرماس في كتابه معرفة ومصلحة   لما قرن بين تبدّد نظرية المعرفة، ومن ثمة انفصام العلاقة المعرفية بين المعرفة والمصلحة،ونقد هيجل لنظرية كــــانط على أساس مسلمات فلسفة الهوية. انتصار الهوية فسح المجال أمام إنكار الوضعية لها بدعوىأنّها ميتافيزيقا خالية من المعنى .
يتفق فلاسفة مدرسة فرانكفورت في نقد انغلاق النّسق الهيجلي ، كما لاحظنا ذلك سابقا ، مع المفكرين الذين أدانوا هيجل بسبب نزعته المحافظة والبيّنة في فلسفة الحقّ وبسبب مبالغاته الاستفزازيّة .ويرفضون كذلك التبسيط والتسطيح اللذان آلت إليهما فلسفته في أوربا الشرقية بفعل ربطها الشديد بالمعطى المباشر.
لكن إدانة هيجل بسبب الخلاصة الأيديولوجية التي انتهت إليها فلسفته لم تتمّ دون بحث له عن أعذار فلسفية.ويظهر ذلك في الفقرة الموالية لأدورنو:"لم يتأتّ[ المطلق  الهيجلي] من نقص في الوضوح أو بسبب لبس طرأ على فكره وإنما هو الضريبة التي كان على هيجل دفعها لما أوجب على نفسه الوضوح المطلق الذي اصطدم بحدود الفكر الواضح دون مقدرة على رفعها. وتجد الجدلية الهيجلية حقيقتها القصوى في ما تركته قابلا للطعن ،حقيقة استحالتها وذلك لمّا لا تتوصل الجدلية بوصفها ملحمة الوعي بالذات إلى الوعي بذلك".[31] فالمطلق ناتج من رغبة يولدها منطق النسق. فالدافع إلى المطلق فلسفي رغم أنه ليس كذلك.إنها علامة على نسيان الفيلسوف محدودية فكره. وتمسك هيجل اللامشروط بالمفهوم وبالإيمان بقدرة العقل الفلسفي على صهر الوجود في مصنع المفاهيم بحيث لا شيء يستعصي على جبروته فكـــــــرة نبه كانط من قبل إلى مغبة سحرها واقترح نظرية حدود تعصم العقل من البقاء فريسة للوثوقية، وهي فكرة أرسى عليها هيدجير،من بعد، بناء أنطولوجيته ليعرّف الإنسان بأنّه كائن نحو الموت. ولكن هيدجير مثله مثل كانط لم يقص المطلق من دائرتي الفكر والمعنى كما فعل ذلك الوضعيون.
وبقطع النظر عن تباين الأجوبة وتعدّدها فإن السؤال الكامن خلف هذه الأجوبة يمكن لنا طرحه على النحو الآتي: إن كان العقل محدودا فهل وعيه بحدوده يجعله يدرك اللاّ محدود ؟ أو بتعبير آخر إذا كانت حدود الوعي هي لا وعيه فهل وعي الوعي بلا وعيه يرفعه إلى درجة مطلق الوعي؟
هذا السّؤال جوهري لأنّ نقد فلاسفة النّظريّة النّقديّة لهيجل يحمل وعيا بلا وعي هذه الفلسفة فهل ذلك يشرّع لهؤلاء ادّعاء المطلق الّذي أنكروه على فلسفة هيجل؟
إن الإجابة على هذا السؤال رهينة تحديدنا لمعنى الجدلية في النظرية النقدية وتمييزها عن الجدلية في الإستعمال الهيجلي.
3 (الجـدلية في مدرسة فرانكفورت
لاشك في أن الجدلية تمثل أهم المسائل التي استولت على اهتمام فلاسفة مدرسة فرانكفورت على الدوام. وحضور هذا اللّفظ في عناوين لوحدات من أهمّ مصادر النّظريّة النّقديّة [ جدليّة التّنوير والجدل السّلبي ] ليس مجرد حضور لفظيّ بل إنّ مضمون ما كتبه المنظّرون الأوائل يركّز على هذه المسألة التي استقطبت اهتمام الكثير من الفلاسفة المعاصرين.[32] 
وقد تركّز عملهم على الجدليّة الهيجليّة ، كما رأينا ذلك سابقا ، على نقد الخلاصة التي توصّلت إليها والتي مثّلت الوجه السّلبي لهذه الجدليّة وفصل ذلك عن الجدليّة كمنهج كفيل بأن يحافظ على حياة الفلسفة وعلى ارتباطها الوثيق بأحداث التّاريخ.
وقد تمّ الارتكاز في المرحلة الأولى من نشأة النّظريّة النّقديّة على الممارسة الثورية كفتحة تمكّن [ النّفي الجدلي ] من تحريك الفكر والتاريخ معا نحو الحلّ الجذري . فلقد راهن هؤلاء المفكرون منذ البداية على البراكسيس الثّوري للطبقة العاملة ميدانا لحركة النّفي في الواقع. وقد كانت الجدليّة في المرحلة الأولى تحيلهم إلى ماركس الشاب ، أي ماركس الهيجلي كما تبيّنه مخطوطات 1844 مثلا أو الإيديولوجيا الألمانيّة. لقد جعلتهم رغبتهم في تجاوز الأزمة التي قبعت فيها الفلسفة الماركسيّة نتيجة سيطرة النّزعة الميكانيكيّة على أغلب مفكّري الأمميّة الثّانية ، هذه الرّغبة جعلتهم يلتجئون إلى كتابات ماركس الشاب . وهذا معنى العودة إلى هيجل.
أمّا المرحلة الثانية المشار إليها بجدليّة التّنوير  فهي تنطلق من تكذيب مباشر للخلاصة الهيجليّة وتحافظ على التّناقض كمحرّك أساسي ّللعقل والتّاريخ.
ويدعونا هوركهايمر وأدرنو عبر مقولة العقل إلى الوقوف عند التّناقضات التي تشقّ الحضارة الغربيّة عبر التّاريخ والتي لم تجد لها إلى الآن حلاّ فعليّا. ومن مظاهر التّناقض الذي وقع فيه العقل ما يمكن التّعبير عنه بجدليّة العقل واللاّعقل. فالعقل قد نشأ كنقيض للأسطورة وبلغ تناقضه معها أوجه مع التّنوير الذي شهد انتصار العلم الطّبيعي والتّكنولوجيا المرتبطة به. ويبدو العقل من خلال هذه الأطروحة قادرا على بناء ذاته بذاته فيكون بذلك مرجعا لنفسه. لكن هذا المظهر الكلياني للعقل تناقضه الأطروحة التي يدافع عنها فلاسفة مدرسة فرانكفورت والقائلة بأنّ العقل يحطّم ذاته وينتهي إلى ميثولوجيا أي إلى لا عقل. وتحول العقل إلى لاعقل يتعلق أساسا بالمسائل العملية. ومن شأن هذا التناقض أن يشطر العقل ومن ثمة العقلانية إلى اتجاهين اثنين: الأول يتصل بالفلسفة المثالية الألمانية من كانط وفيشته وشلينغ وهيجل إلى ماركس وتمثله النظرية النقدية التي لا تلقي بالمطلق دون نقد. أما الاتجاه الثاني فتمثله الوضعية والبرغماتية رغم ما يبدو من اختلاف بينهما.فالأولى تعزز ثقة لا محدودة في العقل العلمي وتؤسس تبعا لذلك عقلا علميا كليانيا وأداتيا.أما الثانية فقد جعلت من النّجاعة التجريبية معيار الحقيقة الوحيد.ويتفق المذهبان في إنكار وجود حقيقة موضوعية خاصة بميادين الأخلاق والسياسة والفن والفلسفة.
يتمثل الحل النقدي لنقيضة العقلانية في دحض كل المواقف التي تنمي يأسا من العقل يؤدي إلى اتخاذ مواقف لا عقلانية من العقل ومن مبادئ عملية، تلازمت مع نشأته وتطوره،كالحرية والعدالة والسعادة...ولكن هذا الحل يصبح بدوره إشكاليا بمجرد أن نتفطن إلى القناعة التي نمت لدى هؤلاء المنظرين وتتلخص في يأسهم من إمكان تحقق حرية الإنسان.
فالجدلية التي طوعها هؤلاء الفلاسفة لتعكس تصوراتهم إبان الحرب العالمية الثانية وإثرها غير هيجلية بمعنى أنها تحذف من مسار الجدل النتيجة التي آل إليها العقل الذي سقطت كونيته في بوتقة الأيديولوجيا وانكشف في حقيقته عقلا أداتيا ضيقا لأن دائرته لاتتسع إلى القيم. كما أن هذه الجدلية غير ماركسية لأنها أسقطت من مسلماتها قدرة الطبقة العاملة على تحقيق الثورة .وذلك ليس فقط لأنها عاجزة عن انجازها بل أساسا لأن الثورة مستحيلة.
لكن أيّ معنى يكون للجدلية وأي معنى يكون للعقل لما لا يبقى العقل الجدلي توفيقيّا[هيجل] ولا يوتوبيا[ماركس]؟ خطورة هذا السؤال متأتية من كونه يطرح معضلة انفصام الجدلية عن البراكسيس. ألا يقضي ذلك على العقل بأن يتقوقع على ذاته ضعيفا حسيرا؟ يقودنا هذا السؤال بتفرعاته إلى جوهر مسألة معنى الجدلية.
يقول فجرسهاوس في كتابه عن مدرسة فرانكفورت:  " لقد كانت الجدلية تعني بالنسبة إليه[ويقصد أدورنو] إمكان تحطيم الخرافات والأوهام من عدد كبير من الظواهر المعاصرة".[33] وهذا هو معنى نعت أدورنو الجدلية التي يمارسها بكونها سلبية أو على الأصح سالبة. فهي تمتنع عن الإقرار بنتيجة موجبة على المستوى العملي. ويمثل هذا الموقف- الذي جلب الحكم الأيديولوجي على أعضاء مدرسة فرانكفورت آنذاك بأنهم تحريفيون- بالنسبة لأدورنو غنما للفلسفة[34] التي استفادت من عدم تحقّقها، كتب أدورنو هذا وهو يستحضر الأطروحة الحادية عشرة لماركس عن فورباخ.
وتنتج السّلبيّة حسب أدورنو عن الصّدمة التي يحدثها فتح النّسق الهيجلي : « إنّ السّلبيّة هي صدمة المفتوح »[35] وليست هذه الصّدمة حسب أدرنو عديمة المعنى إلاّ بالنسبة لعديم المعنى ، أي لا تكون كذلك بدون معنى إلاّ بالنسبة لمن لا يرى المعنى إلاّ في المطلق. وهكذا تتعارض الجدليّة مع الإطلاقيّة دون أن تسقط في شراك النّسبيّة : « تتعارض الجدليّة بنفس الصّرامة مع النّسبيّة ومع الإطلاقيّة ».[36] 
ولا يقصي الجدل السّلبي العنصر غير المتناغم مع العقل من العقل. وهذا ما يكفل عدم تضخّم العقل إلى درجة الكليانيّة وعدم تقلّصه إلى درجة الميثولوجيا. يقول أدرنو في دراسته عن هيجل :
« من وجهة نظر العلم ، يدخل في المعقوليّة الفلسفيّة نفسها ،كلحظة ،شيء ما من اللاّمعقول وينبغي على الفلسفة ابتلاع هذه اللّحظة دون انسياق في طريق اللاّعقلانيّة. إنّ المنهج الجدلي برمّته سعى نحو الإجابة على هذه الضرورة وذلك بالتّحرّر من تأثير الفوري وبالانكشاف في بناء مفهومي واسع النّطاق ».[37]
فالمنهج الجدلي كما تصوّره أدرنو إذن يقوم على حركة دائبة للعقل لفهم معنى النّفي يحدوه حذر من إهمال اللاّعقلي أي الفوري أي الماثل هنا والآن لأن ّذلك يمثّل خطأ الفلسفة الهيجليّة التي بنت نسقها بأكمله في العقل فأوقفت حركة الآني وأبقت على العقل بمفاهيمه خارج الواقع. 
مفهمة الوجود ضرورة فلسفيّة ولكن هذه المفهمة يخترقها اللاّمعقول لذلك فإنّ النّظريّة النّقدية مدعوّة إلى فك ّهذه المعضلة عن طريق النّفي. واللاّمعقول أو اللاّمفهوم هو الذي يفجّر النّسق فلا تبقى الهويّة هي الغاية لمسار النّفي. وهكذا تنفلت اللاّهوتيات، وهي نقائض الحداثة وعددها غير محدّد، من قوقعة النّسق والمطلق.
يعني الجدل السّلبي ّ إذن تحرير اللاّهويّة من قبضة الهويّة وذلك بواسطة المفهوم. فالمسألة كلّها تتعلّق بتجاوز جدلي لمنطق الهويّة بواسطة منطق اللاّهويّة.الجدل السّلبي ّهو فلسفة اللاّهويّة وفي هذا السّياق يقول أدرنو: « يعني التّفكير الفلسفي تفكيرا بواسطة نماذج والجدل السّلبي هو مجموع فكر في نماذج ».[38]
ويعتمد تفكير النّماذج على خلفيتين أساسيتين تتمثّل الأولى في استحالة فلسفة الأنساق، استحالة التّفلسف داخل نسق بعد هيجل. ويمثّل نيتشه في هذا الإطار قدوة هؤلاء الفلاسفة – ونخص ّبالذكر منهم أدورنو- في أسلوب كتابة الفلسفة. فالفلسفة تكتب في شكل شذرات وتلميحات تستفيد من الفن والخطابة والبلاغة.أمّا الخلفيّة الثّانية التي تفترضها كتابة الفلسفة في شكل نماذج فهي النّزعة الصّوفيّة التي اتّضحت معالمها في كتابات فلاسفة مدرسة فرانكفورت في آثارهم الأخيرة. فالكليّة الكاذبة أو اللاّهوية تنكشف آثارها للتأمّل في أشدّالأشياء صغرا  و « تفاهة » كما تظهر في أعظم المواضيع وأخطرها على الوجود. تشير إليها ومضة إشهاريّة عابرة وحرب عالميّة ثانية على حدّ سواء. كلها تشير إلى كلية لا تتعين إلا بواسطة العمل المفهومي للجدل السلبي. 
 4- تعقيب : بيننا وبين هيجل ومدرسة فرانكفورت:
اهتمامنا بهيجل جزء من الاهتمام العالمي به. ولهذا الاهتمام ما يبرره لأن عظمة الفلسفة الهيجلية تكمن في قدرتها- بفضل منهجها الجدلي- على خلق أسباب تجاوزها لدى قارئها.وتبعا لذلك لا معنى للحديث عن اهتمام خالص لوجه هيجل أو لوجه الفلسفة. كما لا معنى للحديث عن هيجلية مذهبية. فهيجل هو الفيلسوف الذي لما يستدعينا إلى التفكير معه سرعان ما يستفزنا لكي نفكر ضده. ولكن ما معنى التفكير ضد هيجل؟
لقد مكنتنا كتابات فلاسفة  مدرسة فرانكفورت من مثال ثري عن كيفية التعامل النقدي مع الفلسفة الكلاسيكية عموما وفلسفة هيجل بصورة خاصة. ونحن إن لم نتعامل مع فكر هذه المدرسة مثلما تعامل مفكروها مع أسلافهم نكون فشلنا في استيعاب الدرس الفلسفي العميق الذي خلفه لنا روادها.
ويتحوصل الدرس في نظرنا في ارتباط الفلسفة ،من جهــــة، بجذورها مادية كانت أو مثالية .فليس ثمة فلاسفة قد حسم أمرهم وليس ثمة حكم نهائي في الميدان الفلسفي. فهيجل لا يزال مرجعا للقراءة وهذا ما عناه أدورنو في مقاله عن كيفية قراءة هيجل قراءة نقدية تميز بين ما يمكن تجاوزه وما يمكن الاحتفاظ به والبناء عليه في هذه الفلسفة . وتعلمنا ،النظرية النقدية ، من جهــــة أخرى، أن الفلسفة في علاقة وثيقة بتجربة الفعل البشري في العالم. وعدم اكتراث فعل التفلسف بالجديد في تلك التجربة لا يضاهيه من حيث السلبية سوى الاكتفاء بالنص الفلسفي ومعالجته بضرب من المثالية الفجّة  والمقطوعة عن السياقات التاريخية لنشأتها وامتداداتها العملية. وتبعا لذلك بدا لنا نقد فلاسفة مدرسة فرانكفورت لانغلاق النسق الهيجلي،خاصة خلال فترة الهجرة خارج ألمانيا، متلازما مع صعود النازية وما أحاطت بها من أحداث مريعة على الساحة العالمية. وعلينا أن لا ننسى يهوديتهم وما جرته عليهم من ويلات.هذا الحدث كان ماثلا في أطروحاتهم الفلسفية الجوهرية بثقل وكثافة شديدتين. فالتعبيرة الخارجية للانغلاق لديهم،هي النازية المجسدة لتوحش العقل الأداتي.لقد استبطنوا هذه الفكرة في عمق وعيهم الفلسفي وأحدثوا منعرجا حاسما في إنتاجا تهم الفلسفية.
ويبدو لنا أن اليوم شبيه بالأمس لأن هذا الأخير لا زال جاثما علينا بكلاكله.فالانغلاق لا يزال واقعا يغرقنا إلى حد الأعناق رغم بريق الانفتاح الكاذب والذي يهلل له الكثيرون تحت شعارات العولمة . إننا لم نبرح بعد الدائرة المغلقة التي طوقنا بها الاستعمار. لقد خضنا تجربة الاستعمار واصطدمنا بالعقل الأداتي قبل انكشاف حقيقته للنقد. فالاستعمار حدثنا التاريخي وواقعنا الاجتماعي الذي لم نفه حظه من النقد. والسبب الرئيسي لذلك يكمن في أن إيديولوجياتنا الرسمية تصوره في شكل سحابة عبرت سماءنا بسرعة أو في شكل فرصة أتيحت لأخيارنا لكي يبرهنوا على زعاماتهم فنتغنى بها إلى الأبد.
ولئن كانت النازية الحدث المؤلم الذي اثر بعمق في التجربة الفكرية لهؤلاء الفلاسفة فبحثوا عن الحل من خلال إعادة قراءة الإرث الفلسفي السابق فإن الصهيونية اليوم لأشد وأنكى من النازية. إنها سرطان ينخر ما تبقى من جسم شرقنا وغربنا.إنها إحدى مظاهر الكليانية التي تحاصرنا. ورغم أنها كاذبة أمام النظر النقدي فهي لا  تزال توقع الكثير منا في كآبة قاتلة وكأنها قدر العالم ومصيرنا المحتوم. نحن في أمس الحاجة إذن إلى نقد هذا الانغلاق دون التخلي عن سلطة العقل.
والكليانية نعيشها أيضا في أنظمتنا المهوسة بالانغلاق إلى درجة الاختناق. والمؤلم في كل ذلك أن الانغلاق المضروب علينا من الخارج يلهينا عادة عن  التركيز على حليفه الداخلي.
والكليانية حاضرة أيضا في وعينا الديني أو على الأصح في وعي غالبية لم ترق مواقفها فوق الحماس الفياض أو الحساب الضيق. إذ المقاومة الجذرية للانغلاق لا تكون فعلا كذلك إن كانت مجرد محاولة للخروج من دائرة مغلقة لنجد انفسنا من جديد واقعين في انغلاق آخر. وهذا ما يجعل المقاومة رغم حدتها سطحية. وليس هذا حطا من شأنها.
يمكن إذن لمقولة الانغلاق أن تكون منطلقا لعمل نقدي بعيد عن كل توفيقية أيديولوجية يمكّننا من أن نرتقي إلى كونية إنسانية فعلية منفتحة وغير إقصائية. 
إننا ،اليوم، حيثما ولينا وجوهنا نرى آثار هذه الكليانية الخطيرة وذلك بعد أن انتابتنا نشوة عابرة لسقوط الأنظمة التي كانت تسمى خلال الحرب الباردة بالأنظمة التوتاليتارية. لقد بدأنا ندرك أن ما وقع ليس إلا انتقالا من انغلاق ذي قطبين إلى انغلاق حول قطب واحد.
لكل تلك الأسباب لم نتجاوز بعد اللحظة الهيجلية  التي أفضت إلى انتصار العقل الأداتي .لذا تكون حاجتنا ملحّة إلى جدل ينفي الانغلاق والتوفيقية التي تسنده في سرّ

الثلاثاء، 8 نوفمبر 2016

هيدجر : من الكينونة إلى الزمان

عمر مهيبل 

العلاقة بين الكينونة والزمان علاقة أبدية ، فكلاهما يحيل إلى الآخر باستمرار ، وآية ذلك يتجلى في أن أهم شئ أملكه في هذا الوجود هو وجودي ذاته ، ولكنه وجود معرض لأن أفقده في كل لحظة على اعتبار أن أسمى إمكانية حقيقية للكائن هي إمكانية الموت ، لأن الكائن كائن من أجل الموت ، إلا أن الموت لم يتحقق بعد ، فأين هو إذن يتساءل هيدجر ؟ إنه مسجل في ذاكرة الزمان القادم ؟ إنه المستقبل . من هنا يصير الكائن كائنا من أجل المستقبل همه الوحيد العمل على تحقيق وجوده "المشروع" والدازاين بهذا المعنى موجود زماني لا باعتبار أنه يوجد – في – الزمان كشيء منفصل عنه ولكنه هو نفسه وجود زماني ، أو أنه مكون للزمان ، وهنا أسمح لنفسي بالاستنجاد بسبينوزا الذي  يرى أن ليس هناك تطابق بين الفكر والواقع – أو الفكرة والشيء – لأنهما وجهان لفكرة واحدة بكل بساطة : من جهة هي الفكر ، ومن جهة أخرى هي الواقع.
وهكذا هي الكينونة عند هيدجر فهي الكائن والكينونة في آن واحد والزمان(**) هو حركة دائبة نحو المستقبل ، فما هو المستقبل ؟ إنه الموت ، وما هو الموت؟ إنه التجلي المطلق للعدم ، فما هو العدم إذن ؟ أين نبحث عنه وكيف نعثر عنه ؟.
يقول هيدجر "يدفعنا توضيح السؤال عن العدم بالضرورة إلى الموقف الذي يجعلنا نعرف هل من الممكن أن نتلقى إجابة عنه ، أم أن الإجابة عنه مستحيلة .. ويترتب على ذلك أن كل "إجابة" عن هذا السؤال مستحيلة منذ البداية ، ذلك أنها تتمثل – وفقا لقوى الأشياء – على النحو التالي : العدم هو هذا أو ذاك. "فالسؤال والإجابة – فيما يتعلق بالعدم – ينطويان على الخلف نفسه" .. وأيا كان الأمر ، فنحن نعرف العدم ، حتى لو لم يكن ذلك إلا بوصفه تلك الكلمة التي نلوكها بالسنتنا كل يوم ، وهذا العدم المبتذل ، العدم الشاحب المصاب بفقر الدم ، العدم الذي يحوم حول أقاويلنا دون أن يجعلنا نلاحظه ، هذا العدم نستطيع أن نخلع عليه بلا تردد ما يشبه التعريف ، فنقول : العدم هو السلب اللاأساسي بجملة الوجود"(1) .
والعدم يكشف عن نفسه في  "القلق"  أو أن القلق يميط اللثام عن العدم ، لكن المشكلة هي أنه ، أي العدم ، لا ينكشف لنا بوصفه موجودا ولا يعطي لنا بوصفه موضوعا أيضا ، كما أن القلق ليس فعل العدم ، إلا أن هذا لا يمنعنا من القول أن العدم يكشف بوساطة القلق فيه ، ويكشف دفعة واحدة غير مجزأة لأن وجود الكائن نفسه غير مجزأ ، وليس فعل العدم حدثا جزافيا أو عارضا كما يؤكد هيدجر ، لكن وبما أنه يشكل مصدر تأثير على الكائن المنزلق بأسره فإنه يكشف عن هذا الكائن في "غربته" الكاملة التي لم تكن واضحة حتي ذلك الحين ، وهو الذي يكشف عنه أيضا بوصفه " الاخر المحض " في مواجهة العدم ، ودون الكشف الاصيل للعدم لن يتيسر بلورة وجود ذاتي أو حرية أصلية وبالتالي لن يتمكن الكائن من تحديد مهامه المنوطة به تحديدا واضحا ، وعليه اذا كان الدازاين لا يستطيع أن يقيم علاقة " مع " الوجود الا بالبقاء داخل العدم، وإذا كان العدم  لا ينكشف أصلا إلا في القلق ، وفي القلق الأصيل فقط مع أنه نادر الحدوث ، ألا يفرض علينا هذا المطلب أن نخلق باستمرار في عالم القلق حتى نستطيع أن نوجد على الإطلاق ، ثم ألم نعترف نحن أنفسنا بأن القلق الأصيل نادر الحدوث . إذن ألا يكون هذا القلق مجرد أختراع تعسفي ، ويكون العدم الذي نسبناه إليه مجرد مبالغة أيضا ؟
من جهة أخرى ، يمكن أن نعبر عن العدم بأنه السلب ، لكن ما هو السلب؟ يجيب هيدجر "ليس السلب سوى حالة من حالات السلوك الذي يعدم أية حالة مؤسسة منذ البداية على فعل الإعدام"(2) ، والنتيجة التي نصل إليها هنا مؤداها أن العدم هو في السلب لا العكس" ، وعلى أية حال حينما يجد الدازاين نفسه داخل العدم – أو لنقل داخل السلب – بتأثير من القلق المزعزع ، فإنه يصير حارسا للعدم . آية ذلك أن ما نتصف به من تناه يجعلنا عاجزين عن الولوج إلى عالم العدم باختيارنا وتصميمنا ، هذا دون أن ننسى النتيجة الأهم ، وهي أن بحث مسألة العدم ينبغي أن يؤدي مباشرة إلى صلب مبحث الميتافزيقا ، هذه الميتافزيقا ، التي يسمح عنوانها الغريب – ما بعد الطبيعة حسب الاشتقاق اليوناني – بالخوض في هذه المسألة دونما إحراج يذكر ما دامت تتساءل عما يتجاوز الدازاين.
إن الزمان عند هيدجر ليس مجرد امتداد أفقي ، بل هو حركة دؤوبة نحو المستقبل ، من حيث أن كل وجود هو إمكانية تنتظر التحقق ، وسواء أفضت هذه الحركة إلى الإمكانية الأخيرة ، وهي إمكانية الموت ، أم إلى أية إمكانية أخرى من العالم اليومي فإن المستقبل المشروع يتولد منها ، وحينما يقول هيدجر إن كينونتنا هي مشروع كينونة فقط ، فهذا يعني أن الإنسان هو الكائن الذي عليه دائما أن يوجد ، كما يعني أيضا أنه دائما في موقع العمل على تحقيق أمكانيته ، وفي توتر مستمر نحو المستقبل هذا إن لم نقل إن زماننا نفسه إنما يبدأ من المستقبل ، إلا أن انبثاقات الزمان كما بلورها في "الكينونة والزمان" ثلاثة : إذ بالإضافة إلى المستقبل هناك الماضي والحاضر ، فكيف تتجلى هذه الانبثاقات في مستوى حياة الدازاين ؟
بداية نجد أن هيدجر ينظر إلى هذه الانبثاقات نظرة تكاملية أو ترابطية ، فالمستقبل عنده لا يعني الآن الذي لم يحدث بعد ، أي أنه ما زال ضمن الممكنات التي لم تتحقق بعد ، وأن الماضي لا يعني ذلك الآن الذي انقضى ، بمعنى ما تحقق من ممكنات، كما وأن الحاضر لا يعني ذلك الآن الذي انقضى في اللحظة الراهنة ، أي ما يجري تحقيقه من ممكنات في الوقت الراهن ، هذه الانبثاقات الزمانية تعبر عن ارتباط الذات الإنسانية بوجودها ، وانشغالها بصميم كينونتها وتعاليها المستمر على ذاتها وعلى همها الجاثم على صدرها ، فإذا كان المستقبل هو ذلك الطموح المتأجج ، المتشوق إلى استكشاف عوالم جديدة ، وفتح آفاق أرحب لهذا الكائن ، فإن البعد الآخر في هرمية البنية الزمانية عند هيدجر ، وهو الماضي ، لا يعني بالنسبة إليه إلا هذا اليقين من أنه موجود متناه وأنه يحمل هذا المتناهي منذ البداية، أي أنه كائن مائت لأن مستقبله يتضمن موته ليس إلا ، وعليه بقدر ما يشارك الموجود في مستقبله ، أي في إدراكه لموته بقدر ما ينبعث مجددا ، أي يجدد ميلاده ، فبين الانبعاث وإدراك الموت يبرز الحاضر الذي هو اللحظة القصوى في توتر الدازاين وذروة كينونته .(3)
 إن الحاضر هو إدراكي للوضع الراهن ، وعندما أدرك حقيقة هذا الوضع أعرف إنني كائن متناه وفي الوقت ذاته أتأمل في إمكانياتي وهي تتحقق ، وأشهد مهماتي وكل الأشياء المحيطة بي في العالم ، وأرى نفسي كما أنا ، وكما هي الأشياء أيضا أي كما هي موجودة بالفعل ، فكأن الحاضر هو اللحظة التي أستطيع فيها أن أرى وجودي من البدء حتى الموت ، إنه يجعل الأشياء كلها حاضرة أمامي ، ويكشف لي جميع إمكانياتي الكامنة والتي أستطيع أن أحققها إلا أن هذا الحضور إنبعاث لماض لم يعد موجودا ، وعلى الرغم من أهمية الإنبثاقات الزمانية الثلاثة عند هيدجر ، إلا أن بعد المستقبل هو دائما بحث يتمحور حول ما لم يوجد بعد في حركة دائبة ودائمة إلى الأمام ، ولكن إلى الخلف أيضا في بعض الأحيان ، ذلك أن الكائن في حاجة إلى أن يكبح إندفاعه إلى الأمام، والعودة قليلا إلى الوراء ليقف وقفة تأمل لماضينا نستنطقه ونقرأ مضامينه وما تحقق فيه ، فالعود المستمر إلى الماضي لا يكاد ينفصل عن حركتنا الدائبة نحو "المستقبل" وآية ذلك أن الإنسان هو مجرد مشروع وجود مرهون بتحققه المستقبلي .
بيد أنه وقبل أن يصل إلى هذا التحديد المستقبلي عليه أن يقوم بعملية سبر لأغوار ماضيه السحيقة عله يقف فيها على "تحديداتها" أو "مكونانها" الأصلية التي تكون سنده في رحلته الوجودية الطويلة القاسية ، فحد المستقبل يحيله إلى الموت وما أقسى الموت ، وحد الماضي يحيله إلى إمكانات لم يخترها وعليه أن يتقبلها شاء أم أبى وكذلك يحيلنا إلى ما سقط ، أي ما لم يتحقق من هذه الإمكانات وعلى العموم فهو لم يختر مصيره في كلتا الحالتين ، فما تحقق ليس ملكه ، وما لم يتحقق بعد ليس ملكه ، وتبعا لما ألمعنا فإننا ، وعلى الرغم من جميع الصعوبات ، وما نشعر به من بأس وقلق ، فإننا لا نمضي من مستقبلنا إلى ماضينا في شكل "ارتدادي" أو "تذكري" بل إننا نعمل على أن نسترد أنفسنا ونستجمع قوتنا في "الحاضر" ، حيث يمثل هذا الحاضر أو "الآن" الخيط الرفيع الرابط بين المستقبل والماضي ، ولكن هذا الحاضر لا يجيء عند هيدجر إلا بعد "المستقبل" و"الماضي" وذلك بوصفه نقطة تلاقي مركزية لحركتين متجاذبتين للذات هما : حركتها نحو الأمام ، وحركتها نحو الخلف ، فالماضي ينبعث عن المستقبل لكي يولد الحاضر ، ومن هنا يأخذ بعد المستقبل كل أهميته عند هيدجر .(4) 
أ - من الزمان إلى زمانية الكائن
ان الزمانية Temporellite  (هناك من يترجمها   بـ Temporalite  ) عند هيدجر صفة الدازاين المتزمن أو المندمح في زمانه ، بمعنى آخر إنها شعورنا ونحن نحيا هذا الزمان بشكل اصيل وواع ، فلا تحقق للكينونة على هيئة الأنية إلا بالزمان ، ولا آنية إذن إلا وهي متزمنة بالزمان ، وتلك هي الزمانية : فهي الطابع الأصيل للآنية ، لذا لابد أن نجد خواص الآنية في الزمانية ، وهي خواص حددناها في آخر الأمر في ثلاث ، المنفصل ، التوتر ، والإمكان ، فلنحاول الأن أن نبين خصائص الزمانية إبتداء من هاتيك .(5) 
فما معنى أن تكون الزمانية محددة تحديدا يتميز بالانفصال مع أن أصالة نظرية هيدجر برمتها إنما مرده إلى قوله بالتحام آنات الزمان ، وتوحيده بين الكينونة وطابع الزمانية ثم ربطه للوجود من أجل الموت بتناهي الزمان ورفضه كل إحالة لفكرة السرمدية . في البداية نستأنس بهذا التحديد الأولى الذي يرى فيه أن وصف تركيب الزمانية بالانفصال يؤدي إلى القول بأنها ، أي الزمانية ، مكونة من وحدات منفصلة عن بعضها بعضا ، وحدات قائمة بذاتها مقفلة على نفسها سميت لدى أغلب الباحثين في مسألة الزمان "بالآنات " مع الإشارة إلى أن المسألة عويصة ومعقدة إلى أقصى درجة حتى أن أفلاطون وأرسطو اضطرا في نهاية الأمر إلى القول بان الزمان مركب من آنات ، مع أن باطن ما اعتقداه وخاصة أرسطو في "السماع الطبيعي" يوحي باتباعهما الطريق الثاني القائل بالانفصال ، إلا أن واقع الحال يبين لنا أن القول بأحد الأمرين وبالأخص ما تعلق منه بالاعتقاد بأن الزمان متصل يحيلنا إلى إشكالات عديدة قد يقع فيها القائل بهذه الفكرة ، ذلك أن إثباتها من خلال الاعتبارات الفزيائية التي ترى أن الحركة لا تتم إلا عن طريق التلامس المباشر بين طرفي الحركة : المحرك والمتحرك على اعتبار أنه ما دام الزمان مقدار الحركة ، وما دامت الحركة تتطلب التلامس والاتصال كما ذكرت فإن الزمان بدوره لابد أن يقتضيهما أيضا ، أو من خلال الاعتبارات النفسية التي تستند إلى مفهوم الذاكرة كنقطة محورية ، فالذاكرة ملكة كلية قبلية تربط بين الأفعال في الشعور بطريقة متصلة اعتقادا من القائلين بهذه الاعتبارات بأن الذاكرة سجل دقيق يرتسم عليه تيار متصل مستمر ، يصل الماضي بالحاضر ويصل الحاضر بالمستقبل ، هذا الاتصال لا يعني عندهم التكرار ، بل ينظرون إليه بوصفه تيار يجري باستمرار دون أن يرتد على ذاته ، وتباعا لهذه المحصلة نظر إلى الزمان على أنه تيار متصل يجري في اتجاه واحد من الأزل إلى الأبد . إذن لا الأعتبارات الفزيائية ولا النفسانية يمكنها أن تؤدي عند هيدجر إلى القول بأن الزمان مكون من وحدات منفصلة يشكل شعور الإنسان بها وإدراكه لها ما نسميه بالزمانية ، لكن ما هو الدليل على أن الزمان وحدات منفصلة : ماض وحاضر ومستقبل ؟
إن تحديد العلاقة بين الآنات الزمانية السابقة ، وإظهار أوجه التفرد أو الإنفرادية في كل منها يؤدي إلى بحث مسألة الوجود الماهوي وهو الوجود الذي قد يصير فيه الممكن واقعا متحققا بالفعل في العالم على خلفية تغافل الزمان في صورة العدم بحيث يصير في إمكان الوجود الماهوي الاختيار بين ممكنات عدة لتحقيقها بالفعل وذلك عبر الهرمية التالية : الإمكان ، الفعل ، التحقق بالفعل.(6) وبما أن الإمكان في نظره يعني الوجود الذاتي وهو في حالة "تكون" إن صح التعبير ، أي أنه سابق على التحقق بالضرورة ، فإنه يصير من الواضح تماما أن هذا الإمكان سابق على الواقع ، وكل إنكار أو رفض لهذه الحقيقة تحت أي عذر كان يكون صادر عن وهم ، أو لنقل على سوء تقدير حتى لا نكون مغالين في حكمنا ، وسوء التقدير هنا مكمنه المساواة بين مستويين مختلفين : مستوى الوجود الماهوي (أي مستوى الإمكان) ومستوى الوجود العيني (أي مستوى الواقع) ، بيان ذلك أن الذات تحوى أمكاناتها بشكل مسبق ، وهي حرة في اختيارها لبعضها على حساب بعضها الآخر لأنها لا تستطيع أن تحققها كلها ، وبعد أن تختار تأتي المرحلة التالية وهي وضع ما تم اختياره من إمكانات للتحقق موضع التنفيذ فيصير الاختيار والتنفيذ فعلا واحدا متى نظرنا إليهما على أساس أنهما تجسيد متكامل في حاضر مباشرة ، ثم يأتي بعد دور الفعل وقد تحقق ، هذه الأدوار في واقع الأمر متكاملة ومترابطة فيما بينها : فالفعل بوصفه ممكنا أي "سيكون" معناه المستقبل ، والفعل بوصفه شيئا "حادثا كائنا" معناه الحاضر ، والفعل بوصفه شيئا "قد كان" معناه الماضي، ومن خلال هذه الأدوار أيضا نفهم الزمان في أبعاده الثلاثة التي هي ذوات معان وجودية خالصة . والوجود من صميمه أن يحيل إلى فعل ، بل أن يتجسد في فعل واضح محدد ، وكل وجود يعتقد أنه يمكن تصوره خارج إطار الزمان هو وجود ناتج عن تجريد كاذب يسعى يائسا إلى التخلص من سلطان الزمان عليه ، وبالتالي إيهام الأخرين بأنه كائن غير متزمن أو يقع خارج الزمانية.(7)
إن القول بزمانية ، الكائن ليس مسألة عفوية أو إعتباطية عند هيدجر ، بل إنه يمثل خطوة أساسية في طريق الوصول إلى حقيقة هذا الكائن وإعطاء وجوده معنى ودلالة ، وكل كينونة تبحث عن العزاء ضمن حدود السرمدية فإنما تبحث عن سراب لأن السرمدية والزمانية مفهومان متناقضان ، فقد أدرك الإنسان منذ أقدم العصور أن الزمان هو المحرك للوجود ، فيه تتفاعل الأفعال وبه تتحقق ، إلا أن ما يتحقق من إمكانات هو سلب لإمكانات أخرى ، وهذا معناه ببساطة أن التحقق لن يكون كاملا ، وعد التحقق الكامل ينفتح على الشقاء شقاء الكينونة ، فالزمان إذن هو أصل الشقاء وكل محاولة لمجاوزة هذا الشقاء دون أن تأخذ في حسبانها حقيقة الزمان تكون محاولة غير مؤسسة ، إن لم نقل زائفة ، لأن الزمان شر لابد منه وعلينا أن ننظر إلى كينونتنا بما تتضمن من شر ، وأن نقلع عن البحث عن الأبدية أو الخلود فهذا لن يغير في واقع الدازاين شيئا لأن الكينونة الأصلية مطبوعة بطابع الزمانية بالضرورة ، هذه الزمانية يفسرها هيدجر على أساس الهم الذي يعد بمثابة المحرك الداخلي لآنات الزمان الثلاثة ، إلا أن التأمل العميق في هذه المسألة كما يرى بعض شراح هيدجر وعلى رأسهم "الفونس دوفيلانس" Alphonse de Waelhens(*) يرون أن تأكيد هيدجر على ربط الزمانية بالهم لا غبار عليه في حد ذاته لو لم يفض إلى مغالاة واضحة في هذا الربط ، فقد كان الأولى أن يربط الهم بالماضي على اعتبار أن الإنسان مهموم بما لم يستطع تحقيقه من الإمكانات التي يتوفر عليها ، أما المستقبل فهو ما لم يتحقق بعد ، ومع أنه مهموم بتحقيق إمكاناته إلا أن الإنسان في هذه المرحلة ينظر إلى الحياة بأمل عله يحقق ما لم يحققه من قبل هذا من جهة ، أما من جهة ثانية فإن تأكيد هيدجر على أسبقية المستقبل ، وعلى الرغم من أنها نتيجة منسجمة مع منطلقاته الأولى ، فهي تفضي إلى تساؤلات أهمها : أن القول بأسبقية المستقبل وأهميته قياسا بالماضي والحاضر يعمل على خلخلة مفهوم الزمانية ذاته من حيث أنه نظرة متكاملة لآنات الزمان الثلاثة ، ثم إن مشكلة أولوية آنة من الآنات على الآنات الأخرى مشكلة قديمة إلا أن الوجودية أعادت طرحها بجدة وانتصرت في النهاية بتفرعاتها المختلفة لصالح بعد المستقبل.
ب- من الزمانية إلى التاريخية
لقد رأينا عند تحليلنا لمفهوم الزمانية عند هيدجر أن الزمانية لا تكون على حد قوله بل هي تتزمن ، وأنها التخارج الأصيل في ذاته ولذاته ، والخلاصة المحصلة عنده هي أن الماضي يوجد في داخله المستقبل ، والمستقبل هو خارج الماضي ، بمعنى إنه ليس هو الماضي لكنه يطل على الماضي والشيء  نفسه ينطبق على علاقة الحاضر ، بهما معا ، وهكذا فكل بعد من هذه الأبعاد الثلاثة يختزن بمعنى من المعاني باقي الأبعاد الأخرى ويستغرقها بطريقته الخاصة وفي الوقت ذاته هو مستغرق فيها ، ولكن هذه المرة وفق منظورها ، فالعلاقة إذن بين هذه الآنات هي دائما بين شد وجذب . وإذا كانت الزمانية تتزمن إبتداء من المستقبل ، فإنها وحسب تحليلات هيدجر ، تتزمن ابتداء من الماضي أيضا ، وعندما نقول "ماضي" فإننا نحيل إلى التاريخ ، والتاريخ بدوره يحيل إلى التاريخية ، فكيف ينتقل الكائن التائه في دروب الكينونة من الزمانية إلى التاريخية ، وهل هذا الانتقال له ما يبرره ؟
بداية نقول إن "التاريخية"  Historicite    أو Historialite   عند هيدجر هي الصفة الكلية للزمانية ، وهي التي تضم الأبعاد الزمانية الثلاثة : الماضي، الحاضر والمستقبل ، وقد استقطبت كلها من خلال مواجهة واعية لفكرة المصير الذي ليس هو إلا مصيرا يجري إلى الموت ، ويختلف مفهوم التاريخية بهذا المعنى الهيدجري عن مفهوم الفيلسوف التاريخي عند دلتاي W.Dilthey  ، حيث يرى أن التاريخ علم موضوعي يدرس الوقائع الإنسانية بشكل مستقل عن الإنسان ، يقول هيدجر : "إن الصورة التي   ما تزال شائعة إلى اليوم ، وفي كل مكان عن دلتاي هي كالتالي : إنه المفسر الحاذق للتاريخ العقلي ، وخاصة الأدنى منه حيث أجهد نفسه أيضا لإقامة التفرقة بين "علوم الطبيعة" و "علوم الروح" ، وهو بهذا يعزى إلى تاريخ هذه العلوم إلى السيكولوجيا أيضا دورا بارزا يسقط في نوع من "فلسفة الحياة" النسبوية ، فإذا ما نظرنا إلى الأمور نظرة سطحية فأن هذا الوصف صحيح . لكن اذا نظرنا اليها من الناحية الجوهرية فأن هذا الوصف غير واضح، أنه يخفي أكثر مما يبوح " (8) .  ويري هيدجر أن نظرة دلتاي هذه تنطوي علي مغالطة – مع أنه يستفيد منه كثيرا وهذا بأقراره هو – أذ كيف يتاح للوجود الانساني أن يستقل عن نفسه ، مادام التاريخ هو دراسة هذا الوجود ، ذلك أنه يري أنه لا يمكن وصف أية واقعة بأنها تاريخية الا بأرتباطها بالانسان ، وكل استعمال لكلمة " تاريخي " أو تاريخية يفترض وجود الانسان بشكل اولا في ما هو معني بالتاريخية بالدرجة الاولي هو الدازاين وليس الطبيعة أوالاشياء .
ولكي يظهر لنا أهمية مبحث التاريخ " و " التاريخية " ككل في بلورة مفهوم الكينونة يلجأ في بداية تحليله " الزمانية والتاريخية " – وهو عنوان الفصل الخامس من القسم الثاني من كتاب " الكينونة والزمان " – الي تقديم هذا التعريف الذي يعد بمثابة الاطار النظري الذي سيتمفصل حوله بحث هذه المسألة ، حيث يقول :" أن تحليل الدازاين يسعي الي أظهار أن هذا الموجود ليس متزمنا لانه يتموقع داخل التاريخ ، ولكن وعلي العكس من ذلك تماما فأنه لم يوجد ولن يوجد تاريخيا الا انه متزمن تزمنا يغوص الي اعماق وجوده "(9) فالزمان هو محرك الوجود وراعي التوازنات الكبري فيه ، فالبينية الزمانية تتضمن البنية التاريخية ويميز هيدجر في بداية تحليله أيضا بين كلمة " تاريخ " التي تدل علي " الواقع التاريخي " وبين " تاريخ " التي تعني العلم بالواقع التاريخي انطلاقا من ان اللبس الملاحظ في مستوي الكلمة يعود بالاساس الي الخلط الواقع بين المعنيين ، ولكي يتفادي هيدجر هذا الخلط فأنه يرفض المعني الثاني ، ويبقي المعني الذي ينظر للتاريخ . بمعني الواقع التاريخي ، وعندما نقول الواقع التاريخي فان ذلك يعني الاحالة الي الوجود التاريخي .
ينطلق هيدجر من مقارنة أولي تفهم التاريخ علي أنه الماضي ، بمعني أنه لم يعد حاضرا أو مؤثرا تأثيرا فعالا فيما يقع من أحداث ، بيد أن السؤال الذي يطرح نفسه هنا كيف يمكننا أن نقول عن هذا الكائن أنه الكائن تاريخي مادام أنه لم يمت بعد ، أي لم يصبح ماضيا بعد ؟ علي كل حين يفهم التاريخ علي أنه الماضي سواء كان ذلك بدلالته السلبية أو الإيجابية ، فان هيدجر ينظر إليه علي أنه مرتبط ارتباطا وثيقا بالحاضر، مفهوما علي انه ما هو واقع "ألان" يضاف إلى ذلك ان تقصي بعد الماضي يفضي بنا إلى مفارقة واضحة فهو، وبما انه ماض ينتمي إلى الأحداث الماضية ، أي إلى زمان مضي لكنه في الوقت ذاته يمكنه ان يكون " ألان " حاضرا في هذه الحالة فان التاريخ نسيج من الأحداث والنتائج ، نسيج متشابك العلائق بين الماضي والحاضر والمستقبل ، وهنا يفقد الماضي اية اولوية له علي الأبعاد الأخرى لأنه لا يستقيم في دلالته الحقيقية الا بتكامله مع الانات الاخري ، ومع انه يتلامس مع الطبيعة باعتبارها المكان الذي يتواجد فيه الكائن والحيز الذي يسعي الي تحقيق  إمكاناته فيه ، فإنه يتميز بالقدرة على التعالي على الطبيعة ومجاوزة تجلياتها المادية ، أو المكانية بالتدقيق ، إلى بعده الزماني على اعتبار أن مايؤثر في الجزء الذي هو الدازاين تمتد تأثيراته إلى الكل الذي هو التاريخ والحضارة إجمالا فالتاريخ هو تاريخ الزمانية عند هيدجر ، وتاريخ الدازاين ، بما أنه المادة الأولية للزمانية ، وهو تاريخ ، وان كان يدل في معنى من معانيه على أنه الماضي ، فهو يدل في معانيه الأخرى على أنه المأثور الحاضر في ضمير الكائن أو الدازاين ، وأن تأثيره يبقى فعالا ومؤثرا باستمرار في الحاضر والمستقبل في آن واحد ، والإنسان لا يوجد ، ولا يمكن أن يوجد ككائن تاريخي إلا لأنه كائن زماني ، وليس الوجود البشري زمانيا لأنه يحتل موقعا في التاريخ ، أو داخل التاريخ ، بل على العكس من ذلك إنه وجود تاريخي لأنه زماني ، الإنسان هو نقطة الالتقاء بين المعاني المختلفة التي أسبغها هيدجر على التاريخ ، فهي ترتبط بالإنسان بوصفه "ذاتا فعالة" تؤثر في صيرورة الأحداث ، بل وتتدخل في صنعها أيضا . مع ذلك فالسؤال الهام الذي يطرح هنا هو كالتالي : ما هو المقياس أو ما هي المقاييس التي نعتمد عليها لتحديد الطابع التاريخي لهذه الذات أو تلك ؟ ثم ما هو تحليلنا لهذه التاريخية نفسها خاصة وأن المفهوم ينفتح على مفاهيم أخرى عديدة ، على الأقل في تحديد هيدجر ؟ هل التاريخية هي هذا الركام من الأحداث المتوالية دونما رابط أو معنى ، ودون فاعلية من الكائن الإنساني ؟ وهل أن الدازاين لا يصير تاريخيا إلا باختلاطه – حتى لا نقول ذوبانه – مع الأحداث التاريخية المتوالية ؟ لماذا يلعب الماضي دورا خاصا في البنية الزمانية للدازاين ، وما هي إنعكاسات ذلك على مستقبله ؟.
في الواقع لا يمكن الإجابة على هذه التساؤلات دفعة واحدة لكثافتها وتنوعها ولأنها مسألة ليست هينة بالمرة ، لذا يلجأ هيدجر إلى وضع أولويات للتحليل ، حيث تكون البداية من الخاص إلى العام ، ومن البسيط إلى المعقد ، وعليه إذا كان التاريخ خاصية تتعلق بوجود الدازاين ، وإذا كان هذا الوجود ينبني ويتجلى في الزمانية ، فإنه سيكون من المفيد لنا مباشرة التحليل الوجودي للتاريخية إنطلاقا من ضبط الخصائص التي تميز ما هو تاريخي ، وأهم هذه الخصائص طبعا هي أنه زماني أو متزمن في الوقت الذي نجد فيه أن التعمق في معرفة الفرد الجزئي الذي يهتم به التاريخ ، وينظر إليه على أنه المدخل إلى تحليل البناء الأساسي للتاريخية .(10).
ولتقريب الصورة إلى أذهاننا يسوق هيدجر هذا المثال : "أن العاديات الأشياء القديمة" "Antiquites " المحفوظة في متحف ما ، ولتكن قطعة أثاث مثلا ، تنسب إلى " زمان مضي " ومع ذلك فهي ما تزال حاضرة في " الزمن الحاضر " فعلي أي أساس تصير هذه القطعة قطعة تاريخية مع أنها أم أنه تصبح من الماضي بعد ؟ ألا يرجع سبب ذلك إلى انها موضوع اهتمام تاريخي أم أنه  يرجع الي كونها موضوعا " أثاريا " له إسهام في تاريخ البلاد ؟ علي كل ان أي " موضوع تاريخي " لا يمكنه ان يكون الا لانه يتضمن تاريخية في ذاته . بمعني من المعاني . والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو كالتالي : بأي حق عن هذا الكائن انه تاريخي وهو لم يكن قد مضي  بعد ؟ أم أن هذه الأشياء ، حتى وأن كانت ما تزال حاضرة ، فيها دائما شئ من الماضي في ذاتها "(11) 
والاشكال المطروح هنا هو : هل بقيت الاشياء التي اشار اليها هيدجر علي حالها أم أصابها التغير والتحول ؟ ببساطة نجيب لقد تغيرت ، فمع تحولات الزمان ، وتغير الظروف فسدت قطعة الاثاث ، ، ونخرها السوس ، ولكن هل قدمها المادي هو ما يجعلها تاريخية ؟ أن ما يحدد تاريخية قطعة الاثاث – أو غيرها من الاشياء الاخري – ليس تقادمها وانما المجال الذي توجد فيه وهو " العالم " ، وعندما نقول العالم الكائن الذي يستخدمها ويؤثر في العالم من خلالها بمعني أخر ان الطابع التاريخي للعاديات لا يقوم فيها هي بالذات وانما يقوم في ماضي الدازاين ، فالاشياء لا دلالة لها  مادامت في وضعها الطبيعي البسيط الا عندما تتحول الي ادوات في يد الدازاي هذا الدزاين  لا يمكن ان يكون ماضيا في نظر هيدجر لا لانه لا يمضي ، هذه الفكرة تحيلنا مرة أخري الي هوسرل الذي يري أن ظواهر العالم الخارجي ، أي الموضوعات ، لا قيمة لها ما لم تدرك من قبل الذات وعكس الكوجيتو الديكارتي تفكر دائما في موضوع قابل للإدراك ، وهكذا يخلص هيدجر الي الدازين كائن تاريخي في المقام الول  ولا يكون تاريخيا الا علي اساس انتمائه الي عالم معين ، لكن العالم لا يكون له طابع التاريخية الا انه يعبر عن تحديد انطولوجي معين للدازاين ، ولما كانت تاريخية الكائن تاتي كما قلت من أنتسابه للعالم فقد نسميها " تاريخية عالمية " علي ان نأخذ هذا العالم في معناه الجوهري ، أي المتزمن ، ولكي يقارب مسألة العلاقة بين التاريخ والزمان مقاربة تلم بأبعادها الفلسفية المختلفة يلجأ الي تحليل التصور الهيجلي للزمان في الاخير من " الكينونة والزمان " ، أي اعتبار ان التصور هذا هو أخر وأنضج التصورات الفلسفية عن الزمان ، وبالفعل فقد حاول هيدجر أن يثبت أن هيجل عندما يؤكد أن الفكر – أو التاريخ مادام الفكر هو وحده الذي له تاريخ – يقع داخل الزمان ، وهو بهذا لا يفكر بعيدا عن الزمان العادي لان الفهم الهيجلي للزمان ما هو الا صياغة للتصور العادي عن الزمان ، هذه النتيجة يتوصل اليها هيدجر وقد اختزل التحليل التالي كما يري " جاك دريدا " في " هوامش الفلسفة " فقد توصل هيدجر الي النقاط التالية : 
ان هيجل يقوم بطرح مسألة الزمان في القسم الخاص بفلسفة الطبيعة ، ومن ثم فان المفهوم ينتمي عنده الي انطولوجيا الطبيعة ، وبالتالي فانه يقترب كثيرا من التصور الارسطي كما عرضه هذا الأخير من كتاب الطبيعة 
وان حقيقة المكان ترتد في النهاية إلى نقط تشكل الزمان ؛ هذا الزمان الذي يرتد بدوره الي سلسلة الانات الزمانية المعروفة .
وان جوهر التأويل الهيجلي للزمان يتلخص في تعينه له بوصفه نفيا للنفي.
-وان هيجل يستلخص ان الفكر يقع في الزمان ، والزمان يتجلي في الفكر وذلك للتقارب الموجود بينهما : فكلاهما نفي للنفي ومطلق(12) . (12
وفي المحصلة يستتنتج هيدجر ان المفهوم الهيجلي للزمان ليس مفهوما عاديا فحسب ، بل انه المفهوم الاكثر تقليدية فيما كرسته الميتافيزيقا ، أي مفهوم أرسطو ، لذا نجده يلجا الي اجراء مقارنة مقتضبة بين المفهومين الهيجلي والارسطي عن الزمان فأرسطو يري ان ماهية الزمان هي "الآن" le nun  وكذلك هيجل فهو يتصور الآن كنهاية Oros  ، في حين يدركان كلاهما الآن كنقطة Stigme  واحدة ، فأرسطو يربط بين الكرونوس والكرة ، أما هيجل فيلح على الدورة الدائرية للزمان ، وعليه يمكننا أن نلاحظ أن التصور الهيجلي مستقي في أساسياته من فيزياء أرسطو بصورة صريحة (13) ، ومع ما قد يساق من انتقادات حول تحليلات هيدجر على اعتبار أن أفكاره هنا تمثل كتاباته الأولى ، وهي كثيرا ما تتغير عند بعض الكتاب – بيد أن البحث الجينالوجي لفلسفة هيدجر يظهر لنا – وهذا حكم يتضمن مغامرة واضحة لأننا لا نعرف حسب ما يرى الباحث "جورج شترنر G.Steiner  مثلا ما إذا كنا نعرف حقيقة كل تراث هيدجر الفلسفي – أن مفهومه للزمان بقي منسما مع منطلقاته الاولي ، وان تلونت اشكال التعبيرعنه بالوان متعددة ، ففي محاضراته التي القاها في سنة 1962 وعنوانها " الزمان والكينونة " عاد ليدعم افكاره الاولي عن التصور أو التمثل الارسطي للزمان حيث يقول مثلا :" تقوم جميع المفاهيم التي ظهرت لاحقا عن الزمان علي التصور الارسطي للزمان وهو التصور الذي كان الاغريق قد رسموا معالمه أرسطو  ذاته (14)  هذا دون ان نسقط من حساباتنا المحاولات الميتافيزقية الاخري التي تطرقت للمسألة ذاتها بطرق مختلفة ، ذلك ان التساؤلات الميتافيزقية حول ماهية الزمان تتمحور دائما حول الكائن : ما علاقته بالكينونه ؟ ما موقعه داخل بنية الزمان ؟ ثم هل الكائن هو الوحيد في الزمان ؟ علي افتراض ان الموجود يحيل دائما الي الحاضر ، وهو يزداد حضورا ، كلما امتد به خيط الزمان وكلما كانت مدة بقائه في هذا الوجود، ان هذا التفسير الارسطي في جوهره للكائن والكينونة ، فما يحضر في الزمان هو " الان " في المفهوم الميتافيزيقي التقليدي الارسطي – الهيجلي حسب ما يري هيدجر ، هذا المفهوم يدرك الزمان ، وبمعني أشمل التاريخ – انطلاقا من الحضور – لذا كان منهج التفكيك فما بعد عند جاك دريدا هو نقد ما يسميه  " ميتافيزيقا الحضور" ، وكل ما قامت به الفلسفة الحديثة ابتداء من ديكارت وحتي هيجل أخر المعاقل التي تتمثل وتحول الكائن الاسمي الي ذات تدرك نفسها وتعيد تمثلها في المعرفة المطلقة ، وفي مرحلة متقدمة ستحول الحضور والمثول معا الي موضوع يوضع أما الذات ، بحيث يخضع في النهاية لما يسميه هو " سيطرتها التقنية " ، وحتي الديالكتيك الهيجلي نفسه سينظر الي الحضر بوصفه نفيا مطردا للابعاد الاخري، كما سيجعل التاريخ حركة لحاضر دائم يتجاوز فيه الحاضر ، بمعني الحاضر الماضي وفق مبدأ الديالكتيك – الحاضر نحو مستقبل لم تتحدد معالمه بعد ، لكنه سيحضر لا محالة ، حتي ان هيدجر يسمح لنفسه بالتحدث عن عجز هيجل عن أعطاء مكانة واضحة وهامة لبعدي الماضي والمستقبل اللهم الا ما تعلق بالمكانة الذاتية ، أي في الذاكرة ، أي سيكولوجية في أخر الامر (15) 
ولنعد الي مواصلة بحث تصور هيدجر للزمان والتاريخ .اذ و مواصلة منه لاستكشاف زوايا التاريخية المختلفة وعلاقتها بالدازين يري ان مركز ثقل التاريخ لا يوجد في الماضي المعطي ، ، ولا في الحاضر أيضا ، لكنه يتمثل في التاريخ الصحيح للوجود من حيث كونه أنا يحيل الي الزمان ومنه الي المستقبل والدازاين لا يصير تاريخيا لمجرد التكرار ، أي تكرار تعاقب الاحداث التاريخية ، بل علي العكس ، انه من حيث هو زماني أو متزمن فهو تاريخي بالضرورة ، بتعبير أخر أن تاريخية ، الكائن لا تقوم علي التكرار بل تقوم في الزمانية المتخارجة التي يقوم فيها بعد المستقبل بدور اساس وفعال وذلك يجعل هذا التكرار ممكنا ، فهو تكرار لا يعني عودة الكائن الي الماضي لاستعادته أو لادخاله في شبكة جديدة من العلاقات تكون أكثر فعالية من شبكته الاولي ، وأنما يعني تحرير هذا الماضي مما علق به من أوهام وبالتالي تحرير ذاته  هو ، لكن ما معني تحرير الماضي هنا  ؟ أن تحرير الماضي عند هيدجر يعني استخراج الممكن الكامن داخله ، ذلك ان الماضي الذي خلفناه وراءنا لم يتحق كله ، بل جاء مستقبلا لان كل لحظة تنطوي في داخلها علي إمكانات لم تتحقق كلها ابدا ، ولا يمكن استنفاذها ابدا ، ولهذا فان الدازاين لا يتحرر الا بتحرير الماضي فمن طبعه انه ل يستطيع ان يتحرر الا في الزمان وفي التاريخ ابتداء من أمكانات موروثة ، هذا التحرر الذاتي في الزمان وفي التاريخ هو التكرار الصحيح للذات ، وهذا ما لا يمكن تلخيصه كالتالي :" خلال هذا البيان قد انتهينا الي كشف عن حقيقيتين رئيسيتن : الاولي ان لا وجود الا مع الزمان وبالزمان ، وان كل ما ليس . بمتمزمن بالزمان فلا يمكن ان يعد وجودا ، وتلك هي ما نسميه بتاريخية الوجود ، والثانية أن كل ان من انات الزمان فكيف بطابع وجودي عاطفي ارادي خاص ، وليس الزمان اذن مكونا من وحدات كمية متشابهة في الكيف ، بل بالعكس ، هو مكون من وحدات منفصلة ، ولكنها ليست بل كمية ، وهاتان الحقيقتان معا هما ما نعبر عنه بقولنا : أن الوجود ذو تاريخية كيفية " (16) 
بقي ان نشير في اطار هذه المسألة الي أن  هيدجر لم يغير من مفاهيمه الاساسية حول الزمان أنة يصدر الجزء الثاني من كتابه " الكينونة والزمان " كما وعد بذلك ماعدا اضافته لبعد الاستلماس* PORRECTION " الي الابعاد الزمانية الثلاثة السابقة : الماضي ، الحاضر ، المستقبل فتصير اربعة الماضي ، الحاضر ، المستقبل ، الاستلماس بينهما ، هذا الاستلماس يتمثل في دوره في فتح الابعاد الثلاثة بعضها علي بعض ، وعلي اية حال يتبين لنا من تحليلاتنا السابقة ان فكرة الوجود عند هيدغر قد اقترنت تماما بفكرة وجود الكائن أو الانسان ، وكان تحليله للانسان في حالة زيفه ، وهو غارق في صيغ الاخرين، وفي حال أصالته او مشروعيته كما يقول فاننا ه يعتمد علي المنهج الفينومينولوجي القائم علي وصف الظواهر القائمة كما هي معطاة لذات الي ان يستخلص الفيلسوف دلالتها المختلفة  .وقد كان هدف هيدجر منذ السطور الاولي لكتاب "الكينونة والزمان " او " الوجود المطلق " وتحليلها ,وذلك من خلال دراسة الموجود الانساني ، علي ان تؤدي به هذه الدراسة فيما بعد الي بلوغ الكينونة ،ولتجسيد هذا الطموح نجده ينطلق في البداية من الانسان لكي ينتهي الي الكينونة وهذا قلب الاساس كما كانت تقوم به الفلسفات الأخري ابتداء من سقراط وارسطو حيث كانت تفهم الوجود الانساني في اطار نظرة اشمل تتعلق بالوجود ككل علي اعتبار ان الجزء أي " الوجود الانساني " ينبغي ان يرد الي الكل أي" الوجود المطلق" . لقد حاول  هيدغر جعل الظاهرة الانسانية تنفتح علي دلالة وجودية شاملة ، فهو ينفي إمكانية الفصل بين الوجوديين ، اذما قيمة الكينونة ان لم تكن هي كينونة الانسان وهو يعاني اعمق تجربة لمواجهة نوازعة الاطلاقية ، في الوقت ذاته استطاعت فلسفته ان تحول الدراسة النظرية الي تعمق وتمعن في وجود حي محسوس ، وعليه صار لاكثر المفاهيم تجريدا وشمولية حرارة وواقعية ، ولم تعد فكرة الوجود او الكينونة خاضعة لحسابات المنطق ، بل دخلت تجربة المعاناة لتفاصيل الوجود الانساني وتناقضاته وصيغة المختلفة الي حيز البحث التاملي ، كما اصبح البرهان الوصفي الذي اعتمد علي تحليل الظواهر الموجودة بديلا للبرهان العقلي .وعلي هذا فان الفلسفة عند هيدغر ذات طموح واضح ومحدد ، فهي لا تدعي انها تقدم حقائق نهائية، او انها قادرة علي اثبات يقين او دحض اخر ، انها فلسفة وصفية –مهمتها الاولي تصوير الواقع الانساني وكشف خباياه دلالاته ، هذه الدلالات ليست حقائق كما يعتقد ، ولكن هي كشوف شخصية متروكة لتجربة كل موجود انساني علي حده، فهيدغر لا يقدم تعاريف ولا يملك احكاما وكل ما يفعله هو ان يلقي بيد كل موجود انساني مفتاح تجربته الخاصة وعليه ان يتصرف فيما بعد وفق ما يعتقد انه عامل اثراء وتعميق لتلك التجربة.

سارتر بين الوجوديين