الجمعة، 23 ديسمبر 2016

مهمة الهيرمينوطيقا انحدار من شلايرماخر وديلتاى

بول ريكور ـ ترجمة :  محمد برادة ـ  حسان بورقية

تهدف هذه المقالة إلى وصف حالة مشكل الهيرمينوطيقا ، كما أستقبله وكما أنظر إليه ، قبل أن أدلى بمساهمتي فى الجدال في المقالة التي تليها 0 من هذه المناقشة الأولية، سأحصر نفسي فى إبراز ليس عناصر اعتقاد راسخ فحسب ، بل حدود مشكل لم يحل كذلك.  أريد فى الواقع أن أقود التفكير الهيرمينوطيقى إلى النقطة التى تستدعى فيها ، بناء على إحراج داخلي ، إعادة توجيه أساسية ، إذا كان يسعى بجدية إلى الدخول في مناقشة مع علوم النص ، من السيميائيات إلى التفسير.
  سأتبنى هنا تعريف العمل التالى للهيرمينوطيقا: إن الهيرمينوطيقا هى نظرية عمليات الفهم فى علاقتها مع تفسير النصوص ، هكذا ستكون الفكرة الموجهة هى فكرة إنجاز الخطاب كنص 0 وستكون المقالة الثانية إذن مخصصة لبناء طبقات النص 0 من هنا ستكون الطريق معدة المحاولة حل إخراج الهيرمينوطيقا المركزي ، المقدم فى نهاية هذه المقالة الأولى ، أي البديل المدمر فى نظري ، لما بين الشرح و الفهم 0بذلك سيبين السعي إلى تكاملية بين هذين الموقفين ،اللذين تنزع الهيرمينوطيقا الرومانسية الأصل بينهما ،عن إعادة التوجيه إلى يقتضيها مفهوم النص من الهيرمينوطيقا على المستوى الابستمولوجى.
I  - من الهيرمينوطيقا الإقليمية إلى الهيرمينوطيقا العامة
  إن بيان الهيرمينوطيقا الختامي الذى أقترحه هنا ،يتجمع باتجاه تكون إحراج ما ، الإحراج الذي استنهض بحثي الخاص ،لذا فالتقديم الذى سيعقب ليس محايدا ، بالمعنى الذى سيكون فيه مجردا من أي افتراض قبلى . خاصة وأن الهيرمينوطيقا نفسها تدفع إلى الاحتراس من هذا الوهم أو هذا الزعم. 
يبدو لى التاريخ الراهن للهيرمينوطيقا محكوما بانشغالين اثنين يميل الأول إلى توسيع هدف التأويل تدريجيا ، على النحو الذى تكون فيه سائر الهيرمينوطيقات الإقليمية مضمومة فى تأويل عام غير أن حركة اللآإقليمية هاته لا يمكن أن تبلغ مداها دون أن تكون ،فى نفس الوقت ، انشغالات الهيرمينوطيقا الابستمولوجية الصرفة، أغنى مجهودها للتشكل فى المعرفة ذات الصيت العلمى تابعه لانشغالات أنطولوجية، يكف الفهم تبعا لها عن الظهور كنمط من المعرفة ليصبح طريقة كينونة وأن يرتبط بالكائنات وبالكينونة؛ هكذا تواكب حركة اللاأقليمية بحركة ترسيخ لا تصبح معها الهيرمينوطيقا عامة فحسب بل أصلية
1. "مكان" الهيرمينوطيقا الأول
لنتعقب هذه الحركة وتلك بالتتابع   أول "موضع" تشرع الهيرمينوطيقا فى اختراقه ، هو الكلام بالتأكيد و الكلام المكتوب بالأخص 0 ومن المهم إذن أن نحدد لماذا للهيرمينوطيقا علاقة مفضلة مع أسئلة ، يكفى، فى نظري ،ألا نطلق من خاصية ملفتة للانتباه فى اللغات الطبيعية ، التي تتطلب تأويلا على المستوى الأولى و العادى للحوار 0 هذه الخاصية، هي تعدد المعاني ، أي سمة كلماتنا فى امتلاك أكثر من دلالة عندما نفحصها من خارج استعمالها فى سياق محدد 0 لن أهتم هنا بأسباب التناسق التي تبرر اللجوء إلى شفرة معجمية تمثل خاصية فريدة أيضا 0 ما يهم فى هذه المناقشة الحالية هو أن تعدد معاني الكلمات يستدعى بالمقابل دور السياقات الانتقائي إزاء تحديد القيمة الراهنة التى تحوزها الكلمات فى إرسالية محددة، موجهة من طرف متكلم بعينه، إلى مستمع يوجد فى حالة خاصة ، إن الحساسية إزاء السياق هى المكمل  الضروري و الرأى المعاكس المحتم لتعدد المعاني . غير أن قيادة السياقات تستخدم بدورها حركة تمييز تعمل فى تبادل إرساليات ملموس بين المتخاطبين وحيث يكون النموذج هو لعبة السؤال  الجواب ، حركة التمييز هذه هى التأويل بحصر المعنى ؛ فهى تقضى التعرف على الإرسالية الأحادية المعنى نسبيا ، التي ركبها المتكلم على الأساس المتعدد المعانى للمعجم المشترك 0 إن إنتاج خطاب ذي معنى نسبيا بكلمات متعددة المعاني ، و التعرف على نية أحادية المعنى استقبال الإرساليات ، هو عمل التأويل الأول و الأكثرها بساطة 0 وفى هذه الدائرة الشاسعة جداً للإرساليات المتبادلة تقتطع الكتابة لنفسها مساحة محدودة ، يسميها فلهالم ديلتاى، الذى سأعود إلى الحديث عنه مطولا تعابير الحياة الثابتة بالكتابة(1) ، هذه التعابير هى التى تقتضي عمل تأويل خاص لأسباب سنحددها بعدئذ وترتبط بالضبط بإنجاز الخطاب كنص. لنقل مؤقتاً، أنه بالكتابة لم تعد شروط التأويل المباشر بناء على لعبة السؤال و الجواب، أي الحوار، موفى بها أبدا، آتذاك تم اكتشاف تقنيات خاصة لرفع سلسلة العلامات المكتوبة إلى مستوى الخطاب وإدراك الإرسالية من خلال التقنيات المنضدة الخاصة بإنجاز الخطاب كنص. 
2-  فريدريك شلايرماخر:-
تبدأ الحركة الحقيقية للآإقليمية مع المجهود المبذول لإبراز مشكل عام يتعلق بحركة التأويل كلما انخرط فى نصوص مختلفة 0تمييز هذه الاشكالية المركزية و المحورية هو عمل فريدريك شلايرماخر0 كان قبله ، من ناحية فقه لغة النصوص الكلاسيكية،خصوصا نصوص العصور الإغريقية- اللاتينية القديمة ، ومن ناحية أخرى تفسير النصين المقدسين، العهد القديم و الجديد0
وفى كل واحد من هذين المجالين يختلف عمل التأويل بحسب تنوع النصوص0 لهذا تقتضي هيرمينوطيقا عامة ما التنزه عن التطبيقات الخاصة و التمييز بين العمليات المشتركة بين شعبتي التأويل الكبيرتين0 ولبلوغ ذلك لا ينبغي التنزه فقط عن خصوصية النصوص ، بل عن خصوصية القواعد و الوصفات التى يتبدد بينها فن الفهم كذلك 0 لقد ولد التأويل عن هذا المجهود المبذول فى سبيل رفع تفسير النصوص المقدسة وفقه اللغة إلى مصاف التقنية ، أي تكنولوجيا " لا تقصر على مجرد تجميع عمليات لارابط بينها .
بيد أن امتثالية القواعد الخاصة بتفسير النصوص المقدسة وفقه اللغة لإشكالية  الفهم العامة ، كانت تمثل قلبا مماثلا تماماً للقلب الذي أجرته الفلسفة الكانطية فى موضع آخر ، اتجاه علوم الطبيعة بالأساس . من هذا المنظور ، يمكن لنا أن نقول بأن الكانطية تشكل الأفق الفلسفي الأقرب للتأويل ، ونعرف أن روح كتاب "النقد" العامة ، تكمن فى قلب العلاقة بين نظرية المعرفة ونظرية الكينونة ؛ يجب قياس قدرة الفهم قبل مواجهة طبيعة الكينونة ونعرف أنه فى مناخ كانطي أمكنت صياغة مشروع إلحاق قوعد التأويل ، لابتنوع النصوص والأشياء الواردة فى هذه النصوص ، بل بالعملية المركزية التى توحد المختلف من التأويل ، لو لم يكن شلايرماخر نفسه واعيا بإجراء فى النظام التفسيرى والفقه لغوى نوع القلب الكوبرنيقي الذي أجراه كانط في نظام فلسفة الطبيعة ، فإن ديلتاي كان سيكون كذلك بالتأكيد ، في مناخ الكانطية الجديدة لنهاية القرن التاسع عشر . لكن  كان يلزم قبل ذلك العبور من مد لم تكن لشلايرماخر فكرة عنه ، أعنى تضمين علوم التفسير وفقه اللغة فى العلوم التاريخية . داخل هذا التضمين وحده ، يظهر التأويل كجواب شامل لسد ثغرة الكانطية ، المنتبه إليها لأول مرة من طرف يوحنا غوتفريد هيردر ومعترف بها ، فضلا عن ذلك . من طرف إرنست كاسيرر : أي أنه فى فلسفة نقدية . لايوجد شئ بين الفيزياء والأخلاق .
لكن الأمر لم يكن يتعلق فقط بردم ثغرة كانطية ؛ إنما كان يتعلق بتثوير تصوره للذات فى العمق.  ولأنها حصرت نفسها فى البحث عن الشروط الكونية للموضوعية فى الفيزياء والأخلاق ، فإنه لم يكن بمقدور الكانطية أن تولد سوى عقل لاشخصى ، حامل لشروط إمكانية أحكام كونية 0 لم يكن بوسع الهيرمينوطيقا أن تضيف شيئا للكانطية لو لم تجن من الفلسفة الرومانسية يقينها التام الأصلى ، من ذلك أن العقل هو اللاشعور العملى الخلاق فى ذاتيات نابغة 0فى الآن نفسه ،كان البرنامج التأويلى لشلايربماخر يحمل فى طياته البصمة المزدوجة الرومانسية والنقدية :الرومانسية بدعوته إلى علامة حية مع سيرورة الإبداع ،و النقد بإرادته فى بناء قواعد فهم صالحة كونيا 0ربما كان كل تأويل مطبوعا بهذا النسب الرومانسى والنقدى،النقدى والرومانسى المزدوج ، النقدى هو خطة مقاومة سوء الفهم باسم القول المأثور الشهير : "يوجد التأويل حيثما يكون سوء الفهم"(2) والرومانسى هو "فهم كاتب كما فهم نفسه وربما أحسن"(3)
ندرك فى الآن نفسه ، أنه إحراج  ،بقدر ما هو نظرة إجمالية ، أن شلايرماخر قد بلغ خلقه، فى ملاحظات التأويل ، أنه لن يوفق أبدا فى تحويله إلى مؤلف كامل 0 وكانت القضية التى تصارع معها شلايرماخير هى العلاقة بين شكلين من أشكال التأويل :"التأويل النحوى" و "التأويل التقني" وهذا تمييز دائم فى عمله ، والذى لم تكف دلالته عن التنقل على مجرى السنين 0 قبل دار نشر كيمرليه Kimerles  (4)، لم نكن نعرف ملاحظات 1804 و السنوات التي تلتها؛ لذا قيدنا شلايرماخر بتأويل نفسى كان ، فى البداية ، على قدم المساواة مع التأويل النحوى0 يتسند التأويل النحوى على خصائص الخطاب فى ثقافة ما ويتوجه التاويل النفسى الذى ما يزال يسميه تأويلا تقنيا ؛ إلى فرادتها ، بل وإلى عبقرية إرسالية الكاتب 0 لكن إذا كان للتأويلين حق متساو فلا يمكن تطبيقها فى نفس الوقت 0 ويدقق شلايرماخر : بأن فحص لغة مشتركة يعنى نسيان الكاتب ، وفهم مؤلف فريد ، يعنى نسيان لغته التى تم عبورها فقط 0 فأما أن نلحظ المشترك ، أو نلحظ الخاص 0 سمى التأويل الأول موضوعيا0 ما دام يهتم بخصائص الكاتب اللسانية المتميزة0 وكذلك تأويلا سلبيا ما دام يعين حدود الفهم فقط؛ لاتبالى قيمته النقدية سوى بالأخطاء المتعلقة بمعنى الكلمات 0 وسمى التأويل الثانى تقنيا، نسبة دون شك إلى مشروع أو تكنولوجيا ما 0 وفى هذا التأويل الثانى يتكامل مع مشروع هيرمينوطيقا ما 0 يتعلق الأمر ببلوغ ذاتية ذلك الذى يتكلم، ما دامت اللغة قد نسيت هنا يصبح الكلام العنصر الخادم للذاتية0 ويسمى هذا التأويل إيجابيا،لأنه يبلغ فعل الفكر الذي ينتج الخطاب0 لا أحد منهما يريد إقصاء الآخر فحسب، بل كل منهما يطالب بمواهب  متميزة كما يوحى بذلك الإفراطان المحترمان لهذا وذاك، إفراط الأول يعطى التكلف ، وإفراط الثانى الغموض0 فقط فى نصوص شلايرماخر الأخيرة استطاع التأويل الثانى الانتصار على الأول 0وأكد الطابع التنجيمى للتأويل فيه على الطابع النفسى0 لكن ، حتى ذلك الوقت ،لم ينحصر التأويل النفسى –   وهذا المصطلح يعوض مصطلح التأويل التقني – أبدا فى حميمية الكاتب ؛ بل قحم مبررات نقدية فى نشاط المقارنة؛ لا يمكن أن يقبض على أية ذاتية إلا بالمقارنة و النقيض0 بذلك تحمل الهيرمينوطيقا الثانية بدورها عناصر تقنية وخطابية 0 كما لا ندرك بشكل مباشر أبدا ، ذاتيةما،  بل فقط اختلافهما مع أخرى ومع ذاتها 0 هكذا تكون صعوبة الفصل بين الهيرمينوطيقا معقدة بسبب مطابقة زوج التعارض الأول النحوي و التقني مع زوج التعارض الثاني ، التنجيم و المقارنة 0 الخطابات الأكاديمية(5) تشهد على العائق الأقصى لمؤسس الهيرمينوطيقا الحديثة0 واقترح نفسي بالتالي (انظر المقالة الثانية) لإبراز أن العوائق لا يمكن تجاوزها إلا بتوضيحها لعلاقة المؤلف بذاتية الكاتب ؛ وفى التأويل بنقل نبرة البحث للذاتيات المختبئة، إلى معنى ومرجعية الآثر الأدبى نفسه0 ولكن قبل ذلك يجب دفع إحراج الهيرمينوطيقا المركزى إلى الأبعد 0 مع ملاحظة التوسيع الحاسم الذى ألحقه به ديلتاى وهو يعلق الاشكالية الفقه لغوية و التفسيرية على الاشكالية التايخية 0 وهذا التوسيع، بمعنى الكونية الأكبر هو ما يهيئ نقل الابستمولوجى باتجاه الأنطولوجى بمعنى الترسيخ الأكبر
3-فلهالم ديلتاى:
  يحتل دلتاى موقعا فى منعطف الهيرمينوطيقا الحرج هذا ، حيث باتت ضخامة المشكل بينة، غير أنها كانت ما تزال تطرح فى عبارات المناظرة الابستمولوجية  ، التى ميزت كل مرحلة الكانطية الجديدة. 
كانت الحاجة إلى إدخال مشكل إقليمية تأويل النصوص فى حقل المعرفة التاريخية الأكثر رحابة، تفرض نفسها على فكر منشغل بتوضيح النجاح الكبير للثقافة الألمانية فى القرن التاسع عشر ، يعنى اختراع التاريخ كعلم غير مسبوق 0 بين شلايرماخر وديلتاى0 يوجد كبار مؤرخى القرن التاسع عشر : ليوبولد رانك ، ي0 غ 0 دورويسن وغيرهما 0 وكان النص المرشح للتأويل آنئذ هو الواقع نفسه وتسلسه  Zusammenhang    قبل سؤال : كيف نفهم نصاً ما انتمى إلى الماضى ، يطرح سؤال أولى: كيف تتصور تسلسلا تاريخيا ؟ قبل انسجام نص ما يأتى انسجام التاريخ0 المنظور إليه كوثيقة الانسان الكبيرة0 كأهم تعبير للحياة0كان ديلتاى قبل كل شئ مترجم هذا الميثاق الهيرمينوطيقا و التاريخ 0 وما نسميه اليوم تاريخانية0 بمعنى محقر 0 إنما يعبر عن حالة ثقافية 0 أي عن نقل اهتمام البشرية الأدبية و الفنية إلى التسلسل التاريخي الذى حملها.  فحطه التاريخانية لا تنتج فقط عن العوائق التى بعثتها هى ذاتها بل عن تحول ثقافى آخر ، حدث فجأة من وقت قريب تحول يحثنا على تفضيل النسق على حساب التغيير ، السانكرونية على حساب الدياكرونية 0 وسنرى بعدئذ كيف تعبر ميولات النقد الأدبى المعاصر البنيوية ، فى الآن ذاته ، عن فشل التاريخانية وعن قلب إشكاليتها فى العمق0
لكن فى الوقت الذى كان ديلتاى يتحمل أيام التفكير الفلسفى مشكلة وضوح التاريخى ، الكبيرة 0 بوصفه كذلك، كان ميالا ، بدافع ثقافى ثان كبير ، إلى عن مفتاح الحل، ليس من ناحية الانطولوجيا ، بل فى إصلاح الابستمولوجيا نفسها ، الحالة الثقافية الرئيسية الثانية التى تمت إثارتها هنا ، قد مثلت بصعود الوضعية كفلسفة ، إذا فهمنا من هذا وبعبارات أعم ،  اقتضاء العقل باعتبار نوع الشرح الأمبريقى الجارى فى مجال العلوم الطبيعية هو نموذج الوضوح كله 0 إن زمن ديلتاى هو فترة الرفض التام للهيجلية 0 وفترة احراج المعرفة التجربيية منذ ذلك الحين كانت الطريقة الوحيدة لانصاف المعرفة التاريخية تبدو انها كامنة فى أعطائها بعدأ علميا قابلا للمقارنة مع البعد الذى حققته علوم الطبيعة ؛ للرد إذن على الوضعية شرع ديلتاى فى تخصيص علوم العقل بمنهجية وبإبستمولوجية محترمين شأن نظريتها فى علوم الطبيعة0
    على خلفية هاتين الحالتين الثقافيتين  الكبيرتين طرح ديلتاى سؤاله الرئيسى : كيف تكون المعرفة التاريخية ممكنة ؟ أو بشكل أعم ، كيف تكون علوم العقل ممكنة؟ يقودنا هذا السؤال إلى عتبة التعارض الكبير ، الذى يعبر كل عمل ديلتاى ، بين شرح الطبيعة وفهم الفكر 0 وهذا تعارض وخيم العواقب بالنسبة للهيرمينوطيقا التى تجد نفسها بذلك مقطوعة عن الشرح الطبيعى ومرفوضة من جانب الحدس النفسي .
   وفى الواقع بحث ديلتاى من ناحية التحليل النفسى عن السمة المميزة للفهم 0 يفترض كل علم العقل ويقصد ديلتاى بهذا كل  أنماط معرفة الإنسان التى تتضمن علاقة تاريخية- قدرة أولية ، قدرة الانتقال إلى حياة الغير ، النفسية.  فى الحقيقة لا يبلغ الانسان فى المعرفة الطبيعية ، سوى الظواهر المتميزة عنه حيث تنقلت منه شيئيتها0 فى النظام البشرى 0 يحصل العكس ، الإنسان يعرف الإنسان ؛ مهما كان الإنسان الآخر عنا غريبا، فهو ليس كذلك بالمعنى الذى يمكن أن يكون فيه الشيء المادي مجهولا.  الاختلاف الاعتباري بين الشيء الطبيعي و العقل يتحكم إذن فى الاختلاف الاعتباري بين الشرح و الفهم . ولا بعد الإنسان جذريا غريبا بالنسبة للإنسان ،لأنه يقدم علامات عن وجوده الخاص.  فهم تلك العلامات يعنى فهم الإنسان هو ذا ما تجهله المدرسة الوضعية تماما: اختلاف المبدأ بين العالم النفسى و العالم المادى 0 قد نعترض على ذلك بقول : أن الفكر ، العالم الفكرى ليس هو الفرد (I;individu)  بالضرورة : ألم يكن هيجل دليلا عن إحدى مناطق الفكر ، الفكر الموضوعي ، فكر المؤسسات و الثقافات التى لا يمكن إطلاقا إرجاعها إلى ظاهرة  نفسية ؟ غير أن ديلتاى ما يزال ينتمى إلى ذلك الجيل الكانطى الجديد حيث يعتبر الفرد قطب كل العلوم الإنسانية ، ينظر إليه بحق فى علاقاته الاجتماعية ، لكنه فريد بشكل رئيسي . لهذا تتطلب علوم العقل ، كعلم أصلى ، علم النفس ، علم الكائن الفاعل فى المجتمع وفى التاريخ . وفى النهاية ، تقوم العلاقات المتبادلة ، الأنظمة الثقافية ، الفلسفة ، الفن والدين على هذا الأس . هنا ، بدقة أكثر ، يكمن ما يمثل حقبة كذلك ، فإن يلتمس الإنسان فهم نفسه كان بمثابة نشاط ، بمثابة إرادة حرة ، بمثابة مبادرة ومشروع . هنا نفهم التصميم الراسخ فى إدارة الظهر لهيجل ، و الاستغناء عن المفهوم الهيجلى لروح شعب ما كذلك متابعة السير على خطى كانط ، لكن فى النقطة التى ، كما سبقت الإشارة إلى ذلك ، توقف كانط عندها . 
   إن مفتاح نقد المعرفة التاريخية ، الذى تغيب بفظاظة بالغة من الكانطية ، يجب أن يبحث عنه من ناحية الظاهرة الأساسية للترابط الداخلى، أو التسلسل، الذى تتميز به حياة الغير، فى انبثاقها، ويتعرف عليها . ولأن الحياة تنتج أشكالا ، وتجلى فى التشخيصات القارة ، فإن معرفة الغير ممكنة . فالإحساس ، التقويم ، وقواعد الإرادة تنزع إلى الاستقرار فى خبرة منظمة ، معروضة على كشف الأخرين تشكل الأنساق المنظمة التى تفرزها الثقافة فى صورة الأدب ، طبقة من الصف الثانى ، منصوبة فوق تلك الظاهرة الأولية لبنية إنتاجات الحياة ، الغائية . ونعرف كيف سيحاول ماكس فيبر بدوره ، حل نفس القضية بمفهومه حول النماذج المثالية . وقد اصطدم ، فى الواقع ، كل منها ، بالمشكل ذاته : كيف نفهم فى نظام الحياة ، الذى هو نظام التجربة المترجرجة ، ما يبدو فى المقابل منتميا إلى انتظام الطبيعة ؟ الجواب ممكن لأن الحياة الفكرية تستقر فى مجموعات منظمة يحتمل فهمها من طرف آخر ما ابتداء من سنة 1900 ، إتكأ ديلتاى على هوسرل ليمنح لمقولة التسلسل تلك ، متانة ما . كان هوسرل فى نفس المرحلة ، يثبت أن الحياة النفسية كانت موصوفة بالقصدية ، أى بميزة قصد معنى يتحمل التعرف عليه . الحياة النفسية ذاتها لا يمكن بلوغها ، لكن يمكن إدراك ما تقصده ، الترابط الموضوعى والمماثل الذى تتجاوز فيه الحياة النفسية ذاتها . كانت فكرية القصدية وميزة الموضوع المقصود المماثلة ، تسمح على هذا النحو لديلتاى ، بتدعيم مفهوم النظام النفسى بالمقولة الهوسرلية حول الدلالة . 
لأى شئ ، آلت القضية الهيرمينوطيقية كما استقبلت من طرف شلايرماخر ، فى هذا السياق الجديد ؟ كان العبور من الفهم ، المحدد كفاية بالقدرة على الانتقال إلى آخر ، إلى التأويل ، بالمعنى الدقيق لفهم تعابير الحياة المثبثة بالكتابة ، يطرح مشكلا مزدوجا . من ناحية ، كانت الهيرمينوطيقا تكمل علم النفس الشامل بإضافة طابق متمم إليه ؛ ومن أخرى كان علم النفس الشامل يلوى الهيرمينوطيقا إلى معنى نفسى . هذا يفسر أن ديلتاى قد آخذ عن شلايرماخر الجانب النفسى من هيرمينوطقاه التى تعرف فيها على مشكله الخاص ، الفهم عبر نقله إلى الآخر . عندما ننظر إلى الهرمينوطيقا لأول وهلة ، يبدو أنها تحمل شيئا ما خاصا ؛ فهى تميل إلى إنتاج تسلسل ومجموعة منظمة ، بالاستناد إلى نوع من العلامات ، تلك التى كانت مثبتة بالكتابة أو بأى أسلوب تخطيط مواز للكتابة . لم يكن ممكنا إذن القبض على الحياة النفسية للغير فى تعابيرها المباشرة فكان لابد من إعادة بنائها ، بتأويل العلامات المعبر عنها وهنا تفرض قواعد مغايرة من طرف الـ  Nachbilden ( إعادة الإنتاج ) بسبب توظيف التعبير فى مواضيع ذات طبيعة خاصة . وكما هو الأمر لدى شلايرماخر فإن فقه اللغة ، أى شرح النصوص ، وهو الذى يصنع المرحلة العلمية للفهم ؛ ويتمثل الدور الرئيسى للهيرمينوطيقا ، بالنسبة لهذا ولذاك ، فى "إقامة صلاحية التأويل الكونية ، كأساس كل يقين فى التاريخ ، نظريا ضد الاقتحام المستمر لعشوائية الرومانسية والذاتية الشكوكية (..)(6) . بهذا تمثل الهيرمينوطيقا قشرة الفهم المعبر عنها بفضل بنيات النص الأساسية . 
لكن الرأى الآخر لنظرية هيرمينوطيقة مبنية على علم النفس هو أن علم النفس يبقى مبررها الأخير.  فاستقلال النص لا يمكن أن يكون سوى ظاهرة مؤقتة وسطحية لهذا بالضبط تبقى قضية الذاتية لدى ديلتاى قضية لا مفر منها ويتعذر حلها فى نفس الوقت . بتعذر حلها بسبب ادعاء الرد على الوضعية بتصور علمى للفهم على نحو أصيل . لذا لم يكف ديلتاى عن إصلاح وتحسين مفهومه حول إعادة الانتاج ، بطريقة تصيره دائما ملائما لاقتضاء الإسقاط . غير أن تبيعية المشكل الهيرمينوطيقى لمشكل المعرفة النفسى الصرف كانت تحكم عليه بالبحث خارج الحقل الخاص بالتأويل عن منبع كل إسقاط . بالنسبة لديلتاى ، يبدأ الإسقاط بكيرا ابتداء من تأويل الذات . ما أمثله فى نظرى أنا لا يمكن بلوغه إلا من خلال إسقاطات حياتى الخاصة ؛ ومعرفة الذات هى قبل كل شئ تأويل لا يقل صعوبة عن تأويل الآخرين ، بل ربما أصعبها ، لأننى لا أفهم نفسى إلا بالعلامات التى أقدمها عن حياتى الخاصة ، والتى يرسلها إلى الأخرون . كل معرفة للذات متعلقة بغيرها عبر علامات وآثار ما . بهذا الاعتراف ، يرد ديلتاى على  Lebens-philosophie ( فلسفة الحياة ) المؤثرة فى المرحلة . ويشاطرها فى اليقين التام بأن الحياة دينامية إبداعية أساساً ، لكن ، ضد فلسفة الحياة ، يحرص على أن الدينامية الابداعية لا تعرف نفسها ولا يمكن أن تؤولها إلا بتحويل العلامات والآثار . هكذا حدث لدى ديلتاى اندماج بين مفهوم الدينامية ومفهوم النظام : إذ تبدو الحياة كدينامية تنتظم بنفسها . وهكذا حاول ديلتاى الأخير تعميم مفهوم الهيرمينوطيقا ، بدفعه على هذا النحو عميقا دائما فى غائبة الحياة . تنظم الدلالات المكتسبة ، القيم الحاضرة والغايات البعيدة دينامية الحياة باستمرار ، تبعا لأبعاد الماضي ، الحاضر والمستقبل الزمنية . الانسان يتعلم من أفعاله التعبير عن حياته ومن التأثيرات التى يمارسها هذا التعبير على الآخرين فقط . فهو لا يتعود معرفة نفسه إلا بتحويل الفهم ، الذى كان دائما تأويلا . وبعود الفرق الوحيد الدال حقيقة ، بين التأويل النفسى والتأويل التفسيري ، إلى أن إسقاطات  الحياة تنزع إلى الاستقرار وإلى الترسب فى معرفة مستديمة تأخذ كل مظاهر العقل الموضوعي الهيجلى . إذا لم يكن بوسعى فهم العوالم المختفية ، فلأن كل مجتمع قد خلق أجهزة فهمه الخاصة بخلق عوالم اجتماعية وثقافية يفهم فيها. بهذا يصبح التاريخ الكونى الحقل الهيرمينوطيقي نفسه . فإن أفهم نفسى يعنى أن أقوم بأكبر تحويل ، تحويل الذاكرة الكبيرة التى أمست دالة بالنسبة لكل الناس . الهيرمينوطيقا هى إدراك الكائن لمعرفة التاريخ الكونى ، هى كونية الكائن . 
إن عمل ديلتاى يوضح ، أكثر من عمل شلايرماخر ، إحراج الهيرمينوطيقا المركزي الذي يخضع فهم النص لقانون فهم الغير الذي يعبر عن نفسه فيه . وإذا بقى المشروع نفسها فى جوهره ، فلأنه يعزو الهدف الأخير للتأويل ، لا إلى ما يقول النص ، بل إلى من يعبر عن نفسه فيه . وهكذا لا يكف موضوع الهيرمينوطيقا عن الانتقال من النص ، من معناه ومرجعيته ، إلى المعيش الذى يعبر عنه ، وقد بين هانس جورج غادامير هذا الصراع الخفى فى عمل ديلتاى (7) إن الصراع فى نهاية المطاف هو بين فلسفة الحياة وفلسفة المعنى ، التى لها نفس مزاعم فلسفة العقل الموضوعى الهيجلية وقد حول ديلتاى هذه الصعوبة إلى مسلمة : الحياة تنطوى بداخلها على قدرة تجاوز نفسها فى الدلالات (8) . أو كما قال غادامير بأن "الحياة تصنع تفسيرها الخاص : لها نظام هيرمينوطيقى (9) . لكن أن تكون هيرمينوطيقا الحياة هذه تاريخاً ، هو ما يظل غير مفهوم. إذ أن العبور من الفهم النفسى إلى الفهم التأريخى يفترض فى الواقع أن تسلسل أثار الحياة غير معيش ولا مجرب من أى كان لذا لا يمكن أن نتسلءل عما إذا كان يجب لتفكير إسقاطات الحياة والتعامل معها كمعطيات ، وإرجاع كل المثالية التأملية إلى جذر الحياة نفسها ، بمعنى تفكير الحياة ذاتها فى النهاية كروح (  Geist  ) . وإلا كيف نفهم أن الحياة فى الفن ، فى الدين والفلسفة تعبر عن نفسها بشكل تام ، بإسقاط ذاتها كلية ؟ أليس لأن الروح هنا فى مسكنها ؟ أليس ذلك كذلك اعترافا بأن الهيرمينوطيقا غير ممكنة كفلسفة عاقلة إلا بالاستعارات التي تأخذها من المفهوم الهيجلى ؟ من الممكن إذا أن نقول عن الحياة ما قاله هيجل عن الروح : الحياة هنا تمسك بالحياة . 
يبقى مع ذلك أن ديلتاى قد لمح جيدا عقدة القضية المركزية : أى الحياة لا تمسك بالحياة إلا بوساطة وحدات المعنى التى تسمو عن المد التاريخى . لقد لمح ديلتاى هنا نمطا من تجاوز التناهي دون تحليق ، دون معرفة مطلقة ، الذى هو التأويل بالضبط ، من هنا كذلك عين الاتجاه الذى يمكن فيه للتاريخانية أن تهزم نفسها ، دون الاستناد إلى أية مصادفة منتصرة بمعرفة مطلقة معينة : لكن لا ستمرار هذا الاكتشاف ، يجب التوقف عن ربط مصير الهيرمينوطيقا بالمقولة النفسية الصرفة ، مقولة التحول إلى حياة نفسية غربية ونشر النص ، لا باتجاه مؤلفه ، بل باتجاه معناه الماثل وباتجاه نوع العالم الذى يفتحه ويكتشفه . 
II   من الابستمولوجيا إلى الأنطولوجيا
     فيما وراء ديلتاى، لم تكن الخطوة الحاسمة فى تحسين إبستمولوجية علوم العقل بل فى طرح افتراضها الاساسى للتساؤل أى أن هذه العلوم بإمكانها أن تتبارى مع علوم الطبيعة بأسلحة منهجيتها الخاصة. هذا الافتراض القبلى ، المهيمن فى عمل ديلتاى، يقتضى أن تكون الهيرمينوطيقا صنفا من نظرية المعرفة وأن يحصر الجدل بين الشرح والفهم فى حدود منهج الجدال( Methodenstreit) لدى الكانطيين الجدد. إنه افتراض هيرمينوطيقا قبلى فهم كأبستمولوجية أعيد طرحها من طرف مارتن هيدجر، وهانس جورج غادامير من بعده. لا يمكن إذن لمساهمتها أن توضح بلا قيد ولا شرط فى تمديد مشروع ديلتاى عليها بالأحرى أن تبدو كمحاولة حفر تحت المشروع الابستمولوجى نفسه، بهدف توضيح الظروف الانطولوجية بالضبط. لو أننا تمكنا من وضع الخط الأول من الهيرمينوطيقات الاقليمية إلى الهيرمينوطبقا العامة، تحت علاقة الثورة الكوبرنيكية ، لوجب وضع الخط الثانى الذى نشرع فيه الأن تحت علامة قلب كوبرنيكى ثان ، يعيد وضع أسئلة المناهج تحت مراقبة أنطولوجيا أولية. لا يجب إذن أن ننتظر لا من هيدجرولا من غادامير تحسيناً معينا للإشكالية المنهجية التى أثارها تفسير النصوص المقدسة أو المدنسة، فقه اللغة، علم النفس ، نظرية التاريخ أو نظرية الثقافة. بالمقابل، يبرز سؤال جديد، عوض أن نسأل : كيف تعلم؟ نسأل: ما هو نمط كينونة هذا الكائن الذى لا يوجد إلا بالفهم؟  
1 - مارتن هيدجر
إن مسألة التبين أو التبيين ، أو التأويل تتطابق قليلا مع مسألة تفسير النصوص المرتبطة ، منذ مقدمة "الوجود والزمان" ، مع مسألة الكينونة ، المنسية (10) ؛ ما نتساءل عنه، هو مسألة معنى الكينونة .  غير أننا مقتادون ، فى هذا السؤال ، من طرف ما نبحث عنه: فسؤال المعرفة مقلوب رأساً باستفهام يستبقه وينصب على الطريقة التى يلاقى بها كائن الكينونة ، حتى قبل أن يعارضها كموضوع واجه ذاتاً . رغم أن "الوجود والزمان"  يشدد على الـ  Dasein ، الوجود الانسانى الذى هو نحن ، أكثر مما ستفعل أعمال هيدجرالبعدية. الـ  Dasein يعين المكان الذى انبجس منه سؤال الكينونة مكان الظهور، مركزية الوجود الإنساني هى مركزية الكائن الذى يفهم الكينونة فحسب . ويتعين على نظامه ككائن أن يكون لديه فهم أنطولوجى مسبق للكينونة . منذ ذلك الوقت ، لن يكون إظهار تشكل الوجود الإنساني هذا ، إطلاقا "بناءً بالاشتقاق" ، كما هو الشأن فى منهجية العلوم الإنسانية ، بل "إبراز الأساس عن طريق الإظهار " ( الفقرة 3 ، ص . 24 ) . وهكذا خلق تعارض بين الأساس الأنطولوجى ، بالمعنى الذى ذكرنا على التو ، والأساس الابستمولوجى . سيكون الأمر مجرد سؤال ابستمولوجى لو أن القضية كانت قضية مفاهيم الأساس التى تدير مناطق موضوعات تفصيلية ، منطقية –   طبيعية ، منطقة ـ حياة ، منطقة ـ كلام ، منطقة – تاريخ . بالتأكيد أن العلم ذاته يباشر توضيحا مماثلا لمفاهيمه الأساسية ، خصوصا بمناسبة أزمة الأسس . لكن مهمة البناء الفلسفية شئ آخر : فهى تهدف إلى استخراج المفاهيم الأساسية التى "تحدد الفهم الأولى للمنطقة التى تقدم الأساس لكل الموضوعات التيمية لعلم ما ، التى توجه من ثم كل بحث إيجابى " ( ص .26 ) . سيكون رهان الفلسفة الهيرمينوطيقية إذن هو "توضيح هذا الموجود نسبيا فى تشكل كينونته " ( نفسه ) ؛ لن يضيف هذا التوضيح شيئا لمنهجية علوم العقل ؛ لكنه سيحفر بالأحرى تحت تلك المنهجية، لإجلاء أسسها : "هكذا ، ما يعتبر فلسفيا الأول فى التاريخ (.. ) لن يكون لا نظرية تكون المفاهيم فى المادة التاريخية ، ولا حتى نظرية التاريخ كموضوع للعلم التاريخى ، بل تأويل الموجود التاريخى بالضبط نسبيا إلى تاريخانيته " (نفسه ) . ليست الهيرمينوطيقا تفكيرا فى علوم العقل ، إنما إبراز للأرضية الأنطولوجية التى يمكن لهذه العلوم أن تقوم عليها من هنا كانت الجملة المفتاح بالنسبة لنا : "فى الهيرمينوطيقا التى فهمت على هذا النحو يتجذر ما يجب تسميته " هيرمينوطيقا " بمعنى ما مشتق : منهجية علوم العقل التاريخية ( ص . 56 ) . 
هذا القلب الأول المكتشف من طرف "الوجود والزمان" يستدعى قلبا آخر . كانت مسألة الفهم ، عند ديلتاى ، مرتبطة بقضية الغير ؛ وإمكانية الوصول إلى الانتقال إلى نفسية غريبة ، تهيمن على كل علوم العقل ، من علم النفس إلى التاريخ . لكن ، من الملفت للانتباه ، فى "الوجود والزمان" ، أن مسألة الفهم منفصلة تماماً عن قضية التواصل مع الغير . صحيح أن هناك فصلا يسمى  Mitseint – كينونة – مع ؛ لكن ليس فيه نعثر على مسألة الفهم كما لو أننا نتوقع سطرا ديلتياً . إن أسس المشكل الأنطولوجى يجب البحث عنها ناحية علاقة الكينونة بالعلم لا فى جهة العلاقة مع الغير ؛ ففى العلاقة مع حالتى ، فى الفهم الأساسى لوضعيتى فى الكينونة ، يكمن الفهم مبدئيا ، لكن ليس أمراً عديم الأهمية أن نذكر بالأسباب التى دفعت ديلتاى إلى العمل على هذا النحو ؛ لقد كان يطرح إشكالية علوم العقل انطلاقا من برهان كانطى : إن معرفة الأشياء ، يقول تفضى إلى مجهول ما ، هو الشئ نفسه ؛ بالمقابل لا وجود ، فى الحالة النفسية ، إلى شئ فى ذاته : ما يكونه الآخر ، هو نحن أنفسنا . للمعرفة النفسية إذن ميزة لا تنكر على معرفة الطبيعة . لم تعد لهيدجر، الذى قرأ نيتشه ، هذه البراءة أبدا ؛ فهو يعرف أن الآخر ، مثلى تماما ، مجهول بالنسبة لى أكثر مما يمكن لأية ظاهرة طبيعية أن تكون فالكتمان فيه أكثر إطباقا من أى مكان آخر بلا شك . إذا كان ثمة منطقة فى الكينونة تسيطر فيها اللاصحة ، فهى علاقة كل واحد مع غير ممكن ، لهذا السبب كان فصل كينونة – مع جدلا مع ضمير الغائب ، كإقامة ومكان مفضل للكتمان . ليس من المدهش ألا تبدأ الأنطولوجيا مع التفكير  فى  كينونة ـ  مع ، بل مع التفكير فى كينونة   ـ فى ليست الكينونة مع آخر هى ما يضاعف ذاتيتى ، بل الكينونة –  فى العالم . إن نقل المكان الفلسفي هذا مهم أهمية تحويل مشكل المنهج إلى مشكل الكينونة. وهكذا تأخذ مسألة عالم مكان مسألة غير . وبعولمية الفهم بهذا الشكل ، يفرغة هيدجرمن طابعه النفسى . 
كان هذا النقل مجهولا فى تأويلات هيدجرالمساة وجودية ؛ وقد تم تناول تحليلات الهم ، القلق والكينونة للموت فى سياق معنى تحليل نفسى وجودى دقيق ، مطبق فى حالات نفسية نادرة . ولم يلاحظ بما فيه الكفاية أن هذه التحليلات تنتمى لتأمل حول عولمية العالم ، وأنها تروم جوهريا هدم زعم الذات العارفة بالارتفاع قياساً على الموضوعية . إن ما يجب بالضبط استعادته على زعم الذات هذا ، وهو وضع المقيم هذا العالم ، الذى من خلاله ( الوضع ) توجد حالة ، فهم وتأويل ما . لذا وجب أن تكون نظرية الفهم مسبوقة بالاعتراف بعلاقة التجذر التى تؤكد رسو كل النظام اللسانى ، ومن ثم الكتب والنصوص ، فى شئ ما ليس ، فى المقام الأول ، وهو ظاهرة التلفظ فى الخطاب . يجب أولا أن يجد الإنسان نفسه ( أحسن أو أقبح ) ، أن يجد نفسه هنا وأن يحس بنفسه ( بطريقة معينة ) . حتى قبل أن يتوجه ، إذا استغل كينونة وزمن بعمق أحساس معينة كالخوف والقلق ، فليس من أجل ممارسة الوجودية ، بل من أجل استخراج ، على حساب تلك التجارب الموحية ، رابط مع الواقع أهم من علاقة ذات – موضوع ؛ بالمعرفة ، نضع الموضوعات أمامنا ؛ والاحساس بالموضوع يسبق هذا المقابل بتوجيهنا إلى عالم ما . 
بعد ذلك يأتى الفهم . لكنه ليس فعل كلام ، كتابة أو نص بعد . الفهم ، بدورة ، يجب أن يوصف ، ليس بمصطلحات الخطاب ، بل بمصطلحات الـ " القدرة على الكينونة " . الوظيفة الأولى للفهم هى توجيهنا فى حالة ما . لا يتوجه الفهم إذن إلى القبض على موضوع ما ، إنما إلى إدراك إمكانية الكينونة . علينا ألا نغفل هذه النقطة عندما نستنتج خلاصات هذا التحليل المنهجية : لا يعنى فهم نص ما ، العثور على معنى جامد محتوى فيه بل بسط إمكانية الكينونة التى يعينها النص ؛ بذلك سنكون اوفياء للفهم الهيدجرى الذى هو جوهريا عزم ما أو بطريقة أكثر جدلية وأكثر تناقضا ، عزم ما فيها كينونية – مقذوفة مسبقة . هنا أيضا تبدو النبرة الوجودية خادعة . هناك كلمة صغيرة تفرق بين هيدجر وسارتر ، هى : مسبقا دائما : "ليس لهذا العزم أية علاقة مع صعيد سلوك يمكن للكينونة – هنا أن تكون قد اختلقته وتبعا له نصبت كينونتها : باعتبارها كينونة هنا ، فإنها مسبقا معزومة دائما وستبقى عزما طالما هى كذلك " ( ص 181 ) . ما يهم هناك ، ليس اللحظة الوجودية للمسؤولية أو للاختيار الحر ، بل انتظام الكينونة الذى توجد انطلاقا منه مشكلة الاختيار . فالـ .. إما .. أو إما … ليست أصلا ، إنها مشتقة من نظام العزم المقذوف .
لا تأتى اللحظة الأنطولوجية التى تهم المفسر إذن ، إلا فى الصف الثالث من ثالوث الحالة الفهم – التأويل . لكن قبل تفسير النصوص ، يأتى تفسير الأشياء . والتأويل ، فى الواقع ، هو أولا تبيين ، تطور للفهم ، تطوير "لا يحول الفهم إلى شئ آخر ، لكنه يجعله فهما" (ص  185 ) . كل عودة إلى نظرية المعرفة مسبوقة بهذا الشكل ؛ ما تمت إبانته هو الـ "بصفته " (  le entant que ) المرتبطة بنطق التجربة المبين ؛ غير أن " البيان لا يظهر الـ "بصفته " ، فهو لا يزيد عن أن يمنحها تعبيراً ( ص 186 ) . 
لكن ، إذا لم يقصد تحليلى الوجود الانسانى مشاكل التفسير بصراحة ، فإنه بالمقابل يعطى معنى لما يمكن أن يظهر على أنه فشل على المستوى الابستمولوجى ، بربط هذا الفشل الظاهر بنظام أنطولوجى متعذر التجاوز . هذا الفشل ، هو ما كان دائماً يوضح فى عبارات الحلقة الهيرمينوطيقية . فى علوم العقل – وقد لا حظنا ذلك مرارا – تتداخل الذات والموضوع بالتناوب تساهم الذات نفسها فى معرفة الموضوع ويتضح بالمقابل فى تنظيمه الأكثر ذاتية ، فى نظرة الموضوع للذات ، حتى قبل أن تشرع هذه الأخيرة فى المعرفة ؛ ولا يمكن لحلقة الهيرمينوطيقا ، وقد أبين عنها فى مصطلح الذات والموضوع ، ألا تظهر كحلقة مفرغة . آنئذ بتعين على وظيفة أنطولوجيا أصلية ما ، أن تبرز النظام الذى يوازن على الصعيد المنهجى تحت مظاهر الحلقة ؛ هذا النظام هو الذى يسميه هيدجر بالفهم القبلى؛ لكننا سنخطى كلية حينما نصر على وصف الفهم القبلى بمصطلحات نظرية المعرفة، أى ، مرة أخرى ، بأصناف الذات والموضوع ؛ فعلاقات التعود التى يمكن أن تكون لنا ، مثلا ، ومع عالم الأدوات ، بإمكانها أن تعطينا فكرة أولية عما يمكن أن تعنيه الخبرة المسبقة التى أتوجه بها لا ستعمال جديد للأشياء ؛ تنتمى خاصية السبق هذه إلى طريقة كينونة كل كائن يفهم تاريخيا ؛ إذن يجب أن نفهم هذا الاقتراح بمصطلحات تحليلى الوجود الانسانى : "تبيين شئ ما بصفته كذا وكذا ، يقوم إذن بالأسباب على خبرة وعلى رؤية أوليين وعلى سبق ما " ( ص 187 ) . ساعتها لن يكون دور الافتراضات القبلية فى التفسير النصى سوى حالة استثنائية لهذا القانون العام للتأويل . عندما ينقل الفهم القبلى إلى نظرية المعرفة ويقاس على ادعاء الذاتية ، يقبل بالنعت التحقيرى للحكم المسبق. وعلى العكس من ذلك لا يفهم الحكم المسبق ، بالنسبة للأنطولوجيا الأصلية ، إلا انطلاقا من سبق الفهم . منذئذ لن تكون الحلقة الهيرمينوطيقية الشهيرة سوى ظل نظام السبق هذا، فوق الصعيد المنهجى كل من فهم هذا سيعلم من الآن فصاعداً أن العنصر الحاسم ليس الخروج من الحلقة ، بل ولوجها على الوجه السليم " ( ص 190 ) . 
كما نكون قد لاحظنا ذلك ، لا ينصب ثقل هذا التأمل  الرئيسي على الخطاب ، وأقل منه على الكتاب . إن فلسفة هيدجر- فلسفة "الوجود والزمان"  على الأقل - هى فلسفة كلام أقل بكثير ، بحيث أن مسألة لم تقحم إلآ بعد مسألة الحالة ، الفهم والتأويل . يبقى الكلام ، فى حقبة "الوجود والزمان"  ، تلفظاً ثانيا ، تبيين فى نصوص منطوقة ما Aussage)  (الفقرة 33، ص 191) . لكن تسلسل المنطوق انطلاقا من الفهم والتبيين  يهيئنا لقول أن وظيفته الأولى ليست هى التواصل مع الغير ، ولا حتى حمل مسندات إلى ذوات منطقية، بل الترويج ، التوضيح والإظهار (ص192) . وظيفة الكلام السامية هاته ، لا تعمل إلآ على تذكيرنا بتسلسل هذا الأخير انطلاقا من البنيات الانتولوجية التى تتقدم عليه: " فألآ يصبح الكلام إلا فى هذه اللحظة موضوعا لاختيارنا ، يقول هيدجر فى الفقر 34 ، يجب أن يدل على أن هذه الظاهرة لها جذورها فى التشكيل الوجودي لفتاح الكينونة هنا" (ص.199).وفى مكان آخر يقول : " الخطاب تلفظ ما هو فهم " ( نفسه يجب إذن إعادة وضع الخطاب فى بنيان الكينونة لا هذه فى الخطاب :" إن الخطاب تلفظ دال " لنظام الكينونة فى العالم ، الممكن فهمه" (ص.200).
فى هذه الملاحظة الأخيرة حدد إجماليا ، العبور إلى فلسفة هيدجر الثانية، التى ستتجاهل الكينونة هنا وتنطلق مباشرة إلى قوة الكلام على الاظهار . لكن ، منذ كينونة وزمن ، يبدو القول (Reden) أكبر من التكلم (Sprechen)  فالقول يعين التشكيل الوجودى ، والتكلم مظهرة المدنى الذى يقع فى التجربة . لهذا لم يكن التعريف الأول للقول هو التكلم إنما زوج الإصغاء - الصموت . هنا أيضا يتناول هيدجر بشكل مخالف الطريقة العادية ، بل واللسانية ، التى تضع فى الصف الأول عملية التكلم ( تعبير ، تخاطب ) . هو اصغاء بعبارة أخرى . إن علاقتى الأولى مع الكلام ليست هى أن أنتجه ، بل أن أستقبله : "الإصغاء هو مكون الخطاب (ص 201) . أولية الإصغاء تدل على العلاقة الأساسية بين الكلام والانفتاح وعلى الغير وتعتبر النتائج المنهجية مهمة : بحيث أن اللسانيات ، السيميولوجيا وفلسفة الكلام ترتبط حتما بمستوى المتكلم ولا تبلغ إلى مستوى القول . بهذا المعنى لا ترتب الفلسفة النظرية اللسانيات الذي تضيفه إلى التفسير . وبينما يحيل التكلم على الإنسان المتكلم . يحيل القول على الأشياء التى قليت وقد وصلنا إلى هذا النقطة ، سوف نسأل بدون شك : لماذا لا نتوقف عند هذا الحد ونعلن ببساطة أننا هيدجريون ؟ أين هو الإحراج الذاتى الذائع الصيت المعلن عنه ، ألم نقص الإحراج الديلتاى بنظرية ما فى الفهم ، محكوم عليها بدورها بمعارضة الشرح الطبيعي والتبارى معه فى الذاتية والعلمية؟ ألم نتخط ذلك بتعليق الابستولجيا بالأنطولوجيا ؟ فى نظرى ، لم يحل الاحراج لقد تم فقط نقله الى مكان آخر وبهذا صعب أكثر، لم يعد فى الابستمولوجيا بين نمطين من الفهم ،لكنه صار محصورا بين الانطولوجيا والابستمولوجيا . مع الفلسفة الهيدجرية لا نكف عن ممارسة حركة العودة إلى الأصول ، غير أننا نشعر بالعجز عن القيام بحركة الصعود التي تقودنا ، من الأنطولوجيا الأصلية إلى السؤال الابستمولوجى المحض عن وضع علوم العقل. والحال أن فلسفة تقطع الحوار مع العلوم لن تتوجه أبداً إلا لذاتها . وفضلا عن ذلك لا يتضح زعم اعتبار أسئلة التفسير والنقد التاريخي عموماً ، بمثابة أسئلة مشتقة ، ألآ على خط العودة فقط. وطالما لم نشرع فعليا فى هذا الاشتقاق ، سيبقى التجاوز نفسه  الى أسئلة الأصل ، إشكاليا . ألم نتعلم من أفلاطون أن الجدل الصاعد هو الأسهل وأنه على خط النازل يظهر الفيلسوف الحقيقي ؟ إن السؤال الذى يظل بحاجة ألى حل لدى هيدجر، فى نظري ، هو: كيف نوضح سؤالا نقديا بعامة فى إطار هيرمينوطيقا أصلية؟ ومع ذلك يبقى أن على خط العودة هذا ، يمكن للتصريح  بكون الحقيقة الهيرمنيوطيقية ،فى نظر المفسرين ، مبنية على نظام سبق الفهم على الصعيد الأنطولوجى الأصلي ، أن يختبر نفسة وأن يتضح . غير أن الهيرمينوطيقا الأنطولوجية تبدو عاجزة ، لأسباب بنيوية ، عن بسط إشكالية العودة هاته . لدى هيدجر نفسه ، أهمل السؤال بمجرد ما طرح . ونقرأ ما يلى فى "الوجود والزمان": "إن الحقيقة المميزه  للفهم (000) تحتوى بداخلها إمكانية أصيلة للمعرفة الأكثر أصلية : ولا ندركها بشكل صحيح إلا إذا كانت مهمة التبيين  الأولى ، الدائمة والأخيرة ،  هى عدم الانصياع لما تفرضه أفكار عرضية وتصورات شعبية عرضية معينة عن خبرات ورؤى أولية ومسبقات ، بل تأكيد موضوعته العلمية بتنمية مسبقاته تبعا للأشياء نفسها"(ص190) .
ها هو التميز بين السبق تبعاً للأشياء نفسها والسبق الذى سيكون ناتجاً فقط عن أفكار عرضية (Einfalle) وتصورات شعبية (Volksbenieffe) ، قد طرح فى الأصل . لكن كيف نذهب الى ما هو ابعد ، بما أننا نعلن ، مباشر بعد ان "الافتراضات الأنطولوجية المسبقة لكل معرفة تارخية تتفوق اساساً على فكرة الصرامة الخاصة بالعلوم الدقيقة" (ص. 190 ) وأننا نتجنب سؤال الصرامة الخاصة بالعلوم التاريخية نفسها ؟ أن هم ترسيخ الحلقة أعمق من كل ابسيتمولوجيا يحول دون تكرار السؤال الابستمولوجى بعد الأنطولوجيا.
2 -  هانس جورج غادامير .
يصبح هذا الاحراج القضية المركزية فى فلسفة هانس جورج غادامير الهيرمينوطيقة فى كتاب حقيقة ومنهج (Wahreit und methode)فقد رشح فليسوف هايدلبورغ نفسه بوضوح لإنعاش جدل علوم العقل انطلاقا من الأنطولوجيا الهيدجرية وبصفة أدق من انعطافها فى أعماله الأخيرة حول الشعرية الفلسفية . أن التجربة النووية التى تنظم حولها كل أعماله ، والتى انطلاقا منها تصعد الهيرمنوطيقا مطالبتها بالكينونة ، هى تجربة الفضيحة التى مثلها . على صعيد الوعى الحديث ، نوع المباعدة الاستلابية التى بدت له أنها افتراض العلوم القبلى . فالاستلاب فى الواقع أكثر من إحساس أو من نزوة : إنه الافتراض الأنطولوجى القبلي الذى يدعم توجيه العلوم الإنسانية الموضوعى . إن منهجية هذه العلوم تتطلب فى نظره وبشكل حتمى ، مباعدة ما ، تعبر بدورها عن هدم علاقة الأنتماء  (Zugehorigkeit) الأوليه ، التى بدونها لن توجد علاقة ما بالتاريخي كما هو الأمر عليه . هذا الجدول بين المباعدة الاستلابية وتجربة انتماء  تابعة غادامير فى حقول ثلاثة تتدرج  بينها التجربة الهيرمينوطيقية: حقل جمالى تاريخي وحقل كلامي .  في الحقل الجمالي ، تجربة الكينونة المحجوزة عليها من طرف الموضوع ، تتقدم على تمرين نقد الحكم الذى كان كانط قد نظر إليه تحت عنوان نقد الذوق، وتصيره  ممكنا. فى الحقل التاريخي الوعى بالكينونة المحتملة بتقاليد سابقة على هو ما يجعل كل تمرين منهجية تاريخية  ما على صعيد العلوم الإنسانية والاجتماعية ممكنا. وأخيراً فى حقل الكلام الذي يعبر بشكل معين الحقلين السابقين ، يتقدم الانتماء المزدوج إلى الأشياء التى قيلت من طرف الأصوات الكبرى لمبدعي الخطاب ، ويصير كل معالجة علمية للكلام كأداة رهن الإشارة وكل ادعاء ، بالسيطرة على بنيات نص ثقافتنا اعتماداً على تقنيات موضوعية ممكنين . هكذا تجرى نفس الأطروحة  عبر أقسام حقيقة ومنهج الثلاثة  تشرح فلسفة غادامير إذن تركيب الحركتين اللتين وصفناهما سابقاً من الهريرمنيوطيقات الإقليمية إلى الهرمنيوطيقا العامة . ومن ابستمولوجيا علوم العقل الى الأنطولوجيا وعبارة  تجربه هيرمنيوطيقية تحدد جيدا هذه الخامة التركيبية غير أن غادامير يشير بالمقابل ، خلافا  لهيدجر ، ألى مخطط حركة العودة من الأنطولوجيا باتجاه القضايا الأبستمولجية . وسأتحدث هنا من هذا الزاوية كذلك يواجه عنوان المؤلف مفهوم الحقيقة الهيدجرى بمفهوم المنهج الديلتاى . والسؤال إذن هو معرفة إلى اى مدى يستحق المؤلف أن يسمى: حقيقة ومنهج ، وان لم يجب بالأحرى أن يحمل عنوان حقيقة أو منهج. وأذا كان من الممكن أن يتجنب هيدجر الجدل مع العلوم الإنسانية بحركة تجاوز كلية , فإن غادمير، على العكس لا يمكن لة إلا أن ينهمك فى جدل مرير باستمرار ، خصوصا وأنه يحمل سؤال ديلتاى على محمل الجد 0 والجزء المخصص للوعى التاريخى يعتبر، من هذه الناحية ، دالاً تماماً 0 إن المجرى التاريخي الطويل الذى ألزم به غادامير نفسه يؤكد أن على الفلسفة الهيرمينوطيقية أولاً أن تراجع باختصار مقاومة الفلسفة الرومانسية لعصر الأنوار( Auflklarung) مقاومة ديلتاى للوضعية ، وهيدجر للكانطية الجديدة 0
لاشك فى أن نية غادامير المعلنة هى ألا يقع فى وضع الرومانسية الشاق؛ ويعلن غادامير أن هذه الأخيرة لم تقم إلا بقلب أطروحات عصر الأنوار 0 دون النجاح فى تغيير وجهة الإشكالية نفسها وتغيير حقل الجدال 0 هكذا اجتهدت الفلسفة الرومانسية فى رد الاعتبار للحكم المسبق0 الذى هو مقولة من عصر الأنوار ، وما يزال متعلقا بفلسفة نقدية ما ، أى فلسفة الحكم 0 هكذا قادت الرومانسية صراعها فى حقل محدد من طرف الخصم ، يعنى دور التقليد والسلطة فى التأويل 0 لكن المسألة تكمن فى معرفة ما إذا كانت هيرمينوطيقا غادامير قد تجاوزت بالفعل نقطة انطلاق الهيرمنيوطيقا الرومانسية وما إذا كان تأكيدها على أن الكائن الانسان يجد منتهاه فى كونه يوجد أولاً فى حضن تقاليد ما وينفلت من لعبة الانقلابات التى يرى فيها الرومانسية الفلسفية منغلقة إزاء ادعاءات كل فلسفة نقدية 0         
يعاب على ديلتاى أنه بقى أسير صراع بين منهجيتين وأنه " لم يعرف كيف يتحرر من النظرية التقليدية للمعرفة "(10) وفى الواقع ، لقد ظلت نقطة انطلاقه هى وعى الذات، سيد نفسه 0 مع ديلتاى ، بقيت الذاتية هى المرجع الأخير 0 وسيكون إذن رد اعتبار معين للحكم المسبق ، للسلطة وللتقليد ، موجها ضد هيمنة الذاتية والسريرة ، أى ضد معايير الفلسفة التأميلية 0 وسيساهم هذا الجدال التأملي  المضاد لهذا الدفاع فى مظهر العودة إلى وضع ما قبل النقد0 مهما كان هذا الدفاع مثيراً- حتى لا نقول محرضاً - فإنه يقوم على إعادة فتح البعد التاريخي للحظة التأملية 0 التاريخ يتقدم على ويسبق تأملى ؛ أنا أنتمى إلى التاريخ قبل أن  أنتمى إلى 0 والحال أن ديلتاى لم يستطع فهمه ، لأن ثورته بقيت إبستمولوجية ولأن معياره التأملى تغلب على وعيه التاريخي فى هذه النقطة يعتبر غادامير بحق وريث هيدجر0 ومنه يأخذ اليقين التام بأن ما نسميه حكما مسبقا يوضح نظام سبق التجربة البشرية 0 كما يجب ، فى نفس المحاولة ، أن يبقى التأويل نمطاً مشتقا من الفهم الأصلي 0
مجموعة التأثيرات هاته ، المردودة والمحتملة بالتناوب ، انتهت إلى نظرية وعى تاريخى ما تحدد قيمة تأمل غادامير حول بناء علوم العقل 0 هذا التأمل وضع تحت عنوان Kungsgeschichtliches wusstsein    Be   - حرفيا : وعى - تاريخى - ال- مؤثرات 0 ولم يعد هذا الصنف يتعلق بالمنهجية أو بالبحث التاريخى 0 بل بالوعى التأملى لهذه المنهجية - 0 إنه وعى أن تكون معرضاً للتاريخ ولفعله ، بالطريقة التى لا نستطيع إسقاط هذا الفعل علينا ، لأنه جزء من الظاهرة التاريخية نفسها 0 نقرأ فى كتاب خطوط صغيرة (Kleine schriften): " بهذا أريد أن أقول أولا أنه ليس باستطاعتنا أن نستثنى أنفسنا من الصيرورة التاريخية ، أن نبتعد عنها ، لكى يكون الماضى بالنسبة إلينا موضوعاً00 فنحن دائما قائمون فى التاريخ 000 أقصد أن وعينا محدد بصيرورة تاريخية حقيقية بحيث أن لا حرية له للوقوف فى وجه الماضى 0 وأقصد من ناحية أخرى، أن الأمر يتعلق دائما من جديد بالوعى بالفعل الذى يمارس على هذا النحو علينا ، بحيث أن كل الماضى الذى خبرنا على التو يجبرنا كلية على تحمل واحتمال الحقيقة بشكل معين(11)
وانطلاقا من مفهوم الكفاية التاريخية هذا ، أردت أن أطرح مشكلى الخاص : كيف يمكن إقحام لحاجة نقدية معينة فى وعى الانتماء المحدد بوضوح برفض المباعدة ؟ لا يمكن ذلك ، فى نظرى ، إلا فى النطاق الذى لا يقتصر فيه الوعى على التخلى عن المباعدة فقط بل يكد فى تحملها 0 إن هيرمينوطيقا غادامير تحتوى ، من هذه الزواية ، على سلسلة من الاقتراحات الحاسمة التى ستغدو نقطة انطلاق تفكيرى الخاص (أنظر المقالة التالية )0
فى البداية ، وعلى الرغم من التعارض العظيم بين الانتماء والمباعدة الاستلابية 0 ينطوى الوعى بالتاريخ الكيفى بداخله على عنصر البعد 0 فتاريخ التأثيرات هو بالضبط التاريخ الذى يمارس تحت ظرف البعد التاريخى 0 إنه حد المتباعد ، أو لقول ذات الشئ بطريقة مخالفة ، هو الفعالية فى البعد 0 ثمة إذن تناقض غيرية ، توثر بين المتباعد والجوهرى الخاص بالوعى التاريخى 0 
هناك مؤشر آخر على جدل المساهمة والمباعدة 0 يقدمه مفهوم التحام الآفاق (Horizontverschmelzung) (12)0 وحسب غادامير ، إذا كان شرط  تناهى المعرفة االتاريخية ، فى الواقع ، نقصى كل تحليق ، كل تركيب نهائى على الطريقة الهيجلية ، فإن هذا التناهى هو شئ أخر غير أن أكون منغلقا فى وجهة نظر ما 0 حيثما تكون حالة ما ، يكون أفق قابل للتقلص أو الاتساع ، نحن مدينون لغادامير بهذه الفكرة الخصبة جدا ، القاضية بأن التواصل عن بعد بين وعيين مختلفين من حيث الموقع  يتم بواسطة التحام أفقيهما ، أى باختلاط اتجاه نظريهما إلى البعيد والمفتوح 0 ثانيا يفترض عامل المباعدة بين القريب ، البعيد والمفتوح ، مسبقا 0 هذا المفهوم يعنى أننا لا نعيش لا فى آفاق مغلقة ولا فى أفق فريد.  وفى النطاق نفسه الذى يقصى فيه التحام الآفاق فكرة معرفة عامة وفريدة ينطوى هذا المفهوم على توتر بين الخاص والغريب ، بين القريب والبعيد 0 ثم إن إدق إشارة لصالح تأويل أقل سلبية للمباعدة الأستلابية توجد فى فلسفة الكلام التى ينتهى بها المؤلف 0 فالخاصية الكلامية الكونية للتجربة الانسانية - بهذةالعبارة يمكن ترجمة sprachlikeit  غادامير ، بنوع من الحظ تقريبا - تعنى أن انتمائى لتقليد أولتقاليد ما ،يتم عبر تأويل العلامات ،الآثار والنصوص التىسجلت فيها الموروثات الثقافية وعرضت على حلنا 0بالتأكيد أن كل تأمل غادامير حول الكلام قد استحال ضد اختزال عالم العلامات إلى أدوات يكون بوسعنا إدارتها على هوانا 0 كل القسم الثالث من كتاب حقيقة ومنهج منافحة متحمسة لكوننا حواراً وللتفاهم الأولى الذى يحملنا. لكن التجربة الكلامية لا تمارس وظيفتها الوسيطية إلا لأن محادثى الحوار يمحيان معاً أمام الأشياء التى قيلت ، والتى تقود الحوار بشكل ما 0 والحال هذه ، أين ي

الثلاثاء، 20 ديسمبر 2016

موقف سارتر من الأنثروبولوجيا البنائية

عبد الوهاب جعفر(*)

لقد قامت البنائية على مسلمات أساسية تبدأ بوجود النفس الإنسانية ووحدة هذه النفس واستمرارها أو دوامها ثم وجود اللاشعور الذي تضمن الوظيفة الرمزية والبناءات. وكان من الضروري أن يلزم عن هذه المسلمات الاعتراف بطبيعة إنسانية واحدة، وأيضا الإيمان بمبدأ الحتمية.
ولقد ترتب على هذا كله أن كانت الخطة المنهجية في البحث عند البنائيين تقوم على التقليل من قيمة الأصل Elle dévalorise la genèse والوظيفة ونشاط الموضوع الدارس وكل هذا كان من شأنه أن يدخلنا في صراع مع اتجاهات الفكر الجدلي ومع وجودية سارتر على وجه التحديد، تلك الوجودية التي تقوم على إنكار ما يسمى "بالنفس" و"اللاشعور" و"الطبيعة الإنسانية"لأنها تعتقد أولا وأخيرا في حرية الإنسان وتعتبر أن هذه المسميات قد تتسبب في تعطيل حرية الإنسان لو اقترضنا أنها موجودة. 
وإذا كانت الوجودية عند سارتر تبدأ بالإنسان العائش فعلا وتستعين لفهم حقيقته بالتحليل النفسي وعلم الاجتماع(1)، فإن البنائية عند ليفي ستروس وإن أعطت اهتمامها للإنسان فإنها تبدأ من العالم وتبحث في أعماقه وتكشف التقاء بناءاته حسبما تظهر في صور الوجود المختلفة من جماد ونبات وحيوان(2)، والبنائية تستعين في هذه الدراسة بالجيولوجيا والفلسفة الماركسية، والتحليل النفسي وتسترشد بإنجازات العلوم الطبيعية المختلفة. 
وحيث أننا بصدد البحث عن موقف سارتر من بنائية ليفي ستروس فإن علينا أن نتذكر أولا الأصول المشتركة التي انبثقت عنها مواقف كل منهما، والتي أدت إلى وجود تفاعل بين موقفيهما ثم تقارب بينهما اعترف به ليفي ستروس نفسه في كتاب "تفكير النظرة"(3). 
وإذا وضعنا في الاعتبار أن كلا المفكرين كان قد تتلمذ على مناهج الفلسفة التي سادت في جامعة السربون حتى سنة 1930 وأن كليهما قد صرح بعدم كفاية هذه الفلسفة التي كانت تتحمس للمذهب العقلي بوجه عام، يمكننا إذن أن نعرف سبب اهتمامها بإنجازات المذهب الماركسي وتأثرهما به. 
وقد كانت الماركسية كثيرا ما تسقط من حسابها البعد الوجودي للإنسان لكي تقتصر على وصف الحقيقة البشرية بطريقة علمية مجردة، فلا تلبث أن تستحيل في خاتمة المطاف إلى أنثروبولوجيا لا إنسانية غاب عنها "الإنسان" نفسه بوصفه الدعامة الحقيقية لكل تفسير"(4). وكان لا بد أن تظهر فلسفات الوجود كاحتجاج على روح التجريد والنسق، فهذه الأخيرة لا تريد للإحساس بالوجود المشخص أن يتبخر في نسق غير مشخص Dans un système impersonnel، كما أنها تقترح فلسفة للمواجهة والحدث.(5) لذا فقد أخذت وجودية سارتر على عاتقها أن تفهم الإنسان، وهي ترى "أنه لا سبيل لنا إلى فهم أدنى حركة من حركاته إلا إذا تجاوزنا حاضره المحض من أجل النظر إلى مستقبله"(6). وسارتر لا يريد أن "يفسر" الإنسان، بقدر ما يريد أن "يفهمه"(7). أما ليفي ستروس، وهو الذي يعتبر أبحاثه ضمن إنجازات العلم فقد كان على العكس تماما: "يفسر" الإنسان حتى لو أدى ذلك إلى تحليله Le dissoudre، وينحاز إلى فئة التجريد والنسق، ولا ينظر إلى المستقبل لأن "إحساسه بالزمن هو إحساس جيولوجي"(8). والتاريخ عنده "يأخذ صورة ذاكرة للأحداث الماضية"، فيصبح جزءا من حاضر المفكر وليس من ماضيه، وكل خبرة ماضية للكائن الإنساني تعتبر معاصرة، كما هو الحال في الأسطورة حيث تكتمل أحداثها كأجزاء في كل متزامن Synchronique. (9)
النسق والوجود: 
إن الماركسية والوجودية لا تفكران في الهرب من الزمن أو السيطرة عليه: "أما النسق، إن وجد، فهو ليس سوى أداة عمل للإنسان العائش أو حدث ينبثق عن حياته النفسية"(10). غير أن المتحمسين للنسق - ومنهم ليفي ستروس - يصرون على اعتباره حقيقة لا زمانية ، فالفلسفة لا يمكن أن ترد إلى مجرد موقف وجودي، إذ عليها دائما أن تقيم أنساقاً Systèmes ، صحيح أنه يوجد احتجاج مستمر للموجود ضد النسق، ولكن ما أن يبدأ الموجود في التفلسف إلا ويقوم بعمل أنساق، قد تكون هي أنساق الوجود ذاته، وهذا هو - بلا شك - الأساس الجدلي للفلسفة، فالفلسفة هي حوار بين النسق والوجود أو أن النسق والوجود هما حدود الفلسفة، فهذه الأخيرة لا تعيش إلا على التعارض المتجدد بينهما.(11)
على أي حال، فإن ليفي ستروس يعتبر من المتحمسين لفكرة النسق اللا زماني على عكس الماركسيين والوجوديين، ولذا تحولت أبحاثه إلى دوجماتيقة لا ترد عند كثيرين، وإذا كانت روح النسق تميل إلى إخضاع الحياة إلى قانون وتميل إلى اعتبار الحدث كعنصر في سياق، فإنها قد تغطي على ما هو فريد في تاريخ النفس وما هو محدث Contingent في تاريخ العالم. 
وإذا كان النسق يهدف إلى تنظيم المعرفة، وكانت المعرفة حالة في العالم، فإن في انتصار النسق انتصارا للمباطنة L'immanence.(12) وإذا كانت المباطنة هي من أهم ركائز الاتجاه البنائي، فإن وجودية سارتر كانت على النقيض من ذلك تمامًا. فهي تقلل من أهمية المعرفة الموضوعية، بل إن الأشياء لا وجود لها إلا كنقطة يبتدئ منها نشاط الإنسان، والحرية الفردية هي المبدأ المفسر لكل شيء، كما أن الناس يكافحون في عالم مجرد عن الغائية والمعقولية، وحيث أنه لا توجد فلسفة للتاريخ فإن الكل ينبغي أن يعاد النظر فيه في كل لحظة، فالعالم لا معنى له إلا ما يضفيه عليه كل فرد بواسطة مشروعه الخاص(13). وعلى هذا ينعدم الاعتراف بفكرة المباطنة: "إذ ينبغي الاختيار بين شعور كله تلقائية وشفافية وبين شعور لا يتميز عن الأشياء الجامدة، وبالتالي لا يستحق أن يطلق عليه اسم شعور ، علما بأنه لا وسط بين الطرفين"(14). 
يتضح مما تقدم أن الحقيقة الأولى والمحرك الأول لفلسفة سارتر هو العمل الفردي ، كما يتضح أن الفردية المتشخصة التي أضافها سارتر إلى التصور الماركسي للتاريخ هي نفسها التي تتصدر منهجه في فهم الظواهر الاجتماعية، وهو في هذا يوائم بين الوجودية والماركسية على حساب الفكر الماركسي على ما يبدو.(15) للأسباب الآتية:
1 -إن الوجودية لا تعترف بالدور الرئيسي للمعرفة الموضوعية، ولقد كانت محاولتها الأساسية تنحصر في التضحية بالتنبؤ Prévison لحساب المشروع Projet تماما كما حاولت الماركسية أن تضحي بالمشروع لحساب التنبؤ.(16) 
2 -عندما يبدأ سارتر بالبراكسيا الفردية التي هي جدلية ومجمعة ، فكيف يمكنه أن ينتهي إلى تجميع حقيقي؟ إنه لم يفطن إلى أن التجميع الذي أدت إليه ضمائر فردية دون تدخل طرف يوحدها هو ضرب من التناقض، لذا فقد ظلت المشكلة عند سارتر في الانتقال من الذاتية إلى الموضوعية أو الخروج من الأنا إلى الغير ومحاولة حسم التناقض المترتب على ذلك، خصوصا وأنه لا يؤمن بتوافق النفوس فيما بينها(أو تواصل الذوات)(17). 
وقد أشار ليفي ستروس إلى هذا الموقف الصعب بقوله: "إذا كانت الذاتية المترتبة على التاريخ بالنسبة لي يمكن أن تتسع لموضوعية التاريخ بالنسبة لنا، فإننا لا نصل إلى تحويل الأنا إلى نحن إلا إذا حكمنا على "نحن" بأنها الأنا من القوة الثانية، وهي تضم "نحن" أخرى كثيرة.(18) 
3 -إن الماركسيين يضفون على النشاط الإنساني تناسقا وتماسكا يتعذر وجوده عند سارتر. فالحرية عندهم هي "التحام وتماسك وتشبث adhesion إرادي وشعوري حقا، غير أنه تشبث بحقيقة موضوعية أو مشاركة في ديالكتيك الضرورة.(19)
ومهما كان من تفوق الماركسية على الوجودية في هذه النقطة، فإن هذا التحليل من شأنه أن يبين ضعف معين في الماركسية ذاتها، فهي رغم اهتمامها بتاريخ إنساني، إلا أنه يتعذر عليها أن تضفي عليه معنى وذلك بسبب إغفال فكرة التجاوز. إن التاريخ الماركسي لا ينفتح على أي مخرج يسمح بتحرير الإنسان، ولذا فإنه يخشى من أن يظل الفرد سجينا فيه.
وعلى كل، فإن من المؤكد الآن أن التوافق القائم بين الوجودية والماركسية هو توافق شكلي محض، تشير إليه الاصطلاحات الفلسفية التي استعارها سارتر من قاموس الماركسية وألبسها مفاهيم جديدة مثل البراكسيا أو الفعل La praxia، والتجاوز، والسلب. أما البراكسيا فتصبح النشاط المادي الواقعي الذي يقوم به كائن اجتماعي تاريخي يعمل على تغيير عالمه، ويحاول صبغ الطبيعة بصبغة إنسانية. و"التجاوز" أو "التعالي" يعني التعبير عن "الوجود خارج الذات" في علاقة "الموجود لذاته" بالآخر، طبيعيا كان أم بشريا أما السلب فهو يعين "التغيير" عن طريق "العمل".(20) 
ومما يشير إلى هذا التوافق الشكلي أيضا بين الوجودية والماركسية هو أن: "سارتر يأخذ على الماركسيين قولهم بوجود "ديالكتيك" في الطبيعة. والحق أننا لو سلمنا مع إنجلز بوجود قانون عام كل العموم يحكم كلا من الطبيعة، والتاريخ، والفكر، لترتب على ذلك: أولا القول بوجود ضرب من الغائية الهيجيلية التي يتم عن طريقها التطابق التام بين المعرفة الشاملة من جهة، وبين الوجود العام من جهة أخرى. وسارتر يرفض مثل هذه النزعات التفاؤلية الرخيصة، لأنها تعني أن التاريخ يتحقق خارجا عنا، ودون حاجة إلينا، وبالتالي فإنه لن يكون علينا في هذه الحالة سوى أن نقتصر على تأمله، أو - على أقل تقدير - لن يكون علينا سوى أن نعتمد على مواتاة التاريخ أو محاباة الأشياء لنا، من أجل بلوغ شتى أهدافنا، ولو كان هناك ديالكتيك طبيعي" لترتبت على ذلك نتيجة ثانية هي أن يكون الإنسان مجرد "كائن طبيعي" يخضع لذلك القانون الموضوعي، وبالتالي لما كان الإنسان رب أفعاله، ولما كان في وسعه انتزاع ذاته من مجرى التسلسل الطبيعي للأشياء من أجل خلع المعنى الذي يريده على تلك الأشياء".(21) 
وفي رسالة بعث بها سارتر للكاتب الماركسي جارودي يقول: "… أنا أعني بالماركسية تلك المادية التاريخية التي تفترض وجود "ديالكتيك" باطن في التاريخ، لا المادية الجدلية التي تحلق "في سماء الأوهام الميتافيزيقية فتظن أنها قد اكتشفت وجود "ديالكتيك" في الطبيعة، حقا أنه قد يكون في الطبيعة مثل هذا "الجدل" (أو الديالكتيك) ولكن من المؤكد أنه ليس لدينا أدنى ذرة من اليقين عن هذا الأمر..".(22) 
ومهما كان من شيء، فإن سارتر يعتبر الوجودية بمثابة أيديولوجيا تعيش على هامش الفلسفة الماركسية وتغتذي بإنجازاتها. 
أما فيما يختص بليفي ستروس فمن الصعب أن نحدد تغلغل الفلسفة الماركسية في مفهومه. وذلك لأن ممارسة الجدل عنده حسب ازدواج التقابل (+/-) الذي يؤدي إلى فكرة وسط يبدو هيجليا أكثر منه ماركسيا.(23) كما أن موقف ليفي ستروس من التاريخ يبدو مناقضا تماما لفكر ماركس وسارتر وذلك بسبب تصور مختلف للسهم الدال على الزمن فالموقف البنائي أقل تمركزا حول الذات، والتاريخ طبقا له يقدم لنا عن المجتمعات التي سبقتنا صورا ليست سوى تحولات بنائية للصور التي نعرفها حاليا، هي ليست أحسن منها وليست أقل، أما نحن فإن مركزنا في الحاضر لا يعطينا حق الاستعلاء.(24) وهذا هو معنى "الإحساس الجيولوجي بالزمن" عند ليفي ستروس. 
إن صاحب الإحساس الجيولوجي للزمن، قد استخدم اصطلاحات ماركسية لخدمة أغراض محددة أحيانا، إلا أنه يفضل اصطلاحات علم اللغة البنائي مثل الدال والمدلول، والمتزامن وغير المتزامن وازدواج التقابل (مجاز/ ميتونيميا)(25) وأيضا المباطنة. 
وإذا كان كارل ماركس يعتبر أن "حركة الفكر ليست سوى انعكاس للحركة الواقعية وقد انتقلت إلى مخ الإنسان"(26)، وإذا كان هذا يعني إعطاء الأولوية للحركة الواقعية المادية، فإن ليفي ستروس يعترف فقط بأحادية الحركة أو شمول نفس القوانين على الطبيعة والنفس والمجتمع. يقول: "إن قوانين الفكر البدائي أو المتحضر هي نفس القوانين التي تظهر في الواقع الفيزيقي أو الاجتماعي"(27). ويقرر بأن تقدم الإثنولوجيا المعاصرة هو رهن بالاعتقاد في العمليات الجدلية التي يتولد عنها عالم المشاركة Réciprocité كتركيب لصفتين متناقضتين لا تنفصمان عن النظام الطبيعي … كما أن الدراسة التجريبية للظواهر يمكن أن تؤيد تخمينات الفلاسفة.(28) وفي خاتمة "الإنسان العاري" يصر ليفي ستروس على أن تكون البنائية غائية.(29) فالعملية البنائية تكشف عن ألفة واتصال بين الإنسان والطبيعة،وأيضا عن غائية عميقة منظمة منذ البداية، وهو ما ترفضه وجودية سارتر تماما لأنها لا تثق إلا في إمكانيات العقل والجدل المركب دائما. 

الأنثروبولوجيا والعقل الجدلي:
إن الكتاب الذي يحمل اسم "نقد العقل الجدلي" إنما يذكرنا بالفيلسوف الألماني كنط (30) صاحب كتاب "نقد العقل الخالص"، فلكلاهما يدرس طبيعة العقل البشري وإمكانياته وحدوده.  وسارتر في كتاب "النقد" يدرس المنطق الحي للعمل الإنساني، وهو لهذا يستخدم المنهج الصوري والجدلي. إنه يحاول أن يكتشف البناءات الأولية للبراكسيا، وعلى هذا فإن "نقد العقل الجدلي" لا يمكن إذن أن يكون تركيبا مثاليا لتصورات أو إعادة تركيب التاريخ أو فلسفة للتاريخ. إن هدفه هو إلقاء الضوء على ما يجعل التاريخ معقولا واستنباط المعقولية التاريخية التي تحل محل المعقولية التحليلية والوضعية.(31)
ويتساءل جان بول سارتر في مقدمة كتابه عما إذا كنا نمتلك الأداة التي تقيم أنثربولوجيا بنائية وتاريخية؟ إن هذه الأنثروبولوجيا ينبغي البحث عنها في داخل الفلسفة الماركسية … فالماركسية قد أورثت أيديولوجية الوجود ضرورتين كانت الهيجيلية قد سبقت بهما وهما: الصيرورة والتجميع وهما أيضا صفتان ينبغي توافرهما في كل الحقائق الأنثروبولوجية خصوصا وأنهما قد تضمنتا تعريف "الديالكتيك". (32)
أما الأداة التي تقيم الأنثروبولوجيا فهي العقل الجدلي، ويرى سارتر أننا لسنا بصدد اكتشاف الجدل، فالتفكير الجدلي قد ظهر منذ بداية القرن الماضي، كما أن الخبرة الإثنولوجية أو التاريخية تكفي للكشف عن قطاعات جدلية في نشاط الإنسان، غير أننا نلاحظ أن التفكير الجدلي قد اهتم منذ ماركس بموضوع الجدل أكثر من اهتمامه بالجدل نفسه، ولذا فإن علينا الآن أن نثبت مشروعية العقل الجدلي. ونحن الآن أمام نفس الصعوبة التي واجهها العقل التحليلي في نهاية القرن الثامن عشر عندما اضطر أن يبرر ويثبت مشروعيته.(33)
إذا تساءلنا عن الضرورة وراء إثبات مشروعية العقل الجدلي الآن لوجودنا الإجابة عند سارتر كالآتي:
أولا:  إن ضرورة "نقد العقل الجدلي" لم تكن لتفرض إلا في مرحلة معينة من تطور الماركسية. إن هذه المرحلة تطابق لحظة فقر واختناق وتقادم للفكر الماركسي الذي يضل طريقه في المجرد أي في الحتمية الآلية. إن هذا الداء الذي أصاب الماركسية هو نتيجة للتاريخ وقد نظر إليه في مجموعه.(34)
ثانيا:  في مواجهة الذين يقولون بعدم جدوى الفلسفة يرى سارتر أن الفلسفة لا تموت بسبب الإفراط في إعمال العقل، بل هي تموت على الأحرى بسبب استخدام عقل أصابه ضعف العجز والشيخوخة لأنه لم يعرف التجديد، فهو يظل عقلا تحليليا آليا أعد للسيطرة على الطبيعة والنظر إلى المجتمعات كما ينظر إلى المادة الجامدة. إن هذا العقل ليعجز عن أن يمكننا من أن نسبر أغوار عالم إنساني نهدف إلى توحيده. وعلينا أن نلتمس ذلك لدى عقل آخر لا يمكن إلا أن يكون جدليا في مقابل العقل التحليلي. وعلينا نحن أن نؤسس هذا العقل.(35)
ثالثا:  إن العقل التحليلي هو أداة للبحث المطبق على المادة الجامدة، ولا يجوز استخدامه في البحث عن الحقيقية الإنسانية ، فالحقيقة الإنسانية تعرف بغاياتها وليس بأسباب ، كما أنها تعرف بمشروعها وليس بماضيها. والمنهج المتبع في الدراسة هو منهج جدلي، وحيث أن البحث يتعلق بمجهود مجمع، لذا فإن المنهج ينبغي أن يكون تركيبيا أيضا.(36)  يقول سارتر: "إن الأنثروبولوجيا ستظل ركاما من المعرفة الأمبيريقية والاستنتاجات الوضعية والتفسيرات المجمعة، طالما أننا لم نثبت مشرويعة العقل الجدلي". (37) والعقل الجدلي هو علاقة بين الفكر والموضوع: "فإذا كان هناك وجود للعلاقة بين التجميع التاريخي والحقيقة المجمعة، وإذا كانت هذه العلاقة هي حركة مزدوجة للمعرفة وللوجود، فإنه يحق لنا أن نسمى هذه العلاقة المتحركة "عقل".(38) 
ويرى جان لاكروا Lacroix أن العقل الجدلي عند سارتر ليس شيئا آخر سوى حركة التاريخ وهو يواصل سيره ويعي ذاته في نفس الوقت.(39) كما يرى أن العقل الجدلي المركب عليه أن يكون على اتصال دائم بدعامته وأساسه وهو العمل باعتباره معقولية مركبة.(40) 
من كل ما تقدم عن العقل الجدلي يمكننا أن نستنتج موقف سارتر من الأنثروبولوجيا البنائية فيما يختصر بالأدلة التي تؤسس علم الأنثروبولوجيا، فالأنثربولوجيا البنائية تقوم على التحليل (أي تستخدم العقل التحليلي)، وهو ما يعترف به ليفي ستروس صراحة عندما يقرر أن: "الهدف الأخير للعلوم الإنسانية ليس تركيب الإنسان وإنما تحليله ".(41) 
وفي الحقيقة، إن مسألة التمييز بين عقل جدلي وآخر تحليلي لم يكن من المسائل التي اهتم لها ليفي ستروس قبل ظهور كتاب "الفكر الوحشي" الذي يتخصص الفصل الأخير منه للرد على سارتر. ويبدأ ليفي ستروس هذا الفصل بالتساؤل عن إمكانية التطابق بين التفكير التحليلي والتفكير الجدلي، على أساس أنه لا يفرق من حيث المبدأ بين عقل تحليلي وعقل جدلي.
ويرى ليفي ستروس أن من يقرأ كتاب "الجدل" لسارتر لا يمكنه إلا أن يسلم بأن الكاتب يتأرجح بين مفهومين للعقل الجدلي: فهو تارة يجعل العقل الجدلي مقابلا للعقل التحليلي تماما كالتقابل بين الصواب والخطأ وبين الإله الطيب والشيطان. وتارة أخرى يظهر لنا الاثنين وكأنهما مكملان لبعضهما ويعتبرهما سبيلين مختلفين يؤديان إلى نفس الحقائق.(42)
ويرى ليفي ستروس أن المفهوم الأول يقلل من شأن المعرفة العلمية ويؤدي بالتالي إلى افتراض عدم إمكانية علم البيولوجيا، كما أنه بالإضافة إلى ذلك يكشف عن تناقض معين لأن الكتاب المسمى "نقد العقل الجدلي" هو إنتاج عقلي نشأ عن إعمال العقل التحليلي للمؤلف: (فهذا العقل يعرف، ويميز، ويصنف،ويعارض). ويلاحظ ليفي ستروس أن هذه (الرسالة الفلسفية) عن العقل الجدلي لا تنتسب في الحقيقة إلى طبيعة أخرى مخالفة للكتب التي يناقشها حتى وإن كان الهدف هو إدانتها.(43) 
 (وكيف يمكن للعقل التحليلي أن يطبق على العقل الجدلي زاعما تشييده رغم أنهما يعرفان بصفات مطلقة؟).(44) أما عن المفهوم الثاني فإن ليفي ستروس يتساءل: إذا كان العقل الجدلي والتحليلي يصلان في النهاية إلى نفس النتائج، وإذا كانا يؤديان إلى حقيقة موحدة، فماذا كانت فائدة تقابلهما ثم التصريح بتفوق الأول على الثاني، وكيف يمكن تفسير هذا التناقض؟. ويلاحظ ليفي ستروس أن هذين المفهومين اللذين يتردد بينهما سارتر يفترضان وجودا مستقلا للعقل الجدلي، إما كضد antagoniste وإما كمكمل Complémentaire للعقل التحليلي، ويلاحظ كذلك أن التمييز بين عقل جدلي وآخر تحليلي كانت بدايته عند كارل ماركس رغم أن التقابل بين العقلين عنده كان نسبيا وليس مطلقا كما هو الحال عند سارتر. 
وليس هناك ما يمنع ليفي ستروس من الاعتقاد بأن العقل الجدلي مركب دائما: (فهو الجسر الذي يتقدم ويمتد بلا انقطاع والذي ينشئه العقل التحليلي فوق هاوية دون أن يتمكن من رؤية نهايتها رغم علمه بوجود هذه النهاية ورغم ابتعادها المستمر).(45) 
"إن لفظ العقل الجدلي يتضمن إذن الجهود المتصلة التي يجب أن يقوم بها العقل التحليلي لكي يتحسن ، وذلك إذا زعم أنه يفسر مسألة اللغة أو المجتمع أو الفكر"(46)، وإذا كان سارتر يسمى العقل التحليلي عقلا كسولا ، فإن ليفي ستروس يسمى نفس هذا العقل جدليا، ويصفه بالشجاعة لأنه يتقدم باستمرار.(47)
وقد كان من نتيجة التوحيد بين عقل جدلي وتحليلي عند ليفي ستروس أن وصفه سارتر بأنه مادي متسامي وبأنه حسين، فأقصى ما يمكن أن يرتقي العقل الجدلي في نظر ليفي ستروس يتلخص في قدرته على الشروع في رد الجانب الإنساني إلى لا إنساني.(48) 
وفي مواجهة تحليل الإنسان أو تفكيكه كتب سارتر يقول: "إن الإنسان يحتل مكانا ممتازا في عالم الأحياء لأنه تاريخي، أي أنه يعرف نفسه دائما بالعمل (أو البراكسيا) خلال التغيرات التي تفرض عليه … ثم يتجاوز العلاقات المرسومة interiorisee وهو يحتل مكانا ممتازا أيضا لتميزه بأنه الموجود الذي هو نحن. وفي هذه الحالة الفريدة يكون السائل هو نفسه المسئول. أو إذا شئنا فإن حقيقة الإنسان تكمن في أنه الموجود الذي يسأل عن وجوده أو الموجود الذي هو تحقيق للبراكسيا". (49)
إن علوم الإنسان لم تتساءل عن الإنسان تماما كما أن الميكانيكا الكلاسيكية (التي تستخدم الزمان والمكان على اعتبار أنها مجالات متجانسة وممتدة) لم تسأل لا عن المكان ولا عن الزمان ولا عن الحركة. فعلوم الإنسان تقتصر على دراسة نمو الظواهر الإنسانية وعلاقاتها، ويظهر الإنسان وكأنه دال على ذاته comme un milieu significant .
وإذا كانت التجربة تعطينا الظواهر التي تختص جماعة معينة، وإذا كانت الدراسات الأنثروبولوجية تحاول أن تربط هذه الظواهر بعلاقات موضوعية ومحددة بصرامة، فإن حقيقة الإنسان من حيث هي تظل بعيدة المنال تماما كفكرة المكان بالنسبة للهندسة أو الميكانيكا، والسبب في ذلك أن البحث لا يهدف إلى الكشف عنها وإنما يهدف إلى تكوين القوانين وإلى إظهار علاقات وظيفية. (50) ويعترف سارتر بوجود تناقض عميق بين الإثنولوجي والمؤرخ، وهو تناقض يتصل بمعنى حقيقة الإنسان وليس مجرد اختلاف في المنهج. فالإثنولوجي يرى في التاريخ حركة تعرقل الخطوط. أما المؤرخ فإنه يرى في "دوام واستمرار البناءات" تغيرا مستمرا.(51) 
وقد أفصح ليفي ستروس عن موقفه من التاريخ في كتاب "الفكر الوحشي" وهو يرى أن التناقض بين الإثنولوجي والمؤرخ غير موجود أساسا، بل يعتبر التاريخ مساعدا أو معينا للإثنولوجيا البنائية بمعنى أنه يمد هذه الأخيرة بالمعلومات الإمبيريقية. والتاريخ هنا له دور شبيه بدور الإثنوجرافيا، فكلاهما يهتم بالجزئي وكلاهما يعطي معلومات ضرورية للبحث الإثنولوجي لتكوين نماذج نظرية. وعلى ضوء هذا يمكن فهم قول ليفي ستروس: "إن التاريخ هو منهج لا ينتسب إليه موضوع بعينه". وهو رغم ذلك ضروري لفحص تكامل العناصر في أي بناء إنساني أو غير إنساني".(52)
التاريخ إذن "يعتبر مرحلة ضرورية لأي بحث في العلوم الإنسانية وغير الإنسانية" ومع كل هذا فلو اقتصرنا على تعريف الإنسان بالجدل والجدل بالتاريخ، فماذا نحن قائلون عن شعوب لا تاريخ لها؟(53) وهنا يرد سارتر بأن يميز بين نوعين من الجدل: (الحقيقي) وهو خاص بالمجتمعات التي لها تاريخ، وجدل تكراري وقصير الأجل وهو الذي يخص به مجتمعات يقول عنها أنها "بدائية". 
سارتر هنا "لا يمانع في أن يضع إلى جانب الإنسان إنسانية مشوهة وغير مكتملة rabougrie et difformé (54) ويعترف بأنه "ليس من الممكن أن نجد (طبيعة إنسانية) واحدة لدى قبائل الموريا Mur مثلا ولدى الإنسان التاريخي في مجتمعاتنا المعاصرة".(55) وعلى ذلك فإنه لمن المستحيل أن تؤسس الأنثروبولوجيا على معرفة تصورية خصوصا إذا نظرنا إلى الجماعات المتعددة من خلال التزامن synchronie ومن خلال التطور التاريخي.(56) وعلى الرغم من الاختلاف في الطبيعة بين الجماعات (البدائية) وبين المجتمعات المعاصرة فإن من الممكن أن يقوم اتصال حقيقي وأيضا تفاهم متبادل بين الفريقين المتمايزين (على سبيل المثال بين أفراد جماعة الموريا Muria وبين الإثنولوجي).(57) وابتداء من التقابل بين هاتين الصفتين (عدم وجود طبيعة إنسانية واحدة والاتصال الممكن دائما بين أفراد البشر)، فإن حركة الأنثروبولوجيا تثير من جديد وبصورة جديدة (إيديولوجية الوجود).(58) 
ولما كانت نقطة الضعف في الفلسفة الوجودية هي في امتناع التواصل الحقيقي بين الذوات، فإننا نعتقد أن سارتر هنا يحاول أن يرأب الصدع ويستنجد بالأنثروبولوجيا التي تعرف عنده باهتمامها بمشكلة على هيئة عائق يمكن التغلب عليه.(59)
على أي حال، فإن الوجودية التي تهتم بالبعد الإنساني (أو المشروع الوجودي) تتخذه أساسا لكل معرفة أنثروبولوجية.(60) كما أن الدور الحقيقي لأيديولوجيات الوجود لا يتلخص في وصف مجرد لحقيقة الإنسان التي لم توجد أبدا، وإنما يتلخص في وصف مجرد لحقيقة الإنسان التي لم توجد أبدا، وإنما يتلخص في تذكير الأنثروبولوجيا بالبعد الوجودي للعمليات المدروسة.(61)

الأربعاء، 7 ديسمبر 2016

نســـــق المثالــــيــة المتعــــاليــــةعند شيلنج

نســـــق المثالــــيــة المتعــــاليــــةعند شيلنج
إمكان المعرفة النسقية
سرحان ذويب

تقــــــديم :
يبدو الاهتمام بفلسفة شيلنج(1775-1854) في مستوى الدراسات العربية محدودا جدّا، فباستثناء الأثر الذي خصّه به الدكتور عبد الرحمان بدوي(1) لم نعثر إلى حدّ الآن على أي كتاب يهتم إهتماما مباشرا بمؤلفات هذا المفكّر وأعماله ، بل يمكننا القول بأن فلسفة شيلنجكثيرا ما اختزلت في مجرد لحظة فكرية تربط بين "المثالية الذاتية" لفيشته و"المثالية المطلقة" لهيغل. إن الدراسات العربية، تبدو في هذا السياق مقصرة في دراسة الإشكالات والقضايا والرهانات التي حددت تفكير صاحب كتاب "روح العالم" « Weltseele » برغم الاهتمام المتزايد به في الدراسات الغربية عموما، فيكفى القارئ مثلا أن يطلع على البحث البيبليوغرافي الوارد في كتاب الأستاذ "سندكولار" الموسوم "شلنغ"(2) حتى يلاحظ بكل وضوح، الراهنية الكبرى للقضايا التي بحث فيها هذا الفيلسوف كفلسفة الطبيعة والفن والهوية وغيرها من القضايا التي درسها في أعماله والتي نذكر من بينها "برونو أو في المبدأ الإلهي والطبيعي للأشياء" 
Bruno, oder üder das natür. u. göttl. Prinzip der Dinge، "حول إمكان صورة للفلسفة بصفة عامة" Über die Möglichkeit einer Form der Philosophie، "في الأنا كمبدأ للفلسفة أو حول اللامشروط في المعرفة الإنسانية"... Vom Ich als Prinzip der Philosophie oder über das Unbedingte im menschlichen Wissen، "بحوث فلسفية حول ماهية الحرية الإنسانية"Philosophische Untersuchungen über das Wesen der menschlichen Freiheit. 
إن شيلنج الشاب الذي زرع صحبة هيغل وهلدرلين شجرة الحرية إحتفاءً بمبادئ الثورة الفرنسية وإن لم يحظ إلى حد الآن بنفس الاهتمام الذي حظي به مؤلف "فنمنولوجيا الروح" فإنه يظل من الفلاسفة الذين حددوا بعمق خصوصيات التفكير النسقي وذلك خاصّة من خلال أثره "نسق المثالية المتعالية" System des transzendentalen Idealismus(3). فهذا الأثر يكتسي أهمية متميزة وخاصة ضمن آثار الشباب فهو بمعنى من المعاني يشهد على جهد فكري أصيل غايته تقديم حجة واقعية قصد إثراء مجال تطبيقات "مذهب العلم" لفيشته(4)، وهو يكشف كذلك عن إرادة شيلنجالبحث عن طبيعة العلاقة بين الفلسفة المتعالية وفلسفة الطبيعة(5) وهو من جهة ثالثة يعبر عن تجذر شيلنجفي تاريخ الفلسفة الحديثة باعتباره محاورا أصيلا  لسبينوزا، ليبنتز، كانط  وخاصة لفيشته(6)، وهو بالإضافة إلى ما سبق يطرح إشكالية المعرفة النسقية التي وجهت أبحاث فلسفات المثالية الألمانية من فيشته إلى حدود هيغل(7).
يتضح لنا إذن أن هذه الأسباب المباشرة ترتبط - رغم تعددها وتنوعها - إرتباطا وثيقا بالبحث في الشروط التي تحدد قيام المعرفة النسقية التي لم تكن ممكنة إلا بعد التحول الجذري الذي أحدثه كانط في مجال التفلسف منهجا ومضمونا، فكانط، وإن لم يفكر في إشكاليات المعرفة النسقية،  وانشغل أساسا بمسألة النقد، يمثل لحظة حاسمة في توجيه التفكير في موضوع النسق، بل بإمكاننا أن نجازف بالقول إنه دون النقدية الكانطية، تظل قضية التفكير النسقي ممتنعة عن الفهم والتمثل الدقيق. 
وانطلاقا من هذا الأفق النظري المستند إلى جملة الأسباب التي ذكرنا، سنحاول أن نبحث في هذا المقال عن الأسباب والشروط التي تجعل المعرفة النسقية ممكنة، وذلك بالاستناد إلى أثر شيلنجالموسوم "نسق المثالية المتعالية"، وقد آثرنا لتحقيق هذا الغرض أن ننظر في طبيعة العلاقة الإشكالية التي ما انفك يقيمها شيلنجمع كل من كانط وسينوزا، والتي مثلت لحظة جوهرية في تحديد خصوصيات التفكير النسقي. كما سنسعى إلى الكشف عن خصوصيات الأساس المطلق أو المبدأ الذي تقوم عليه المعرفة النسقية وهو ما سيسمح لنا بأن نستنبط مختلف الجهات المكونة للمعرفة النسقية في "نسق المثالية المتعالية". 
1) شيلنج قارئا لكانط و سبينوزا : 
يستدعي النظر في نسقية المعرفة لدى شيلنج الكشف عن دلالة النسق قصد تحديد شروط إمكانه وضبط معناه الدقيق، فبدون تحديد دلالة هذا المفهوم المركزي لا يمكننا النفاذ إلى فلسفات المثالية الألمانية كما يلاحظ ذلك هيدغر(8). على أن هذا الضبط المفهومي يجب أن يأخذ بعين الاعتبار العلاقة الإشكالية التي ما انفك يقيمها شيلنجمع "النقدية" الكانطية و"الدوغمائية" السبينوزية(9). 
لا ينكر فيشته وكذلك شيلنج الشاب أهمية "الدفعة"(10)  Trieb التي أحدثها فيلسوف كونسبارغ في مجال تأسيس المعرفة المتعالية ففي "دروس مونيخ" يذهب شيلنجإلى القول بأن كانط هو الذي أعاد للفلسفة "جديتها العلمية، وفي نفس الآن، شرفها الضائع"(11)، فهو من جهة أولى قد وجه التفكير الفلسفي نحو "الذاتية" ورفع التفكير فيها إلى مستوى الكونية، ثم إنّه حاول من جهة ثانية التأسيس لمسألة المعرفة تأسيسا علميا ومنهجيا. فكانط بفضل ثورته النقدية، أيقظ الميتافيزيقا من سباتها الدوغمائي الذي ظلت سجينته إلى حدود ليبنتز وولف، و لذلك فان الكانطية حسب شلنغ، هي ثورة منهجية أولا وأساسا، ليس فقط لأنها أسست لمعمارية العقل، بل لأنها أسست أيضا نظرية في المعرفة. 
ولكن برغم أهمية "المنعطف" Umkherung الكانطي فإن السؤال النقدي : "كيف تكون الأحكام التأليفية القبلية ممكنة ؟" عاجز عن تصور معرفة نسقية تكون معرفة كلية ومطلقة وذلك لسببين على الأقل: أما الأول فهو أن النقدية الكانطية ليست مذهبا أو نسقا للعقل المحض بل هي مجرد "تهيئة" و"عمل تحضيري"(12) Propädeutik وهذا ما يستتبع الفصل الإجرائي بين النقد المؤسس للمعرفة النسقية والمهيئ لها وبين المعرفة النسقية ذاتها. يقول فيشته منبها إلى هذا الفصل الأساسي : "إن كانط لم يضع نسقا بل وضع كتبا نقدية أي مباحث أوليّة حول الفلسفة"(13). وأما الثاني فهو أن الكانطية رغم انشغالها بمسألة الذاتية المتعالية فإنها تظل سجينة ثنائيات عنيدة لا يمكن تجاوزها على غرار النفس والجسد، الحساسية والفاهمة، عالم الظواهر وعالم الأشياء في ذاتها. إن هذه الثنائيات تمنع الكانطية من إدراك "القضية الأساسية" Grundsatz للمعرفة الكلية والنسقية و هو الأمر الذي نبّه إليه رينهولد قبل فيشته وشلنغ(14). 
يتبين لنا إذن أن فشل الكانطية في بناء تصور نسقي للعقل وفي وضع مبدإ مطلق للمعرفة يمثل الأسباب الرئيسية التي كانت وراء قيام فلسفات المثالية الألمانية وبخاصة "مذهب العلم" Die Wissenchaftslehre لفيشته و"نسق المثالية المتعالية" لشلنغ(15) : فالنقدية الكانطية، وبرغم أنها لا تطرح على نفسها الإشكاليات المحددة لفلسفات المثالية الألمانية، إلا أنها تحدد منحاها العام، فأصالة كانط الحقيقية تتمثل في التفطن إلى أن التأسيس العلمي للمعرفة المتعالية يرتبط أشد الارتباط بمسألة "الذاتية" أو ما يسميه فيشته"بالأنا المحض" و شيلنج"بالأنا المطلق" و هذا الأمر نجده مغيّبا لدى سبينوزا كما نجده مغيّبا لدى ليبنتز ذاته.
إن علاقة شيلنج بسبينوزا تبدو قائمة على مفارقة، فشيلنجالشاب الذي ما انفك يقدّم نفسه على أنه "سبينوزي"(16) ، هو ذاته الذي ما فتئ ينقد صاحب كتاب "الأخلاق" نقدا جذريا. لنوضح حدود هذه المفارقة : يعتقد شيلنجشأنه في ذلك شأن سينوزا أن العالم محكوم بمبدإ محايث له، أي أنه علّة ذاته، لكنّه ينبّه إلى أن سبينوزا باضفائه على الجوهر بعدا ألوهيا يناهض كل تفكير ممكن في الذاتية، و هوالمبدأ المؤسس للمعرفة النسقية. إن السبينوزية وإن بدت فلسفة للمحايثة فإنها تتعالى على كل ذاتية ممكنة، وبهذا المعنى تثبت امتناع  قيام معرفة متعالية أو معرفة نسقية، لأنها باعتبارها الجوهر مسألة ألوهية، تقصي كل تفكير حقيقي في مسألة الوعي الذاتي. استنادا إلى هذا "الفهم" الشلنغي الذي نجده واضحا وخاصة في الرسالة السابعة من "رسائل فلسفية حول الدوغمائية والنقدية"(17) يمكننا الجزم بأن تأسيس المبدإ القطعي للمعرفة يجب أن ينقد كل "تعال" Transzendenz وهو ما يحتم "تأويل" الجوهر السبينوزي وإعادة تملكه في سياق فلسفة تعتبر أن الجوهر الوحيد هو "الأنا". بهذا المعنى يمكننا أن نثبت أن الجوهر ليس موضوعا خارجيا تسعى إليه الذات، بل هو الذات عينها حين تحدد بذاتها وجودها بوصفه وجودا محضا وفاعلا للفكر أي لنشاط الوعي بالذات. 
انطلاقا من هذه الملاحظات، يمكننا إذن القول بأن فرادة سبينوزا تكمن في أنه فكّر في المطلق لكن عيبه – حسب فيشته وشيلنج– يتمثل في أنه لم يتفطن إلى أن المطلق لا يمكن تصوره خارج الذات العارفة، أي خارج حركة الوعي بالذات. يقول فيشته في هذا السياق : "سألاحظ، أنه كلما تجاوزنا أنا موجود، فإننا سننتهي بالضرورة إلى السبينوزية (...) وأنه لا يوجد حقا سوى نسقين منتجين : النقدية التي تعترف بهذا الحد ( أنا موجود) والسبينوزية التي تتجاوزه"(18).
لقد قادنا التحليل السابق إلى الوقوف على العلاقة المحددة لشيلنجمع النقدية الكانطية من جهة، والدوغمائية السبينوزية من جهة ثانية : فإذا كان فضل الأولى هو التأسيس للمعرفة المتعالية القائمة على إثبات حرية الذات وفعاليتها، فإن عيبها هو عدم إدراكها أن المعرفة النسقية مشروطة بمبدإ مؤسس وليس فقط بـ "نقد العقل". وإذا كان فضل الثانية هو التفكير في مسألة المطلق والجوهر فإن عيبها هو نفي  حرية الذات التي تمثل في حقيقة الأمر مبدأ كل معرفة نسقية ممكنة. و من كل ذلك يمكن القول أن التأسيس للمعرفة النسقية قائم على إثبات أن النقدية الكانطية بحاجة إلى الدوغمائية السبينوزية ذلك أن المبدأ المطلق الملتحف بخصائص الجوهر السبينوزي والمؤسس للمعرفة النسقية يجب أن يكون ملازما لـ"الأنا المحض" ومحايثا له أي للنشاط الداخلي للفكر وللحركة المميزة للوعي بالذات. إن إعادة تملك شيلنجللجوهر السبينوزي وتصوره له على أنه "ذات فاعلة" يجب أن ننزله في سياق إرادة بناء المعرفة  النسقية وهذا ما يقتــرن بدوره، بضرورة الأخذ بعيــــن الاعتبار طموح الكانطية في تأسيس المعرفة المتعالية تأسيسا علميا(19). 
و إنه من الوجاهة أن نلاحظ في هذا المستوى من البحث أن الفلسفة بما هي بحث في الأسس والمبادئ الناظمة للمعرفة، تعد علما، فهذه العبارة الأخيرة لا يجب أن تفهم في سياق ابستيمولوجي معاصر كما لا يجب أن تختزل في قراءة وضعية، لأن مفهوم العلم كما يفهمه شيلنجله دلالة فلسفية محضة تعنى بالأساس نظرية نسقية في المعرفة ولعل الكتابات الأساسية لفلاسفة المثالية الألمانية تشهد على هذا المعنى، فـ"مذهب العلم" لفيشته أو "نسق العلم" لهيغل الذي يمثل كتاب "فنمنولوجيا الروح" جزؤه الأول يعمّق هذا الفهم الفلسفي للعلم. يقول هيدغر مثبّتا هذا المعنى : "يعني مفهوم العلم، في عصر المثالية الألمانية، للوهلة الأولى وبحصر المعنى، نفس ما تعنيه عبارة فلسفة تدقيقا : هذه المعرفة التي تعرف الأسس الأولى والأخيرة، والتي تعرض، وفق هذه المعرفة المبدئية، ماهية ما يمكن أن نعرفه بصفة عامة وحسب تنظيم محكم"(20).
يتضح لنا أنه إذا كان النسق ليس شيئا آخر غير المعرفة الكلية والشمولية التي تكون علة ذاتها والتي تتأسس على مبدأ مطلق يكون بمثابة النقطة الأرخميدية، فإنه يجدر بنا قبل النظر في أجزاء هذه المعرفة تحديد دلالة المبدإ لما له من أهمية خاصة في قراءة "نسق المثالية المتعالية". 
2) خصوصيات مبدإ  المعرفة النسـقية : 
تكشف لنا القراءة المعمارية لــ "نسق المثالية المتعالية " عن الأهمية البالغة التي يضطلع بها "المبدأ" Prinzip أو"القضية الأساسية" Grundsatz في بناء مختلف جهات المعرفة النسقية، فليس من الصدفة في شيء أن يبحث الفصل الأول من الكتاب "في مبدأ المثالية المتعالية"(21)،  إذ بدون هذا الفصل الذي يقوم على بيان ضرورة وجود مبدأ يكون بمثابة المنطلق الضروري لبناء عملية المعرفة تنحسر الأسس النظرية التي يصدر عنها "نسق المثالية المتعالية". فالغاية الأساسية إذن من بيان أهمية "المبدأ" في عملية المعرفة هو التسويغ لاستنباط المثالية المتعالية سواء كان على نحو عام كما يتجلى ذلك في الفصل الثاني من الأثر أو على نحو خاص كما ينكشف الأمر من خلال بقية الفصول. وتبين لنا القراءة المعمارية أن "نسق المثالية المتعالية" ينقسم إلى ستة فصول أساسية يسبقها تصدير ومقدمة وتنتهي بــ "ملاحظة عامة تتعلق بمجموع النسق"، أما الفصل الأول فيبحث في "مبدأ المثالية المتعالية "وقد قسمه شيلنجإلى قسمين يبحث الأول" في ضرورة المبدأ الأسمى للمعرفة و طبيعته"(22) في حين يقوم الثاني بـ"استنباط المبدإ ذاته"(23).
ويتعلق الفصل الثاني "باستنباط عام للمثالية المتعالية"(24) نكتشف من خلاله التناقض المؤسس لنسق الفلسفة النظرية ونسق الفلسفة العملية وجدير بالملاحظة في هذا السياق أن فهم الأثر بأكمله لا بد أن يأخذ بعين الاعتبار "الديناميكية" أو "الجدلية" التي يفكر بها شيلنجوالتي يطلق عليها اسم "المنهج التأليفي"، فنسق المعرفة محكوم بتناقضات بين "نسق الفلسفة النظرية"(25) الذي يمثل الفصل الثالث من الأثر و"نسق الفلسفة العملية"(26) الذي يمثل الفصل الرابع منه. إن التناقض بين الفلسفة النظرية والفلسفة العملية لا يمكن أن يرفع إلا بفضل" القضايا الأساسية للغائية"(27) في مرحلة أولى  و"القضايا الأساسية لفلسفة الفن"(28) في مرحلة ثانية وختامية. 
وتجدر الملاحظة أن القراءة المعمارية للأثر ليست قراءة عامة ولا حتى قراءة خارجية بل هي قــــراءة وظيفية تعـــــــــتبر أن البناء (tectonique) لنسق المعرفة يــــصدر عـــن "أسس" (arché)  صلـــــبة(29)، وبناء على هذا الأمر، يمكننا القول، بأن القراءة المعمارية لا تنشدّ إلى عناوين الفصول والفقرات المكونة للأثر إلا لتنشغل بالأسس المحددة والمبادئ الضابطة لنسق المعرفة، فلا يمكننا بأي شكل من الأشكال أن نتمعن في فهم الجهات المكونة للمعرفة النسقية خارج إطار هذه المعرفة المكتفية بذاتها ولذاتها، فالمعرفة النسقية لا تفهم إذن خارج التجلى الداخلي والمتدرج للتفكير النشيط القائم على وحدة الشكل والمضمون(30).
هكذا تمكننا القراءة المعمارية من تأصيل البحث في دلالة المبدإ نظرا لأن هذا البحث يصدر عن وعي بالأهمية العلمية والتأسيسية للفصل الأول الذي بدونه يصعب علينا النفاذ إلى مضامين كل من نسق الفلسفة النظرية والفلسفة العملية والغائية وفلسفة الفن وتحديد العلاقات بينها. ولننظر الآن في دلالة الاستنباط وخصوصيات المبدإ المؤسس للمعرفة.
إن المقصود باستنباط المبدأ هو تبرير Rechtfertigen أولويته وإثبات "شرفه" Dignität(31) العلمي بوصفه المبدأ الأول للفلسفة المتعالية، فالمهمة الجوهرية لاستنباط المبدإ ليست مهمة منطقية صورية بل هي مهمة علمية تسعى إلى تحديد "المعنى الحقيقى للمبدأ"(32) باعتباره حجر الأساس في بناء النسق. فما يطلق عليه شيلنج"شرف" المبدأ لا يجب أن يفهم في معنى أخلاقي بل في معنى فلسفي محض أي بوصفه "أفضل نقطة انطلاق"(33). وبعد هذا الضبط لمعنى الاستنباط نقترح أن نصرف دلالة المبدإ على أنحاء أربعة يتكامل بعضها مع بعض. فهو في معنى أول المطلق أو "اللامشروط" Unbedingt، وهو في معنى ثان إنتاج، وهو في معنى ثالث تموضع ذاتي Selbstobjektwerden ، وهو في معنى رابع وأخير وحدة الشكل والمضمون. لكن فلنحدد بدقّة أكثر هذه التعاريف بالنظر في خصوصيات كل واحد منها :
يجب أن يعود بنا البحث الدقيق عن معنى "اللامشروط" إلى الأصل الألماني للعبارة الذي ما انفك شيلنجمنذ كتابه "حول الأنا"(34)  يؤكد على فرادته وأصالته فالعبارة « Unbedingt »  المتكونة من السابقة  « un » تعنى "ما لا يمكن أن يكون" وهي تحيل بالتالي على معنى "الإمتناع" و"عدم الإمكان"، ومن الجذر « bedingen » الذي يحيل على معنى التشريط conditionner  والتحديد، وكذلك على الفعل الذي بفضله يتحول شيء ما إلى "شيء" Ding. و لذلك يتضح لنا، أن "الأنا" وقد فهم على هذا النحو لا يمكن أن يكون "شيئا" Ding ولا "موضوعا" Sache بل لا مشروطا، أي لا يتحدد بشرط نظرا لأنه مكتف بذاته، فهو الذي يصدر عنه التحديد رغم أنه لا يتحدد، وعلى هذا النحو يمكن اعتباره الأساس المطلق لكل معرفة. يقول شيلنجمدققا هذا المعنى : "يعني اللامشروط ما لا يمكن أن يكون شيئا أو موضوعا على الاطلاق. ويمكننا إذن أن نعبّر عن المبدإ الأول للفلسفة على هذا النحو : العثور على ما لا يمكن أن يفكر فيه أبدا كشيء. غير أن هذا الأمر لا يمكن أن يكون إلا الأنا، والعكس، فالأنا هو الذي يوجد في ذاته وجودا غير موضوعي"(35).
إذا كان الأنا ليس موضوعا (Sache) ولا شيئا (Ding) ولا شيئا في ذاته (Ding an sich) ولا ظاهرة (Erscheinung)، فما هو حده إذن ؟ 
يؤكد شيلنجأن الأنا نشاط محض « actus purus »  وهو يستعمل العبارات فعلHandeln  ونشاط Tätigkeit ليدلل على هذا المعنى ويثبته، وليبرهن على أن الوعي بالذات هو قدرة لا متناهية مكتفية بذاتها، وهو أيضا المطلق الذي يكون سبب ذاته وغايتها (36) . هكذا يبدو جليا أن المبدأ بما هو نشاط محض للوعي بالذات أي بما هو تموضع ذاتي دائم للوعي يعد إنتاجا Produzieren ، لكن هذا الفعل الفكري لا يمكن فهمه بدون التنبيه إلى علاقته الدقيقة بما يسميه شيلنج"الحدس العقلي" Intellektuelle Anschaung.
إن القول بأن مبدأ المعرفة هو مبدأ منتج يؤكد على أن فعل التموضع الذاتي بما هو فعل تفكر لا يمكن إدراكه إلا انطلاقا من "الحدس العقلي" الذي يمثل "أورغانون" نسق المثالية المتعالية(37) باعتباره يمكن الأنا من معرفة نفسه بنفسه داخل عملية التفكير، فالأنا ذاته "حدس عقلي متواصل"(38) على حد عبارة شلنغ. والحدس العقلي في هذا السياق هو نشاط فكري حر متواصل ومنتج يكون فيه من ينتج وما يقع إنتاجه في اتصال دائم،  فهو المسار المتواصل والحركة اللامنقطعة التي تتجلى في الوحدة الأصلية بين الذات والموضوع(39).
وتبين مجمل التحاليل السابقة أن المبدأ المؤسس للمعرفة لا يمكن أن يكون إلا مطلقا Absolu أي كلا مكتفيا بذاته ونشاطا عقليا مستديما فما يمنح المبدأ أصالته العلمية هو قدرته الفاعلة التي تتجلى في نشاط الوعي بالذات وقدرته على التفكر المتواصل، فالعملية التي بمقتضاها تصبح الذات قادرة على التفكر يمكن أن نصطلح على تسميتها "بالتموضع الذاتي"(40) Selbstobjektwerden. لكن، لنؤكد أنه إذا كانت للذات القدرة على التموضع، فهذا لا يعنى أن هذا الفعل خارجي يرتبط بموضوع ممتد خارج وعينا بل إن التموضع هو نتاج فعل فكري داخلي تقوم به الذات بذاتها حينما تعود على ذاتها. ويثبت شيلنجهذه الفكرة بقوله : "إن الأنا لا يوجد أبدا قبل هذا الفعل الذي يصير الفكر بواسطته موضوعا بالنسبة إلى ذاته، وتبعا لذلك لا يمكن أن يكون إطلاقا شيئا خارج الفكر"(41).
يتضح لنا أن شيلنجلا ينظر إلى المبدأ نظرة سكونية، بل يؤكد على خصوصياته الحركية والديناميكية، فالأنا أو الوعي بالذات Selbstbewutsein نشاط فكري خالص يتجاوز الفردية المتعينة وكذلك الوعي الإمبيريقي ليكون فعلا فكريا خالصا. ويتعين علينا في هذا السياق تدقيق دلالة الوعي بالذات بالنظر في مضمون الوحدة المكونة لها أي في العلاقة بين القضية التحليلية والقضية التأليفية قصد تثبيت وحدة الشكل بالمضمون وبيان أهيمتها في تأسيس نسقية المعرفة :
القضية التحليلية حسب تعريف شيلنجهي قضية مشروطة بالفكر فقط، وهي بهذا المعنى لا مشروطة، فما يتحدد بالفكر وحده، أي ما يعد الفكر شرطه يعتبر لا مشروطا(40). أما القضية التأليفية فهي تلك التي لا تكون يقينية بذاتها، أي أن يقينها يتحدد بالوقائع الخارجية(41). بإمكاننا أن نلاحظ بيسر من خلال التعاريف المقدمة أن القضية التحليلية تناقض القضية  التأليفية، فإذا كانت الأولى تعبر عن علاقة الذات بذاتها داخل حركة الفكر ذاته، فإن الثانية تتحدد انطلاقا من علاقة الفكر بالعالم الخارجي. الأولى تعبر عن علاقة المفهوم بنفسه والثانية تعبر عن علاقة المفهوم بالموضوع. لكن على الرغم من تعارض هذه القضايا مع بعضها البعض فإنها تمثل الحدود المكونة للمبدإ أي للأنا Das Ich، الذي يعبر عن الوحدة الديناميكية للقضية التحليلية والقضية التأليفية، وهي وحدة تعبر بدورها عن العلاقة الجدلية بين شكل المعرفة ومضمونها كما سبق وأن لاحظ ذلك فيشته في "مذهب العلم". 
بإمكاننا أن نستنتج بعد هذا التدقيق المفهومي أنه رغم اختلاف المعاني التي يقال عليها المبدأ، فإنها تعمل في تزامن مطلق بعضها مع بعض  لتشكل أسا واحدا، عليه تقوم المعرفة النسقية  وبه تتحدد. لكن، ألا يمكننا القول بأن المعاني التي تأولناها للمبدإ ليست إلا تجليات مختلفة للجوهر السبينوزي ؟ بمعنى آخر، ألا يجوز لنا أن نعتبر أن "الأنا" بوصفه الجوهر الوحيد لدى شيلنجالشاب المتأثر بفشته، ليس شيئا آخر سوى الجوهر السبينوزي وقد أفرغ من كل مضمون ألوهي ولاهوتي ؟ 
إن مقصدنا من هذه الأسئلة ليس تقديم إجابة قاطعة، وإنما التنبيه إلى أن شيلنجحينما يحدد دلالة الأنا بوصفه المبدأ الوحيد والشرط الأوحد للمعرفة إنما هو "يتأول"، بمعنى ما، "الجوهر" كما بينه سبينوزا في كتاب "الأخلاق". ألم يكن مقصد شيلنجالشاب هو إعادة كتابة أثر سبينوزا المعنون "بالأخلاق" ؟(44).
إذن يحدد شيلنجالمبدأ بوصفه "المطلق" و "اللامشروط" الذي لا يتحدد بأي شيء آخر عدا نفسه، وكل شيء آخر لا يكون إلا به، فهو إنتاج متواصل بالنسبة إلى ذاته، إنه واحد ولا نهائي، علة نفسه وعلة كل ما يوجد، وهو يفعل بفعل الضرورة المحايثة له، وبهذا المعنى يكون في نفس الآن حرا ومستقلا لأنه يثبت ذاته في الفعل المتواصل للحدس العقلي. 
لقد مكنتنا القراءة المعمارية من الوقوف على أهمية استنباط المبدأ الأساسي للمعرفة النسقية، فبانعدام هذا المبدأ، لا يمكن أن يكون لنسق المثالية المتعالية معنى دقيق، لكن ما يجب تأكيده هو أن المبدأ ليس أساسا صوريا تقوم عليه المعرفة، بل هو المحدد الجوهري الذي يهب لوحدة المعرفة جدليتها ومنطقها الداخلي الذي به تقوّم وعلى أساسه تقوم، لذلك يمكننا اعتبار "الأنا" شرطا ضروريا لقيام المعرفة النسقية. على أن هذا الشرط المقوّم للمعرفة لم يكن هو ذاته ممكنا إلا بتوفير شرطين آخرين على الأقل : أولهما إعادة تملك الجوهر السبينوزي في سياق تفكير يعتبر أن النسق لا يقوم إلا بالأنا المحض، الجوهر الوحيد والأساس المطلق لكل معرفة نسقية، وثانيهما إعادة تقويم النقدية الكانطية وتجذيرها بالتأكيد على أن الذاتية المتعالية هي شرط كل معرفة علمية ممكنة. 
إنّ ما حاولنا أن نقوم به في مستوى العنصر الأول والثاني من هذه الدراسة إنما يتعلق إجمالا بتحديد أساس المعرفة وتعيين شروطها ولعل القيام بمثل هذه المهمة هو ما يسمح لنا الآن باستنباط الأنحاء المختلفة للنسق كما يتصوره شلنغ. 
3) استنباط أقسام المعرفة النسقية : 
لا يمكننا استنباط  الأجزاء المحددة للمعرفة النسقية في "نسق المثالية المتعالية" دون توضيح العلاقة المباشرة و الفعلية لهذا الأثر بـ"مذهب العلم" لفيشته ، فشيلنجالشاب لا ينكر أنه يفكر بالإشكاليات المحددة لـ"مذهب العلم"،  ولذلك يعتبر في مقدمة "نسق المثالية  المتعالية" أن القراءة العلمية لهذا الأثر يجب أن تكون امتدادا لأطروحات "مذهب العلم" وتأصيلا  لها، بل هو يقر بأن فيشته هو من وضع الأسس الناظمة لنسقه والمبادئ الموجهة له. يقول شيلنجفي هذا السياق : "تتمثل غاية هذا الأثر بالتحديد في أن يعطي للمثالية المتعالية ما تستحقه من ثراء، متمثل في نسق لمجموع المعرفة، إن غايته إذن ستكون إثبات هذا النسق، على نحو واقعي لا تعميمي ، أي عن طريق الامتداد الفعلي لمبادئه إلى جميع المشاكل الممكنة المتعلقة بالموضوعات الأساسية للمعرفة"(45).
لكن رغم تأثر شيلنجبفيشته، فإن هذا لا يعني أن تفكير شيلنجالشاب هو تكرار حرفي لأطروحات "مذهب العلم"، فعلى خلاف هذا الموقف الاختزالي يمكننا القول بأن مرحلة الشباب (1974-1801) تعبر عن قدرة شيلنجعلى تملك القضايا الفلسفية تملكا إبداعيا قائما أساسا على حوار نقدي  مع تاريخ الفلسفة وخاصة مع التصورات السبينوزية والكانطية والفيشتيه.وبناء عليه بإمكاننا أن ننبه إلى بعض الاختلافات الأساسية بين "مذهب العلم" و "نسق المثالية المتعالية" التي ستتعمق لاحقا في فلسفة الهوية : 
- إذا نظرنا مليا في أجزاء العنوان المحدد لـ"مذهب العلم"             Grundlage der gesamten
 Wissenchaftslehre  فإننا نلاحظ أنه يهتم بمسألة المبادئ أي بتأسيس النسق ووضع مبادئ العلم في كليته. وعلى هذا النحو، يمكننا أن نلاحظ مع الأب تيليات Tilliette أن الأمر بالنسبة إلى فيشته يتعلق "بعرض للأسس"(46) وليس بتحديد شامل لمضامين المعرفة النسقية كما يتجلى ذلك بوضوح في "نسق المثالية المتعالية"، فوضع الأسس وإن كان الطريق المؤدي للنسق إلا أنه لا يمكن أن يكون النسق في كليته(47).
- لا يبدأ "مذهب العلم" بعرض نظرية المعرفة كما يقوم بذلك كانط في "التحليلية المتعالية" من "نقد العقل المحض" بل يقوم أولا بضبط الأخطاء المعيقة للمعرفة و يقوم ثانيا بوضع المبادئ المؤسسة لها. إن بحثا جدليا، أو فلنقل بلغة فيشته سنة 1804 إن فنمنولوجيا للحقيقة تقوم بالأساس على تمرين جدلي أمر ضروري إذا ما أردنا بناء نسق المعرفة بناء علميا صارما : إذا كان "نسق المثالية المتعالية" هو تعيين أطروحات "مذهب العلم" في جميع تفصيلاتها وتفريعاتها، فإن هذا الأثر لا يحتاج – لا من جهة الإجراء المنهجي ولا من جهة الاقتضاء المضموني – إلى "جدلية متعالية" أو إلى تفكير ينزع الأوهام  نظرا لأنه استنباط للمعرفة النسقية في جميع مضامينها. 
- لا يقترح "مذهب العلم" حسب شيلنجإلا "الفكرة الكونية للمعرفة"(46) Der allgemeinen   Idealität des Wissens لذلك يمكنا عد "نسق المثالية المتعالية" توسيعا للمعرفة وإثراء لها في مجموعها.  فهذا الأثر برمته، كما يلح على ذلك شلنغ، برهان "واقعي"(49) على "مذهب العلم". يترابط التفكير النسقي لشيلنجإذن مع "مذهب العلم" باعتباره، أولا حجته الواقعية، وباعتباره، ثانيا تجذيرا لأطروحاته تجذيرا عميقا وعينيا. ويمكننا الإقرار، بإيجاز، بأن المثالية المتعالية تختلف عن "مذهب العلم" لأنها لا تكتفى باستنباط المبادئ والأسس المكونة لها، بل هي تقدمها في جميع تطبيقاتها الممكنة.
ونستخلص مما تقدم أن "نسق المثالية المتعالية" يرتبط بـ "مذهب العلم في ثلاثة مستويات على الأقل يمكننا ضبطها كالآتي : 
- أولا :  يمكننا اعتبار النسق بمثابة الحجة الواقعية لـ "مذهب العلم" لأنه الامتداد الفعلي والتعين الواقعي لجميع أطروحاته وقضاياه. 
- ثانيا : بإمكاننا قراءة النسق كحجّة بيداغوجية لـ "مذهب العلم" لأنه يسعى إلى تقديم عرض دقيق وواضح لجميع أجزائه. 
- ثالثا : لا نستطيع أن ننكر أن "نسق المثالية المتعالية" هو بمعنى مّا الحجة العلمية "لمذهب العلم" نظرا لأنه يقترح تنظيما صارما لجميع اللحظات المكونة لتاريخ الوعي بالذات. وإن هذه الحجة الأخيرة توجب استحضار الحجتين الأولى والثانية، لأن وضع النسق يستلزم أولا أساسا صلبا تقام عليه المبادئ، كما يستدعي ثانيا تمشيا علميا متناغما، يقتضي هو الآخر احترام "الوضوح والتميز". 
يتبين إذن أنه إذا كان استنباط المبدإ المؤسّس لنسق المعرفة يعنى إثبات أولوية المبدأ وتبرير رفعته بوصفه المبدأ الأول للمعرفة المتعالية، فإن استنباط الجهات المكونة للنسق يعنى بالأساس تفسير التعارض بين الفلسفة النظرية ونظيرتها العلمية والكشف عن إمكانية التأليف بينهما. لذلك يجب أن تثبت الفلسفة المتعالية هذه الوحدة التأليفية أو الجدلية بالكشف عن الآليات المكوّنة للتمثلات وذلك بالعودة إلى المبدإ الداخلي للنشاط الروحي الذي يسميه شيلنج"الأنا"(50).
ولكن لما كانت المعرفة النسقية هي الوحدة الديناميكية للشكل والمضمون المطردة التطور لأنها تقوم على مبدإ منتج، فإن ما يسمح ببلورة هذه المعرفة هو قيامها على ما يسميه شيلنج"المنهج التأليفي". لنلاحظ أن مسألة المنهج التي ترتبط بها مسألة الاستنباط ارتباطا وثيقا ليست أمرا لاحقا بأجزاء المثالية المتعالية، وهي كذلك ليست أمرا ثانويا ينضاف إلى نشاط الوعي بالذات بل هي المبدأ المحدد والموجه لعلاقة الفلسفة النظرية بالفلسفة العملية وكذلك بفلسفة الفن، فالتعارض بين نسق الفلسفة النظرية وبين نسق الفلسفة العملية ليس إلا التطبيق الفعلي والتعين الجوهري للمعرفة المتعالية القائمة بالأساس على المنهج التأليفي : إن هذا المنهج المؤسس للمعرفة المتعالية، والذي يمثل تبعا روح المثالية المتعالية، يقوم على الإقرار بأن التعارض هو المبدأ الذي يجعل من المعرفة أمرا ممكنا ويقول شيلنجمحددا بصيغة تخطيطية خصوصية المنهج الجدلي : "متقابلان أ و ب (ذات وموضوع) مجتمعان بفعل س ولكن يوجد في س تقابلا جديدا ج و د (...) والفعل س يصبح هو بدوره إذن موضوعا ولا يمكن أن يفسر إلا بفعل جديد = ز يتضمن من جديد تقابلا آخر"(51).
لا يمكننا أن ننكر في هذا السياق، أن التعارض الذي يحكم نشاط الأنا هو تعارض مبدع وخلاق يمكننا على ضوئه فهم التعارض القائم بين الفلسفة النظرية من ناحية والفلسفة العملية من ناحية ثانية وكيفية تجاوزه في لحظة تأليفية ثالثة عبر فلسفة الفن. ذلك أن استنباط الأجزاء المكونة للمعرفة المتعالية ينبع إذن من الوعي بأن المعرفة النسقية تنشد ماهويا إلى تعارض مؤسس ومنتج. 
وهكذا ، يمكننا القول أنه إذا كان "مذهب العلم" لفيشته يبرهن على المبدإ الأساسي "أنا موجود" Ich bin برهنة أولية، فإن "نسق المثالية المتعالية" يقدم برهانا واقعيا على هذه القضية أي أنه لا يكتفى بالمبادئ بل يستخلص جميع النتائج الممكنة : ليس نسق المعرفة نظريا صرفا ولا عمليا خالصا بل هو يجمع بينهما أي أنه نسق نظري وعملي في الآن نفسه، فنسق الفلسفة النظرية يشترط نسق الفلسفة العملية اشتراطا تاما والعكس بالعكس، نظرا لأن المعرفة النسقية تقوم على التعارض الضروري والمنتج بين الفلسفة النظرية والعملية وهي الأقسام المتفرعة عن المبدإ المؤسس : الأنا. 
وجود الأنا محكوم إذن بنشاطين، نشاط محدود وآخر لا محدود وتواجد هذين النشاطين داخل نفس الأنا، نشاط حر ومحدود من ناحية ونشاط لا محدود لكنه ضروري من ناحية أخرى، إنما هو أمر لا تستطيع الكشف عنه إلا "فلسفة عليا"(52) تكون نظرية وعملية في نفس الوقت، فالفعاليات المتضادة التي تحكم الأنا، فعالية محدودة رغم أنها حرة، وفعالية لا محدودة رغم أنها ضرورية، هي فعاليات تستلزم بعضها بعضا استلزاما ماهويا، وعلى أساسها يقع التمييز بين فلسفة نظرية وأخرى عملية، يقول شيلنجمشددا على هذا التلازم الضروري بين هذه الفعاليات : "هذا التماعي الضروري داخل نفس الذات، لنشاط حر لكن محدود وآخر لا محدود، يجب ما إن يوجد، حتى يكون ضروريا، ويعود الأمر إلى فلسفة عليا، هي في الآن نفسه نظرية وعملية، باستنباط هذه الضــرورة"(53).
إن البحث الفلسفي يسعى إلى استنباط أقسام المعرفة النسقية وذلك بالتفكير في الإشكال التالي : كيف للأنا بوصفه فعالية لا محدودة ونشاطا متواصلا أن يكون في نفس الآن محدودا ؟ وكيف بإمكان الأنا بوصفه محدودا أن يكون لا محدودا ؟ 
يقرّ شيلنجبأن الأنا بوصفه لا محدودا يتموضع بذاته ولذاته وهو بوصفه فعّالية لا محدودة، لا يستطيع أن يكون محدودا إلا "بالتعين –الذاتي" Selbst-Gesetz – وهي عملية تمكنه من أن يعارض نفسه بنفسه، فسلب الأنا لفعاليته اللانهائية هو ما ينتج عنه الحد، وهو ما  يسمح له بالتالي بأن يصبح محدودا. يقول شيلنجموضحا أساس هذه العلمية : "يعني القول بأن الأنا ينتج هو ذاته التحديد، أن الأنا يلغى نفسه بنفسه كنشاط مطلق، أي يلغى نفسه إلغاء مطلقا"(52).
و بهذا يمكننا التأكيد أن الأنا باعتباره نشاطا محضا، هو فعالية لا نهائية، لكن بفضل قدرته على التموضع يصبح محدودا ومتناهيا ولكي يصبح فعالية لا نهائية ومحدودة في نفس الآن، علينا أن نخضع الحد لعملية رفع متواصلة Einer unendlichen Erweiterung der Schranke. وهو ما يستلزم أن نجعل من عملية التموضع الذاتي عملية دائمة. ذلك أن نقلة الحد إلى ما لا نهاية له هو ما يحافظ على الفعل اللانهائي للأنا، والاحتفاظ بهذا الحد، هو ما يحد الأنا، لأنه يجعله دائما في علاقة مباشرة معه. لنعمق النظر في معنى الحد : إن الحد، هو في نفس الآن واقعي reelle وفكري ideelle، إنه واقعي لأنّه فعالية مستقلة عن الأنا، وهو فكري لأنه فعالية ذاتية خاضعة للأنا وهذا ما يعنى أن نسق المثالية المتعالية محكوم بجدلية الفكري والواقعي أو بجدلية الفلسفة النظرية والفلسفة العملية : يجب أن تفسر الفلسفة النظرية البعد الفكري للحد، كما يجب أن تفسر الفلسفة العملية البعد الواقعي للحد. الفلسفة الأولى، التي تعتبر مثالية، تكون مع الثانية التي تعد واقعية، "نسق المثالية المتعالية"، الذي لا يكتفى بالكشف عن التعارض المؤسّس بين الفلسفة النظرية ونظيرتها العملية بل يسعى إلى التأليف بينهما. بهذا المعنى يمكننا القول بأن "نسق المثالية المتعالية هو نسق "فكري-واقعي"(55)
ويمكننا الآن أن نوضح أكثر ما انتهت إليه عملية الاستنباط بالنظر في الخصوصيات المحددة لأجزاء المثالية المتعالية : تنظر الفلسفة النظرية Theoretische Philosophie في إمكان التجربة وذلك بالبحث في السؤال التالي : كيف للتمثلات أن تتوافق توافقا مطلقا مع موضوعات توجد بمعزل عنها؟(56) إن مهمة الفلسفة النظرية هو أن تفسر، حسب شيلنجطريقة الانتقال من العالم الواقعي إلى عالم التمثل، فهي إذن تنطلق من معطيات موضوعية (الواقع، الطبيعة) لتنحو نحو الذاتية (التمثل) ومن هذا المنظور يمكننا القول بأنها مثالية لأنها تفسر ما هو موضوعي بالاستناد إلى ما هو ذاتي. أما الفلسفة العملية Praktische Philosophie فتبحث في طريقة الانتقال من عالم التمثل إلى العالم الواقعي، فهي تنشغل بالسؤال التالي : كيف يمكن لشيء موضوعي أن يتغير ليتطابق مع ما هو فكري؟(57) إن الفلسفة العملية القائمة على النظر في الفلسفة الأخلاقية، بالاستناد إلى تعاليم المثالية المتعالية، لا يمكن أن تكون إلا فلسفة واقعية قائمة على تحديد إمكان كل فعل حر. 
وإذا كانت الغاية من استنباط نسق المثالية المتعالية هي الكشف عن التعارض بين الفلسفة النظرية ونظيرتها العملية – وهو شرط ضروري لقيام المعرفة النسقية – فإن هذه العملية تنتهي بنا إلى الإقرار بأهمية وجود "انسجام أزلي" بين الفلسفتين، على ضوئه يمكننا التوحيد بين النظر والعمل، ذلك أن النشاط المنتج بوعي القائم على الإرادة، والنشاط المنتج للعالم بدون وعي، لا يكونان في نهاية المطاف، إلا فعالية واحدة تتجلى في منتجات الطبيعة التي تخضع لغائية، على أساسها نستطيع أن نوحّد بين النظر والعمل وبفضل "الحدس الجمالي" يمكننا أن نكشف عن الهوية بين الوعي واللاوعي أي بين الذكاء والطبيعة. وانطلاقا من هذه الملاحظات، نستطيع أن نفهم لماذا ينتهى "نسق المثالية المتعالية" - على خلاف "مذهب العلم" لفيشته -  بــ "فلسفة في الفن" أو بــ "فنمنولوجيا للعبقرية"(58) بعبارة "ماركاي" : فلسفة الفن توحّد بين النشاطين اللاواعي والواعي. ويقول شيلنج"إن التقاء كل من الفعاليتين، ينتج بدون وعي العالم الواقعي وبوعي العالم الجمالي"(59).
خـــــــــــاتمـــــة
لم تكن غايتنا من هذا المقال تحديد خصوصيات كل من الفلسفة النظرية والفلسفة العملية والغائية وفلسفة الفن - وهي الأجزاء المكونة لنسق المثالية المتعالية - وإنما البحث فقط في بعض الشروط المحددة لقيام مثل هذه المعرفة وهو ما استلزم منا توضيح خصوصية قراءة شيلنجلسبنوزا وكانط. فالمشروع النقدي، حسب شلنغ، غير كاف لتأسيس معرفة نسقية لأنه لم يكتشف "القضية الأساسية" لهذه المعرفة. على أن هذه "القضية الأساسية"، ليست إلا الأنا، الجوهر الوحيد، والمبدأ الذي لا محيد عنه في بناء عملية المعرفة. يستند تأول الأنا باعتباره جوهرا فاعلا ونشيطا، إلى قراءة خاصة للجوهر السبينوزي وكذلك "للمنادة" الليبنتزية، في ضوء مبادئ "مذهب العلم" لفيشته. هذه القراءة المتشعبة والمحرجة وإن لم تكن صريحة في "نسق المثالية المتعالية" فدونها يتعذّر فهم دلالة المبدإ وخصوصياته. فـ"الذاتية المتعالية" أو "الأنا المطلق" يمثل القضية الأساسية في بناء المعرفة النسقية وهذا ما يجعل من الأنا ليس مجرد أولية رياضية بل هو جوهر حي ومنتج، مكتف بذاته، يقوم على إثبات حريته بفعل قدرته على التعين الذاتي.
إذا كانت القراءة المعمارية للأثر تمكننا من إبراز أهمية المبدإ، بوصفه الشرط الضروري في تأسيس المعرفة النسقية، فإن هذه القراءة لا يتأصل معناها إلا بمحاولة توضيح العلاقة الإشكالية بين شيلنجو"النقدية" الكانطية من جهة أولى و "الدغمائية" السينوزية من جهة ثانية، و هوالأمر الذي حاولنا أن نبينه في القسم الأول والثاني من هذا البحث. 
لنلاحظ أخيرا أن هذه الشروط تبقى محدودة إذا لم نكشف دلالة الاستنباط ودوره في التأسيس لقيام النسق. فليس الاستنباط عملية ثانوية بل هو أساس قيام النسق بأكمله كما يتضح ذلك في الفصل الثاني من "نسق المثالية المتعالية". لكن تجدر الإشارة إلى أن الاستنباط لا يتضح مقصده بدون الانتباه إلى أن ما يحدد جوهرية الأنا هي الحركة والنشاط، فبدون الكشف عن الفعاليات المتضادة التي تحكم الأنا (نشاط حر ومحدود، ونشاط لا محدود وضروري) لا يمكن أن نستنبط الجهات المحددة لنسق المثالية المتعالية. وإنّ استنباط النسق يكشف عن الفعاليات المحددة للأنا ويبين أهمية التعارض بينها في بناء المعرفة النظرية والعملية في لحظة أولى وطريقة التأليف بينها في لحظة ثانية ونهائية.
الهوامش والمراجع 
(1) عبد الرحمان بدوي : شلنغ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1981.
(2) H. J. Sandkühler, F. W. J. Schelling, Stuttgart, Weimar, Verlag J.B. Metzler, 1998, pp 210-242.

سارتر بين الوجوديين