بول ريكور ـ ترجمة : محمد برادة ـ حسان بورقية
تهدف هذه المقالة إلى وصف حالة مشكل الهيرمينوطيقا ، كما أستقبله وكما أنظر إليه ، قبل أن أدلى بمساهمتي فى الجدال في المقالة التي تليها 0 من هذه المناقشة الأولية، سأحصر نفسي فى إبراز ليس عناصر اعتقاد راسخ فحسب ، بل حدود مشكل لم يحل كذلك. أريد فى الواقع أن أقود التفكير الهيرمينوطيقى إلى النقطة التى تستدعى فيها ، بناء على إحراج داخلي ، إعادة توجيه أساسية ، إذا كان يسعى بجدية إلى الدخول في مناقشة مع علوم النص ، من السيميائيات إلى التفسير.
سأتبنى هنا تعريف العمل التالى للهيرمينوطيقا: إن الهيرمينوطيقا هى نظرية عمليات الفهم فى علاقتها مع تفسير النصوص ، هكذا ستكون الفكرة الموجهة هى فكرة إنجاز الخطاب كنص 0 وستكون المقالة الثانية إذن مخصصة لبناء طبقات النص 0 من هنا ستكون الطريق معدة المحاولة حل إخراج الهيرمينوطيقا المركزي ، المقدم فى نهاية هذه المقالة الأولى ، أي البديل المدمر فى نظري ، لما بين الشرح و الفهم 0بذلك سيبين السعي إلى تكاملية بين هذين الموقفين ،اللذين تنزع الهيرمينوطيقا الرومانسية الأصل بينهما ،عن إعادة التوجيه إلى يقتضيها مفهوم النص من الهيرمينوطيقا على المستوى الابستمولوجى.
I - من الهيرمينوطيقا الإقليمية إلى الهيرمينوطيقا العامة
إن بيان الهيرمينوطيقا الختامي الذى أقترحه هنا ،يتجمع باتجاه تكون إحراج ما ، الإحراج الذي استنهض بحثي الخاص ،لذا فالتقديم الذى سيعقب ليس محايدا ، بالمعنى الذى سيكون فيه مجردا من أي افتراض قبلى . خاصة وأن الهيرمينوطيقا نفسها تدفع إلى الاحتراس من هذا الوهم أو هذا الزعم.
يبدو لى التاريخ الراهن للهيرمينوطيقا محكوما بانشغالين اثنين يميل الأول إلى توسيع هدف التأويل تدريجيا ، على النحو الذى تكون فيه سائر الهيرمينوطيقات الإقليمية مضمومة فى تأويل عام غير أن حركة اللآإقليمية هاته لا يمكن أن تبلغ مداها دون أن تكون ،فى نفس الوقت ، انشغالات الهيرمينوطيقا الابستمولوجية الصرفة، أغنى مجهودها للتشكل فى المعرفة ذات الصيت العلمى تابعه لانشغالات أنطولوجية، يكف الفهم تبعا لها عن الظهور كنمط من المعرفة ليصبح طريقة كينونة وأن يرتبط بالكائنات وبالكينونة؛ هكذا تواكب حركة اللاأقليمية بحركة ترسيخ لا تصبح معها الهيرمينوطيقا عامة فحسب بل أصلية
1. "مكان" الهيرمينوطيقا الأول
لنتعقب هذه الحركة وتلك بالتتابع أول "موضع" تشرع الهيرمينوطيقا فى اختراقه ، هو الكلام بالتأكيد و الكلام المكتوب بالأخص 0 ومن المهم إذن أن نحدد لماذا للهيرمينوطيقا علاقة مفضلة مع أسئلة ، يكفى، فى نظري ،ألا نطلق من خاصية ملفتة للانتباه فى اللغات الطبيعية ، التي تتطلب تأويلا على المستوى الأولى و العادى للحوار 0 هذه الخاصية، هي تعدد المعاني ، أي سمة كلماتنا فى امتلاك أكثر من دلالة عندما نفحصها من خارج استعمالها فى سياق محدد 0 لن أهتم هنا بأسباب التناسق التي تبرر اللجوء إلى شفرة معجمية تمثل خاصية فريدة أيضا 0 ما يهم فى هذه المناقشة الحالية هو أن تعدد معاني الكلمات يستدعى بالمقابل دور السياقات الانتقائي إزاء تحديد القيمة الراهنة التى تحوزها الكلمات فى إرسالية محددة، موجهة من طرف متكلم بعينه، إلى مستمع يوجد فى حالة خاصة ، إن الحساسية إزاء السياق هى المكمل الضروري و الرأى المعاكس المحتم لتعدد المعاني . غير أن قيادة السياقات تستخدم بدورها حركة تمييز تعمل فى تبادل إرساليات ملموس بين المتخاطبين وحيث يكون النموذج هو لعبة السؤال الجواب ، حركة التمييز هذه هى التأويل بحصر المعنى ؛ فهى تقضى التعرف على الإرسالية الأحادية المعنى نسبيا ، التي ركبها المتكلم على الأساس المتعدد المعانى للمعجم المشترك 0 إن إنتاج خطاب ذي معنى نسبيا بكلمات متعددة المعاني ، و التعرف على نية أحادية المعنى استقبال الإرساليات ، هو عمل التأويل الأول و الأكثرها بساطة 0 وفى هذه الدائرة الشاسعة جداً للإرساليات المتبادلة تقتطع الكتابة لنفسها مساحة محدودة ، يسميها فلهالم ديلتاى، الذى سأعود إلى الحديث عنه مطولا تعابير الحياة الثابتة بالكتابة(1) ، هذه التعابير هى التى تقتضي عمل تأويل خاص لأسباب سنحددها بعدئذ وترتبط بالضبط بإنجاز الخطاب كنص. لنقل مؤقتاً، أنه بالكتابة لم تعد شروط التأويل المباشر بناء على لعبة السؤال و الجواب، أي الحوار، موفى بها أبدا، آتذاك تم اكتشاف تقنيات خاصة لرفع سلسلة العلامات المكتوبة إلى مستوى الخطاب وإدراك الإرسالية من خلال التقنيات المنضدة الخاصة بإنجاز الخطاب كنص.
2- فريدريك شلايرماخر:-
تبدأ الحركة الحقيقية للآإقليمية مع المجهود المبذول لإبراز مشكل عام يتعلق بحركة التأويل كلما انخرط فى نصوص مختلفة 0تمييز هذه الاشكالية المركزية و المحورية هو عمل فريدريك شلايرماخر0 كان قبله ، من ناحية فقه لغة النصوص الكلاسيكية،خصوصا نصوص العصور الإغريقية- اللاتينية القديمة ، ومن ناحية أخرى تفسير النصين المقدسين، العهد القديم و الجديد0
وفى كل واحد من هذين المجالين يختلف عمل التأويل بحسب تنوع النصوص0 لهذا تقتضي هيرمينوطيقا عامة ما التنزه عن التطبيقات الخاصة و التمييز بين العمليات المشتركة بين شعبتي التأويل الكبيرتين0 ولبلوغ ذلك لا ينبغي التنزه فقط عن خصوصية النصوص ، بل عن خصوصية القواعد و الوصفات التى يتبدد بينها فن الفهم كذلك 0 لقد ولد التأويل عن هذا المجهود المبذول فى سبيل رفع تفسير النصوص المقدسة وفقه اللغة إلى مصاف التقنية ، أي تكنولوجيا " لا تقصر على مجرد تجميع عمليات لارابط بينها .
بيد أن امتثالية القواعد الخاصة بتفسير النصوص المقدسة وفقه اللغة لإشكالية الفهم العامة ، كانت تمثل قلبا مماثلا تماماً للقلب الذي أجرته الفلسفة الكانطية فى موضع آخر ، اتجاه علوم الطبيعة بالأساس . من هذا المنظور ، يمكن لنا أن نقول بأن الكانطية تشكل الأفق الفلسفي الأقرب للتأويل ، ونعرف أن روح كتاب "النقد" العامة ، تكمن فى قلب العلاقة بين نظرية المعرفة ونظرية الكينونة ؛ يجب قياس قدرة الفهم قبل مواجهة طبيعة الكينونة ونعرف أنه فى مناخ كانطي أمكنت صياغة مشروع إلحاق قوعد التأويل ، لابتنوع النصوص والأشياء الواردة فى هذه النصوص ، بل بالعملية المركزية التى توحد المختلف من التأويل ، لو لم يكن شلايرماخر نفسه واعيا بإجراء فى النظام التفسيرى والفقه لغوى نوع القلب الكوبرنيقي الذي أجراه كانط في نظام فلسفة الطبيعة ، فإن ديلتاي كان سيكون كذلك بالتأكيد ، في مناخ الكانطية الجديدة لنهاية القرن التاسع عشر . لكن كان يلزم قبل ذلك العبور من مد لم تكن لشلايرماخر فكرة عنه ، أعنى تضمين علوم التفسير وفقه اللغة فى العلوم التاريخية . داخل هذا التضمين وحده ، يظهر التأويل كجواب شامل لسد ثغرة الكانطية ، المنتبه إليها لأول مرة من طرف يوحنا غوتفريد هيردر ومعترف بها ، فضلا عن ذلك . من طرف إرنست كاسيرر : أي أنه فى فلسفة نقدية . لايوجد شئ بين الفيزياء والأخلاق .
لكن الأمر لم يكن يتعلق فقط بردم ثغرة كانطية ؛ إنما كان يتعلق بتثوير تصوره للذات فى العمق. ولأنها حصرت نفسها فى البحث عن الشروط الكونية للموضوعية فى الفيزياء والأخلاق ، فإنه لم يكن بمقدور الكانطية أن تولد سوى عقل لاشخصى ، حامل لشروط إمكانية أحكام كونية 0 لم يكن بوسع الهيرمينوطيقا أن تضيف شيئا للكانطية لو لم تجن من الفلسفة الرومانسية يقينها التام الأصلى ، من ذلك أن العقل هو اللاشعور العملى الخلاق فى ذاتيات نابغة 0فى الآن نفسه ،كان البرنامج التأويلى لشلايربماخر يحمل فى طياته البصمة المزدوجة الرومانسية والنقدية :الرومانسية بدعوته إلى علامة حية مع سيرورة الإبداع ،و النقد بإرادته فى بناء قواعد فهم صالحة كونيا 0ربما كان كل تأويل مطبوعا بهذا النسب الرومانسى والنقدى،النقدى والرومانسى المزدوج ، النقدى هو خطة مقاومة سوء الفهم باسم القول المأثور الشهير : "يوجد التأويل حيثما يكون سوء الفهم"(2) والرومانسى هو "فهم كاتب كما فهم نفسه وربما أحسن"(3)
ندرك فى الآن نفسه ، أنه إحراج ،بقدر ما هو نظرة إجمالية ، أن شلايرماخر قد بلغ خلقه، فى ملاحظات التأويل ، أنه لن يوفق أبدا فى تحويله إلى مؤلف كامل 0 وكانت القضية التى تصارع معها شلايرماخير هى العلاقة بين شكلين من أشكال التأويل :"التأويل النحوى" و "التأويل التقني" وهذا تمييز دائم فى عمله ، والذى لم تكف دلالته عن التنقل على مجرى السنين 0 قبل دار نشر كيمرليه Kimerles (4)، لم نكن نعرف ملاحظات 1804 و السنوات التي تلتها؛ لذا قيدنا شلايرماخر بتأويل نفسى كان ، فى البداية ، على قدم المساواة مع التأويل النحوى0 يتسند التأويل النحوى على خصائص الخطاب فى ثقافة ما ويتوجه التاويل النفسى الذى ما يزال يسميه تأويلا تقنيا ؛ إلى فرادتها ، بل وإلى عبقرية إرسالية الكاتب 0 لكن إذا كان للتأويلين حق متساو فلا يمكن تطبيقها فى نفس الوقت 0 ويدقق شلايرماخر : بأن فحص لغة مشتركة يعنى نسيان الكاتب ، وفهم مؤلف فريد ، يعنى نسيان لغته التى تم عبورها فقط 0 فأما أن نلحظ المشترك ، أو نلحظ الخاص 0 سمى التأويل الأول موضوعيا0 ما دام يهتم بخصائص الكاتب اللسانية المتميزة0 وكذلك تأويلا سلبيا ما دام يعين حدود الفهم فقط؛ لاتبالى قيمته النقدية سوى بالأخطاء المتعلقة بمعنى الكلمات 0 وسمى التأويل الثانى تقنيا، نسبة دون شك إلى مشروع أو تكنولوجيا ما 0 وفى هذا التأويل الثانى يتكامل مع مشروع هيرمينوطيقا ما 0 يتعلق الأمر ببلوغ ذاتية ذلك الذى يتكلم، ما دامت اللغة قد نسيت هنا يصبح الكلام العنصر الخادم للذاتية0 ويسمى هذا التأويل إيجابيا،لأنه يبلغ فعل الفكر الذي ينتج الخطاب0 لا أحد منهما يريد إقصاء الآخر فحسب، بل كل منهما يطالب بمواهب متميزة كما يوحى بذلك الإفراطان المحترمان لهذا وذاك، إفراط الأول يعطى التكلف ، وإفراط الثانى الغموض0 فقط فى نصوص شلايرماخر الأخيرة استطاع التأويل الثانى الانتصار على الأول 0وأكد الطابع التنجيمى للتأويل فيه على الطابع النفسى0 لكن ، حتى ذلك الوقت ،لم ينحصر التأويل النفسى – وهذا المصطلح يعوض مصطلح التأويل التقني – أبدا فى حميمية الكاتب ؛ بل قحم مبررات نقدية فى نشاط المقارنة؛ لا يمكن أن يقبض على أية ذاتية إلا بالمقارنة و النقيض0 بذلك تحمل الهيرمينوطيقا الثانية بدورها عناصر تقنية وخطابية 0 كما لا ندرك بشكل مباشر أبدا ، ذاتيةما، بل فقط اختلافهما مع أخرى ومع ذاتها 0 هكذا تكون صعوبة الفصل بين الهيرمينوطيقا معقدة بسبب مطابقة زوج التعارض الأول النحوي و التقني مع زوج التعارض الثاني ، التنجيم و المقارنة 0 الخطابات الأكاديمية(5) تشهد على العائق الأقصى لمؤسس الهيرمينوطيقا الحديثة0 واقترح نفسي بالتالي (انظر المقالة الثانية) لإبراز أن العوائق لا يمكن تجاوزها إلا بتوضيحها لعلاقة المؤلف بذاتية الكاتب ؛ وفى التأويل بنقل نبرة البحث للذاتيات المختبئة، إلى معنى ومرجعية الآثر الأدبى نفسه0 ولكن قبل ذلك يجب دفع إحراج الهيرمينوطيقا المركزى إلى الأبعد 0 مع ملاحظة التوسيع الحاسم الذى ألحقه به ديلتاى وهو يعلق الاشكالية الفقه لغوية و التفسيرية على الاشكالية التايخية 0 وهذا التوسيع، بمعنى الكونية الأكبر هو ما يهيئ نقل الابستمولوجى باتجاه الأنطولوجى بمعنى الترسيخ الأكبر
3-فلهالم ديلتاى:
يحتل دلتاى موقعا فى منعطف الهيرمينوطيقا الحرج هذا ، حيث باتت ضخامة المشكل بينة، غير أنها كانت ما تزال تطرح فى عبارات المناظرة الابستمولوجية ، التى ميزت كل مرحلة الكانطية الجديدة.
كانت الحاجة إلى إدخال مشكل إقليمية تأويل النصوص فى حقل المعرفة التاريخية الأكثر رحابة، تفرض نفسها على فكر منشغل بتوضيح النجاح الكبير للثقافة الألمانية فى القرن التاسع عشر ، يعنى اختراع التاريخ كعلم غير مسبوق 0 بين شلايرماخر وديلتاى0 يوجد كبار مؤرخى القرن التاسع عشر : ليوبولد رانك ، ي0 غ 0 دورويسن وغيرهما 0 وكان النص المرشح للتأويل آنئذ هو الواقع نفسه وتسلسه Zusammenhang قبل سؤال : كيف نفهم نصاً ما انتمى إلى الماضى ، يطرح سؤال أولى: كيف تتصور تسلسلا تاريخيا ؟ قبل انسجام نص ما يأتى انسجام التاريخ0 المنظور إليه كوثيقة الانسان الكبيرة0 كأهم تعبير للحياة0كان ديلتاى قبل كل شئ مترجم هذا الميثاق الهيرمينوطيقا و التاريخ 0 وما نسميه اليوم تاريخانية0 بمعنى محقر 0 إنما يعبر عن حالة ثقافية 0 أي عن نقل اهتمام البشرية الأدبية و الفنية إلى التسلسل التاريخي الذى حملها. فحطه التاريخانية لا تنتج فقط عن العوائق التى بعثتها هى ذاتها بل عن تحول ثقافى آخر ، حدث فجأة من وقت قريب تحول يحثنا على تفضيل النسق على حساب التغيير ، السانكرونية على حساب الدياكرونية 0 وسنرى بعدئذ كيف تعبر ميولات النقد الأدبى المعاصر البنيوية ، فى الآن ذاته ، عن فشل التاريخانية وعن قلب إشكاليتها فى العمق0
لكن فى الوقت الذى كان ديلتاى يتحمل أيام التفكير الفلسفى مشكلة وضوح التاريخى ، الكبيرة 0 بوصفه كذلك، كان ميالا ، بدافع ثقافى ثان كبير ، إلى عن مفتاح الحل، ليس من ناحية الانطولوجيا ، بل فى إصلاح الابستمولوجيا نفسها ، الحالة الثقافية الرئيسية الثانية التى تمت إثارتها هنا ، قد مثلت بصعود الوضعية كفلسفة ، إذا فهمنا من هذا وبعبارات أعم ، اقتضاء العقل باعتبار نوع الشرح الأمبريقى الجارى فى مجال العلوم الطبيعية هو نموذج الوضوح كله 0 إن زمن ديلتاى هو فترة الرفض التام للهيجلية 0 وفترة احراج المعرفة التجربيية منذ ذلك الحين كانت الطريقة الوحيدة لانصاف المعرفة التاريخية تبدو انها كامنة فى أعطائها بعدأ علميا قابلا للمقارنة مع البعد الذى حققته علوم الطبيعة ؛ للرد إذن على الوضعية شرع ديلتاى فى تخصيص علوم العقل بمنهجية وبإبستمولوجية محترمين شأن نظريتها فى علوم الطبيعة0
على خلفية هاتين الحالتين الثقافيتين الكبيرتين طرح ديلتاى سؤاله الرئيسى : كيف تكون المعرفة التاريخية ممكنة ؟ أو بشكل أعم ، كيف تكون علوم العقل ممكنة؟ يقودنا هذا السؤال إلى عتبة التعارض الكبير ، الذى يعبر كل عمل ديلتاى ، بين شرح الطبيعة وفهم الفكر 0 وهذا تعارض وخيم العواقب بالنسبة للهيرمينوطيقا التى تجد نفسها بذلك مقطوعة عن الشرح الطبيعى ومرفوضة من جانب الحدس النفسي .
وفى الواقع بحث ديلتاى من ناحية التحليل النفسى عن السمة المميزة للفهم 0 يفترض كل علم العقل ويقصد ديلتاى بهذا كل أنماط معرفة الإنسان التى تتضمن علاقة تاريخية- قدرة أولية ، قدرة الانتقال إلى حياة الغير ، النفسية. فى الحقيقة لا يبلغ الانسان فى المعرفة الطبيعية ، سوى الظواهر المتميزة عنه حيث تنقلت منه شيئيتها0 فى النظام البشرى 0 يحصل العكس ، الإنسان يعرف الإنسان ؛ مهما كان الإنسان الآخر عنا غريبا، فهو ليس كذلك بالمعنى الذى يمكن أن يكون فيه الشيء المادي مجهولا. الاختلاف الاعتباري بين الشيء الطبيعي و العقل يتحكم إذن فى الاختلاف الاعتباري بين الشرح و الفهم . ولا بعد الإنسان جذريا غريبا بالنسبة للإنسان ،لأنه يقدم علامات عن وجوده الخاص. فهم تلك العلامات يعنى فهم الإنسان هو ذا ما تجهله المدرسة الوضعية تماما: اختلاف المبدأ بين العالم النفسى و العالم المادى 0 قد نعترض على ذلك بقول : أن الفكر ، العالم الفكرى ليس هو الفرد (I;individu) بالضرورة : ألم يكن هيجل دليلا عن إحدى مناطق الفكر ، الفكر الموضوعي ، فكر المؤسسات و الثقافات التى لا يمكن إطلاقا إرجاعها إلى ظاهرة نفسية ؟ غير أن ديلتاى ما يزال ينتمى إلى ذلك الجيل الكانطى الجديد حيث يعتبر الفرد قطب كل العلوم الإنسانية ، ينظر إليه بحق فى علاقاته الاجتماعية ، لكنه فريد بشكل رئيسي . لهذا تتطلب علوم العقل ، كعلم أصلى ، علم النفس ، علم الكائن الفاعل فى المجتمع وفى التاريخ . وفى النهاية ، تقوم العلاقات المتبادلة ، الأنظمة الثقافية ، الفلسفة ، الفن والدين على هذا الأس . هنا ، بدقة أكثر ، يكمن ما يمثل حقبة كذلك ، فإن يلتمس الإنسان فهم نفسه كان بمثابة نشاط ، بمثابة إرادة حرة ، بمثابة مبادرة ومشروع . هنا نفهم التصميم الراسخ فى إدارة الظهر لهيجل ، و الاستغناء عن المفهوم الهيجلى لروح شعب ما كذلك متابعة السير على خطى كانط ، لكن فى النقطة التى ، كما سبقت الإشارة إلى ذلك ، توقف كانط عندها .
إن مفتاح نقد المعرفة التاريخية ، الذى تغيب بفظاظة بالغة من الكانطية ، يجب أن يبحث عنه من ناحية الظاهرة الأساسية للترابط الداخلى، أو التسلسل، الذى تتميز به حياة الغير، فى انبثاقها، ويتعرف عليها . ولأن الحياة تنتج أشكالا ، وتجلى فى التشخيصات القارة ، فإن معرفة الغير ممكنة . فالإحساس ، التقويم ، وقواعد الإرادة تنزع إلى الاستقرار فى خبرة منظمة ، معروضة على كشف الأخرين تشكل الأنساق المنظمة التى تفرزها الثقافة فى صورة الأدب ، طبقة من الصف الثانى ، منصوبة فوق تلك الظاهرة الأولية لبنية إنتاجات الحياة ، الغائية . ونعرف كيف سيحاول ماكس فيبر بدوره ، حل نفس القضية بمفهومه حول النماذج المثالية . وقد اصطدم ، فى الواقع ، كل منها ، بالمشكل ذاته : كيف نفهم فى نظام الحياة ، الذى هو نظام التجربة المترجرجة ، ما يبدو فى المقابل منتميا إلى انتظام الطبيعة ؟ الجواب ممكن لأن الحياة الفكرية تستقر فى مجموعات منظمة يحتمل فهمها من طرف آخر ما ابتداء من سنة 1900 ، إتكأ ديلتاى على هوسرل ليمنح لمقولة التسلسل تلك ، متانة ما . كان هوسرل فى نفس المرحلة ، يثبت أن الحياة النفسية كانت موصوفة بالقصدية ، أى بميزة قصد معنى يتحمل التعرف عليه . الحياة النفسية ذاتها لا يمكن بلوغها ، لكن يمكن إدراك ما تقصده ، الترابط الموضوعى والمماثل الذى تتجاوز فيه الحياة النفسية ذاتها . كانت فكرية القصدية وميزة الموضوع المقصود المماثلة ، تسمح على هذا النحو لديلتاى ، بتدعيم مفهوم النظام النفسى بالمقولة الهوسرلية حول الدلالة .
لأى شئ ، آلت القضية الهيرمينوطيقية كما استقبلت من طرف شلايرماخر ، فى هذا السياق الجديد ؟ كان العبور من الفهم ، المحدد كفاية بالقدرة على الانتقال إلى آخر ، إلى التأويل ، بالمعنى الدقيق لفهم تعابير الحياة المثبثة بالكتابة ، يطرح مشكلا مزدوجا . من ناحية ، كانت الهيرمينوطيقا تكمل علم النفس الشامل بإضافة طابق متمم إليه ؛ ومن أخرى كان علم النفس الشامل يلوى الهيرمينوطيقا إلى معنى نفسى . هذا يفسر أن ديلتاى قد آخذ عن شلايرماخر الجانب النفسى من هيرمينوطقاه التى تعرف فيها على مشكله الخاص ، الفهم عبر نقله إلى الآخر . عندما ننظر إلى الهرمينوطيقا لأول وهلة ، يبدو أنها تحمل شيئا ما خاصا ؛ فهى تميل إلى إنتاج تسلسل ومجموعة منظمة ، بالاستناد إلى نوع من العلامات ، تلك التى كانت مثبتة بالكتابة أو بأى أسلوب تخطيط مواز للكتابة . لم يكن ممكنا إذن القبض على الحياة النفسية للغير فى تعابيرها المباشرة فكان لابد من إعادة بنائها ، بتأويل العلامات المعبر عنها وهنا تفرض قواعد مغايرة من طرف الـ Nachbilden ( إعادة الإنتاج ) بسبب توظيف التعبير فى مواضيع ذات طبيعة خاصة . وكما هو الأمر لدى شلايرماخر فإن فقه اللغة ، أى شرح النصوص ، وهو الذى يصنع المرحلة العلمية للفهم ؛ ويتمثل الدور الرئيسى للهيرمينوطيقا ، بالنسبة لهذا ولذاك ، فى "إقامة صلاحية التأويل الكونية ، كأساس كل يقين فى التاريخ ، نظريا ضد الاقتحام المستمر لعشوائية الرومانسية والذاتية الشكوكية (..)(6) . بهذا تمثل الهيرمينوطيقا قشرة الفهم المعبر عنها بفضل بنيات النص الأساسية .
لكن الرأى الآخر لنظرية هيرمينوطيقة مبنية على علم النفس هو أن علم النفس يبقى مبررها الأخير. فاستقلال النص لا يمكن أن يكون سوى ظاهرة مؤقتة وسطحية لهذا بالضبط تبقى قضية الذاتية لدى ديلتاى قضية لا مفر منها ويتعذر حلها فى نفس الوقت . بتعذر حلها بسبب ادعاء الرد على الوضعية بتصور علمى للفهم على نحو أصيل . لذا لم يكف ديلتاى عن إصلاح وتحسين مفهومه حول إعادة الانتاج ، بطريقة تصيره دائما ملائما لاقتضاء الإسقاط . غير أن تبيعية المشكل الهيرمينوطيقى لمشكل المعرفة النفسى الصرف كانت تحكم عليه بالبحث خارج الحقل الخاص بالتأويل عن منبع كل إسقاط . بالنسبة لديلتاى ، يبدأ الإسقاط بكيرا ابتداء من تأويل الذات . ما أمثله فى نظرى أنا لا يمكن بلوغه إلا من خلال إسقاطات حياتى الخاصة ؛ ومعرفة الذات هى قبل كل شئ تأويل لا يقل صعوبة عن تأويل الآخرين ، بل ربما أصعبها ، لأننى لا أفهم نفسى إلا بالعلامات التى أقدمها عن حياتى الخاصة ، والتى يرسلها إلى الأخرون . كل معرفة للذات متعلقة بغيرها عبر علامات وآثار ما . بهذا الاعتراف ، يرد ديلتاى على Lebens-philosophie ( فلسفة الحياة ) المؤثرة فى المرحلة . ويشاطرها فى اليقين التام بأن الحياة دينامية إبداعية أساساً ، لكن ، ضد فلسفة الحياة ، يحرص على أن الدينامية الابداعية لا تعرف نفسها ولا يمكن أن تؤولها إلا بتحويل العلامات والآثار . هكذا حدث لدى ديلتاى اندماج بين مفهوم الدينامية ومفهوم النظام : إذ تبدو الحياة كدينامية تنتظم بنفسها . وهكذا حاول ديلتاى الأخير تعميم مفهوم الهيرمينوطيقا ، بدفعه على هذا النحو عميقا دائما فى غائبة الحياة . تنظم الدلالات المكتسبة ، القيم الحاضرة والغايات البعيدة دينامية الحياة باستمرار ، تبعا لأبعاد الماضي ، الحاضر والمستقبل الزمنية . الانسان يتعلم من أفعاله التعبير عن حياته ومن التأثيرات التى يمارسها هذا التعبير على الآخرين فقط . فهو لا يتعود معرفة نفسه إلا بتحويل الفهم ، الذى كان دائما تأويلا . وبعود الفرق الوحيد الدال حقيقة ، بين التأويل النفسى والتأويل التفسيري ، إلى أن إسقاطات الحياة تنزع إلى الاستقرار وإلى الترسب فى معرفة مستديمة تأخذ كل مظاهر العقل الموضوعي الهيجلى . إذا لم يكن بوسعى فهم العوالم المختفية ، فلأن كل مجتمع قد خلق أجهزة فهمه الخاصة بخلق عوالم اجتماعية وثقافية يفهم فيها. بهذا يصبح التاريخ الكونى الحقل الهيرمينوطيقي نفسه . فإن أفهم نفسى يعنى أن أقوم بأكبر تحويل ، تحويل الذاكرة الكبيرة التى أمست دالة بالنسبة لكل الناس . الهيرمينوطيقا هى إدراك الكائن لمعرفة التاريخ الكونى ، هى كونية الكائن .
إن عمل ديلتاى يوضح ، أكثر من عمل شلايرماخر ، إحراج الهيرمينوطيقا المركزي الذي يخضع فهم النص لقانون فهم الغير الذي يعبر عن نفسه فيه . وإذا بقى المشروع نفسها فى جوهره ، فلأنه يعزو الهدف الأخير للتأويل ، لا إلى ما يقول النص ، بل إلى من يعبر عن نفسه فيه . وهكذا لا يكف موضوع الهيرمينوطيقا عن الانتقال من النص ، من معناه ومرجعيته ، إلى المعيش الذى يعبر عنه ، وقد بين هانس جورج غادامير هذا الصراع الخفى فى عمل ديلتاى (7) إن الصراع فى نهاية المطاف هو بين فلسفة الحياة وفلسفة المعنى ، التى لها نفس مزاعم فلسفة العقل الموضوعى الهيجلية وقد حول ديلتاى هذه الصعوبة إلى مسلمة : الحياة تنطوى بداخلها على قدرة تجاوز نفسها فى الدلالات (8) . أو كما قال غادامير بأن "الحياة تصنع تفسيرها الخاص : لها نظام هيرمينوطيقى (9) . لكن أن تكون هيرمينوطيقا الحياة هذه تاريخاً ، هو ما يظل غير مفهوم. إذ أن العبور من الفهم النفسى إلى الفهم التأريخى يفترض فى الواقع أن تسلسل أثار الحياة غير معيش ولا مجرب من أى كان لذا لا يمكن أن نتسلءل عما إذا كان يجب لتفكير إسقاطات الحياة والتعامل معها كمعطيات ، وإرجاع كل المثالية التأملية إلى جذر الحياة نفسها ، بمعنى تفكير الحياة ذاتها فى النهاية كروح ( Geist ) . وإلا كيف نفهم أن الحياة فى الفن ، فى الدين والفلسفة تعبر عن نفسها بشكل تام ، بإسقاط ذاتها كلية ؟ أليس لأن الروح هنا فى مسكنها ؟ أليس ذلك كذلك اعترافا بأن الهيرمينوطيقا غير ممكنة كفلسفة عاقلة إلا بالاستعارات التي تأخذها من المفهوم الهيجلى ؟ من الممكن إذا أن نقول عن الحياة ما قاله هيجل عن الروح : الحياة هنا تمسك بالحياة .
يبقى مع ذلك أن ديلتاى قد لمح جيدا عقدة القضية المركزية : أى الحياة لا تمسك بالحياة إلا بوساطة وحدات المعنى التى تسمو عن المد التاريخى . لقد لمح ديلتاى هنا نمطا من تجاوز التناهي دون تحليق ، دون معرفة مطلقة ، الذى هو التأويل بالضبط ، من هنا كذلك عين الاتجاه الذى يمكن فيه للتاريخانية أن تهزم نفسها ، دون الاستناد إلى أية مصادفة منتصرة بمعرفة مطلقة معينة : لكن لا ستمرار هذا الاكتشاف ، يجب التوقف عن ربط مصير الهيرمينوطيقا بالمقولة النفسية الصرفة ، مقولة التحول إلى حياة نفسية غربية ونشر النص ، لا باتجاه مؤلفه ، بل باتجاه معناه الماثل وباتجاه نوع العالم الذى يفتحه ويكتشفه .
II من الابستمولوجيا إلى الأنطولوجيا
فيما وراء ديلتاى، لم تكن الخطوة الحاسمة فى تحسين إبستمولوجية علوم العقل بل فى طرح افتراضها الاساسى للتساؤل أى أن هذه العلوم بإمكانها أن تتبارى مع علوم الطبيعة بأسلحة منهجيتها الخاصة. هذا الافتراض القبلى ، المهيمن فى عمل ديلتاى، يقتضى أن تكون الهيرمينوطيقا صنفا من نظرية المعرفة وأن يحصر الجدل بين الشرح والفهم فى حدود منهج الجدال( Methodenstreit) لدى الكانطيين الجدد. إنه افتراض هيرمينوطيقا قبلى فهم كأبستمولوجية أعيد طرحها من طرف مارتن هيدجر، وهانس جورج غادامير من بعده. لا يمكن إذن لمساهمتها أن توضح بلا قيد ولا شرط فى تمديد مشروع ديلتاى عليها بالأحرى أن تبدو كمحاولة حفر تحت المشروع الابستمولوجى نفسه، بهدف توضيح الظروف الانطولوجية بالضبط. لو أننا تمكنا من وضع الخط الأول من الهيرمينوطيقات الاقليمية إلى الهيرمينوطبقا العامة، تحت علاقة الثورة الكوبرنيكية ، لوجب وضع الخط الثانى الذى نشرع فيه الأن تحت علامة قلب كوبرنيكى ثان ، يعيد وضع أسئلة المناهج تحت مراقبة أنطولوجيا أولية. لا يجب إذن أن ننتظر لا من هيدجرولا من غادامير تحسيناً معينا للإشكالية المنهجية التى أثارها تفسير النصوص المقدسة أو المدنسة، فقه اللغة، علم النفس ، نظرية التاريخ أو نظرية الثقافة. بالمقابل، يبرز سؤال جديد، عوض أن نسأل : كيف تعلم؟ نسأل: ما هو نمط كينونة هذا الكائن الذى لا يوجد إلا بالفهم؟
1 - مارتن هيدجر
إن مسألة التبين أو التبيين ، أو التأويل تتطابق قليلا مع مسألة تفسير النصوص المرتبطة ، منذ مقدمة "الوجود والزمان" ، مع مسألة الكينونة ، المنسية (10) ؛ ما نتساءل عنه، هو مسألة معنى الكينونة . غير أننا مقتادون ، فى هذا السؤال ، من طرف ما نبحث عنه: فسؤال المعرفة مقلوب رأساً باستفهام يستبقه وينصب على الطريقة التى يلاقى بها كائن الكينونة ، حتى قبل أن يعارضها كموضوع واجه ذاتاً . رغم أن "الوجود والزمان" يشدد على الـ Dasein ، الوجود الانسانى الذى هو نحن ، أكثر مما ستفعل أعمال هيدجرالبعدية. الـ Dasein يعين المكان الذى انبجس منه سؤال الكينونة مكان الظهور، مركزية الوجود الإنساني هى مركزية الكائن الذى يفهم الكينونة فحسب . ويتعين على نظامه ككائن أن يكون لديه فهم أنطولوجى مسبق للكينونة . منذ ذلك الوقت ، لن يكون إظهار تشكل الوجود الإنساني هذا ، إطلاقا "بناءً بالاشتقاق" ، كما هو الشأن فى منهجية العلوم الإنسانية ، بل "إبراز الأساس عن طريق الإظهار " ( الفقرة 3 ، ص . 24 ) . وهكذا خلق تعارض بين الأساس الأنطولوجى ، بالمعنى الذى ذكرنا على التو ، والأساس الابستمولوجى . سيكون الأمر مجرد سؤال ابستمولوجى لو أن القضية كانت قضية مفاهيم الأساس التى تدير مناطق موضوعات تفصيلية ، منطقية – طبيعية ، منطقة ـ حياة ، منطقة ـ كلام ، منطقة – تاريخ . بالتأكيد أن العلم ذاته يباشر توضيحا مماثلا لمفاهيمه الأساسية ، خصوصا بمناسبة أزمة الأسس . لكن مهمة البناء الفلسفية شئ آخر : فهى تهدف إلى استخراج المفاهيم الأساسية التى "تحدد الفهم الأولى للمنطقة التى تقدم الأساس لكل الموضوعات التيمية لعلم ما ، التى توجه من ثم كل بحث إيجابى " ( ص .26 ) . سيكون رهان الفلسفة الهيرمينوطيقية إذن هو "توضيح هذا الموجود نسبيا فى تشكل كينونته " ( نفسه ) ؛ لن يضيف هذا التوضيح شيئا لمنهجية علوم العقل ؛ لكنه سيحفر بالأحرى تحت تلك المنهجية، لإجلاء أسسها : "هكذا ، ما يعتبر فلسفيا الأول فى التاريخ (.. ) لن يكون لا نظرية تكون المفاهيم فى المادة التاريخية ، ولا حتى نظرية التاريخ كموضوع للعلم التاريخى ، بل تأويل الموجود التاريخى بالضبط نسبيا إلى تاريخانيته " (نفسه ) . ليست الهيرمينوطيقا تفكيرا فى علوم العقل ، إنما إبراز للأرضية الأنطولوجية التى يمكن لهذه العلوم أن تقوم عليها من هنا كانت الجملة المفتاح بالنسبة لنا : "فى الهيرمينوطيقا التى فهمت على هذا النحو يتجذر ما يجب تسميته " هيرمينوطيقا " بمعنى ما مشتق : منهجية علوم العقل التاريخية ( ص . 56 ) .
هذا القلب الأول المكتشف من طرف "الوجود والزمان" يستدعى قلبا آخر . كانت مسألة الفهم ، عند ديلتاى ، مرتبطة بقضية الغير ؛ وإمكانية الوصول إلى الانتقال إلى نفسية غريبة ، تهيمن على كل علوم العقل ، من علم النفس إلى التاريخ . لكن ، من الملفت للانتباه ، فى "الوجود والزمان" ، أن مسألة الفهم منفصلة تماماً عن قضية التواصل مع الغير . صحيح أن هناك فصلا يسمى Mitseint – كينونة – مع ؛ لكن ليس فيه نعثر على مسألة الفهم كما لو أننا نتوقع سطرا ديلتياً . إن أسس المشكل الأنطولوجى يجب البحث عنها ناحية علاقة الكينونة بالعلم لا فى جهة العلاقة مع الغير ؛ ففى العلاقة مع حالتى ، فى الفهم الأساسى لوضعيتى فى الكينونة ، يكمن الفهم مبدئيا ، لكن ليس أمراً عديم الأهمية أن نذكر بالأسباب التى دفعت ديلتاى إلى العمل على هذا النحو ؛ لقد كان يطرح إشكالية علوم العقل انطلاقا من برهان كانطى : إن معرفة الأشياء ، يقول تفضى إلى مجهول ما ، هو الشئ نفسه ؛ بالمقابل لا وجود ، فى الحالة النفسية ، إلى شئ فى ذاته : ما يكونه الآخر ، هو نحن أنفسنا . للمعرفة النفسية إذن ميزة لا تنكر على معرفة الطبيعة . لم تعد لهيدجر، الذى قرأ نيتشه ، هذه البراءة أبدا ؛ فهو يعرف أن الآخر ، مثلى تماما ، مجهول بالنسبة لى أكثر مما يمكن لأية ظاهرة طبيعية أن تكون فالكتمان فيه أكثر إطباقا من أى مكان آخر بلا شك . إذا كان ثمة منطقة فى الكينونة تسيطر فيها اللاصحة ، فهى علاقة كل واحد مع غير ممكن ، لهذا السبب كان فصل كينونة – مع جدلا مع ضمير الغائب ، كإقامة ومكان مفضل للكتمان . ليس من المدهش ألا تبدأ الأنطولوجيا مع التفكير فى كينونة ـ مع ، بل مع التفكير فى كينونة ـ فى ليست الكينونة مع آخر هى ما يضاعف ذاتيتى ، بل الكينونة – فى العالم . إن نقل المكان الفلسفي هذا مهم أهمية تحويل مشكل المنهج إلى مشكل الكينونة. وهكذا تأخذ مسألة عالم مكان مسألة غير . وبعولمية الفهم بهذا الشكل ، يفرغة هيدجرمن طابعه النفسى .
كان هذا النقل مجهولا فى تأويلات هيدجرالمساة وجودية ؛ وقد تم تناول تحليلات الهم ، القلق والكينونة للموت فى سياق معنى تحليل نفسى وجودى دقيق ، مطبق فى حالات نفسية نادرة . ولم يلاحظ بما فيه الكفاية أن هذه التحليلات تنتمى لتأمل حول عولمية العالم ، وأنها تروم جوهريا هدم زعم الذات العارفة بالارتفاع قياساً على الموضوعية . إن ما يجب بالضبط استعادته على زعم الذات هذا ، وهو وضع المقيم هذا العالم ، الذى من خلاله ( الوضع ) توجد حالة ، فهم وتأويل ما . لذا وجب أن تكون نظرية الفهم مسبوقة بالاعتراف بعلاقة التجذر التى تؤكد رسو كل النظام اللسانى ، ومن ثم الكتب والنصوص ، فى شئ ما ليس ، فى المقام الأول ، وهو ظاهرة التلفظ فى الخطاب . يجب أولا أن يجد الإنسان نفسه ( أحسن أو أقبح ) ، أن يجد نفسه هنا وأن يحس بنفسه ( بطريقة معينة ) . حتى قبل أن يتوجه ، إذا استغل كينونة وزمن بعمق أحساس معينة كالخوف والقلق ، فليس من أجل ممارسة الوجودية ، بل من أجل استخراج ، على حساب تلك التجارب الموحية ، رابط مع الواقع أهم من علاقة ذات – موضوع ؛ بالمعرفة ، نضع الموضوعات أمامنا ؛ والاحساس بالموضوع يسبق هذا المقابل بتوجيهنا إلى عالم ما .
بعد ذلك يأتى الفهم . لكنه ليس فعل كلام ، كتابة أو نص بعد . الفهم ، بدورة ، يجب أن يوصف ، ليس بمصطلحات الخطاب ، بل بمصطلحات الـ " القدرة على الكينونة " . الوظيفة الأولى للفهم هى توجيهنا فى حالة ما . لا يتوجه الفهم إذن إلى القبض على موضوع ما ، إنما إلى إدراك إمكانية الكينونة . علينا ألا نغفل هذه النقطة عندما نستنتج خلاصات هذا التحليل المنهجية : لا يعنى فهم نص ما ، العثور على معنى جامد محتوى فيه بل بسط إمكانية الكينونة التى يعينها النص ؛ بذلك سنكون اوفياء للفهم الهيدجرى الذى هو جوهريا عزم ما أو بطريقة أكثر جدلية وأكثر تناقضا ، عزم ما فيها كينونية – مقذوفة مسبقة . هنا أيضا تبدو النبرة الوجودية خادعة . هناك كلمة صغيرة تفرق بين هيدجر وسارتر ، هى : مسبقا دائما : "ليس لهذا العزم أية علاقة مع صعيد سلوك يمكن للكينونة – هنا أن تكون قد اختلقته وتبعا له نصبت كينونتها : باعتبارها كينونة هنا ، فإنها مسبقا معزومة دائما وستبقى عزما طالما هى كذلك " ( ص 181 ) . ما يهم هناك ، ليس اللحظة الوجودية للمسؤولية أو للاختيار الحر ، بل انتظام الكينونة الذى توجد انطلاقا منه مشكلة الاختيار . فالـ .. إما .. أو إما … ليست أصلا ، إنها مشتقة من نظام العزم المقذوف .
لا تأتى اللحظة الأنطولوجية التى تهم المفسر إذن ، إلا فى الصف الثالث من ثالوث الحالة الفهم – التأويل . لكن قبل تفسير النصوص ، يأتى تفسير الأشياء . والتأويل ، فى الواقع ، هو أولا تبيين ، تطور للفهم ، تطوير "لا يحول الفهم إلى شئ آخر ، لكنه يجعله فهما" (ص 185 ) . كل عودة إلى نظرية المعرفة مسبوقة بهذا الشكل ؛ ما تمت إبانته هو الـ "بصفته " ( le entant que ) المرتبطة بنطق التجربة المبين ؛ غير أن " البيان لا يظهر الـ "بصفته " ، فهو لا يزيد عن أن يمنحها تعبيراً ( ص 186 ) .
لكن ، إذا لم يقصد تحليلى الوجود الانسانى مشاكل التفسير بصراحة ، فإنه بالمقابل يعطى معنى لما يمكن أن يظهر على أنه فشل على المستوى الابستمولوجى ، بربط هذا الفشل الظاهر بنظام أنطولوجى متعذر التجاوز . هذا الفشل ، هو ما كان دائماً يوضح فى عبارات الحلقة الهيرمينوطيقية . فى علوم العقل – وقد لا حظنا ذلك مرارا – تتداخل الذات والموضوع بالتناوب تساهم الذات نفسها فى معرفة الموضوع ويتضح بالمقابل فى تنظيمه الأكثر ذاتية ، فى نظرة الموضوع للذات ، حتى قبل أن تشرع هذه الأخيرة فى المعرفة ؛ ولا يمكن لحلقة الهيرمينوطيقا ، وقد أبين عنها فى مصطلح الذات والموضوع ، ألا تظهر كحلقة مفرغة . آنئذ بتعين على وظيفة أنطولوجيا أصلية ما ، أن تبرز النظام الذى يوازن على الصعيد المنهجى تحت مظاهر الحلقة ؛ هذا النظام هو الذى يسميه هيدجر بالفهم القبلى؛ لكننا سنخطى كلية حينما نصر على وصف الفهم القبلى بمصطلحات نظرية المعرفة، أى ، مرة أخرى ، بأصناف الذات والموضوع ؛ فعلاقات التعود التى يمكن أن تكون لنا ، مثلا ، ومع عالم الأدوات ، بإمكانها أن تعطينا فكرة أولية عما يمكن أن تعنيه الخبرة المسبقة التى أتوجه بها لا ستعمال جديد للأشياء ؛ تنتمى خاصية السبق هذه إلى طريقة كينونة كل كائن يفهم تاريخيا ؛ إذن يجب أن نفهم هذا الاقتراح بمصطلحات تحليلى الوجود الانسانى : "تبيين شئ ما بصفته كذا وكذا ، يقوم إذن بالأسباب على خبرة وعلى رؤية أوليين وعلى سبق ما " ( ص 187 ) . ساعتها لن يكون دور الافتراضات القبلية فى التفسير النصى سوى حالة استثنائية لهذا القانون العام للتأويل . عندما ينقل الفهم القبلى إلى نظرية المعرفة ويقاس على ادعاء الذاتية ، يقبل بالنعت التحقيرى للحكم المسبق. وعلى العكس من ذلك لا يفهم الحكم المسبق ، بالنسبة للأنطولوجيا الأصلية ، إلا انطلاقا من سبق الفهم . منذئذ لن تكون الحلقة الهيرمينوطيقية الشهيرة سوى ظل نظام السبق هذا، فوق الصعيد المنهجى كل من فهم هذا سيعلم من الآن فصاعداً أن العنصر الحاسم ليس الخروج من الحلقة ، بل ولوجها على الوجه السليم " ( ص 190 ) .
كما نكون قد لاحظنا ذلك ، لا ينصب ثقل هذا التأمل الرئيسي على الخطاب ، وأقل منه على الكتاب . إن فلسفة هيدجر- فلسفة "الوجود والزمان" على الأقل - هى فلسفة كلام أقل بكثير ، بحيث أن مسألة لم تقحم إلآ بعد مسألة الحالة ، الفهم والتأويل . يبقى الكلام ، فى حقبة "الوجود والزمان" ، تلفظاً ثانيا ، تبيين فى نصوص منطوقة ما Aussage) (الفقرة 33، ص 191) . لكن تسلسل المنطوق انطلاقا من الفهم والتبيين يهيئنا لقول أن وظيفته الأولى ليست هى التواصل مع الغير ، ولا حتى حمل مسندات إلى ذوات منطقية، بل الترويج ، التوضيح والإظهار (ص192) . وظيفة الكلام السامية هاته ، لا تعمل إلآ على تذكيرنا بتسلسل هذا الأخير انطلاقا من البنيات الانتولوجية التى تتقدم عليه: " فألآ يصبح الكلام إلا فى هذه اللحظة موضوعا لاختيارنا ، يقول هيدجر فى الفقر 34 ، يجب أن يدل على أن هذه الظاهرة لها جذورها فى التشكيل الوجودي لفتاح الكينونة هنا" (ص.199).وفى مكان آخر يقول : " الخطاب تلفظ ما هو فهم " ( نفسه يجب إذن إعادة وضع الخطاب فى بنيان الكينونة لا هذه فى الخطاب :" إن الخطاب تلفظ دال " لنظام الكينونة فى العالم ، الممكن فهمه" (ص.200).
فى هذه الملاحظة الأخيرة حدد إجماليا ، العبور إلى فلسفة هيدجر الثانية، التى ستتجاهل الكينونة هنا وتنطلق مباشرة إلى قوة الكلام على الاظهار . لكن ، منذ كينونة وزمن ، يبدو القول (Reden) أكبر من التكلم (Sprechen) فالقول يعين التشكيل الوجودى ، والتكلم مظهرة المدنى الذى يقع فى التجربة . لهذا لم يكن التعريف الأول للقول هو التكلم إنما زوج الإصغاء - الصموت . هنا أيضا يتناول هيدجر بشكل مخالف الطريقة العادية ، بل واللسانية ، التى تضع فى الصف الأول عملية التكلم ( تعبير ، تخاطب ) . هو اصغاء بعبارة أخرى . إن علاقتى الأولى مع الكلام ليست هى أن أنتجه ، بل أن أستقبله : "الإصغاء هو مكون الخطاب (ص 201) . أولية الإصغاء تدل على العلاقة الأساسية بين الكلام والانفتاح وعلى الغير وتعتبر النتائج المنهجية مهمة : بحيث أن اللسانيات ، السيميولوجيا وفلسفة الكلام ترتبط حتما بمستوى المتكلم ولا تبلغ إلى مستوى القول . بهذا المعنى لا ترتب الفلسفة النظرية اللسانيات الذي تضيفه إلى التفسير . وبينما يحيل التكلم على الإنسان المتكلم . يحيل القول على الأشياء التى قليت وقد وصلنا إلى هذا النقطة ، سوف نسأل بدون شك : لماذا لا نتوقف عند هذا الحد ونعلن ببساطة أننا هيدجريون ؟ أين هو الإحراج الذاتى الذائع الصيت المعلن عنه ، ألم نقص الإحراج الديلتاى بنظرية ما فى الفهم ، محكوم عليها بدورها بمعارضة الشرح الطبيعي والتبارى معه فى الذاتية والعلمية؟ ألم نتخط ذلك بتعليق الابستولجيا بالأنطولوجيا ؟ فى نظرى ، لم يحل الاحراج لقد تم فقط نقله الى مكان آخر وبهذا صعب أكثر، لم يعد فى الابستمولوجيا بين نمطين من الفهم ،لكنه صار محصورا بين الانطولوجيا والابستمولوجيا . مع الفلسفة الهيدجرية لا نكف عن ممارسة حركة العودة إلى الأصول ، غير أننا نشعر بالعجز عن القيام بحركة الصعود التي تقودنا ، من الأنطولوجيا الأصلية إلى السؤال الابستمولوجى المحض عن وضع علوم العقل. والحال أن فلسفة تقطع الحوار مع العلوم لن تتوجه أبداً إلا لذاتها . وفضلا عن ذلك لا يتضح زعم اعتبار أسئلة التفسير والنقد التاريخي عموماً ، بمثابة أسئلة مشتقة ، ألآ على خط العودة فقط. وطالما لم نشرع فعليا فى هذا الاشتقاق ، سيبقى التجاوز نفسه الى أسئلة الأصل ، إشكاليا . ألم نتعلم من أفلاطون أن الجدل الصاعد هو الأسهل وأنه على خط النازل يظهر الفيلسوف الحقيقي ؟ إن السؤال الذى يظل بحاجة ألى حل لدى هيدجر، فى نظري ، هو: كيف نوضح سؤالا نقديا بعامة فى إطار هيرمينوطيقا أصلية؟ ومع ذلك يبقى أن على خط العودة هذا ، يمكن للتصريح بكون الحقيقة الهيرمنيوطيقية ،فى نظر المفسرين ، مبنية على نظام سبق الفهم على الصعيد الأنطولوجى الأصلي ، أن يختبر نفسة وأن يتضح . غير أن الهيرمينوطيقا الأنطولوجية تبدو عاجزة ، لأسباب بنيوية ، عن بسط إشكالية العودة هاته . لدى هيدجر نفسه ، أهمل السؤال بمجرد ما طرح . ونقرأ ما يلى فى "الوجود والزمان": "إن الحقيقة المميزه للفهم (000) تحتوى بداخلها إمكانية أصيلة للمعرفة الأكثر أصلية : ولا ندركها بشكل صحيح إلا إذا كانت مهمة التبيين الأولى ، الدائمة والأخيرة ، هى عدم الانصياع لما تفرضه أفكار عرضية وتصورات شعبية عرضية معينة عن خبرات ورؤى أولية ومسبقات ، بل تأكيد موضوعته العلمية بتنمية مسبقاته تبعا للأشياء نفسها"(ص190) .
ها هو التميز بين السبق تبعاً للأشياء نفسها والسبق الذى سيكون ناتجاً فقط عن أفكار عرضية (Einfalle) وتصورات شعبية (Volksbenieffe) ، قد طرح فى الأصل . لكن كيف نذهب الى ما هو ابعد ، بما أننا نعلن ، مباشر بعد ان "الافتراضات الأنطولوجية المسبقة لكل معرفة تارخية تتفوق اساساً على فكرة الصرامة الخاصة بالعلوم الدقيقة" (ص. 190 ) وأننا نتجنب سؤال الصرامة الخاصة بالعلوم التاريخية نفسها ؟ أن هم ترسيخ الحلقة أعمق من كل ابسيتمولوجيا يحول دون تكرار السؤال الابستمولوجى بعد الأنطولوجيا.
2 - هانس جورج غادامير .
يصبح هذا الاحراج القضية المركزية فى فلسفة هانس جورج غادامير الهيرمينوطيقة فى كتاب حقيقة ومنهج (Wahreit und methode)فقد رشح فليسوف هايدلبورغ نفسه بوضوح لإنعاش جدل علوم العقل انطلاقا من الأنطولوجيا الهيدجرية وبصفة أدق من انعطافها فى أعماله الأخيرة حول الشعرية الفلسفية . أن التجربة النووية التى تنظم حولها كل أعماله ، والتى انطلاقا منها تصعد الهيرمنوطيقا مطالبتها بالكينونة ، هى تجربة الفضيحة التى مثلها . على صعيد الوعى الحديث ، نوع المباعدة الاستلابية التى بدت له أنها افتراض العلوم القبلى . فالاستلاب فى الواقع أكثر من إحساس أو من نزوة : إنه الافتراض الأنطولوجى القبلي الذى يدعم توجيه العلوم الإنسانية الموضوعى . إن منهجية هذه العلوم تتطلب فى نظره وبشكل حتمى ، مباعدة ما ، تعبر بدورها عن هدم علاقة الأنتماء (Zugehorigkeit) الأوليه ، التى بدونها لن توجد علاقة ما بالتاريخي كما هو الأمر عليه . هذا الجدول بين المباعدة الاستلابية وتجربة انتماء تابعة غادامير فى حقول ثلاثة تتدرج بينها التجربة الهيرمينوطيقية: حقل جمالى تاريخي وحقل كلامي . في الحقل الجمالي ، تجربة الكينونة المحجوزة عليها من طرف الموضوع ، تتقدم على تمرين نقد الحكم الذى كان كانط قد نظر إليه تحت عنوان نقد الذوق، وتصيره ممكنا. فى الحقل التاريخي الوعى بالكينونة المحتملة بتقاليد سابقة على هو ما يجعل كل تمرين منهجية تاريخية ما على صعيد العلوم الإنسانية والاجتماعية ممكنا. وأخيراً فى حقل الكلام الذي يعبر بشكل معين الحقلين السابقين ، يتقدم الانتماء المزدوج إلى الأشياء التى قيلت من طرف الأصوات الكبرى لمبدعي الخطاب ، ويصير كل معالجة علمية للكلام كأداة رهن الإشارة وكل ادعاء ، بالسيطرة على بنيات نص ثقافتنا اعتماداً على تقنيات موضوعية ممكنين . هكذا تجرى نفس الأطروحة عبر أقسام حقيقة ومنهج الثلاثة تشرح فلسفة غادامير إذن تركيب الحركتين اللتين وصفناهما سابقاً من الهريرمنيوطيقات الإقليمية إلى الهرمنيوطيقا العامة . ومن ابستمولوجيا علوم العقل الى الأنطولوجيا وعبارة تجربه هيرمنيوطيقية تحدد جيدا هذه الخامة التركيبية غير أن غادامير يشير بالمقابل ، خلافا لهيدجر ، ألى مخطط حركة العودة من الأنطولوجيا باتجاه القضايا الأبستمولجية . وسأتحدث هنا من هذا الزاوية كذلك يواجه عنوان المؤلف مفهوم الحقيقة الهيدجرى بمفهوم المنهج الديلتاى . والسؤال إذن هو معرفة إلى اى مدى يستحق المؤلف أن يسمى: حقيقة ومنهج ، وان لم يجب بالأحرى أن يحمل عنوان حقيقة أو منهج. وأذا كان من الممكن أن يتجنب هيدجر الجدل مع العلوم الإنسانية بحركة تجاوز كلية , فإن غادمير، على العكس لا يمكن لة إلا أن ينهمك فى جدل مرير باستمرار ، خصوصا وأنه يحمل سؤال ديلتاى على محمل الجد 0 والجزء المخصص للوعى التاريخى يعتبر، من هذه الناحية ، دالاً تماماً 0 إن المجرى التاريخي الطويل الذى ألزم به غادامير نفسه يؤكد أن على الفلسفة الهيرمينوطيقية أولاً أن تراجع باختصار مقاومة الفلسفة الرومانسية لعصر الأنوار( Auflklarung) مقاومة ديلتاى للوضعية ، وهيدجر للكانطية الجديدة 0
لاشك فى أن نية غادامير المعلنة هى ألا يقع فى وضع الرومانسية الشاق؛ ويعلن غادامير أن هذه الأخيرة لم تقم إلا بقلب أطروحات عصر الأنوار 0 دون النجاح فى تغيير وجهة الإشكالية نفسها وتغيير حقل الجدال 0 هكذا اجتهدت الفلسفة الرومانسية فى رد الاعتبار للحكم المسبق0 الذى هو مقولة من عصر الأنوار ، وما يزال متعلقا بفلسفة نقدية ما ، أى فلسفة الحكم 0 هكذا قادت الرومانسية صراعها فى حقل محدد من طرف الخصم ، يعنى دور التقليد والسلطة فى التأويل 0 لكن المسألة تكمن فى معرفة ما إذا كانت هيرمينوطيقا غادامير قد تجاوزت بالفعل نقطة انطلاق الهيرمنيوطيقا الرومانسية وما إذا كان تأكيدها على أن الكائن الانسان يجد منتهاه فى كونه يوجد أولاً فى حضن تقاليد ما وينفلت من لعبة الانقلابات التى يرى فيها الرومانسية الفلسفية منغلقة إزاء ادعاءات كل فلسفة نقدية 0
يعاب على ديلتاى أنه بقى أسير صراع بين منهجيتين وأنه " لم يعرف كيف يتحرر من النظرية التقليدية للمعرفة "(10) وفى الواقع ، لقد ظلت نقطة انطلاقه هى وعى الذات، سيد نفسه 0 مع ديلتاى ، بقيت الذاتية هى المرجع الأخير 0 وسيكون إذن رد اعتبار معين للحكم المسبق ، للسلطة وللتقليد ، موجها ضد هيمنة الذاتية والسريرة ، أى ضد معايير الفلسفة التأميلية 0 وسيساهم هذا الجدال التأملي المضاد لهذا الدفاع فى مظهر العودة إلى وضع ما قبل النقد0 مهما كان هذا الدفاع مثيراً- حتى لا نقول محرضاً - فإنه يقوم على إعادة فتح البعد التاريخي للحظة التأملية 0 التاريخ يتقدم على ويسبق تأملى ؛ أنا أنتمى إلى التاريخ قبل أن أنتمى إلى 0 والحال أن ديلتاى لم يستطع فهمه ، لأن ثورته بقيت إبستمولوجية ولأن معياره التأملى تغلب على وعيه التاريخي فى هذه النقطة يعتبر غادامير بحق وريث هيدجر0 ومنه يأخذ اليقين التام بأن ما نسميه حكما مسبقا يوضح نظام سبق التجربة البشرية 0 كما يجب ، فى نفس المحاولة ، أن يبقى التأويل نمطاً مشتقا من الفهم الأصلي 0
مجموعة التأثيرات هاته ، المردودة والمحتملة بالتناوب ، انتهت إلى نظرية وعى تاريخى ما تحدد قيمة تأمل غادامير حول بناء علوم العقل 0 هذا التأمل وضع تحت عنوان Kungsgeschichtliches wusstsein Be - حرفيا : وعى - تاريخى - ال- مؤثرات 0 ولم يعد هذا الصنف يتعلق بالمنهجية أو بالبحث التاريخى 0 بل بالوعى التأملى لهذه المنهجية - 0 إنه وعى أن تكون معرضاً للتاريخ ولفعله ، بالطريقة التى لا نستطيع إسقاط هذا الفعل علينا ، لأنه جزء من الظاهرة التاريخية نفسها 0 نقرأ فى كتاب خطوط صغيرة (Kleine schriften): " بهذا أريد أن أقول أولا أنه ليس باستطاعتنا أن نستثنى أنفسنا من الصيرورة التاريخية ، أن نبتعد عنها ، لكى يكون الماضى بالنسبة إلينا موضوعاً00 فنحن دائما قائمون فى التاريخ 000 أقصد أن وعينا محدد بصيرورة تاريخية حقيقية بحيث أن لا حرية له للوقوف فى وجه الماضى 0 وأقصد من ناحية أخرى، أن الأمر يتعلق دائما من جديد بالوعى بالفعل الذى يمارس على هذا النحو علينا ، بحيث أن كل الماضى الذى خبرنا على التو يجبرنا كلية على تحمل واحتمال الحقيقة بشكل معين(11)
وانطلاقا من مفهوم الكفاية التاريخية هذا ، أردت أن أطرح مشكلى الخاص : كيف يمكن إقحام لحاجة نقدية معينة فى وعى الانتماء المحدد بوضوح برفض المباعدة ؟ لا يمكن ذلك ، فى نظرى ، إلا فى النطاق الذى لا يقتصر فيه الوعى على التخلى عن المباعدة فقط بل يكد فى تحملها 0 إن هيرمينوطيقا غادامير تحتوى ، من هذه الزواية ، على سلسلة من الاقتراحات الحاسمة التى ستغدو نقطة انطلاق تفكيرى الخاص (أنظر المقالة التالية )0
فى البداية ، وعلى الرغم من التعارض العظيم بين الانتماء والمباعدة الاستلابية 0 ينطوى الوعى بالتاريخ الكيفى بداخله على عنصر البعد 0 فتاريخ التأثيرات هو بالضبط التاريخ الذى يمارس تحت ظرف البعد التاريخى 0 إنه حد المتباعد ، أو لقول ذات الشئ بطريقة مخالفة ، هو الفعالية فى البعد 0 ثمة إذن تناقض غيرية ، توثر بين المتباعد والجوهرى الخاص بالوعى التاريخى 0
هناك مؤشر آخر على جدل المساهمة والمباعدة 0 يقدمه مفهوم التحام الآفاق (Horizontverschmelzung) (12)0 وحسب غادامير ، إذا كان شرط تناهى المعرفة االتاريخية ، فى الواقع ، نقصى كل تحليق ، كل تركيب نهائى على الطريقة الهيجلية ، فإن هذا التناهى هو شئ أخر غير أن أكون منغلقا فى وجهة نظر ما 0 حيثما تكون حالة ما ، يكون أفق قابل للتقلص أو الاتساع ، نحن مدينون لغادامير بهذه الفكرة الخصبة جدا ، القاضية بأن التواصل عن بعد بين وعيين مختلفين من حيث الموقع يتم بواسطة التحام أفقيهما ، أى باختلاط اتجاه نظريهما إلى البعيد والمفتوح 0 ثانيا يفترض عامل المباعدة بين القريب ، البعيد والمفتوح ، مسبقا 0 هذا المفهوم يعنى أننا لا نعيش لا فى آفاق مغلقة ولا فى أفق فريد. وفى النطاق نفسه الذى يقصى فيه التحام الآفاق فكرة معرفة عامة وفريدة ينطوى هذا المفهوم على توتر بين الخاص والغريب ، بين القريب والبعيد 0 ثم إن إدق إشارة لصالح تأويل أقل سلبية للمباعدة الأستلابية توجد فى فلسفة الكلام التى ينتهى بها المؤلف 0 فالخاصية الكلامية الكونية للتجربة الانسانية - بهذةالعبارة يمكن ترجمة sprachlikeit غادامير ، بنوع من الحظ تقريبا - تعنى أن انتمائى لتقليد أولتقاليد ما ،يتم عبر تأويل العلامات ،الآثار والنصوص التىسجلت فيها الموروثات الثقافية وعرضت على حلنا 0بالتأكيد أن كل تأمل غادامير حول الكلام قد استحال ضد اختزال عالم العلامات إلى أدوات يكون بوسعنا إدارتها على هوانا 0 كل القسم الثالث من كتاب حقيقة ومنهج منافحة متحمسة لكوننا حواراً وللتفاهم الأولى الذى يحملنا. لكن التجربة الكلامية لا تمارس وظيفتها الوسيطية إلا لأن محادثى الحوار يمحيان معاً أمام الأشياء التى قيلت ، والتى تقود الحوار بشكل ما 0 والحال هذه ، أين ي