عبد الوهاب جعفر(*)
لقد قامت البنائية على مسلمات أساسية تبدأ بوجود النفس الإنسانية ووحدة هذه النفس واستمرارها أو دوامها ثم وجود اللاشعور الذي تضمن الوظيفة الرمزية والبناءات. وكان من الضروري أن يلزم عن هذه المسلمات الاعتراف بطبيعة إنسانية واحدة، وأيضا الإيمان بمبدأ الحتمية.
ولقد ترتب على هذا كله أن كانت الخطة المنهجية في البحث عند البنائيين تقوم على التقليل من قيمة الأصل Elle dévalorise la genèse والوظيفة ونشاط الموضوع الدارس وكل هذا كان من شأنه أن يدخلنا في صراع مع اتجاهات الفكر الجدلي ومع وجودية سارتر على وجه التحديد، تلك الوجودية التي تقوم على إنكار ما يسمى "بالنفس" و"اللاشعور" و"الطبيعة الإنسانية"لأنها تعتقد أولا وأخيرا في حرية الإنسان وتعتبر أن هذه المسميات قد تتسبب في تعطيل حرية الإنسان لو اقترضنا أنها موجودة.
وإذا كانت الوجودية عند سارتر تبدأ بالإنسان العائش فعلا وتستعين لفهم حقيقته بالتحليل النفسي وعلم الاجتماع(1)، فإن البنائية عند ليفي ستروس وإن أعطت اهتمامها للإنسان فإنها تبدأ من العالم وتبحث في أعماقه وتكشف التقاء بناءاته حسبما تظهر في صور الوجود المختلفة من جماد ونبات وحيوان(2)، والبنائية تستعين في هذه الدراسة بالجيولوجيا والفلسفة الماركسية، والتحليل النفسي وتسترشد بإنجازات العلوم الطبيعية المختلفة.
وحيث أننا بصدد البحث عن موقف سارتر من بنائية ليفي ستروس فإن علينا أن نتذكر أولا الأصول المشتركة التي انبثقت عنها مواقف كل منهما، والتي أدت إلى وجود تفاعل بين موقفيهما ثم تقارب بينهما اعترف به ليفي ستروس نفسه في كتاب "تفكير النظرة"(3).
وإذا وضعنا في الاعتبار أن كلا المفكرين كان قد تتلمذ على مناهج الفلسفة التي سادت في جامعة السربون حتى سنة 1930 وأن كليهما قد صرح بعدم كفاية هذه الفلسفة التي كانت تتحمس للمذهب العقلي بوجه عام، يمكننا إذن أن نعرف سبب اهتمامها بإنجازات المذهب الماركسي وتأثرهما به.
وقد كانت الماركسية كثيرا ما تسقط من حسابها البعد الوجودي للإنسان لكي تقتصر على وصف الحقيقة البشرية بطريقة علمية مجردة، فلا تلبث أن تستحيل في خاتمة المطاف إلى أنثروبولوجيا لا إنسانية غاب عنها "الإنسان" نفسه بوصفه الدعامة الحقيقية لكل تفسير"(4). وكان لا بد أن تظهر فلسفات الوجود كاحتجاج على روح التجريد والنسق، فهذه الأخيرة لا تريد للإحساس بالوجود المشخص أن يتبخر في نسق غير مشخص Dans un système impersonnel، كما أنها تقترح فلسفة للمواجهة والحدث.(5) لذا فقد أخذت وجودية سارتر على عاتقها أن تفهم الإنسان، وهي ترى "أنه لا سبيل لنا إلى فهم أدنى حركة من حركاته إلا إذا تجاوزنا حاضره المحض من أجل النظر إلى مستقبله"(6). وسارتر لا يريد أن "يفسر" الإنسان، بقدر ما يريد أن "يفهمه"(7). أما ليفي ستروس، وهو الذي يعتبر أبحاثه ضمن إنجازات العلم فقد كان على العكس تماما: "يفسر" الإنسان حتى لو أدى ذلك إلى تحليله Le dissoudre، وينحاز إلى فئة التجريد والنسق، ولا ينظر إلى المستقبل لأن "إحساسه بالزمن هو إحساس جيولوجي"(8). والتاريخ عنده "يأخذ صورة ذاكرة للأحداث الماضية"، فيصبح جزءا من حاضر المفكر وليس من ماضيه، وكل خبرة ماضية للكائن الإنساني تعتبر معاصرة، كما هو الحال في الأسطورة حيث تكتمل أحداثها كأجزاء في كل متزامن Synchronique. (9)
النسق والوجود:
إن الماركسية والوجودية لا تفكران في الهرب من الزمن أو السيطرة عليه: "أما النسق، إن وجد، فهو ليس سوى أداة عمل للإنسان العائش أو حدث ينبثق عن حياته النفسية"(10). غير أن المتحمسين للنسق - ومنهم ليفي ستروس - يصرون على اعتباره حقيقة لا زمانية ، فالفلسفة لا يمكن أن ترد إلى مجرد موقف وجودي، إذ عليها دائما أن تقيم أنساقاً Systèmes ، صحيح أنه يوجد احتجاج مستمر للموجود ضد النسق، ولكن ما أن يبدأ الموجود في التفلسف إلا ويقوم بعمل أنساق، قد تكون هي أنساق الوجود ذاته، وهذا هو - بلا شك - الأساس الجدلي للفلسفة، فالفلسفة هي حوار بين النسق والوجود أو أن النسق والوجود هما حدود الفلسفة، فهذه الأخيرة لا تعيش إلا على التعارض المتجدد بينهما.(11)
على أي حال، فإن ليفي ستروس يعتبر من المتحمسين لفكرة النسق اللا زماني على عكس الماركسيين والوجوديين، ولذا تحولت أبحاثه إلى دوجماتيقة لا ترد عند كثيرين، وإذا كانت روح النسق تميل إلى إخضاع الحياة إلى قانون وتميل إلى اعتبار الحدث كعنصر في سياق، فإنها قد تغطي على ما هو فريد في تاريخ النفس وما هو محدث Contingent في تاريخ العالم.
وإذا كان النسق يهدف إلى تنظيم المعرفة، وكانت المعرفة حالة في العالم، فإن في انتصار النسق انتصارا للمباطنة L'immanence.(12) وإذا كانت المباطنة هي من أهم ركائز الاتجاه البنائي، فإن وجودية سارتر كانت على النقيض من ذلك تمامًا. فهي تقلل من أهمية المعرفة الموضوعية، بل إن الأشياء لا وجود لها إلا كنقطة يبتدئ منها نشاط الإنسان، والحرية الفردية هي المبدأ المفسر لكل شيء، كما أن الناس يكافحون في عالم مجرد عن الغائية والمعقولية، وحيث أنه لا توجد فلسفة للتاريخ فإن الكل ينبغي أن يعاد النظر فيه في كل لحظة، فالعالم لا معنى له إلا ما يضفيه عليه كل فرد بواسطة مشروعه الخاص(13). وعلى هذا ينعدم الاعتراف بفكرة المباطنة: "إذ ينبغي الاختيار بين شعور كله تلقائية وشفافية وبين شعور لا يتميز عن الأشياء الجامدة، وبالتالي لا يستحق أن يطلق عليه اسم شعور ، علما بأنه لا وسط بين الطرفين"(14).
يتضح مما تقدم أن الحقيقة الأولى والمحرك الأول لفلسفة سارتر هو العمل الفردي ، كما يتضح أن الفردية المتشخصة التي أضافها سارتر إلى التصور الماركسي للتاريخ هي نفسها التي تتصدر منهجه في فهم الظواهر الاجتماعية، وهو في هذا يوائم بين الوجودية والماركسية على حساب الفكر الماركسي على ما يبدو.(15) للأسباب الآتية:
1 -إن الوجودية لا تعترف بالدور الرئيسي للمعرفة الموضوعية، ولقد كانت محاولتها الأساسية تنحصر في التضحية بالتنبؤ Prévison لحساب المشروع Projet تماما كما حاولت الماركسية أن تضحي بالمشروع لحساب التنبؤ.(16)
2 -عندما يبدأ سارتر بالبراكسيا الفردية التي هي جدلية ومجمعة ، فكيف يمكنه أن ينتهي إلى تجميع حقيقي؟ إنه لم يفطن إلى أن التجميع الذي أدت إليه ضمائر فردية دون تدخل طرف يوحدها هو ضرب من التناقض، لذا فقد ظلت المشكلة عند سارتر في الانتقال من الذاتية إلى الموضوعية أو الخروج من الأنا إلى الغير ومحاولة حسم التناقض المترتب على ذلك، خصوصا وأنه لا يؤمن بتوافق النفوس فيما بينها(أو تواصل الذوات)(17).
وقد أشار ليفي ستروس إلى هذا الموقف الصعب بقوله: "إذا كانت الذاتية المترتبة على التاريخ بالنسبة لي يمكن أن تتسع لموضوعية التاريخ بالنسبة لنا، فإننا لا نصل إلى تحويل الأنا إلى نحن إلا إذا حكمنا على "نحن" بأنها الأنا من القوة الثانية، وهي تضم "نحن" أخرى كثيرة.(18)
3 -إن الماركسيين يضفون على النشاط الإنساني تناسقا وتماسكا يتعذر وجوده عند سارتر. فالحرية عندهم هي "التحام وتماسك وتشبث adhesion إرادي وشعوري حقا، غير أنه تشبث بحقيقة موضوعية أو مشاركة في ديالكتيك الضرورة.(19)
ومهما كان من تفوق الماركسية على الوجودية في هذه النقطة، فإن هذا التحليل من شأنه أن يبين ضعف معين في الماركسية ذاتها، فهي رغم اهتمامها بتاريخ إنساني، إلا أنه يتعذر عليها أن تضفي عليه معنى وذلك بسبب إغفال فكرة التجاوز. إن التاريخ الماركسي لا ينفتح على أي مخرج يسمح بتحرير الإنسان، ولذا فإنه يخشى من أن يظل الفرد سجينا فيه.
وعلى كل، فإن من المؤكد الآن أن التوافق القائم بين الوجودية والماركسية هو توافق شكلي محض، تشير إليه الاصطلاحات الفلسفية التي استعارها سارتر من قاموس الماركسية وألبسها مفاهيم جديدة مثل البراكسيا أو الفعل La praxia، والتجاوز، والسلب. أما البراكسيا فتصبح النشاط المادي الواقعي الذي يقوم به كائن اجتماعي تاريخي يعمل على تغيير عالمه، ويحاول صبغ الطبيعة بصبغة إنسانية. و"التجاوز" أو "التعالي" يعني التعبير عن "الوجود خارج الذات" في علاقة "الموجود لذاته" بالآخر، طبيعيا كان أم بشريا أما السلب فهو يعين "التغيير" عن طريق "العمل".(20)
ومما يشير إلى هذا التوافق الشكلي أيضا بين الوجودية والماركسية هو أن: "سارتر يأخذ على الماركسيين قولهم بوجود "ديالكتيك" في الطبيعة. والحق أننا لو سلمنا مع إنجلز بوجود قانون عام كل العموم يحكم كلا من الطبيعة، والتاريخ، والفكر، لترتب على ذلك: أولا القول بوجود ضرب من الغائية الهيجيلية التي يتم عن طريقها التطابق التام بين المعرفة الشاملة من جهة، وبين الوجود العام من جهة أخرى. وسارتر يرفض مثل هذه النزعات التفاؤلية الرخيصة، لأنها تعني أن التاريخ يتحقق خارجا عنا، ودون حاجة إلينا، وبالتالي فإنه لن يكون علينا في هذه الحالة سوى أن نقتصر على تأمله، أو - على أقل تقدير - لن يكون علينا سوى أن نعتمد على مواتاة التاريخ أو محاباة الأشياء لنا، من أجل بلوغ شتى أهدافنا، ولو كان هناك ديالكتيك طبيعي" لترتبت على ذلك نتيجة ثانية هي أن يكون الإنسان مجرد "كائن طبيعي" يخضع لذلك القانون الموضوعي، وبالتالي لما كان الإنسان رب أفعاله، ولما كان في وسعه انتزاع ذاته من مجرى التسلسل الطبيعي للأشياء من أجل خلع المعنى الذي يريده على تلك الأشياء".(21)
وفي رسالة بعث بها سارتر للكاتب الماركسي جارودي يقول: "… أنا أعني بالماركسية تلك المادية التاريخية التي تفترض وجود "ديالكتيك" باطن في التاريخ، لا المادية الجدلية التي تحلق "في سماء الأوهام الميتافيزيقية فتظن أنها قد اكتشفت وجود "ديالكتيك" في الطبيعة، حقا أنه قد يكون في الطبيعة مثل هذا "الجدل" (أو الديالكتيك) ولكن من المؤكد أنه ليس لدينا أدنى ذرة من اليقين عن هذا الأمر..".(22)
ومهما كان من شيء، فإن سارتر يعتبر الوجودية بمثابة أيديولوجيا تعيش على هامش الفلسفة الماركسية وتغتذي بإنجازاتها.
أما فيما يختص بليفي ستروس فمن الصعب أن نحدد تغلغل الفلسفة الماركسية في مفهومه. وذلك لأن ممارسة الجدل عنده حسب ازدواج التقابل (+/-) الذي يؤدي إلى فكرة وسط يبدو هيجليا أكثر منه ماركسيا.(23) كما أن موقف ليفي ستروس من التاريخ يبدو مناقضا تماما لفكر ماركس وسارتر وذلك بسبب تصور مختلف للسهم الدال على الزمن فالموقف البنائي أقل تمركزا حول الذات، والتاريخ طبقا له يقدم لنا عن المجتمعات التي سبقتنا صورا ليست سوى تحولات بنائية للصور التي نعرفها حاليا، هي ليست أحسن منها وليست أقل، أما نحن فإن مركزنا في الحاضر لا يعطينا حق الاستعلاء.(24) وهذا هو معنى "الإحساس الجيولوجي بالزمن" عند ليفي ستروس.
إن صاحب الإحساس الجيولوجي للزمن، قد استخدم اصطلاحات ماركسية لخدمة أغراض محددة أحيانا، إلا أنه يفضل اصطلاحات علم اللغة البنائي مثل الدال والمدلول، والمتزامن وغير المتزامن وازدواج التقابل (مجاز/ ميتونيميا)(25) وأيضا المباطنة.
وإذا كان كارل ماركس يعتبر أن "حركة الفكر ليست سوى انعكاس للحركة الواقعية وقد انتقلت إلى مخ الإنسان"(26)، وإذا كان هذا يعني إعطاء الأولوية للحركة الواقعية المادية، فإن ليفي ستروس يعترف فقط بأحادية الحركة أو شمول نفس القوانين على الطبيعة والنفس والمجتمع. يقول: "إن قوانين الفكر البدائي أو المتحضر هي نفس القوانين التي تظهر في الواقع الفيزيقي أو الاجتماعي"(27). ويقرر بأن تقدم الإثنولوجيا المعاصرة هو رهن بالاعتقاد في العمليات الجدلية التي يتولد عنها عالم المشاركة Réciprocité كتركيب لصفتين متناقضتين لا تنفصمان عن النظام الطبيعي … كما أن الدراسة التجريبية للظواهر يمكن أن تؤيد تخمينات الفلاسفة.(28) وفي خاتمة "الإنسان العاري" يصر ليفي ستروس على أن تكون البنائية غائية.(29) فالعملية البنائية تكشف عن ألفة واتصال بين الإنسان والطبيعة،وأيضا عن غائية عميقة منظمة منذ البداية، وهو ما ترفضه وجودية سارتر تماما لأنها لا تثق إلا في إمكانيات العقل والجدل المركب دائما.
الأنثروبولوجيا والعقل الجدلي:
إن الكتاب الذي يحمل اسم "نقد العقل الجدلي" إنما يذكرنا بالفيلسوف الألماني كنط (30) صاحب كتاب "نقد العقل الخالص"، فلكلاهما يدرس طبيعة العقل البشري وإمكانياته وحدوده. وسارتر في كتاب "النقد" يدرس المنطق الحي للعمل الإنساني، وهو لهذا يستخدم المنهج الصوري والجدلي. إنه يحاول أن يكتشف البناءات الأولية للبراكسيا، وعلى هذا فإن "نقد العقل الجدلي" لا يمكن إذن أن يكون تركيبا مثاليا لتصورات أو إعادة تركيب التاريخ أو فلسفة للتاريخ. إن هدفه هو إلقاء الضوء على ما يجعل التاريخ معقولا واستنباط المعقولية التاريخية التي تحل محل المعقولية التحليلية والوضعية.(31)
ويتساءل جان بول سارتر في مقدمة كتابه عما إذا كنا نمتلك الأداة التي تقيم أنثربولوجيا بنائية وتاريخية؟ إن هذه الأنثروبولوجيا ينبغي البحث عنها في داخل الفلسفة الماركسية … فالماركسية قد أورثت أيديولوجية الوجود ضرورتين كانت الهيجيلية قد سبقت بهما وهما: الصيرورة والتجميع وهما أيضا صفتان ينبغي توافرهما في كل الحقائق الأنثروبولوجية خصوصا وأنهما قد تضمنتا تعريف "الديالكتيك". (32)
أما الأداة التي تقيم الأنثروبولوجيا فهي العقل الجدلي، ويرى سارتر أننا لسنا بصدد اكتشاف الجدل، فالتفكير الجدلي قد ظهر منذ بداية القرن الماضي، كما أن الخبرة الإثنولوجية أو التاريخية تكفي للكشف عن قطاعات جدلية في نشاط الإنسان، غير أننا نلاحظ أن التفكير الجدلي قد اهتم منذ ماركس بموضوع الجدل أكثر من اهتمامه بالجدل نفسه، ولذا فإن علينا الآن أن نثبت مشروعية العقل الجدلي. ونحن الآن أمام نفس الصعوبة التي واجهها العقل التحليلي في نهاية القرن الثامن عشر عندما اضطر أن يبرر ويثبت مشروعيته.(33)
إذا تساءلنا عن الضرورة وراء إثبات مشروعية العقل الجدلي الآن لوجودنا الإجابة عند سارتر كالآتي:
أولا: إن ضرورة "نقد العقل الجدلي" لم تكن لتفرض إلا في مرحلة معينة من تطور الماركسية. إن هذه المرحلة تطابق لحظة فقر واختناق وتقادم للفكر الماركسي الذي يضل طريقه في المجرد أي في الحتمية الآلية. إن هذا الداء الذي أصاب الماركسية هو نتيجة للتاريخ وقد نظر إليه في مجموعه.(34)
ثانيا: في مواجهة الذين يقولون بعدم جدوى الفلسفة يرى سارتر أن الفلسفة لا تموت بسبب الإفراط في إعمال العقل، بل هي تموت على الأحرى بسبب استخدام عقل أصابه ضعف العجز والشيخوخة لأنه لم يعرف التجديد، فهو يظل عقلا تحليليا آليا أعد للسيطرة على الطبيعة والنظر إلى المجتمعات كما ينظر إلى المادة الجامدة. إن هذا العقل ليعجز عن أن يمكننا من أن نسبر أغوار عالم إنساني نهدف إلى توحيده. وعلينا أن نلتمس ذلك لدى عقل آخر لا يمكن إلا أن يكون جدليا في مقابل العقل التحليلي. وعلينا نحن أن نؤسس هذا العقل.(35)
ثالثا: إن العقل التحليلي هو أداة للبحث المطبق على المادة الجامدة، ولا يجوز استخدامه في البحث عن الحقيقية الإنسانية ، فالحقيقة الإنسانية تعرف بغاياتها وليس بأسباب ، كما أنها تعرف بمشروعها وليس بماضيها. والمنهج المتبع في الدراسة هو منهج جدلي، وحيث أن البحث يتعلق بمجهود مجمع، لذا فإن المنهج ينبغي أن يكون تركيبيا أيضا.(36) يقول سارتر: "إن الأنثروبولوجيا ستظل ركاما من المعرفة الأمبيريقية والاستنتاجات الوضعية والتفسيرات المجمعة، طالما أننا لم نثبت مشرويعة العقل الجدلي". (37) والعقل الجدلي هو علاقة بين الفكر والموضوع: "فإذا كان هناك وجود للعلاقة بين التجميع التاريخي والحقيقة المجمعة، وإذا كانت هذه العلاقة هي حركة مزدوجة للمعرفة وللوجود، فإنه يحق لنا أن نسمى هذه العلاقة المتحركة "عقل".(38)
ويرى جان لاكروا Lacroix أن العقل الجدلي عند سارتر ليس شيئا آخر سوى حركة التاريخ وهو يواصل سيره ويعي ذاته في نفس الوقت.(39) كما يرى أن العقل الجدلي المركب عليه أن يكون على اتصال دائم بدعامته وأساسه وهو العمل باعتباره معقولية مركبة.(40)
من كل ما تقدم عن العقل الجدلي يمكننا أن نستنتج موقف سارتر من الأنثروبولوجيا البنائية فيما يختصر بالأدلة التي تؤسس علم الأنثروبولوجيا، فالأنثربولوجيا البنائية تقوم على التحليل (أي تستخدم العقل التحليلي)، وهو ما يعترف به ليفي ستروس صراحة عندما يقرر أن: "الهدف الأخير للعلوم الإنسانية ليس تركيب الإنسان وإنما تحليله ".(41)
وفي الحقيقة، إن مسألة التمييز بين عقل جدلي وآخر تحليلي لم يكن من المسائل التي اهتم لها ليفي ستروس قبل ظهور كتاب "الفكر الوحشي" الذي يتخصص الفصل الأخير منه للرد على سارتر. ويبدأ ليفي ستروس هذا الفصل بالتساؤل عن إمكانية التطابق بين التفكير التحليلي والتفكير الجدلي، على أساس أنه لا يفرق من حيث المبدأ بين عقل تحليلي وعقل جدلي.
ويرى ليفي ستروس أن من يقرأ كتاب "الجدل" لسارتر لا يمكنه إلا أن يسلم بأن الكاتب يتأرجح بين مفهومين للعقل الجدلي: فهو تارة يجعل العقل الجدلي مقابلا للعقل التحليلي تماما كالتقابل بين الصواب والخطأ وبين الإله الطيب والشيطان. وتارة أخرى يظهر لنا الاثنين وكأنهما مكملان لبعضهما ويعتبرهما سبيلين مختلفين يؤديان إلى نفس الحقائق.(42)
ويرى ليفي ستروس أن المفهوم الأول يقلل من شأن المعرفة العلمية ويؤدي بالتالي إلى افتراض عدم إمكانية علم البيولوجيا، كما أنه بالإضافة إلى ذلك يكشف عن تناقض معين لأن الكتاب المسمى "نقد العقل الجدلي" هو إنتاج عقلي نشأ عن إعمال العقل التحليلي للمؤلف: (فهذا العقل يعرف، ويميز، ويصنف،ويعارض). ويلاحظ ليفي ستروس أن هذه (الرسالة الفلسفية) عن العقل الجدلي لا تنتسب في الحقيقة إلى طبيعة أخرى مخالفة للكتب التي يناقشها حتى وإن كان الهدف هو إدانتها.(43)
(وكيف يمكن للعقل التحليلي أن يطبق على العقل الجدلي زاعما تشييده رغم أنهما يعرفان بصفات مطلقة؟).(44) أما عن المفهوم الثاني فإن ليفي ستروس يتساءل: إذا كان العقل الجدلي والتحليلي يصلان في النهاية إلى نفس النتائج، وإذا كانا يؤديان إلى حقيقة موحدة، فماذا كانت فائدة تقابلهما ثم التصريح بتفوق الأول على الثاني، وكيف يمكن تفسير هذا التناقض؟. ويلاحظ ليفي ستروس أن هذين المفهومين اللذين يتردد بينهما سارتر يفترضان وجودا مستقلا للعقل الجدلي، إما كضد antagoniste وإما كمكمل Complémentaire للعقل التحليلي، ويلاحظ كذلك أن التمييز بين عقل جدلي وآخر تحليلي كانت بدايته عند كارل ماركس رغم أن التقابل بين العقلين عنده كان نسبيا وليس مطلقا كما هو الحال عند سارتر.
وليس هناك ما يمنع ليفي ستروس من الاعتقاد بأن العقل الجدلي مركب دائما: (فهو الجسر الذي يتقدم ويمتد بلا انقطاع والذي ينشئه العقل التحليلي فوق هاوية دون أن يتمكن من رؤية نهايتها رغم علمه بوجود هذه النهاية ورغم ابتعادها المستمر).(45)
"إن لفظ العقل الجدلي يتضمن إذن الجهود المتصلة التي يجب أن يقوم بها العقل التحليلي لكي يتحسن ، وذلك إذا زعم أنه يفسر مسألة اللغة أو المجتمع أو الفكر"(46)، وإذا كان سارتر يسمى العقل التحليلي عقلا كسولا ، فإن ليفي ستروس يسمى نفس هذا العقل جدليا، ويصفه بالشجاعة لأنه يتقدم باستمرار.(47)
وقد كان من نتيجة التوحيد بين عقل جدلي وتحليلي عند ليفي ستروس أن وصفه سارتر بأنه مادي متسامي وبأنه حسين، فأقصى ما يمكن أن يرتقي العقل الجدلي في نظر ليفي ستروس يتلخص في قدرته على الشروع في رد الجانب الإنساني إلى لا إنساني.(48)
وفي مواجهة تحليل الإنسان أو تفكيكه كتب سارتر يقول: "إن الإنسان يحتل مكانا ممتازا في عالم الأحياء لأنه تاريخي، أي أنه يعرف نفسه دائما بالعمل (أو البراكسيا) خلال التغيرات التي تفرض عليه … ثم يتجاوز العلاقات المرسومة interiorisee وهو يحتل مكانا ممتازا أيضا لتميزه بأنه الموجود الذي هو نحن. وفي هذه الحالة الفريدة يكون السائل هو نفسه المسئول. أو إذا شئنا فإن حقيقة الإنسان تكمن في أنه الموجود الذي يسأل عن وجوده أو الموجود الذي هو تحقيق للبراكسيا". (49)
إن علوم الإنسان لم تتساءل عن الإنسان تماما كما أن الميكانيكا الكلاسيكية (التي تستخدم الزمان والمكان على اعتبار أنها مجالات متجانسة وممتدة) لم تسأل لا عن المكان ولا عن الزمان ولا عن الحركة. فعلوم الإنسان تقتصر على دراسة نمو الظواهر الإنسانية وعلاقاتها، ويظهر الإنسان وكأنه دال على ذاته comme un milieu significant .
وإذا كانت التجربة تعطينا الظواهر التي تختص جماعة معينة، وإذا كانت الدراسات الأنثروبولوجية تحاول أن تربط هذه الظواهر بعلاقات موضوعية ومحددة بصرامة، فإن حقيقة الإنسان من حيث هي تظل بعيدة المنال تماما كفكرة المكان بالنسبة للهندسة أو الميكانيكا، والسبب في ذلك أن البحث لا يهدف إلى الكشف عنها وإنما يهدف إلى تكوين القوانين وإلى إظهار علاقات وظيفية. (50) ويعترف سارتر بوجود تناقض عميق بين الإثنولوجي والمؤرخ، وهو تناقض يتصل بمعنى حقيقة الإنسان وليس مجرد اختلاف في المنهج. فالإثنولوجي يرى في التاريخ حركة تعرقل الخطوط. أما المؤرخ فإنه يرى في "دوام واستمرار البناءات" تغيرا مستمرا.(51)
وقد أفصح ليفي ستروس عن موقفه من التاريخ في كتاب "الفكر الوحشي" وهو يرى أن التناقض بين الإثنولوجي والمؤرخ غير موجود أساسا، بل يعتبر التاريخ مساعدا أو معينا للإثنولوجيا البنائية بمعنى أنه يمد هذه الأخيرة بالمعلومات الإمبيريقية. والتاريخ هنا له دور شبيه بدور الإثنوجرافيا، فكلاهما يهتم بالجزئي وكلاهما يعطي معلومات ضرورية للبحث الإثنولوجي لتكوين نماذج نظرية. وعلى ضوء هذا يمكن فهم قول ليفي ستروس: "إن التاريخ هو منهج لا ينتسب إليه موضوع بعينه". وهو رغم ذلك ضروري لفحص تكامل العناصر في أي بناء إنساني أو غير إنساني".(52)
التاريخ إذن "يعتبر مرحلة ضرورية لأي بحث في العلوم الإنسانية وغير الإنسانية" ومع كل هذا فلو اقتصرنا على تعريف الإنسان بالجدل والجدل بالتاريخ، فماذا نحن قائلون عن شعوب لا تاريخ لها؟(53) وهنا يرد سارتر بأن يميز بين نوعين من الجدل: (الحقيقي) وهو خاص بالمجتمعات التي لها تاريخ، وجدل تكراري وقصير الأجل وهو الذي يخص به مجتمعات يقول عنها أنها "بدائية".
سارتر هنا "لا يمانع في أن يضع إلى جانب الإنسان إنسانية مشوهة وغير مكتملة rabougrie et difformé (54) ويعترف بأنه "ليس من الممكن أن نجد (طبيعة إنسانية) واحدة لدى قبائل الموريا Mur مثلا ولدى الإنسان التاريخي في مجتمعاتنا المعاصرة".(55) وعلى ذلك فإنه لمن المستحيل أن تؤسس الأنثروبولوجيا على معرفة تصورية خصوصا إذا نظرنا إلى الجماعات المتعددة من خلال التزامن synchronie ومن خلال التطور التاريخي.(56) وعلى الرغم من الاختلاف في الطبيعة بين الجماعات (البدائية) وبين المجتمعات المعاصرة فإن من الممكن أن يقوم اتصال حقيقي وأيضا تفاهم متبادل بين الفريقين المتمايزين (على سبيل المثال بين أفراد جماعة الموريا Muria وبين الإثنولوجي).(57) وابتداء من التقابل بين هاتين الصفتين (عدم وجود طبيعة إنسانية واحدة والاتصال الممكن دائما بين أفراد البشر)، فإن حركة الأنثروبولوجيا تثير من جديد وبصورة جديدة (إيديولوجية الوجود).(58)
ولما كانت نقطة الضعف في الفلسفة الوجودية هي في امتناع التواصل الحقيقي بين الذوات، فإننا نعتقد أن سارتر هنا يحاول أن يرأب الصدع ويستنجد بالأنثروبولوجيا التي تعرف عنده باهتمامها بمشكلة على هيئة عائق يمكن التغلب عليه.(59)
على أي حال، فإن الوجودية التي تهتم بالبعد الإنساني (أو المشروع الوجودي) تتخذه أساسا لكل معرفة أنثروبولوجية.(60) كما أن الدور الحقيقي لأيديولوجيات الوجود لا يتلخص في وصف مجرد لحقيقة الإنسان التي لم توجد أبدا، وإنما يتلخص في وصف مجرد لحقيقة الإنسان التي لم توجد أبدا، وإنما يتلخص في تذكير الأنثروبولوجيا بالبعد الوجودي للعمليات المدروسة.(61)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق