طه حسين
تساءل الكاتب الفرنسى المعروف جان بول سارتر عن الأدب ما هو وماذا ينبغى أن يكون؟ ودفعه هذا التساؤل إلى أن يضع كتابا قيما لم يظهر بعد فى مجلد ،ولكنه نشر تفاريق فى مجلة "العصور الحديثة" ، وقد عرضنا لهذا البحث بشىء من النقد المفصل فى عدد يونيو الماضى من هذه المجلة . والفكرة التى دار حولها هذا الكتاب القيم هى مقدار ما يكون بين وبين قرأئه من الاتصال من جهة، ومقدار ما ينبغى أن يحتمل الأديب من تبعة بحكم هذا الاتصال بينه وبين القراء ،ومشاركته لهم فيما يعرض من المشكلات تاتلف منها الحياة الاجتماعية مهما تكن طبيعة هذه المشكلات ،ومن دون تفريق بين ما يتصل منها بالسياسة أو بالنظام الاجتماعى ،أو بأى لون من هذه الالوان التى تؤثر فى حياة الناس ، والتى يجب على الاديب أن يشارك فيها ، ويحتمل نصيبه من تبعاتها كما يجب على الادب يصورها ويصور المشاركة فيها ويصور الوسائل المختلفة لتدبيرها والخروج من ضائقتها واستكشاف ما يمكن استكشافه من الحلول لأزماتها مهما تختلف فى الطبيعة والصورة والأثر. وهذه الفكرة هى ما يسميه جان بول سارتر التزام الأدب ،وهى ليست اكثر من ان الأديب يجب أن يعيش مع معاصريه فيشقى بشقائهم ويسعد بسعادتهم ،ويواجه مشكلات الحياة كما يواجهونها ،ويصور هذا كله فى أدبه تصويرا دقيقا خصبا مجديا دون أن ينفصل عن حياة معاصرة او يعتزلهم ليعيش فى برجه العاجى ، وينتج فى هذا البرج أدبا لا يتصل بألام الناس وأمالهم وما يعرض لهم من بؤس ونعيم.
وقد استعرض جان بول سارتر فى كتابه هذا تاريخ الأدب الفرنسى فى عصوره المختلفة، وبين مقدار ما كان بين الأدباء وقرائهم من الصلات والاشتراك فى احتمال التبعات على اختلاف العصور وتباين الظروف . ووصل من هذا الاستعراض إلى نتائج رائعة فى تاريخ الأدب الفرنسى ليس هنا موضع الحديث عنها . ولكنه لاحظ الحياة الحديثة ،ولا سيما فى القرن التاسع عشر وفى أوائل هذا القرن قد انتهى بالأدب إلى أن يكون لونا من ألوان الترف يترفع عن الحياة اليومية العاملة ليعنى بألوان من هذه الحياة الفنية المترفة التى لا تتاح إلا لطبقات ضيقة من الناس .ثم حاول أن يرسم للأديب المعاصر ولنفسه وأصحابه بنوع خاص برنامجا يحققون به الاتصال بينهم وبين قرائهم، ويشاركونهم به فى مواجهة ما تمتلىء به الحياة المعاصرة من المشكلات التى تزداد عنفا وتعقدا من يوم إلى يوم وقد اضطره هذا إلى أن يستقصى مشكلات الحياة الاجتماعية فى هذه الأيام، وينتقد المذاهب السياسية الاجتماعية التى تحاول حل هذه المشكلات، ويختار لنفسه ولأصحابه طريقا وسطا بين مذهب الشيوعيين الذين يلغون حرية الفرد،ومذهب البورجوازيين الذين يبيحون هذه الحرية لفريق من الناس دون فريق . وأراد أن يصل إلى نوع من النظام يكفل للفرد حريته الكاملة ، ويكفل للجماعة عدلا شاملا ، ويكفل للأديب حريته الكاملة فى التفكير و التصوير والتعبير دون أن يخضع لما تفرضه الأحزاب على اعضائها من قيود وأغلال تضطرهم إلى أن يفكروا ويصورا ويعبروا كما يريد نظام الحزب ،لا كما تريد الفرد ولا كما تريد طبيعة الأشياء وحقائق الحياة .
وقد استعرض جان بول سارتر وسائل الاتصال بين الاديب المنتج والجمهور المستهلك ، فلاحظ كما يلاحظ غيره من الناس أن العصر الحديث قد ابتكر لهذا الاتصال وسائل لم تكن معروفه من قبل،وأن هذه الوسائل قد طغت واسرفت فى الطغيان على الوسائل القديمة . فالصحف والمجلات أكثر اتصالا بالجماعات وتغلغلا بين طبقاتها من الكتب . والراديو أكثر اتصالا بالجماعات وتغلغلا بين طبقاتها من الصحف والمجلات فضلا عن الكبت، والسينما أكثر دعاء وأشد استهواء للجماعات على اختلاف طبقاتها من التمثيل. واذن فما ينبغى للأديب الذى يقدر الحياة الاجتماعية ويشارك فيها وفى احتمال تبعاتها أن يهمل هذه الوسائل المستحدثة، ويفرغ لاستخدام الوسائل القديمة التى لم تفقد قيمتها وخطرها، ولا ينظر أن تفقد قيمتها وخطرها، ولكنها لا تستطيع أن تظفر من الشيوع والشمول والتغلغل فى الطبقات المختلفة المتفاوتة بمثل ما تظفر به الوسائل المستحدثة. فستؤلف الكتب، وسيقرؤها القراء، وستنشأ المسرحيات وسيشهدها النظارة، ولكن الصحف والراديو والسينما ستكون أكثر انتشارا وأشد اتصالا بالجماعات وأعظم تغلغلا فى طبقاتها من الكتب والمسرحيات.
وقد لاحظ جان بول سارتر فى شىء من الدعابة أن مسرحية قصيرة من مسرحياته حظر تمثيلها فى بريطانيا العظمى. ولكنها أذيعت فى الرديو البريطاني ، فكانت النتيجة أن الذين استمعوا لها من الانجليز كانوا أكثر مرات كثيرة من الذين كان يمكن أن يشهدوها فى ملعب التمثيل . على أن الرقابة البريطانية قد فطنت أخر الأمر لهذه الملاحظة، فأباحت عرض هذه القصة فى الملعب. والمهم هو أن جان بول سارتر يريد بلا ريب أن يساير الحياة الحديثة، وأن يتصل بقرائه أو بمستهلكيه من طريق الوسائل المختلفة التى تستحدث لهذا الاتصال.وقد سلك هو هذه الطريق؛ فهو يؤلف الكتب على اختلافها، يؤلف الكتب التى يقصد بها إلى الخاصة ليتحدث إليهم في الفلسفة الوجودية أو في هذا الموضوع أو ذاك من موضوعات الدراسة الأدبية.ويؤلف الكتب التى يتجه فيها الى الجماعات الضخمة ليذيع فيها ما يريد أن يذيعه من تصوره للمشكلات وتصويره لها ومذهبه في حلها لا، يسلك فى ذلك طريق القصص الطويل والقصير .
وهو يصدر مجلته ليتجه فيها مع اعوانه إلى جماعات من القراء قد تؤثر الدراسات الميسرة. التى لا تنحرف مع ذلك عن مناهج البحث الدقيق ، على الكتب الفلسفية الجافة وعلى القصص السهل اليسير. ثم هو بعد ذلك ينسى المسرحيات التى يتجه فيها ألى جماعات تحب أن تأتيها متعة المعرفة والفن لا من طريق القراءة وحدها ولكن من طريق القراءة والنظر لحركات الممثلين والاستماع حين يتحاورون . ثم هو لا يكره أن يتحدث إلى المستمعين فى الراديو أو ينشىء لهم من الأثار ما يتلى عليهم من طريق الراديو ليستمعوا له غير مقبلين عليه كل الاقبال ولا متوفرين له كل التوفر ، ولا معرضين عند كل الاعراض .
ولم يبق من هذه الوسائل المستحدثة إلا السينما فقد حاول جان بول سارتر أن يتخذ هذه الوسيلة ليتصل بالجماعات الضخمة المتباينة فى البلاد المختلفة المتتالية فى وقت واحد. وواضح جدا أن الكتاب والصحيفة والمجلة لا تقرؤها الجماهير مجتمعة ، وإنما يخلو فيها القارىء إلى نفسه وإلى الأديب الذى يقرأ كتابه أو مقاله فى الصحيفة أو فصله فى المجلة. وواضح كذلك أن المسرحية لا تعرض فى غير ملعب واحد فى المدينة الواحدة ، ولايشهدها من أجل ذلك إلا جمهور من النظارة مهما يكن ضخما فهو محدود . والذين يمثلون المسرحية أو ينشئون أدوارها ، كما يقول اصحاب التمثيل ، مضطرون إذا نجحت المسرحية أن ينفقوا فى تمثلها الأشهر ليشهد اكبر عدد ممكن من النظارة وأن ينتقلو بها بعد ذلك فى كثير من المدن بل فى كثير من البلاد ، ليظهروا عليها أضخم عدد ممكن من الناس ، وفى ذلك من الجهد والمشقة والعسر ما فيه ثم هو ذلك لا يبلغ من أذاعة المسرحية ما يريد صاحبها، وما يريد ممثلوها، وما يريد الناس انفسهم .أما السينما فهي تملك من الوسائل التيسير ما لا تملكه الكتب ولا الصحف ولا الراديو ولا التمثيل. فالقصة الواحدة إذ أعدت للعرض تستطيع بعد إعدادها أن تغزو الأرض كلها فى وقت واحد ، وأن تشهدها جماعات النظارة فى جميع اقطار الأرض فى غير مشقة يحتملها الكاتب أو المخرج أو الممثل ، شأنها فى ذلك شأن الكتاب المطبوع ، ولكنها تتحدث إلى الجماعات حين يتحدث الكتاب إلى الفرد ثم هى تتحدث إلى الجماعات من طريق العين ومن طريق الأذن حين يتحدث الكتاب من طريق العين أو من طريق الأذن وحدها . ثم هى تستعين على الحديث من طريق العين والأذن بأشياء لا يستطيع الكتاب أن يستعين بها لأنه لا يستطيع أن يحققها . ففيها الحركة وفيها اختلاف المناظر ، وفيها ما تمتاز به المناظر من الروحه والقدرة على التأثير المباشر من طريق الأشياء، لا من طريق الألفاظ التى تدل عليها بالرمز الذى يخطىء حينا ويصيب حينا آخر.
وقد تصحبها الموسيقى فتستأثر بملكات النظرة. كلها فالأديب الذى لا يرى الأدب ترفا ولا فكاهة ولا تلهية وإنما يراه جدا من الجد ،يراه مشاركة فى الحياة ونهوضا باعبائها واحتمالا لتبعاتها ،لا ينبغى له أن يهمل السينما كما لا ينبغى له أن يهمل أية وسيلة تمكنه من أن يتصل بالجماعات ويؤثر فيها فيوجهها إلى ما يريد أن يوجهها أليه ، ويصدها عنه ويغريها بما يحب أن يغريها به، ويزهدها فيما يحب أن يزهدها فيه . والاديب من بعد ذلك أو من قبل ذلك مضطر إلى أن يصطنع هذه الوسائل ليحمى نفسه من الفناء وليحمى نفوس الجماعات من الفساد، فهذه الوسائل المستحدثة قد وجدت وأصبحت من ضروريات الحياة الحديثة. فليس من سبيل إلى الغاء الصحف ولا إلى اسكات الراديو ، ولا إلى تحريم السينما. فالأديب بين اثنتين :إنما أن يغزو هذه الوسائل ويتخذها ادوات لاذاعة الأدب وما ويحمل إلى النفوس من خير ورشد وإصلاح ، وإما أن يهمل هذه الوسائل فيقضى على أدبه بالتزام الحدود التى لا يتجاوزها الكتاب، ويعرض نفوس الجماعات لشر عظيم تحمله إليها الصحف والراديو والسينما التى ستكون أداة لقوم ليس لهم حظ من أدب ولا من فلسفة ولا من فن ولا من فقه بالحياة ومشكلاتها، وإنما همهم كله أن يلهو الجماعات بما يذيعون فيها من سخف رخيص ، وان يستزلو بما ينشرون فيها من دعوة الىأشياء لعلها لا تلائم ذوقا ولا منفعة ولا رقيا ولا ميلا إلى الاصلاح . والخلاصة أن الأديب إذا آمن بأنه فرد من الجماعة التى يعيش فيها ، ويشاركها فى حياتها، ويتضامن معها فى النهوض باعباء هذه الحياة ، و يحتمل معها تبعات الجهاد مهما تختلف ، فليس له بد من أن يصطنع كل هذه الوسائل، قديمها وحديثها ، وما يمكن أن يستحدث منها فى مستقبل الأيام ، ليحقق اتصاله بالجماعات ويحقق اتصال الجماعات به فى السينما دون أن تكون هذه القصص مشتقة من حياتهم مصورة ادق تصوير وأصدق لما يجدون من ألم ولذة ، وما يحسون من امل ويأس ، وما يثور فى قلوبهم من عاطفة وشعور . فليست الحياة لهوا ولا لعبا ، وإنما الحيا ة جهاد يحتاج الناس فى أثنائه إلى شىء من اللهو وفنون من التسلية ، ليستعينوا بذلك على احتمال الحياة والمضى فى جهادهم فى غير سأم او ملل أو فتور . واذن فيجب ان يلتزم السينما كما يلتزم الادب، اى يجب ان يعرض السينما على النظارة حياتهم ، وما يملؤها من المشكلات وما يمكن ان يواجهوا به هذه المشكلات من حزم وعزم ، ومن رفق واناة، ومن صبر واحتمال ومن حيلة، وتصرف وما يمكن ان يجدوا لهذه المشكلات من حلول تريحهم منها ليستقبلوا غيرها . فحياة الناس لم تخل ولا يمكن ان تخلو من المشكلات، ولا سيما حين يكون لهؤلاء الناس حظ من رقى العقل ، وذكاء القلب ودقة الحس وقوة الضمير .
وقد حاول جان بول سارتر ، اصطناع السينما لاذاعة ادبه اول ما حاول بعرض قصته تلك القصيرة التى حظرت فى بريطانيا العظمى واذيعت فى الراديو ، وهى القصة التى عنوانها:Hus Clos: والتى استطيع ان اسميها من " وراء السور ". فالقصة تعرض امر نفر من الناس دفعوا بعد الموت الى الجحيم ، وضرب من دونهم بسور ظاهره فيه الرحمة وباطنه من قبله العذاب . فى جحيمهم هذا الذى دفعوا اليه نار تتلظى، ولا سعير تصهر فيه الجلود وتذاب فيه الاجسام، بل ليس فيه الم مادى ما ، وانما هم مدفعون الى حجرة من الحجرات التى الفوها فى حياتهم الدنيا ، وهم مكرهون على ان يقيموا فى هذه الحجرة الى اخر الابد ، ان كان للابد أخر . وهم يصلون متتابعين الى حجرتهم هذه، لا يعرفون انهم موتى، وانما يخيل الى كل واحد منهم انه قد اقبل على فندق من الفنادق ، وقاده الخادم الى حجرة من حجراته . فهم يتفقدون فى هذه الحجرة مرافقهم التى الفوها فى الحياة الدنيا ، وهم يتبيينون شيئا فشيئا انهم قد ماتوا، وانهم يلقون فى هذه الحجرة جزاء ما قدموا بين ايديهم من الاعمال. وليس هذا الجزاء ألما ماديا ، كما قدمت وانما هو الم معنوى يتبينون احساسهم له شيئا فشيئا. يتبنون ذلك حين يتعرف الى بعض ، وحين يذكر كل واحد منهم لنفسه اولا ولرفاقه بعد ذلك ، ما قدم من اعمال منكرة وما اقترف من آثام استحق عليها العقاب ، ثم حين يكون بينهم الاختلاف والتناكر . وحين يستبين كل واحد منهم انه لا يستطيع ان يعاشر رفاقه راضيا عن عشرتهم ، ولا يستطيع ان يفلت من هذه المعاشرة ؛ فهو مكره اذن على معاشرة لا يطيقها ولا يطمئن اليها، ولا يستطيع ان يخلص منها الا اذا عكف على نفسه واهمل طائعا او كارها من حوله من الرفاق . وسواء اراد او لم يرد ، فهو يرى هؤلاء الرفاق ويتاذى بمنظرهم ، وهو يسمعهم ويتاذى بما يسمع منهم ، وهو يحاول ان يفر منهم الى نفسه ، فلا يرى فى نفسه الا نكرا . وهو لا يستطيع ان ينسى هذا النكر الذى يراه فى نفسه ؛ لان اعماله كلها تعرض عليه وآثامه كلها تمر امامه من وراء هذه الاسوار ؛ فيتحدث عنها فيؤذيه حديثه ويؤذى رفقاه ويسكت عنها فيؤذيه سكوته ويؤذى رفاقه؛ لان كل واحد منهم فى حاجة الى ان يشغل نفسه عن نفسه، ولان كل واحد منهم يؤذيه ان يشغل نفسه عن نفسه ، كما يؤذيه ما يحاول من الفراغ لنفسه والانصراف اليها عمن حوله من الناس . فكل واحد منهم اذن انما يحمل جحيمه فى نفسه وليست جهنم شيئا منفصلا عن الانسان ، وانما هى شئ مستقر فى ضميره حيا او ميتا . وكل ما فى الامر ان الانسان فى حياته الاولى قد يخدع ضميره ، او يخدع عن ضميره بما يكسب من عمل ، وبمن يعاشر من الناس وبما يعرض له من المشكلات التى يشغله بعضها عن بعض ومن اللذات التى قد تشغله عن الامه وقتا يقصر او يطول . فاما بعد الموت فليس يشغله عن نفسه شئ ، وليس يصرفه عن الامه وآثامه شئ . وهو يعلم حق العلم انه موقوف على هذه الالام والاثام ، وان هذه الالام والاثام موقوفة عليه ابد الاباد او ابد الابدين . وقد يخطر لك ان هذه الفكرة الفلسفية المجردة قد تكون فى نفسها قيمة عظيمة الخطر بعيدة الاثر فى نفس الذين يظهرون عليها من النظارة حين يشهدون التمثيل او من القراء حين يقرءون القصة . ولكنك تسأل : كيف عرضت هذه الفكرة على المسرح ، وعلى الشاشة البيضاء ، كما يقول اصحاب السينما ؟ وهذا بالطبع حديث لا أريد ان اقف عنده الآن ، وقد الم به مقال اخر حين اعرض لمسرحيات جان بول سارتر . وانما يكفى ان تعلم ان التمثيل انما يقوم على ما يكون بين هؤلاء النفر حين يلتفون من حوار فيع العسر واليسر ، وفيه العنف واللين ، وفيه الخلاف والوفاق . وكله منته اخر الامر الى العجز واليأس اللذين ينتهيان باصحابهم الى الجنون ، الا ان الموتى لا يصيبهم الجنون . فاما السينما فإنها تصور هذا كله وتؤديه اداء حسنا ، ولكنها تعرض مع هذا كله تلك الالام والاثام التى اقترفها هؤلاء النفر فى حياتهم الاولى ، والتى يتحدث بها بعضهم الى بعض فى ملعب التمثيل ، فلا تظهر النظارة عليها الا من طريق اللفظ الذى تسمعه الاذن . فاما فى السينما فيظهر النظارة عليها من طريق العين لانها تمر امامهم مرا كلما عرض لها اصحابها فى الحديث .
وكأن نجاح هذه القصة فى السينما قد اغرى الكاتب اغراء شديدا بان يعنى بالسينما من حيث هو سينما ، فلا يعيرها قصة كتبت للملعب ، وانما يمنحها قصصا تكتب لها خاصة .
ومن الكتاب الفرنسيين الممتازين من حاول وما زال يحاول هذا الفن السينمائى الخالص. فيظهر بكثير من النجاح والتوفيق . والناس كلهم يذكرون روائع جان كوكتو ومارسيل بانيول. ولكن هذين الكاتبين وغيرهما لا يتجاوزون بأثارهما محاولة التوفيق بين السينما والفن ؛ فليس يعنيهم ان يذيعوا فكرة فلسفية او ادبية ما ، وانما يعنيهم ان يمتعوا النظارة بالسينما كما تعودوا ان يمتعوهم بالتمثيل . فاما جان بول سارتر ، فهو لا يكره ان يمتع النظارة ولكنه لا يكتفى بامتاعهم ، وهو لا يكره ان يعظ النظارة ولكنه لا يكتفى بوعظهم ، وانما يحاول فوق الامتاع والوعظ ان يعرض عليهم مشكلات عنيفة بعضها يعرض للانسان من حيث هو انسان يفكر فى حياته ومصيره تفكيرا فلسفيا ، وبعضها يعرض له من حيث هو انسان يدبر حياته تدبيرا سياسيا واجتماعيا ، فيلى فى هذا كل ما يلقى من المصاعب والعقاب .
وقد كتب جان بول سارتر للسينما قضيتين الى الآن ، عرضت احداهما فى كان ولم تعرض على الجمهور بعد، ونشرت الثانية فى مجلة من مجلات السينما، ولست اعلم ان المخرجين قد هموا باخراجها بعد . فاما القصة التى اخرجت وعرضت بالفعل فعنوانها الفرنسى Les jeux sont faits وتسطيع ان تترجم هذا العنوان بهذه الكلمة العربية :" لقد تمت اللعبة "، كما تسطيع ان تترجمه بكلمة واحدة ، وهى "هيهات". وهذا العنوان الفرنسى ليس الا الجملة التى ينطق بها محرك "الروليت" فى اندية القمار قبل ان يحرك هذه الاداة . وبعد ان يضع اللاعبون ما يضعون من النقد على ما يختارون من الارقام . واذا نطق صاحب الاداة بهذه الجملة فهو انما ينبه اللاعبين الى ان احدهم لا يستطيع ان يختار رقما غير الرقم الذى اختاره ، ولا يستطيع ان يسترد النقد الذى وضعه على هذا الرقم ؛ فقد تمت اللعبة ولم يبق الا ان تجرى الكرة وتختار اللاعبين او تختار من اللاعبين صاحب الرقم الذى اتيح له الكسب . فاذا قامت تمت اللعبة ، او قلت هيهات او قلت سبق السيف العذل او قلت لا سبيل الى استدراك ما فات، فقد اديت المعنى الفلسفى الذى قصد اليه الكاتب حين انشأ قصته .
ويقول النقاد الذين شهدوا عرض هذه القصة فى مدينة كان انها لم تظفر بشئ من النجاح، ثم يختلفون بعد ذلك فى مصدر هذا الاخفاق ؛ فبعضهم يحمل تبعته على جان بول سارتر لانه كلف السينما ما لا تطيق ، وعرض على النظارة مشاهد لا يحبون ان يروها ولم يتعودوا ان يروها ، وكلفهم ان يخادعوا انفسهم خداعا عظيما قوامه التحكم الخالص ليفرقوا بين اشخاص ومشاهد لم يالفوا التفريق بينها .وبعضهم يحمل تبعة هذا الاخفاق على المخرجين والممثلين لانهم لم يحسنوا الاخراج والعرض والتمثيل . ومن المحقق انى لن احاول القضاء بين هؤلاء المختصمين ؛ فليست من السينما فى شئ وليس السينما منى فى شئ . ولكن من المحقق ايضا انى قرات هذه القصة التى اذيعت فى الناس تمهيدا لعرضها عليهم ، وقراتها ثلاث مرات ، فلم تزدنى قراءتها الا اعجابا بها ورضا عنها لا لما فيها من اراء فلسفية فحسب ، ولا لما لها من قيمة ادبية فنية فحسب ، ولكن لهاتين الخصلتين جميعا ولخصلة ثالثة ، وهى طريقة العرض التى تقتضيها السينما والتى تدفع الكاتب والقارئ جميعا الى شئ من النشاط والحركة والتنقل السريع المفاجئ من بيئة الى بيئة ، ومن طور الى طور بل من عالم الى عالم كما سترى .
وليس يعنيني ان تظفر هذه القصة بالنجاح على الشاشة البيضاء او لا تظفر به ، وانما الذى يعنينى انا قبل كل شئ هو ان هذا اللون من الكتابة القصصية يمكن ان يقصد اليه الكاتب فى نفسه سواء عرض على النظارة او لم يعرض فهو نفسه فن طريف حى خصب يستطيع ان يكون اداة قيمة جدا لابلاغ ما يريد الادباء ان يبلغوه الى قرائهم من طريق الكتاب . ولا عليهم بعد ذلك ان تستغله السينما فتنجح فى استغلاله او تخفق ، ولا عليه ألا تستغله السينما اصلاً . وقد استطيع ان اضرب لك مثلا مقاربا؛ فالادب التمثيلى القديم اليونانى واللاتينى ممتع حين تقرؤه ، خالد بحكم هذا الامتاع وقليل منه يمكن ان يمثل فى الملاعب ويظفر برضا لنظارة، ولكن اكثره قد فقد هذه الخصلة ، واصبح ممتعا بقراءته ليس غير .
وقد يستطيع الممثلون المعاصرون ان يعرضوا على النظارة "انتيجون". او "اوديب". او الكتز من اثار سوفوكل . ولكنى اشك اعظم الشك فى انهم يستطيعون ان يعرضوا على النظارة "فيلوكتيت". او "اياس" . من اثار هذا الشاعر نفسه ، وان يظفروا بشئ من اعجاب النظارة المحدثين . وكل رجل مثقف يجد المتاع كل المتاع فى قراءة هاتين القصتين ، بل قد حاول اندريه جيد فى كثير من التوفيق ان يجدد قصة "فيلوكتيت". كما جدد قصة "اوديب"، وكما جدد كتاب اخرون قصصا اخرى لسوفوكل وغيره من القدماء . فالكتاب الذين يستعيرون من السينما طريقتها فى العرض والحركة والتنقل السريع يجددون فى الادب تجديدا خطيرا ويفتحون للادباء افاقا واسعة سواء وفق المخرجون ام لم يوفقوا فى اخراج ما يكتبون .
والذين قرءوا "طريق الحرية" او ما ظهر من "طريق الحرية ". لجان بول سارتر ، يلاحظون انه لم يصل الى هذا اللون من الفن فجاءة ولا عن ارادة وتعمد . وانما وصل اليه شيئا فشيئا من طريق التطور الفنى الرفيق ، تأثر فى ذلك ببعض الكتاب الامريكيين ، وتاثر فيه بالسينما ، وتاثر فيه بالحياة الحديثة نفسها . فهو فى طريق الحرية قاص ، ولكنه لا يقص احداثه كما تعود الكتاب ان يفعلوا ، وانما هو امام اشخاص كثيرين جدا مختلفين اشد الاختلاف، يعيشون فى اقطار متنائية متباعدة ، وتحدث لكل واحد منهم الوان مختلفة من الاحداث كلها متاثر بذلك الروع الذى ملا الارض قبيل الحرب العالمية الثانية . وهو يلقى اليك اطرافا من هذه الاحداث فى شئ يشبه ان يكون فوضى ، ولكنه قد نظم ادق تنظيم وامتنه . فهو يحدثك عن رجل مروع فى هذه المدينة من مدن تشيكوسلوفاكيا ، ثم يثب بك الى مدينة ميونخ حيث الاستعداد للقاء هتلر وتشمبرلين ، ثم انت فى باريس فى ناد من اندية اللهو ، ثم انت فى باريس فى غرفة خاصة حيث يتناجى عاشقان . وهو كذلك يتنقل بك فى اقطار اوربا ، وربما نقلك الى افريقية ، وربما عبر بك البحر بين مراكش وفرنسا . وانت لا تستقر فى مكان من هذه الاماكن الا ريثما ينقلك منه الى مكان اخر . ولكنه على كل حال مغرق فى هذا الروع الى ملا الارض قبيل الحرب، مفكر فى الحرب ، مستحضر لها ولاهوالها ، شاهد لاياتها وبوادرها ، متاثر بعد ذلك بما لكل قصة من هذه القصص الكثيرة المختلفة المختلطة من عبرة تتصل بالسياسة او بالخلق او بالفلسفة او بنظام الاجتماع . فهو لا يقص عليك الاحداث ، وانما يعرضها عليك عرضا ، قد استعار للكتابة فن السينما فى العرض ، فاتقن الكتابة والعرض جميعا ، بحيث يمكن ان يعرض هذان الجزءان اللذان ظهرا من كتابه عرضا سينمائيا فى غير مشقة ولا عناء .
فلا غرابة اذن فى ان يستقبل الكتابة الادبية الفلسفية للسينما ولا غرابة كذلك فى ان يجد الفنيون مشقة فى الاخراج ، ويجد النظارة عسرا فى الفهم والاستمتاع .
والقصة التى نحن بازائها ، تعتمد على شخصين اثنين ، هنا البطلان ، ومن حولهما أشخاص كثيرون ، لكل منهم مكانه وأثره . وهذان الشخصان رجل وامراة . فاما الرجل فهو بيير دومين وهوعامل ممتاز بين زملائه ، قد اسس مع جماعة من رفاقه جماعة الحرية التى تنظم مقاومة الطاغية منذ اعوام ، وهى تستعد للثورة من غد . واما المرأة فهى ايف شارلييه ، وهى بالطبع جميلة رائعة الجمال ، غنية واسعة الغنى ، تشغل مع زوجها فى الطبقة الممتازة مكانا رفيعا . فاذا بدأت القصة ، فايف هذه مريضة تراها فى سريرها مكدودة ، وقد اقبل زوجها مترفقا، فدنا منها وتبين انها لم تحس مقدمه لانها مغرقة فى النوم . ثم يعرض عليك منظر غرفة حقيرة فى بيت متواضع ، وقد اجمتع رؤساء العمال حول رئيسهم بيير ، وقرروا بعد مناقشة ان تبدأ الثورة من غد . ثم نترك هذه الغرفة ، ونرى بيير فى الشارع يركب دراجته ويدنو منه غلام يعتذر من بعض الخطأ ، ونفهم انه قد وشى بالجماعة الى الشرطة بعد ان عذبته الشرطة عذابا شديدا ، ونفهم كذلك ان بيير لا يريد ان يعفو عنه ، وانما يزدريه اشد الازدراء ، فيمتلئ قلب الفتى حفيظة وموجدة وخزيا ، ثم نرى بيير قد وصل الى مكان خارج المدينة حيث تعمل طوائف من العمال والفتى يتبعه ، حتى اذا بلغ قريبا من اصحابه اطلق الفتى عليه مسدسه فخر صريعا . واقبل العمال من كل صوب حين سمعوا اطلاق المسدس . ثم نعود الى الغرفة التى تمرض فيها ايف . فنرى زوجها قد انحنى ينظر فى وجهها ، حتى اذا استقين انها نائمة استخرج من جيبه زجاجة صغيرة وصب منها قطرات فى قدح من الماء قد وضع الى جانب السرير ، ثم انسل الى الصالون حيث كانت تنظره لوست اخت امراته ، وهى فتاة فى الثامنة عشرة من عمرها ، مشفقة اشد الاشفاق على اختها ، فلا تكاد تساله عن حالها حتى يهيئها للنبأ الخطير ، والفتاة جزعة اشد الجزع ، ولكن الرجل يهدئ من روعها فى رفق ، ونفهم انه يتملقها ويريد ان يخيل اليها شيئا يشبه الحب .
ثم نعود الى.خارج المدينة فنرى بيير صريعا قد احاط به العمال ، وقد اقبلت فرقة من الجند فالعمال يتحرشون بها ، ويريدون ان يرجموها بالحجارة ، والجند يتهيأون لاطلاق النار . ثم نعود الى الغرفة التى تمرض فيها ايف فنراها قد افاقت من نومها واخذت القدح وشربت ما فيها ، ثم نهضت متثاقلة فسعت الى الصالون ودعت زوجها ، ثم عادت الى سريرها وجعلت تحذر زوجها فى صوت خافت متهالك من ان يعرض لاختها بشر ، وتنبئه بانها ستبرأ وستحمى اختها منه ، وبانه لم يتزوجها الا رغبة فى ثروتها ، وبانه الان يطمع فى ثروة اختها. وزوجها يسمع لها غير حافل ولا مكترث ، ثم لا تلبث ان تموت . ونعود الى خارج المدينة فنرى العمال مزدحمين حول الصريع يتاهبون لرشق الجند بما فى ايديهم من حجارة وحديد ، ويابون ان يفسحوا لهم الطريق ، والجند يريدون اطلاق النار . ولكن بيير ينهض من مصرعه ويتخطى جثته التى لا تزال فى مكانها ، وينصح للعمال بان يتفرقوا ملحا عليهم اشد الالحاح ، ولكن احدا من العمال لا يسمع صوته ولا يرى شخصه . فاذا استيأس منهم رفع كتفيه ومضى لوجهه . ونعود الى غرفة المريضة التى صرعها الموت ، فنراها قد نهضت وجعلت تسعى من الغرفة حتى تبلغ الصالون فترى اختها الفتاة ؛ قد وضعت رأسها على كتف الزوج الذى جعل يهدئها ويواسيها متلطفا مترفقا متحبيا ايضا ، وهى تقف امامهما فلا يريانها وتتحدث اليهما فلا يسمعانها حتى اذا أستيأست منهما تركتهما ومضت نحو الباب ، فتلقى الخادم فى طريقها فتتحدث اليها، ولكن الخادم لا تراها ولا تسمعها وهى تمر امام المرآة فتنظر اليها ولكن المرآة لا ترد اليها صورتها ، وهى تنظر فترى المرآة ترد صورة الخادم ولا ترد صورتها هى ، فتنطلق . ونحن فى الشارع نرى حركة الناس وازدحامهم وضطرابهم فيما يضطربون فيه ، ونرى فى الوقت نفسه بيير يسعى فى بعض الطريق وايف تسعى فى بعض الطريق ايضا ، وكلاهما يرى الناس ويسمع منهم ، يحاول ان يعرض لهم فلا يراه احد وان يتحدث اليهم فلا يسمع منه احد . وكلاهما يمضى فى طريقه يسال عن شارع بعينه لانه على موعد فى هذا الشارع ، ولكنه يسأل فى غير طائل ، فالناس لا يرونه ولا يسمعونه ولا يجيبونه . وكلاهما يسعى مع ذلك حتى يصل الى زقاق ضيق غريب قد كتب عليه اسم الشارع الذى يسال عنه . وكلاهما يدخل فى هذا الزقاق ، فاذا جماعة من الناس قد وقفت امام باب مغلق فى اقصى الزقاق؛ وهذا الباب يفتح بين حين وآخر فيدخل منه احد هؤلاء الناس ، ثم يغلق حينا ثم يفتح ليدخل منه شخص اخر . ويلاحظ بيير وايف انهما يريان هؤلاء الناس ويسمعان منهم ، وان هؤلاء الناس يرونهما ويسمعون منهما . والباب يفتح فيدخل بيير ، واذا هو فى حجرة ضيقة يمضى فيها حتى يبلغ اقصاها ، فاذا سيدة قد جلست امام مائدة وعلى المائدة دفتر ضخم ، فاذا انتهى بيير الى هذه السيدة سألها فى أدب اهى تنتظره ؟ فتنبئه السيدة بأنها تنتظره ، ثم تنبئه باسمه وتاريخ مولده . ولا يكاد يدهش لذلك حتى تنبئه بانه قد مات مقتولا ، ثم تطلب منه امضاءه على الدفتر ، فاذا فعل اذنت له فى الانطلاق، ولكن على ان يخرج من باب غير الباب الذى دخل منه . فاذا سألها الى اين اذهب وماذا يجب ان اعمل؟ انباته بان الموتى احرار يذهبون الى حيث يشاءون ويعملون ما يشاءون . وتجرى القصة نفسها لايف بعد حين ، فتعلم من السيدة انها قد ماتت مسمومة ، وتمضى على الدفتر ، وتمضى حرة تذهب الى حيث تشاء وتعمل ما تشاء لان الموتى احرار بعد ان يوقعوا باسمائهم فى سجل الاموات .
ولست اقص عليك تفصيل ما يعرض لهذين الميتين بعد خروجهما من هذه الحجرة وانطلاقهما فى المدينة يريان الاحياء ويسمعانهم ولكن الاحياء لا يرونهما ولا يسمعونهما . ويلقيان الموتى فنونا واشكالا منهم المحدثون ومنهم الذين بعد عهدهم بالموت . وما يستطيعان ان يتحدثا الى الموتى ، وان يسأما منهم ، وان يتندرا منهم بالايحاء وما يعملون. لا اقص عليك ما يعرضون لهما من خطوب فذلك شئ يطول وانما اسجل شيئين اثنين : احدهما ان بيير يذهب مع دليل له من الموتى الى قصر الطاغية ، فيدخل القصر وينسل الى غرفة الطاغية فيراه مبتذلا متهيئا لاتخاذ ثيابه الرسمية . ويتناول طعامه ومن حوله موتى كثيرون، كلهم مبغض له ساخط عليه يريد ان يصيبه بالمكروه ، ولكنه لا يبلغ مما يريد لان الموتى لا يبلغون مما يريدون شيئا . وقد انبأهم بيير بان الطاغية سيموت من غد حين تشب الثورة التى دبرها ، والموتى لا يدقونه ، ولكنه يلح حتى يوشك ان يقنع بعضهم بصدق ما يقول. ولكن رئيس الشرطة يدخل فيبنئ الطاغية بان زعيم الثورة قد قتل ، ويغضب الطاغية لذلك غضبا شديدا؛ فهو قد كان اعد للثورة جيشا ضخما وقرر ان يسحقها سحقا وان يريح نفسه منها عشر سنين على الاقل . واذن فقد استيقن بيير بان الثورة ستسحق ، وان الطاغية لن يفاجأ ، والموتى يضحكون منه ويحاولون تعزيته ، ولكنه يمضى مغضبا لا يلوى على شئ ، حتى يبلغ الغرفة التى كان يأتمر فيها مع اصحابه ، فيراهم ويسمعهم ، ويعلم ان مصرعه قد بلغهم . ويحاول ان يتحدث اليهم ليردهم عن الثورة ويحملهم على تأجيلها ولكنهم لا يرونه ولا يسمعون منه ، فينصرف عنهم يائسا مستيقنا بوقوع الكارثة من غد .
هذا أحد الامرين . اما الامر الثانى فهو ان بيير يلقى ايف فينظر اليها ويدنو منها ويكون بينه وبينها حديث ثم شئ يشبه الالفة . وهما يذهبان معا الى احدى الحدائق ، والى ناد من اندية اللهو فى هذه الحديقة تغشاه الطبقة الممتازة من اصحاب ايف . وهما يريان ويسمعان ، ولكن احدا لا يراهما ولا يسمعهما . وقد استحالت الفتهما الى تعاطف ، ثم الى شئ يشبه الحب ، وهما يتراقصان ، ولكنهما لا يجدان لذة الرقص لان الموتى لا يجدون لذة لشئ . وكلاهما يود لو بذل نفسه ثمنا للحظة قصيرة ينفقها مع صاحبه كما ينفق الاحياء اوقاتهم حين يكون بينهم الحب . ولكن كليهما يحس كأنه مدعو الى موعد، فينطلقان حتى يبلغا تلك السيدة التى تسجل الموتى فتنبئهما بانها كانت تنتظرهما ، وبانها قد علمت ان كليهما يظن انه قد غلط به فى الحياة ، وان كلا منهما قد خلق لصاحبه ، وان المادة الاربعين بعد المائة فى القانون تقضى فى مثل هذه الحال بتصحيح الخطأ ورد اليهما اربعا وعشرين ساعة . فاذا استطاعا ان يستأنفا منها الحياة قوامها الحب الصحيح مدت لهما اسباب الحياة ، والا عادا الى الموت. وهما يزعمان لهذه السيدة ان قد غلط بهما وان كلا منهما قد خلق لصاحبه فترد اليهما الحياة . ويودعان الموتى الذين يتمنون لهما الخير ، ومنهم من يكلفهما بعض الاعمال فى عالم الدنيا .
ثم نعود الى خارج المدينة فاذا جثة بيير فى مكانها ، واذا العمال من حولها يتاهبون لرشق الجند بالحجارة ، والجند يتهياون لاطلاق النار . فقد حدثت كل هذه الاحداث على كثرتها فى لحظة قصيرة ؛ لان الزمن لا حساب له بالقياس الى الموتى . وقد جلس بيير بعد ان ردت اليه الحياة ، وتحدث الى العمال فاستيقن انهم يرونه ويسمعونه ؛ واية ذلك انهم اطاعوه وتفرقوا . ولكنه ينهض فى شئ من ذهول ويعمد الى دراجته فيركبها ويعود الى المدينة . وقد ارسل العمال من ورائه احدهم ليتبعه ويعينه ان احتاج الى شئ من عون .
ونعود الى الغرفة التى ماتت فيها ايف ، فنراها على سريرها وقد جثت اختها منتحبة الى جانب السرير . ولكن ايف تتحرك ثم تتكلم ثم تنهض . وقد حدثت كل هذه الاحداث فى اقصر لحظة ممكنة ؛ لان الزمن لا قيمة له بالقياس الى الموتى . وقد ابنهجت اختها الفتاة حين راتها تفيق وسقط فى يد الزوج فخرج يلتمس لها الطبيب . وجعلت ايف تتحدث الى اختها محذرة لها من هذا الزوج الخائن الذى يخدعها ليظفر بثروتها ، والفتاة تدافع عن هذا الزوج لانها لم تر منه الا خيرا . ونحن امام الدار التى تسكنها وهى دار انيقة فخمة قد اقبل عليها بيير ، حتى اذا بلغها نزل عن سيارته ودخل وسأل البواب عن الطابق الذى تسكنه ايف شارلييه ، فيدله عليه مزدريا له ، ويأمره بان يرقى اليه من سلم الخدم . ثم نرى الخادم قد اقبلت تنبئ سيدتها بمكان هذا العامل ، وبانه يريد ان يلقاها وبانه ينتظر فى المطبخ . فتذكر ايف كل ما حدث لها اثناء الموت وتأذن لبيير. فاذا اقبل راعه ما فى هذه الدار من ترف لم ير مثله قط ، وهو على كل حال يلقى صاحبته ويتحدث اليها ويدعوها الى ان ترافقه ؛ وهى تتردد شيئا ، ثم تذكرنا ما زعمت لمسجلة الموتى ، فتهم ان تخرج ، ولكن الزوج يقبل ، فيراهما وقد ظهر تفوقه على امرأته . فقد راها فى غرفتها مع رجل غريب من غير طبقتها ، ورأى بينهما صلات لا تكون الا بين العاشقين . فهو يريد ان يطردها ، ولكنها تخرج مع رفيقها وفى نفسها شئ من حب ، وفى نفسها كثير من حسرة وخوف على اختها . وهما يستأنفان فى الشارع كل ما حدث لهما اثناء الموت ، فيسعان الى الحديقة ، والى النادى . ويريان اصحاب ايف ويسمعانهم . ولكن اصحاب ايف يرونها هذه المرة وينكرون مكانهما ويسخرون منهما . وهما يشقيان بذلك شقاء مختلفا مصدره استخذاء المرأة من رفيقها العامل الوضيع امام هذه الطبقة الممتازة ، واستخذاء الرجل من ضعة هيئته ومما بينه وبين صاحبته من الفرق الهائل فى الطبقة وفى الفقر والغنى . ولكنهما كليهما حريصان مع ذلك ان يستأنفا حياة قوامها الحب ؛ فقد اعطيا بذلك عهدا في دار الموتى ؛ فهما يعرضان عن كل ما يلقاهما من المصاعب ، وهما يتراقصان فى نفس المكان الذى تراقصا فيه ميتين ، ولكنهما يجدان لذة الرقص فى هذه المرة ، ويكادان ينعمان بهذه اللذة لولا هذه البيئة التى تنغص عليهما كل شئ . وقد وقع الشر بين بيير وبين رجل من هذه البيئة، واقبل جندى يريد ان يعنف بيير ، فتظهر ايف بطاقتها للجندى ، ويعلم بيير ان لاول مرة ان زوجها يشغل منصبا خطيرا فى الشرطة فينصرف عنها هاربا . الم ينفق حياته كلها فى مقاومة هذه الشرطة والكيد لها ؟ فالنظام الاجتماعى كله والنظام السياسي كله والنظام الاقتصادى كله ، يحول بينه وبين هذه المرأة التى زعمت انها خلقت له ، والتى زعم انه خلق لها . ولكن ايف تدركه وما تزال به حتى ترده الى بعض الهدوء ، ثم يتعاونان على انقاذ ما اوصاهما به بعض الموتى فيقرب ذلك بينهما شيئا ما . ثم يذهبان الى دار بيير ويفترقان حين يبلغانها . يريد بيير ان تستأنس صاحبته الى هذه الدار وحدها من جهة ، وان يسرع الى اصحابه فينبهم الى الخطر الذى ينتظرهم من جهة اخرى ، فأما هى فتصعد الى الغرفة التى يعيش فيها بيير وتجد شيئا من الحرج فى الاطمئنان اليها والاستقرار فيها ، ولكنها مع ذلك تذعن لما ليس منه بد فتاخذ فى اصلاح الغرفة . واما هو فيذهب الى اصحابه ، فاذا لقيهم انكروه اشد الانكار ، لانهم عرفوا دخوله دار هذا الموظف الكبير من موظفى الشرطة وخروجه مع امراته . ثم لم يكتفوا بالشك فيه ، وانما اتهموه بالتجسس عليهم بانه قد افضى بامرهم كله الى حكومة الطاغية . وقد انصرف عنهم يائسا منهم ، وعاد الى صاحبته حزينا كئيبا ؛ فهى تواسيه وتسليه وترفق به وتذكره الحب وما اعطيا من عهد وما ضرب لهما من موعد سينتهى اذا كان الغد . وهما كذلك اذ يأتي احد العمال فينبئ بيير بان اصحابه قد ائتمروا به ليقتلوه ، ويحثه على الهرب بانهم قادمون لانقاذ ما ازمعوا . والعامل ينصرف وبيير ينبئ صاحبته بانه مقتول بعد حين ويأبى الهرب . وهذه اقدام يسمع وقعها ، واذا العاشقان والباب يطرق ثم يطرق ، ثم ينصرف الطارقون فلا يشك العاشقان فى ان النصر قد كتب لحبهما ، وفى أن الموت قد صرف عنهما لينعما بهذا الحب السعيد .
فاذا اصبحا من الغد فهما راضيان بعض الرضا لا كله ، لا يشك احدهما فى انه يحب صاحبه. ولكن بيير يذكر الثورة التى ستسحق بعد حين واصحابه الذين سيمحقون محقا ، ويريد ان يبذل اخر جهد لينقذ الثورة من الاخفاق ، وينقذ اصحابه من الموت . وايف تذكر اختها التى توشك ان تكون فريسة لهذا الرجل الذى لا يحبها وانما يحب ثروتها ، وهى تريد ان تبذل اخر جهد ممكن لانقاذها . وهما مع ذلك يحاولان ان يستمسكا بالحب والحياة ، ولكنهما يفترقان على ان يلتقيا بعد ساعة قبل ان يحين الموعد الذى ضرب لهما فى دار الموتى .
فأما هى فلا تكاد تدخل دارها حتى ترى اختها وزوجها قد جلسا الى طعامهم جلسة لا تخلو من ريبة ، فتخرج المسدس وتأمرهما الا يتحركا حتى تقص على اختها خيانة زوجها ، ثم تأمرهما بان تستخرج من مكتب زوجها رسائل الحب التى تثبت خيانته . واما بيير فقد ذهب الى اصحابه فى نفس ذلك الوقت وقد اجتمع اليهم زعماء العمال ، وقد اخذ اصحابه ينكرونه ، واخذ هو يدافع عن نفسه حتى اطمأنت اليه الجماعة بعد لاى وهمت ان تؤجل الثورة . ولكن الثورة قد بدأت فى مواضع كثيرة ، وهم يتداولون فيما ينبغى ان يتخذوا من قرار لانقاذ ما يمكن انقاذه. وقد دنا الموعد الذى ضرب لبيير وصاحبته فى دار الموتى ؛ فهو يسرع الى التليفون لينبئ صاحبته بانه لا يستطيع فراق زملائه وهو يحاورها حوارا شديدا فى التليفون نسمعه نحن والوقت يمضى ويمضى . وقد اقبل الجند فحاصروا المجتمعين وتطلق رصاصة فيخر لها بيير صريعا والجند يقتحمون الدار ويقهرون من فيها . ثم نرى بيير يتخطى جثته ويمضى لا يراه احد ولا يسمعه احد . ثم نراه بعد ذلك وقد لقى ايف ميتين وكلاهما يتحدث الى صاحبه كانهما قد خدعا عن انفسهم وعن الحب ، وبان التجربة قد أخفقت ، وبانهما قد عادوا الى الموت لان بيير لم يتمن الحياة الا لينقذ الثورة واصحابه ، ولان ايف لم تتمنى الحياة الا لتنقذ أختها من زوجها الخائن الأثيم . وقد اخفقا جميعا فلم يستطيع بيير ان ينقذ الثورة ولم تستطع ايف ان تنقذ اختها . ويلقاهما احد الموتى فيسالهما دهشا : ألم تنجحا فيما حاولتما ؟ فيجيبه بيير : كلا يا سيدى لقد تمت اللعبة ، فليس لاحد اللاعبين ان يختار . ويلقاهما مع ذلك ميتان اخران فتى وفتاة يخيل اليهما ان كلا منهما قد خلق لصاحبه ، وانه قد غلط بهما فى الحياة الاولى ، وانهما يستطيعان ان اتيح لهما الانتفاع بالمادة الاربعين بعد المائة ان يستانفا حياة سعيدة قوامها الحب ، فيشير عليهما بيير وايف ان يحاولا ، فمن يدرى لعلهما ان يظفرا بما لم يتح لهما الظفر به .
وكذلك تنتهى هذه القصة التى لم ارسم منها الا ابسط ما فيها ، وهى على ذلك تصور لك ما قصد اليه جان بول سارتر من عرض هذه الظروف القاسية المحتومة التى يفرضها النظام الاجتماعى والسياسي والتى تفرق بين الناس تفريقا محتوما لا سبيل الى التخلص منه الا اذا تغير النظام السياسي والاجتماعى وزالت هذه الفروق التى تجعل من الناس اقوياء وضعفاء وفقراء واغنياء لا سبيل الى ان يلتقوا ولا الى ان ينعموا بالحياة مادامت قائمة . فهم يجدون المساواة اذا ماتوا ويطمحون اليها مخلصين ويودون لو ردوا الى الحياة ليحققوها ، ولكنهم لا يستطيعون تحقيقها اذا ردوا الى الحياة ؛ لان اليد الواحدة لا تستطيع، التصفيق ولان النظام السياسي والاجتماعى لا تغيره ارادة فرد من الافراد وانما تغيره ارادة جماعية لا تتحقق الا بالتطور . ومن يدرى ! لعل التطور لا يكفى لتحقيقها ، ولعلها تحتاج لشئ اشد من الطور وهو الثورة .
وليس هنا موضع الحديث عما يمكن ان يكون بين هذا التفكير الفلسفي وبين الفلسفة الوجودية من تقارب أو تباعد ، وانما الشيء الذى ليس فيه شك هو أن هذا النحو من التفكير ملائم لما أشرت أنفا من رأى الكاتب فى بحثه عن الصلة بين الأديب وبين الجماعات . فجان بول سارتر يريد أن يجعل المساواة بين الناس حقيقة واقعية تريدها الجماعة كلها ولا يريدها الأفراد متفرقين . أحسبك توافقني على انه قد صور من ذلك ما أراد تصويره ، فبلغ من هذا التصور ما أحب .
اما القصة الثانية فعنوانها "الأنوف المستعارة ". وهى تدور بالفعل حول أنوف مستعارة يخفى بها أصحابها أنوفهم التي ركبها الله فى وجوههم . والقصة فكاهة ولكنها فكاهة مرة تضحك ولكن من حماقة الإنسان وسخفه وضعفه وتعلقه بالمنافع العاجلة وانقياده للوهم واستسلامه للسلطان وان كان ضعيفا لا يعتمد على قوة تسنده او تجعله مصدرا للخوف .
فانت حين تبدأ القصة فى دهليز من دهاليز القصر الملكي في مورافيا ، وهذا الدهليز قذر مهمل قد ضربت عليه العنكبوت بنسجها ، ورجل قائم على سلم يحاول ان يرد الى سقف الدهليز وجدرانه نظافتها ويزيل عنها نسج العنكبوت . ثم تعرض عليك صورة اخرى ترى فيها حجرة العرش وقد اجتمعت فيها حاشية الملك ووجوه الدولة وفى موقدها نار ضئيلة تخمد شيئا فشيئا . ولكنك تلاحظ على كل من ترى فى القصر من رجال ونساء ومن سادة وخدم انهم يحملون في وجوههم أنوفا ضخمة مسرفة فى الضخامة تجعل هذه الوجوه قبيحة مضحكة . ثم يقبل الملك والملكة فتنهض الحاشية ، ويحاول الملك ان يجلس على عرشه فإذا هو مضطرب لا يثبت قد قصرت بعض قوائمه فيضطر بعض الحجاب الى ان يتموا هذه القوائم القصيرة بقطع من الخشب يزجونها بينها وبين الأرض ، حتى إذا ثبت عرش الملك واستطاع ان يجلس جرت القصة نفسها لعرش الملكة . وقد اخذ الملك يتحدث إلى وجوه دولته ، فيعلن اليهم ان ابنه الامير اندريه سيقترن بالاميرة أجات بنت ملك القوقاز ، وان هذه الأميرة فى طريقها الان الى عاصمة مورافيا وسيجعل الله لهذه الدولة الضخمة الفقيرة يسرا بعد عسر وغنى بعد فقر وفرجا بعد حرج . ثم يشير الملك الى صورة مغطاة قد علقت الى احد الجدران فيرفع عنها غطاؤها ، وتظهر الاميرة من ورائه رائعة الجمال ، بارعة الحسن ليس فيها الا عيب واحد وهو ان انفها طبيعي جميل . فاذا رآه الملك الى ذلك دعا رسام القصر بان يصلح هذا الانف . فيقبل الرسام على الصورة يضخم انفها ويفخمه ويسبغ عليه من القبح ما تمتاز به الانوف فى مملكة مورافيا. هنالك يرضى الملك ورجال الدولة عن الصورة ، ويدعى الامير الشاب ليراها ، فاذا اقبل نظر الى الصورة فى تكره واشمئزاز ثم انصرف عنها معرضا يظهر الإذعان للقضاء المحتوم اكثر مما يظهر الشوق الى خطبه التى شغفت قلبه حبا . وفى اثناء هذا كله يلاحظ الملك ان خدم القصر قد تركوا اعمالهم وابوا ان يستجيبوا له اذا دعا . فاذا سال ذلك انباه وزير العمل بان خدم القصر قد قرروا الاضطراب اذا تمت الساعة الحادية عشرة ؛ لانهم لم يقبضوا اجورهم منذ ستة اشهر ، وقد حاولت الحكومة اقناعهم بان زواج الامير سيملأ الخزائن ذهبا وسيقبضون رواتبهم ومكافات اخرى ، ولكنهم لم يحفلو بهذه الوعود. هنالك يعلن الملك ان لابد مما ليس منه بد وان رجال القصر كلهم ومعهم وجوه الدولة يجب ان يتناوبوا فيما بينهم اعمال الخدم . ثم ينهض الملك نفسه فيقدم الأسوة الصالحة وياخذ في ترتيب الحجرة ، ويضطر وجوه الدولة الى ان يصنعوا صنيعه ، فهم ينقلون الاثاث الموروث ليضعوا مكانه اثاثا جديدا انيقا قد استعاره الملك من اعضاء حاشيته . وربما كان من المضحك ان نلاحظ ان الملك فى اثناء حديثه الى وجوه دولته يرى سيدة تصطك اسنانها من البرد ، فاذا نهاها عن ذلك حاولت ان تملك نفسها ولكنها لا تستطيع فيأمرها الملك بالخروج ويمضى فى حديثه ، ولكنه يسمع اسنانا اخرى تصطك فيهم ان يغضب ولكنه ينظر فاذا الملكة هى التى تصطك اسنانها من البرد . هنالك ياذن بالنهوض وضرب الارض بالأرجل طلبا لبعض الدفء . وكذلك ينهذ هو وتنهض معه حاشيته وياخذون فى طرق الارض بارجلهم. حتى اذا ظفروا ببعض الدفء ، عادوا الى مقاعدهم ومضى الملك فى حديثه .
ثم يعرض علينا المطبخ . وقد اخذ رجال ونساء من وجوه الدولة يعملون فيه ، يهيئون الوليمة التى ستدعى اليها الاميرة اذا كان المساء ، وهم يختصمون فيم بينهم خصومات مضحكة تدل كلها على انهم محنقون من هذا العمل الذى اضطروا اليه والذى لا يحبونه لا يحسنونه ولا يعملونه فى قصورهم، وانما هو فقر الدولة قد اضطرهم الى هذا الهوان ؛ لان هذا الزواج سيجلب للدولة مالا كثيرا فيعود امرها اليسر والثراء ، ولكنهم على ذلك ضاقوا..!! بالملك وابنه وبهذه الحياة المنكرة التى تفرض عليهم وعلى الشعب . فهذه الانوف الضخمة البشعة ، انما فرض عليهم وعلى الشعب كله حملها ؛ لان الامير قد ولد كبير الانف بشعه ، فاراد الملك الا يحس الامير انه منفرد بهذه البشاعة ممتاز بهذا القبح ، فشرع قانونا يفرض على الشعب كله ان يتخذ الانوف الضخام . ومضى الشعب على هذه السنة المنكرة حتى الفها وحتى اصبحت الانوف الطبيعة عورة يجب ان تستر ، وحتى تهالك الناس على التماس هذه الانوف الطبيعية يختلسون النظر بها خفية من وراء الحجب ويحدثون عن اماكن اللهو التى يمكن ان يغشوها وان ينفقوا فيها النفقات الضخمة ليروا انفا طبيعيا جميلا ، ويستطيعوا مسه فاما قبيله فشئ لا يتاح الا للذين ينفقون فى سبيله اضخم النفقات .
وللملك اخ ضيق بهذه الحياة . طامع فى العرش ، يدبر ثورة يخلع بها اخاه ويطرد بها ابن اخيه، ويرقى بها الى الملك ويزيل عن الناس انوفهم هذه المستعارة ، ويبيح لانوفهم الطبيعية ان تظهر للواء والنور وتستمتع بحريتها كاملة . وهو يتحدث فى المطبخ الى اعوانه من وجوه الدولة بما دبر من هذه الثورة فيقرونه على خطته ، ويتفقون على افساد هذه الخطة ومنع هذا الزواج ، وعلى ان وسيلتهم الى ذلك ستكون افساد الوليمة أولاً ، فسيقدم إلى المدعوين أقبح الطعام وأردأه وستكون الخدمة منكرة مخالفة للمراسم والتقاليد ، وسيتعمدون حين يدورون بالصحاف والشراب على المدعوين ان يسيئوا الخدمة، فيصبوا النبيذ والمرق على ثيابهم الجميلة وعلى اكتاف السيدات العارية ، ثم سيفسدون على الضيف نومهم ، فيضعون الضفادع فى الآسرة ، حتى اذا كان الغد واحتشد الاشراف والشعب لامضاء عقد الزواج صدرت اشارة، فالقى كل انسان انفه الصناعى واظهر الاشراف جميعا انوفهم الطبيعية واعلنت الثورة ، وراى الامير انه وحده صاحب الانف الضخم القبيح . وهم يتفقون على هذا كله، وقد استمع الامير لبعضه اثناء مروره امام المطبخ فابتهج له لانه كاره لهذا الزواج ، يريد الا يتم .
ثم يعرض علينا مقدم الاميرة ، وقد خرج الملك لاستقبالها فى بعض الطريق ؛ فلم يكد يتلقاها ويتحدث اليها ويظهر لها صورة الامير حتى تراع الفتاة حين ترى هذا الانف . وحين تعلم ان الانوف كلها فى مورافيا على هذا النحو من البشاعة ويزداد جزعها حين يعرض عليها الملك انفا صناعيا تخفى به انفها الصغير الجميل . وهى تثور وتمتنع وتحاول ان ترفض هذا الزواج ولكن وزير ابيها يذكرها بانه الزواج او الدير ، فتذعن كارهة ، وتضع انفها الصناعى كما يضع رجال حاشيتها ووصائفها انوفهم الصناعية . وتصل الى القصر وهى تتمنى الا يتم هذا الزواج بشرط الا تكون هى مصدر هذا الاخفاق حتى لا تضطر الى الدير . وقد احتاط ابوها الملك واحتاطت معه دولة القوقاز لهذا النكر الذى ستدفع اليه الفتاة ، فالحق بحاشيتها ضابط رشيق وسيم ليكون فى خدمتها وليعزيها عن حياتها تلك المنكرة . وقد اخذ هذا الضابط يتقرب اليها ، واخذ هى تطمئن الى دعابته ، ولكنها ربما فكرت فى ان تهرب مع هذا الضابط الى حيث يعيشان عيشة الحب والسعادة بعيدين عن هذه الانوف الكبار . وقد بلغت الاميرة القصر واستقبلها الامير استقبالا فاترا متكلفا ، انكر انفها ، وانكرت انفه ، وتمنى كلاهما الا يتم هذا الزواج . ثم كانت الوليمة ، واقبل الخدم وهم من وجوه الدولة ، فقدموا أردأ طعام وخدموا اسوا خدمة ، وهم بعضهم ان يصب النبيذ على الاميرة فيتقيه الامير بيده ، وهم اخر ان يميل قنديله ليسقط على كتف الاميرة الشمع المذاب ، فيضع الامير يده على كتفها ليتلقى هذا الشمع ، وتذعر الاميرة لذلك فتلطمه ويوشك الامر ان يفسد لولا ان الوزير يرمق الفتاة فتذكر الدير ، ولولا ان الموضع تمس الامير فيذكر حاجة الدولة الى المال .
وتمضى السهرة على شر حال . وتمر الاميرة بالمطبخ مستخفية، حين يتقدم الليل فتسمع الاشراف وهم يتخذون قرارتهم الاخيرة لاتمام الثورة ، فتبتهج بهذه القرارت، وتنضم الى المؤتمرين ؛ لانها لا تريد ان يتم الزواج ، ولانها لن تحتمل تبعة الخفاق اذا كانت الثورة . ولكن وزير ابيها مختبئ كما كانت مختبئة ، وهو يسمع لما سمعت له ويندس بين المؤتمرين ، حتى اذا اجمعوا امرهم اعلن اليهم انه مكلف ان يزوج الاميرة من وارث العرش فى مورافيا كائنا من يكون ، فاما ان يقبل اخو الملك، ان يتخذ الاميرة لنفسه زوجا واما ان يفضح هذه الثورة قبل وقوعها . هنالك تقدم اخو الملك معلنا اغتباطه بهذا الزواج . ويسقط فى يد الاميرة ، فهى بين اثنين : اما ان تتزوج الامير الشاب وانفه الكبير ، واما ان تتزوج الامير الشيخ وسنه التى تشرف به على الهرم والفناء . فان لم تقبل هذا ولا ذاك، فهو الدير . وهى مقتنعة بان ليس لها بد من الهرب ، فهى تأمر الضابط بان يهئ لها وسائل الفرار، والضابط كاره لذلك ، فهو لم يرسل ليحتمل تبعات الحب الحر ، وانما ارسل ليكون خليلا لولية العهد ، ثم خليلا للملكة حين يرقى زوجها الامير الى العرش . ولكنه مع ذلك يظهر الطاعة ويسرع الى الوزير فيظهره على جلية الامر ويطلب اليه ان يحتاط لمنعهما من الهر ب. وقد خلت الاميرة الى نفسها اخر الليل فى غرفة من غرفات القصر . ولم تكد تدخل هذه الغرفة حتى رات جماعة من التماثيل قد وضعت لها انوف ضخام . وهى ثائرة فتضرب انوف هذه التماثيل حتى تسقط وتنزع انفها الصناعى وتمعن فى البكاء . ويمر الامير فيسمع نحيبها فيدخل الغرفة ، ولا يكاد ينظر الى الفتاة ويرى انفها الطبيعى الصغير الجميل حتى ياخذه دهش اى دهش ، واذا هو ينتزع انفه المستعار . وترى الفتاة فيه شابا انيقا وسيما ، وهو يعطف على الاميرة عطفا لا حد له، فقد عرف انها مثله قد ابتلت بانف صغير وانها تخفى مثله هذه الافة بانفها الصناعى ، فهو يحبها لانها شريكته فى هذه المحنة ، فانوف الناس كلهم كبار الا انفه . وهو من اجل ذلك مضطر الى ان يتخذ هذا الانف الصناعى ليخفى به عاهته . وتحاول الاميرة ان تقنعه بان انوف الناس كلهم صغار ولكنه لا يقتنع . والمهم هو انه احبها لان لها انفا صغيرا كانفه الذى كان يخفيه . وهى تحبه لان له انفا طبيعيا كانوف غيره من الناس . ويقبل الضابط وقد هيأ للهرب كل شئ ، ولكنها تعلن انها لن تقبل . ثم ترى الجمع قد احتشد من غد لامضاء عقد الزواج ، ونرى عرش الملك مضطربا كما رأيناه من قبل ، ونراه يسند بقطع الخشب ، ونرى المائدة التى سيمضى عليها العقد مضطربة قد قصرت قوائمها، فما تزال بقطع الخشب والمجلدات الضخام حتى تستقر وقد ارتفعت فلم يحتج الملك ان يجلس ليمضى العقد ، وانما هو يمضيه قائما متطاولا. ثم تصدر الاشارة التى اتفق عليها فتلقى الانوف الصناعية كلها ويظهر الناس بانوفهم الطبيعية الصغار . ويطلب اخو الملك الى الامير الشاب ان يتزل ولاية العهد فما ينبغى لملك مورافيا ان يكون مشوه الخلق . وما ينبغى ان يملك على هذه الارض من اكره الشعب في سبيله عشرين عاما على حمل هذه الانوف المستعارة البشعة . هنالك يلقى الامير انفه الصنعى ويظهر كما خلقه الله شابا وسيما جميل الانف ، فيضطرب الناس ويميلون اليه . ولكن اخا الملك يعلن ان هذا الفتى ليس ولى العهد ؛ فقد ولد ولى العهد كبير الانف ، واثبت الاطباء ذلك وصدر القانون بحمل الانوف الكبار من اجل ذلك والملك نفسه دهش فهو يعلم ان ابنه ولد كبير الانف ، ولكن المرضع تعلن الحقيقة ، وهى ان ابن الملك قد مات بعد ولادته باشهر قليلة . وان امة الملكة التى ماتت منذ عشر سنين قد اتخذت مكان أبنها طفلا صغيرا ، واتخذت له هذا الانف الصناعى، فعلت ذلك كله حبا للملك واشفاقا عليه ان تنتقل ولاية العهد من ذريته ، فيورثه ذلك حزنا عظيما. وقد نهضت الاميرة فالقت انفها الصناعى . واعلنت انها لن تتزوج الا هذا الفتى ، وانها ان صرفت عنه فستؤثر الدير . هنالك يتجه الملك الى الشعب والاشراف سائلا ماذا تريدون ؟ اتريدون ملكا من الاسرة المالكة ، ام تريدون ذهب القوقاز ؟ فيلقى الجواب الاجماعى بان الشعب يريد مال القوقاز . ويعلن الملك انه تبنى هذا الفتى فاصبح أميرا شرعيا وليا للعهد .
وكذلك تنتهى هذه القصة ، وقد عرضت عليك خلاصتها موجزة ، ولم اعرض عليك شيئا من خصائصها الفنية التى تتصل بالاخراج والعرض ، وتلائم السينما بوجه عام . وقد رايت ما فى القصة من مغزى سياسي واجتماعى وخلقى ، ورايت ان جان بول سارتر قد استطاع ان يذيع فى القصة الاولى من طريق الجد اراء فلسفية هى بعينها التى تؤلف فيها الكتب وتكتب فيها الفصول وتنشا فيها المسرحيات ، واستطاع فى القصة الثانية ان يذيع من طريق الفكاهة اراء فلسفية ليس اقل خطرا من الاراء التى اذاعها فى القصة الاولى من طريق الجد ، فجد السينما وهزلها كجد التمثيل وهزله ، وكجد الكتاب والمقالة وهزلهما يمكن ان يكونا وسيلة من وسائل التصوير والتعبير التى تحقق الصلة المنتجة المجدية بين الجماعة وبين الاديب .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق