جان بول سارتر
هذه هي المرة الأولي التي أتحدث فيها أمام جمهور مصري ويسعدني أن اعبر
له عن صداقتي العميقة .اسمحوا لي أن اشكر أولا هؤلاء الذين أتاحوا لي هذه الفرصة لكي
استمتع بهذا الشرف.
سأحدثكم الآن كما تعلمون عن دور
المثقفين في المجتمع المعاصر .وهناك في الحقيقة مشكلتان . فانا من ناحية ولدت في مجتمع
بورجوازي ، دور المثقفين فيه قد تحدد بحكم طبيعة هذه المجتمع نفسه .ومن ناحية أخرى
فانا هنا في القاهرة أتحدث إلي مجتمع ثوري يطرح علي المثقفين قضايا أخرى .ومن البديهي إنني
لا أستطيع الكلام عن هذا المجتمع الثاني لأنني للأسف انتمي إلي المجتمع الأول .
ولهذا فسأتحدث إليكم عن كفاح المثقفين في المجتمعات البورجوازية ، ما
هو وما يجب أن يكون عليه هذا الكفاح في بلادنا
، اعني في الغرب وأحيانا في الشرق لا ينظر
إلي المثقفين بعين الارتياح من الطبقة الحاكمة عامة ، وللأسف في بعض الأوقات من الطبقات
الكادحة ذاتها التي وان كانت تجل العالم وتحترمه باعتباره رجل علم ومعرفة ولكنها ترتاب
منه إذا كان مثقفا . فهناك إذن فارق بين أن يكون الإنسان مثقفا وان يكون رجل معرفة .
إن النقد الذي يوجه كما تعلمون إلي المثقف هو انه دائم المعارضة والنقد
ويتدخل فيما لا يخصه من الأمور مستغلا شهرته وتأثير أعماله الثقافية والعلمية . إن هذه النقد ليس موجها
كما ترون لرجل المعرفة علي هذه الاعتبار المحدد . إذن ما معني ذلك؟ فبالنسبة لرجل أمريكي
في الولايات المتحدة يخدم أهداف الإمبريالية – بعلم منه أو بغير علم –وذلك بقيامه ببعض
الأبحاث النووية ، فهذا الرجل يعد عالما وليس
مثقفا . ولكن إذا أخذت نفسه تضطرب بما يقوم به من أبحاث كما حدث ذلك فعلا ..وإذا اشترك
مع علماء أخرين في التوقيع علي بيان يدين ما تستعمل فيه تلك الأبحاث في أغراض غير إنسانية فهو يتدخل في تلك
اللحظة فيما لا يخصه ويتحول إلي مثقف . لقد كانت تلك الأبحاث مجرد أبحاث علمية ولم
يقل عنه بالتالي انه مثقفا . وعلي النقيض يصبح مثقفا منذ اللحظة التي يعي فيها بنتائج
أعماله ، وحين يوجه الأنظار إلي الخطر من استعمال تلك الأبحاث. لقد كان يطلق على أحيانا
في فرنسا أثناء حرب الجزائر عبارة "المثقف القذر" لماذا ؟
فلنحاول أن نوضح الأمر ونضرب هنا مثالا عزيزا على الآن واعني به (محكمة
راسل ). أن تلك المحكمة تنعقد لتقرر ما إذا كانت الأعمال التي يقترفها الأمريكيون في الفيتنام جرائم حرب أم لا ؟. وهذه المحكمة مكونه
من رجال،هم علماء في الرياضة مثل (لوران شوارتس ) وفي الفيزياء مثل (فيجيه) ورؤساء
دول سابقين مثل(كاردينار) وفلاسفة مثل راسل وقانونيين وعلماء في التاريخ ،إنهم رجال
اسميهم باختصار رجال معرفة عملية. فيقال لهم عندما يريدون تقييم إعمال الحكومة الأمريكية : لماذا تدسون أنوفكم فيما لا يعنيكم فهذا بعيد عن اختصاصكم. والواقع
إن الذي يجمع فيما بيننا في تلك المحكمة ليست مهننا وهي جميعها في الحقيقة مهن معرفة
. ولكن الذي يجمع فيما بيننا هو أننا في اللحظة
التي أردنا فيها تشكيل تلك المحكمة تشكلنا
كمثقفين . ويبدو علي العموم أن ما يعاب علي أعضاء تلك المحكمة هو أن رجل الشارع أو العامل لا يحكم علي
إعمال الأمريكيين..فلا يقول عنها إن كانت جرائم أم لا ؟، وعلاوة علي ذلك فلا توجد محكمة
رسمية ، أي محكمة دولية تتصدي للحرب في الفيتنام ولقضية فيتنام .
وينبني علي ذلك انه إذا لم تكن هناك ثمة محكمة مكونة وإذا لم يصدر الناس
حكما ما ، فنحن نعتبر أنفسنا إذن أننا فوق مستوي البشر في اللحظة التي قررنا فيها إصدار حكمنا ويصبح المثقف في هذه
المجال كموجود ذو عقدة من الكبرياء يصيح (أنا القاضي) لمجرد انه قام بإعمال علمية هامة أو انه معروف مثل راسل "بمؤلفاته
الفلسفية".. يصيح هكذا باسم التفوق ، وباسم تفوقه كأرستقراطي "أنا القاضي".
سوف نري الآن أن الأمر علي عكس هذا تماما .غير إنني أردت أن أنبه منذ البداية لماذا يتولد عن مجرد تشكيل المحكمة حالة من سوء الفهم ، لماذا يؤدي هذا إلي
تعريفنا وتحديدنا علي أننا مثقفون ، أي أناس يظنون أن من حقهم عمل أي شي استنادا إلي
بعض الأعمال الصغيرة المشهورة التي قاموا بها.
توجد في الواقع مجالات محدده لاستخدام تلك المعرفة التي تشكل ثورة الكاتب
والقانوني والطبيب الخ .. فهناك لجان للتحقيق تذهب باسم المحكمة إلي فيتنام لتجري فيها
التحقيق والاستقصاء علي أساس من الواقع والعلم بشان طبيعة تلك الأعمال واستنادا إلي
البقايا والآثار.
وعلي سبيل المثال ذهب إلي هناك (فيجيه)عالم الفيزياء لدراسة (قنبلة الأناناس)
التي يطلق عليها اسم السلاح الموجه المعادي للإفراد العاديين ، أي تلك القنابل التي
تتدحرج ثم تقفز فتتدحرج مرة ومرات في نواح مختلفة متشعبة لقد استطاع هذا العالم أن
يتأكد ، ولأنه من علماء الفيزياء – إن تلك الأسلحة هي حقا معادية للإفراد بمعني أنها لا تصيب
بأي ضرر إذا ما التقت بحاجز أو بأي
نوع من أكياس الرمل ، فليس بمقدورها إذا إصابة الجندي الذي هو في موضع الحماية علي
الدوام ، بل ولا تصيب الجندي في طائرة ولا الجندي
الذي يقوم بالدفاع الجوي طالما تحميه أكياس من الرمل ، ولا يمكن أن تصوب تلك
القنابل إلا علي الذين يعملون في الحقول . وسوف يقوم احد الأطباء في ذات الوقت بفحص
وتشخيص الجراح التي تسببها تلك إلا سلحه ليقرر أن
هذا القنبلة القاتلة بالجملة تحمل في الحقيقة الموت إلي الفلاحين في حقولهم أو علي الأقل تسبب لهم قروحا عضوية عنيفة.
ويتضح إذن أن هذا السلاح هو من وجهة النظر التكتيكية سلاحا معاديا
للإفراد، أي انه سلاح معد لإرهاب السكان المدنيين
. ترون في هذه الحالة إذا أن ما استخدمه صديقي "فيجيه" ليشارك الأطباء في
تشخيص الجراح ولفحص القروح وللكشف أيضا عن قوة انفجار القنابل إنما يعود إلي ما للفيزياء
من منهج وما للعلوم من دقة . لقد استحضر معه قنابل جاء بها من هناك وقام بشرح جهازها.
إن الذين يهاجمون (محكمة راسل ) يعلنون أننا نستخدم نوعا من المعرفة وبعض
المناهج العلمية التي لقنت إلينا لغير هذا
السبب . تلقي "فيجيه "علم الفيزياء ليكون عالم فيزياء وهو يحرف مناهج علم
الفيزياء وأبحاثه من استعمالها الطبيعي ليحاول أن يدلل باعتباره عالم في الفيزياء علي واقعة تتعلق بحرب الفيتنام. في هذه اللحظة سرقنا الآلة كما يمكن أن يقال . ويكون
المثقف –طبقا لما يعرفه به أعداؤه ـ هو الإنسان الذي يستخدم ابتداء من هذه المحكمة
ما لديه من المعرفة العملية والتكتيكية فيما هو خارج اختصاصه. فهو الإنسان الذي يسرق
الآلة ليحصل علي نتائج تختلف عما يجب أن يحصل عليه منها. فلنتفحص معني هذه الأمور عن
كثب . ما الذي حدث للعالم الذري في أمريكا كما سبق أن حدث عديد من المرات ،حين ندد
بالدور الذي جعلوه يلعبه ، وحين أعلن أن البحوث الذرية لا يجب أن تستخدم في اتجاه ذري
عدواني ؟ لماذا أصبح هذا الرجل مثقفا بين يوم
وليلة، لقد رأينا أننا إذا أخذنا عليه تدخله في أمور بعيدة عن العلوم، فهو في الواقع
قد سبق وتدخل فيها فعلا رغما عن انفه عندما كان يعمل "للبنتاجون" لان هذه
البحوث العلمية كانت تستخدم في أغراض سياسية. إذا فهو في الحقيقة ـ منذ البدايةـ قد
تدخل في أمور بعيدة عن مجالات تخصصه.
ماذا فعل ؟ لاحظ انه كان مستخدما من فئة من الأشخاص ، وان ما كان يفعله
إنما كان يستخدم لأغراض لم تكن تبدو لديه إنها من الأهداف التي يجب أن يسعى إليها .
إذا فقد أصبح مثقفا منذ الوقت الذي لاحظ فيه انه يسلب من عمله وهو في الحقيقة أصبح مثقفا عندما اتخذ موقفا سياسيا
أكثر وعيا من الموقف الذي كان قد اتخذه رغما عنه في مواجهة هذا الموقف واندفاعيا عندما
كان يقوم بعمله كعالم .
ماذا فعل ؟ هل رفض خدمة السياسة الإمبريالية بدافع من النزوة أم قد لاحت
له فجأة رؤية أخلاقية لتقول له : كلا لن تفعل هذا ؟ هل هو مجرد خائن كما يزعم من استخدموه
والذين جروه إلي ساحة القضاء في الولايات المتحدة وجعلوه يمثل أمام لجان النشاط المعادي
لأمريكا ؟كلا إن هذا الرجل لم يقترف شيئا ما .فكل ما قام به هو انه اكتشف التناقض بين
الشمولية العلمية وبين الخصوصية البورجوازية . إن هذا المثال يدلنا علي ماهية المثقف .
إن المثقف رجل معرفة إلا انه رجل معرفة عمليه ، ولأنه لا يوجد الآن فرق
حقيقي بين المعرفة النظرية والمعرفة العملية .. انه العالم أو الطبيب أو التكنيكي أو
القانوني أو الكاتب أو الفيلسوف أو الفنان –إذا
أردت - الذي يسعى بتكوين نفسه في تناقض
داخل المجتمع البورجوازي . ولكن ليس كل هؤلاء الناس يقومون بهذا التكوين لأنفسهم فهناك
علماء يعيشون في حالة من القلق ويتعاملون عن رؤية الأمور وهناك من يريدون بموافقة السلطات
إخفاء هذا التناقض علي غيرهم ،فهم الذين أطلق عليهم صديقي "فيزون" عبارة
كلاب الحراسة . هؤلاء لا نسميهم مثقفين لان ما من احد يسميهم مثقفين إنهم علماء قلقون أو غير راضين عن أنفسهم أو من
كلاب الحراسة .إما المثقف فهو الذي لا يريد أن يعيش هذا التناقض وان كان يلاحظ أن هذا
التناقض يكونه .
فيم إذن هذا التناقض ؟ ولماذا يكون المثقف ؟أقول إن هذا التناقض يكمن
فيما بين طبيعة التربية التي يتلقاها المثقف
في طفولته –وهي تربية من الماضي-وبين المهنة التي تفرض عليه فيما بعد وهي مهنة لها
طابع الشمول . إليكم مثلا مستمدا من تاريخ اليابان عندما تم الإصلاح الكبير أي حين قرر اليابانيون أن يصنعوا بلادهم
. تم هذا الإصلاح من اعلي ،بمعني انه لم يتقرر في النهاية تكوين طبقة برجوازية . بل
قامت الطبقة الحاكمة مضحية ببعض الإقطاعيين وذلك بتكوين رؤوس أموال كافية لدفع عجلة
الاقتصاد الأمر الذي يجعل من هذا الاقتصاد اقتصادا إقطاعيا . ومن الأمور العجيبة انه اقتصاد إقطاعي وفي ذات الوقت رأسماليا،
بحيث لم تنشا برجوازية بل أصبح كبار الإقطاعيين رأسماليون. ومع ذلك فكان لا بد من وجود
كوادر أي مهندسين وفنيين وعلماء.
إذن كان لابد من إصلاح في التربية، لان التربية كلها كانت تقليدية تربي الشعب علي عبادة الإمبراطور وعلي التضحية من
اجله ، أي في حقيقة الأمر من اجل الطبقة الإقطاعية التي كانت تحوط بالإمبراطور .عندئذ
قرر احد وزراء التربية أن يمسك العصا من وسطها .فقرر أن الطالب في طفولته يجب أن يتلقى
تربيه في حدود المبادئ التقليدية بما في ذلك احترام الأسلاف والعادات الإقطاعية والديانة اليابانية التي قد تتمثل في احترام الأسلاف والخضوع
العبودي للميكادو[الإمبراطورية] وللطبقة الرأسمالية والعسكرية وللطبقة الإقطاعية هذا كل ما يتلقاه الطفل
من علم حتى يصل إلي سن التعليم العالي ، حيث تصبح التربية في الجامعة علمية تماما أي
إنها ستترك هذه المجموعة من المعتقدات التي تلقاها الطالب لتجعله يشتغل في الفيزياء
والرياضيات وعلم الأحياء . ترون التناقض العام بين هذين الفرعين من التربية فاحدهم
يعلمه الخضوع الكامل لطبقة متحيزة والطاعة للإمبراطور ،وفي النهاية الخضوع لمجموعة
من التقاليد لا تمت إلي تلك التي تكون وتشكل بلدا ما يدفعه إلي الأمام ولكن من تلك التقاليد التي تهدر إنسانية الذين يتحملون
عبئها.
ومن جهة أخرى بماذا يطالب هذا الجزء الثاني من التعليم الذي يتلقاه في الجامعة؟ فهو يتعلم الحرية
أولا . ويجب أن نفهم أن كلمه الحرية تلك كثيرا ما كانت محل خلط وإبهام في الكتب والمؤلفات
. أن كلمه الحرية هنا لها معني محددا ودقيقا . إنها حرية الفكر. ليس حرية التفكير في
أي شئ بل حرية البحث .إنها حرية تقدم الشيء عما ما اكتسبه الفكر من تجارب ، مما يتمشى
ويتجاوب مع رفض مبدأ السيادة .هذا معناه أن الفكر العلمي لا يقف أبدا أمام ما جاء قبله
بل يرث منه ويستعيده إذا سار كل شي سليما ولا يخشى من نقضه إذا تعثر في الأمر شئ
.. تلك هي حرية الفكر.ولكن فلنفهم الأمر علي صورته الكاملة .تلك الحرية هي التي يحتاج العالم علي مضض منه إلي استعماله لها. فليس
هو الذي يبحث عن التناقضات ، بل تأتي التناقضات إليه بنفسها.
وعندما أراد "ميكلسون" و "مورلي" في بداية هذا القرن أن يقيسا سرعة الضوء ، فقد فعلا
هذا في نطاق نظريه"نيوتن" ولم يفكرا أطلاقا في نقض هذه النظرية إلي حد أنهما
استعانا بها في إجراء التجارب .ولكن ما الذي حدث؟
أتضح انه علي الرغم من إجراء العديد
من التجارب ، فقد كانت جميعها تؤكد حقيقة واحدة
، وهي أن سرعة الضوء باقية علي ما هي سواء اقترب الشيء المضاد من المرأة أو ابتعد عنها.
فالنقض لم يكن من فعلهما. بل نشأ من عملية القياس ذاتها . وكانت محاولتهما الأولى ـ
وهما علي هذه الحالة من الفزع ـ وضع حد لهذا الأمر فأخذا في إعادة التجارب بحيث امتنع
أي سبب من الشك ثم حاولا الحد من الفضيحة في
نقض نيوتن حتى لا يتعدى التغير سوى القدر القليل وتلاحظون أن (اينشتاين)عندما وضع افتراضاته
كان مضطرا إلي ذلك الشي ذاته . وهذا يعني أن العالم لا يقبل تغير عرف علمي أو الانفصال عنه بنزوة في نفسه .غير انه مطلوب منه
في ذات الوقت أن يقبل النقض عندما ينقض الشيء نفسه.
أن العالم يتعلم انه ليست هناك حقيقة خالدة أو أبدية وانه لا بد أحيانا أن ينفي وينكر، وذلك للتقدم إلي
الأمام ، أي أن العلوم الدقيقة تسمح في الواقع في كل حقبة من التاريخ وباسم بعض الحقائق
المكتسبة بان تبني أدوات للعمل أكثر دقة من سابقاتها ، والتي من شانها أن تنازع بسبب
تلك الدقة الحقائق التي تمكنت من تشييدها فيما توصلت إليه من نتائج . ينبغي علي العالم إذن أن يكون علي الدوام في حركة
الحرية، فلا سلطة تحده سوي موضوع المنازعة .
إذن ففي الفكرة الحية التي تسيطر علي العالم هناك من جهة الاستقراء واستنتاجات
بعض الحقائق التي لا تتغير أبدا أولا تتغير آنذاك ،وهناك من جهة أخري من الحقائق ما
يتولد من النفي لتصبح ايجابيات .هذا ما نسميه هنا الحرية، الحرية العملية، حرية ما
يقتضيه العمل .
لقد اكتشف هؤلاء الطلاب في ذات الوقت ما للعلم من طابع شامل وكلي .أي أن تلك
الشمولية تنصح أولا بان كل إنسان يمكن أن يكون عالما مهما كان عمله وآيا كان مستوي
ثقافته . أن هذا الأمر أساس العقل العلمي وقد دلل سقراط عليه منذ زمن بعيد عندما جعل
عاملا في هدوء وصبر، احد العبيد ـ بل كان عبدا مجردا من كل علم ـ يكتشف البرهان علي
نظرية من النظريات . لا شك انه كان يمهد لهذا العبد بنقله من جملة إلي أخرى ومن استنتاج
إلي أخر للوصول إلي هذا البرهان . أن العلم مبني علي تلك الحقيقة التي تعني بالتالي
انه لا توجد صفوة علمية ، فليس العالم من الصفوة
انه مجرد أخصائي في البحث الذي يستطيع أي إنسان التوصل إليه إذا ما وفرت له أسباب التخصص
. أما إذا اقترضنا أن باقي الناس لا يستطيعون اكتشاف الحقيقة .فهناك علي سبيل المثال توجد في عالم الفن من النظريات ما تقرر أن بعض المؤلفات
التي تتسم بالرقة والحساسية النادرة ليست موجهة
إلا لمن يتميزون بذات المستوي
من الرقة والحساسية وبالتالي فان المؤلفون
والقراء يشكلون مجموعة صغيرة من فئة عليا تفوق غيرها من الناس إنها لفكره خاطئة
والدليل علي ذلك أن "ستندال" الذي
كتب مؤلفاته لقلة من المختارين كما يقول هو
نفسه ، تعرض كتبه الآن للبيع في فرنسا في شكل "كتب للجيب" إلي الملايين من
القراء. في بعض البيئات الاجتماعية حيث لا يزال البحث قائم عن الصفوة الممتازة، قد
يتخيل الفنانون باعتبارهم فنانين إنهم من طبيعة
خاصة متفوقة. هذا ما لا يمكن للعالم أن يفكر فيه ولأنه إذا ما اخذ يفكر أن غالبية الناس
ليسوا مؤهلين للحكم علي الأشياء أو رفضها أو أنهم لا يستطيعون إدراكها فهو في الحقيقة يمس
صميم الطابع الكلي الشامل للعقل ، ويجعل من تلك الشمولية شئ في أيدي قلة من الناس ،
مما يستتبع أن البحث لا يكون عاما للإنسان
الأمر الذي يفقده في ذات الوقت أساس الوحدة
. أن هذا لا يعني كما قال ((ديكارت)) أن الفكر السليم بدلا من أن يكون أكثر الأشياء
اشتراكا بين الناس يصبح امتيازا لقلة منهم
مما لا يعني شيء علي الإطلاق .وهكذا فالعالم ليس صفوة بل هو ممثل لكل البشر منذ اللحظة
التي يبدأ العمل فيها علي أن الدليل قد اثبت ويثبت انه ما من طبقه اجتماعية إلا وأنجبت
العلماء.
إذن فالأخصائي في المعرفة العلمية
هو في حد ذاته إنسان كأي إنسان .لان عمله يدمجه في الجميع. أما أن يصبح الإنسان عالما أي أن يكون واحدا بين
الكل ، فهذا مما يدل علي المساواة المطلقة فيما بين ممثلي نوع من الأنواع ، مما يعني
أن العلم قد اتخذ منذ تلك اللحظة موقفا ضمنيا
ضد العنصرية .
لا يمكن للإنسان أن يكون في ذات الوقت عالما وعنصريا ، ولكن يتحول للأسف لان يكون هكذا وذلك لا بسبب سوى العمل علي خدمه مصالح
أناس يمدونه بالأجر .أما إذا تركنا العلم ينطلق في الإنسان بحريه فهو حتما سيرفض العنصرية،
أي يرفض تفاوت المستويات الذهنية بين الأجناس البشرية. ولأننا بالدقة نرفض أي تمييز
بين البشر علي اعتبار أنهم بالعقل يقومون بعمل علمي مشترك ، فنحن نرفض لهذا بالدقة كل أنواع الخصوصية أي نرفض العنصرية ونرفض الاستغلال.الخ ولكننا نطالب في ذات
الوقت باتفاق جميع الأفكار وباتفاق الفكر العلمي
كله وبالتالي بوحدة الفكر، أن لم يكن
بين البشر جميعا الذين لم يستطيعوا التخصص فعلي الأقل وحدة الفكر بين كافه العلماء
،مما يفترض بالدقة رفض أية انقسامات أو تناقضات عالمية وهكذا نشاهد علي سبيل المثال أن العلماء السوفيت والعلماء الأمريكيين
يعقدون المؤتمرات المثمرة في غير الميادين التي تتعلق بالدفاع. وملخص القول نري هنا
دليلا أضافيا علي صحة كل اكتشاف ، لان من شانه بالدقة تحقيق اتفاق الأفكار بين العلماء ، ومن شانه أيضا أن يقضي بشكل ما علي الحواجز كالإمبريالية أو المعارك فيما بين البلاد .
هذا ما كان يتعلمه الطالب اليابانى
في عام 1890- 1900 عند دخوله الجامعة . ولكن في نفس الوقت الذي كان يتعلم فيه أن الناس جميعا أحرار ، وان النشاط العلمي يجب أن يكون حرا سواء كان فكرا
أو عملا، وانه لا شئ إلا ومعرض للمنازعة العلمية الرامية للتقدم لا التخريب . في هذا
الوقت كان الطفل هو ما صنعوه . أي انه قد استبقي في نفسه النظرة الخصوصية ..الإيديولوجية
الخصوصية التي لقنوها له منذ الطفولة . ويعني
هذا انه في الوقت الذي كان العلم يعلم
هذا الطفل رفض عدم المساواة بين الناس ويجعله يشيد بالكل العام فقد كان إنسان صنع وصيغ
بحيث بقيت فيه عناصر الخضوع والإقطاعية.ولما كانت مرحله الطفولة عميقة ولا يمكن بسهولة
الرجوع فيها ، فقد تكون وتشكل في هذا الطفل
ذلك التناقض الذي أدى فيما بعد إلي الاضطرابات
التاريخية المعروفة ..تناقض بين مرحله الطفولة وقد صاغتها
وصنعتها الإيديولوجية الأرستقراطية وبين مرحلة الشباب التي عمد الأرستقراطيون
أنفسهم علي تحريرها بإطلاقها نحو العلم والتصنيع الذي استهدفوه .أن الذين شعروا
بهذا التناقض لاحظوا وقتئذ أنهم آلات في أيدي طبقة متميزة قامت بصنعهم مرتين ، وأنها
مسئولة عن التناقض الذي يكمن فيهم بما إنها صنعتهم أطفالا ، ثم صناعتهم يافعين ، ليس
هذا فحسب بل لاحظوا أيضا أنهم هم أنفسهم تناقضا،
وإنهم لن يستطيعوا التغلب علي هذا التناقض أن لم يقوموا بعمل منظم منهجي . كان عليهم
ليس فقط أن يصارعوا هؤلاء الذين حاولوا أن يجعلوا منهم آلات لهم ، وان يحولوا عملهم
إلي مجرد ربح بل فهموا أيضا انه يجب عليهم أن يصارعوا ذات أنفسهم لاتهم قوم يخوضون بعيدا مجالات العقل
الكلي ، وفي ذات الوقت هم انعكاس لتلك الطبقة
المتميزة . في هذا المستوي يظهر المثقف .اسمي تلك المرتبة الأولى : "الثقافية"
، أي أن الإنسان يشاهد في تلك المرتبة مشاركا الإمتيازات الخصوصية وفي ذات الوقت خادما حرا للكلي العام، وهو يعلم في الآن
نفسه انه هذا وذاك معا. ينبغي عليه أولا أن يختار
بين طفولته وبين مهنته ، فإذا اختار الأولى كان من كلاب الحراسة. أما إذا اختار
الثانية فعليه أن يمارس عملا هدميا في ذاته ليرفض العنصرية والخصوصية والامتيازات وليرفض
الفكرة التي تقول انه إنسان خارق ومتميز .. وانه لعمل شاق ودؤوب .ولا ضرب لكم مثلا
شخصيا.فقد ربيت كما يربى الجميع في جو العنصرية .وظننت وإنا في سن الخامسة عشرة إنني قد قضيت
في نفسي علي هذه الفكرة السخيفة. وقد اعتقد أن المر ـ في عمومه ـ كان بالفعل في ذلك الوقت يعتبر تصفية بعض البقايا
اكتشفتها ذات يوم .
بعد سنة 1945 كانت تصلني مؤلفات خطية من بعض الشباب الإفريقي . وكنت أعطيهم
نقطا تشجيعه ـ كما يقال ـ عندما لا تكون مؤلفاتهم علي المستوى الجيد جدا . وذلك لعلمي
بالجهد الذي يبذلونه والصراع الذي بدءوا فيه .سرت علي هذا المنوال قدرا من الوقت حتى
تنبهت ذات يوم إنها طريقة تنم علي إنني لا أعاملهم باعتبارهم متساويين معي بينما كان
الوضع يقضي في الواقع أن أصارحهم بالحقيقة وان تسبب بذلك في ألامهم .. وان أدى بهم
إلي مزيد من العمل والجهد . وهي جهود تبلغ
أضعافها الجهود التي نبذلها نحن لكي يصلوا في النهاية إلي مستوانا . كان يجب أن أعاملهم
علي نفس المستوي الذي أعامل به الأخرين وآلا
لكنت عنصريا .أقول هذا حتى تتبينوا هذا الشرك الخبيث الذي يجب علي كل منا أن يتفاداه،
لان الإنسان لا يمكن أن يكون معاد للتميز العنصري –إذا بدأت طفولته في جو من العنصرية
–بغير أن يكافح طيلة حياته بحر من الإغراءات ، وعلي سبيل المثال ، باستبدال العنصرية بالحب لهذا أو ذاك تلك هي عملية الكفاح المستمر
الدائم.
أن المثقف هو هذا الشيء أولا ،هو محاولته في أن يلفظ من ذاته باسم الكلي
العام ليس التقاليد والعادات جميعها فحسب ،
بل تلك التي تجعل منه بالتحديد في أعماق نفسه مشاركا للطبقة الحاكمة . في هذه اللحظة لا يلوح
المثقف علي انه إنسان فوق باقي
البشر بل علي انه مخلوق غريب ، إنسان صنع متناقضا وعليه في هذا المستوي الأول
أن يعبر عن تناقضه وان يكافح ضد هذا التناقض أو أن ينفق ويموت .
أن القلق في المجتمع البورجوازي الغربي يختلف نوعا ما عن القلق الذي تحدثت
عنه بشان المجتمع اليابانى، وهو مجتمع إقطاعي
يتسم بالخصوصية الشديدة . في بلادنا نحن الذين نزعم أننا انسانيون مجتمعات قلقة
. ولكن إذا كان القلق يختلف في بعض الوقفات فهو في حد ذاته واحد تماما في النهاية
. ماذا نتلقى في فرنسا ونحن أطفال ؟ نتلقى تعاليم الإنسانية البورجوازية التي تقول
أن جميع الناس متساوون في الحقوق ، أحرارا وأخوة . ففي سنه 1789لما عارضت الطبقة البورجوازية
النبلاء، فان تلك الطبقة البورجوازية اعتبرت نفسها الطبقة الشاملة العامة فشيدت بذلك
مشروعاتها المجردة التي صاروا يعلمونها لنا منذ الصبا . وعلي هذا فقد كنت مقتنعا منذ
سن السادسة أن البشر جميعها متساوون وان الناس
كلهم أحرار فيما يعملون وأنهم أخوه .الخ ..الخ..
أن التناقض الذي يعانيه المثقف
في بلادنا يتخذ مسارا عكسيا لما يعانيه
المثقف في اليابان .أن التناقض في بلادنا يكمن فيما بين المبادئ التي اعتناقها الإنسان
منا وهو الطفل والتي كونته بل وكونته متفائلا راضيا _فما الذي يمكن أن يطلب أكثر من
أن يكون الناس أخوة أحرارا متساوون ؟
وبين الواقع الذي يكشفه فيما بعد خطوة اثر خطوة ويتحسسه بالذات في عمله
كانسان ذو معرفة عملية .انه يدرك في هذه اللحظة انه قد اجتر في نفسه مع الأيدلوجية
الشكلية التي لقنت إليه أيدلوجية أخري اجترها
بطريقة تحيته ، بما يسمعه من أقاربه وعائلته
وفي مدرسته (ليس ما يتقدم في الدراسات الرسمية )
وما يستمده من قراءته وبكل ما يحيط به من وسط وبيئة ،
أي بكل ما يكيف حقيقة الأيدلوجية البورجوازية
. لقد اجتر في نفسه مجموعه من الأشياء تناقض
فيه الإنسانية التي تحدثت عنها في تلك اللحظة يلتقي بنفس التناقض الذي أتضح للمثقف
اليابانى . واليكم هذا المثال : فقد كان (فرانز
فانون)من سكان جزيرة (الجوادلوب) يشتغل في
فرنسا مع طالب في كلية الطب حين قال له هذا الأخير"بالله عليك لقد تأخرنا كثيرا وعلينا
أن نعمل كا…." ثم توقف فجأة
.عندئذ قال له(فانون )استمر في قولك وقل (( كالزنوج )) هناك في بلادنا تعبير يقول
.. علينا أن نعمل كالزنوج ..(تعبيرا عن العمل الدءوب الشاق ).
(غضب
فانون )علي حق من صديقه وان لم يكن هذا الصديق
يعتبر نفسه عنصريا. فقد كان آنذاك اعز أصدقائه إلا انه طالما كان هذا الطالب
علي الرغم منه "قالب"
يستوعب هذا النوع من العبارات ((سنعمل كالزنوج ))التي تعود بنا إلي العبودية(فلا سبب
في العمل المضني الذي يقوم به الزنوج سوي أنهم عبيد). وطالما كانت تسكن مثل تلك الأمور في هذا الطالب فلا يمكن أن تكون هناك رابطة حقيقية بينه وبين الإفريقي
أو غيره من الملونين الذين عهد به إليه.
إذا تجثم علي صدورنا ثقافة برجوازية كاملة تقول لنا حقا أننا بشر وليس أي شئ إنساني غريب عنا
إلا أن تلك الثقافة تضيف أن كل البورجوازيين بشر وان البشر جميعا بورجوازيون وإذا لم
يكن البشر بورجوازيون فهم ليسوا بشرا ، هذا هو الوضع الذي نعمل بالتحديد علي اكتشافه
.ابتداء من هنا نجد بالدقة للمثقفين نفس التناقض الذي لمسناه سواء في غربنا الخبيث
الذي يسمي بالعالم الحر ، أو في بلد آسيوي مثل اليابان الإقطاعي حيث تتم التربية علي
أساس الخضوع للإقطاع، فلا يمكن لهذا المثقف أن يكون متفقا مع نفسه. لا يمكن أن يكون
متفقا مع أيديولوجية مخدومة سواء كان بورجوازيا أم إقطاعيا –والأمر هنا علي حد سواء
–وفي ذات الوقت متفقا مع الأيدلوجية التي تشمل في طياتها معرفة العلم أو المعرفة العملية
.فإذا رغب المثقف أن يظل وفيا للإنسانية فمن واجبه أن يضفي عليها مضمونا حيا ملموسا
، وآلا فسوف يستخدم علي الدوام تلك الإنسانية ليخفي في الواقع رغباته الخاصة في عدم
المساواة.
ترون إذن أن المثقف علي هذا المستوي مخلوق غريب فهو يقف بجانب الطبقة
الحاكمة لأنها كونته من اجل خدمتها ولتشاركه فائض القيمة ، فتصيح تلك الطبقة تقزز واشمئزاز : ((ما بك؟أنا مخدومك وعليك أن تفعل
ما أطالبك به ، عليك أن تفعل هذا الشيء ولا تصدر الأحكام)). وهذا المثقف في ذات الوقت
محل ارتياب من الطبقات الكادحة لان حالته الموضوعية تجعله مشاركا لأصحاب السلطة،فهو
في الواقع جزء من فائض القيمة ويعيش عموما بين الطبقات المتوسطة كالبرجوازي الصغير
، وهو ليس مع ذلك في وضع الطبقات الكادحة.
أن هذا المخلوق الغريب بعيد في تفكيره واهتماماته عن أن يعتقد انه يتفوق
علي غيره من البشر ،بل انه يتخذ اتجاها خطيرا مؤسفا ، وهو الاتجاه الانهزامي لدي المثقف
الذي يعد نفسه اقل من الأخرين ، الذي يفكر
في أن يكون أي شئ ، الذي يفضل أن يكون عاملا واعيا يقوم بعمله ومستغلا علي أن يكون
مثقفا خائنا ومشاركا وموضع شك الجميع. ليس لهذا المثقف في الحقيقة صفة يتميز بها إلا
أن التناقض الذي في داخله ليس سوي الاجترار ،أي إنها الحياة الداخلية المعطاة للتناقض
الموضوعي الذي يمزق كل المجتمعات المبنية علي الاستغلال. وهو في الواقع يعاني من هذا
التناقض لان هذا التناقض يكون المجتمع ويشكله
. ولذلك ونظرا لتلك الظروف فنحن نلتقي بالقضايا التي تطرحها علي نفسها مجموعات من المثقفين
من خلال المعارك التي تتصارع فيها تلك المجموعات .أن الطبقات الكادحة تقوم في المجتمعات
المستغلة بعمل كان من المفروض أن يكون لخدمه الجميع ، إلا انه يستخدم في القدر الكبير
منه لصالح الطبقة المتميزة .في أسوان رأيت فيلما جذابا شاهدت فيه عمال السد العالي
والفرح يملا قلوبهم ويشع البشر في نفوسهم عند لحظة تحويل مجري النيل ، وقد سالت في
المساء هؤلاء العمال لماذا أحسستم بهذه الفرحة؟فقال لي احدهم أن هذه الملايين من الفدادين
التي ستصلح وتزرع هي السبب. كان يشعر بان عمله وعمل زملائه يعود أثره من خلال الفلاحين
علي المجتمع بأسره وعلي البلاد كلها .لقد أضفي
فجأة شئ علي هذا الوضع ،فالداعي إلي فرحة هذا العامل هو شعوره بان العمل الذي قام به
إنما قد تخطي ذاته وأصبح ملكا للجميع .ولكن في البلاد الرأسمالية ..في البلاد البورجوازية
لا يمكن أن نتصور أبدا مثل هذا السرور والفرح من جانب العمال لان إقامة خزان ليست إلا
طريقة لخفض تكاليف ولزيادة الإرباح وآلا تصبح إثراء للبلد إلا بصوره تبعية ومن خلال
الاختيار الرأسمالي.
أن السدود تشيد في البلاد الرأسمالية بهدف تركيز الملكية العقارية، كما
وانه يتولد عن الآلات- الجديدة ولو إلي حين- البطالة التكنولوجية أولا ، ثم يأتي تخفيض
في تكاليف الإنتاج وزيادة في الإرباح دون أن يضطر الرأسمالي إلي زيادة عدد المنتجات
الصناعية أو زيادة عدد السلع المعروضة للبيع . ولذلك فان العامل يشعر بان عمله قوي
غريبة عنه ، بل ونتاج عمله شئ غريب عنه .يشعر أن هذا العمل قد سرق منه وانه خلق مجتمع
الرخاء الزائف حيث يتمتع المتميزون فيه بمزيد من السلع الاستهلاكية أن هذا العامل مضطر هو الأخر أن يتصارع مع نفسه داخل
إيديولوجية الطبقة البورجوازية، فليس المثقف وحده الذي يعاني منها . فلقد لقن العامل
منذ طفولته بتلك الإيديولوجية وقيل له وهو ما يزال صبيا انه إنسان ، وطالما انه سيمارس
حق الانتخاب وطالما انه إنسان فعليه أن يقبل
باسم الإنسانية أن يعيش كشبه إنسان . عليه إذن هو أيضا أن يحاول فهم اللعبة التي تجعل
منه متساويا لأي إنسان أخر وفي ذات الوقت تلقي به إلي أسفل المجتمع .وعليه هو أيضا
أن يتخلص من العنصرية التي لا يتورعون في تلقينها إليه بطريقة عفوية.فلقد رأينا كيف أنهم أرادوا أثناء حرب الجزائر أن يجعلوه مشاركا
للاستغلال الاستعماري وكم تطلب الأمر عملا تحرريا ضخما للقضاء علي تلك المقاومة الراسخة
.وملخص القول أن المثقف وان كان موضوع شك الطبقات الكادحة فهو لا يعثر علي حقيقته الموضوعية
إلا في تلك الطبقات ، خاصة وان العالم ملي الآن بتلك التناقضات ، هو يعثر علي تلك الحقيقة
في تلك الطبقات ، وأيضا في بلاد العالم الثالث التي تكافح الاستغلال وتعمل من اجل الشامل
الكلي العام وبعبارة أخرى فان المثقف يجد حقيقته عندما يرتبط فقط بهذه الصراعات الموضوعية التي يخوضها هؤلاء
الناس سواء في المجتمع الذي يعيش فيه أو في المجتمعات الأخرى التي ترمي إلي العام الكلي
،أي تلك المجتمعات التي تكافح ضد كل من يحاول لجمها وإخضاعها للإمبريالية، وتسعي في
ذات الوقت للاستقلال والسلام ..أيا كان هذا الكفاح ، لان الاستقلال هو السيادة لتلك
المجتمعات ولأنه السلام لها .. والسلام هو الشمول في البحوث .ولن يتوقف المثقف عن معاناة
هذا التناقض حتى في اللحظة التي وجد حقيقته في الكفاح . بل يصبح واعيا تماما بها ويدرك
انه لا يستطيع حل هذا التناقض بمفرده،بل يشعر انه يستطيع حله في الكفاح الكلي .
عندئذ يتبادل كل من المثقف والعامل الخدمات فيما بينهم.أن العامل مستغل
وليس مشارك. انه يطالب من خلال كفاحه بالحرية والمساواة التامة ، أي انه يطلب أن تستهلك
منتجات عمله من المجتمع كله .والعامل علي هذا
الاعتبار يضفي علي التناقض الذاتي عند
المثقف موضوعية ملموسة حية وتاريخية ويمنع هذا التناقض من العيش في السوداوية المجردة ، أو كما قال((هيجل في الضمير الشقي
، وهي أمور شكلية إلا إنها أيضا ذاتية .وعلي النقيض من ذلك فالعامل يبصر المثقف
بان تناقضه كامن هنا وموجود في الكفاح وانه ينبغي علية أن يتخلص من هذا التناقض وانه
يبقي مشاركا للبورجوازي أن لم ينج من هذا التناقض
ليتخذ مكانه بجانب العامل . وعلي هذا المستوي ، فالمثقف يتخلص من تناقضه بوضع معرفته
التكنيكية في خدمة السلام .
وفي الاتجاه المقابل أن المثقف هو الإنسان الذي يشعر بالوعي من خلال لغة
الكلام وبفضل الطبقات الكادحة.وليس السبب في ذلك انه يفوق العاملين ،بل لان المجتمع
البورجوازي قد شكله علي هذه الصورة ..تناقض يتم علي مستوي العبارة وعلي مستوي الكلمة
.وبالتالي تلك الطبقة التي وضعته في تناقض إيديولوجي وفي خضوع دقيق ، قد أرغمته علي
أن يعيش علي مستوي الوضوح المعقول والوضوح العقلي .ذلك هو التناقض الذي يعانيه الكثيرون
دون أن يستطيعوا استيضاحه بجلاء كامل وعليه يمكن للمثقف أن يخدم العامل ، وبمقدوره
أن يساعده علي التخلص من بقايا الإيديولوجية التي تعرقل كفاحه.ذلك بان يقوم بصياغة
التناقضات علي مستوي المنطق وبالالتقاء بتلك التناقضات على مستواها الأكثر غموضا التي تعايشها الطبقات الكادحة .
أن الربط بين المعرفة العلمية وبين العمل ، تتضح إذن بكون المعرفة عامة
شاملة أو إنها تريد أن تكون هكذا وان العمل من ناحية أخري أيضا يريد أن يكون عاما شاملا،فالعالم
، مثل العامل في ((أسوان ))يطالب ضمنيا
بنفس الشمولية العامة الملموسة والحية . ومن هنا نري أن المثقف لا يضئ الطريق من اعلي
للعامل بل انه إنسان لا يستطيع أن يجد حقيقته
إلا بان يقف علي نفس الخط الذي يقف عليه العامل ، يعيش التناقض معه ،ويعبر عن
هذا التناقض بصورة يستطيع الأخر استعادتها
علي مستوي العبارة والكلمة. غير أن صعوبة جديدة تواجهنا في هذا المستوي .إذا أن الطبقات
الكادحة قد كونت لنفسها في بلادنا أجهزة من
اجل الكفاح الحي الملموس ويقبض المسئولين في تلك الأجهزة علي السلطة الحقيقية يمارسونها من اجل الكفاح الاجتماعي والاقتصادي في الصراع بين
الطبقات حتى يتحرر العمل. ما هي العلاقات التي تنشا بين المثقف والسلطة الجديدة؟ ..سلطة العمال وهي الجهاز أي
الجهاز النقابي وجهاز الحزب علي السواء وبعبارة أخري عندما ينحاز المثقف إلي مواقف
الطبقة الكادحة فهو يجد إنها منظمة وموحدة سياسيا ، فتطرح بالتالي قضيه علاقة المثقف
بالسياسة ليست تلك السياسة التي تصنع سياسة الطبقة الحاكمة والمسيطرة، بل تلك التي
بيدها سلطة الحزب الجماهيري.ومما يجب التأكيد عليه أولا هو أن المثقف ليس سياسيا ،
إلا انه طالما يعاني ويتألم من التناقض الاجتماعي وطالما أن إدراكه للأمور
يستدعي .منه الفضح الكامل لهذا التناقض ، فهو لن يكون مثقفا إلا إذا عرض التناقض
الاجتماعي وعرض التناقضات والحياة التي لا تطاق ويعيشها البشر الآن بكل مالها من جوانب،
أي في أعماقها وجذورها، ولا يمكنه أن يقبل أي تباطؤ أو مساومة أو محاولة لإخفاء هذا
الواقع .فليس بمقدور المثقف –وهو الذي قد نشا بالتحديد من النزاع بين النظام العلمي
الدقيق وبين الخضوع ، كما وانه اختار العام الكلي –أن ينظر للواقع في مساره ومضمونه
التقليدي . انه مضطر طالما أن الهدف الذي يسعى وراءه هو هدف جميع الناس الذين يعملون
،أي تحقيق العام الكلي الملموس والحي ،حيث يصبح العمل سيد نفسه وحيث يقدم كل فرد إنتاجه
للجميع ، انه مضطر أن يفضح – باسم تحرير النشاط
الإنساني ولجعل هذا النشاط عام للجميع –كافة الحلول السهلة التي وان كان من شانها أن
تحقق هدفا مباشرا إلا إنها قد تهدد بحرق العملية كلها ، إلا أن المساومة من طبيعة السلطة
السياسية حتما أيا كان مستوي أخلاق ونزاهة الذي يمارسون تلك السلطة حيث ينبغي عليها
أن تراعي بعض القوي المقاومة لتتخلي عنها وتنزل
الضربات بها في الوقت المناسب .علي هؤلاء الرجال الذين بيدهم زمام السلطة أن يبقوا
في حالة من الانتباه واليقظة الدائمة والمستمرة من اليمين في الحزب ويساره .عليهم ضمانا لوحدة القيادة أن يقبلوا التنازلات
تارة لتلك الجهة وتارة للجهة الأخرى.
إذن فعلي الذي يرغب في القيام بدوره أن يكون مجردا من السلطة وان يقف
على نفس خط الحزب مشاركا في عمله ، مما يستتبع أن واجبه الأول هو الخضوع– للنظام.
ولكن إذا اشترك المثقف في مسئولية السلطة أي إذا انضم للحزب وعهد إليه
بدور يقوم به. فانه يجد نفسه مضطرا لان يصبح سياسيا أي عليه أن يدعو ويساند عملا ما أخذا في الاعتبار الإمكانيات
الراهنة أكثر من أخذه في الاعتبار المادي والهدف المحدد والدقيق .فعلي المثقف إذن أن
يذعن لشعارات الحزب تطبيقا لمبدأ الخضوع للنظام ، ولكن علية أن يرفض في ذات الوقت أي
سلطة، وهو بذلك يحتفظ - ولأنه بالتحديد مجرد من السلطة – بحقه في أن يكون راديكاليا
عندما يتناول تحليل الأوضاع ،وعندما يؤكد باستمرار علي الهدف.
ومما لا شك فيه أن الراديكالية والخضوع للنظام يمثلان تناقض جديدا ، فقد تهدد الراديكالية
بتقويض النظام –الذي قد يؤدي بدوره إلي إخماد الراديكالية ، أن المثقف الذي لا يكلف
بالقيام بمسئولية ما قد يقع في اليسارية .بمعني أن الأمر قد يصل به إلي التأكيد علي
الهدف مع إنكار الوضع الراهن إنكارا جذريا ولذلك فان تلك النظرية الأولى التي قدمتها
إليكم عن المثقف بمعني انه يجب أن يكون مجردا تماما من كل سلطة إنما تتطلب التصحيح. وفي الواقع لكي يكون هذا التناقض لدي المثقف بين
الخضوع للنظام وبين الدقة ثم بين المبادئ والخضوع ، تناقضا حقيقيا يكون له دورا يؤديه
لنعيشه ولنتغلب عليه فانه يجب علينا أن نعالج هذا التناقض في روية ، دون السياسة ،
ولكن في علاقة وثيقة بها. لذلك فهناك في الحقيقة
إمكانيتان متلازمتان تسيران جنبا إلي جنب، فإذا تحققت هاتان الإمكانيتان في وقت واحد أمكن للمثقف أن يقوم بكل ولجباته .إلا انه
من غير الميسور لنفس الإنسان أن يقدم علي هذين
العملين في ذات الوقت .الدخول في الحزب الجماهيري الثوري وعدم الدخول فيه ، غير انه
من المفيد وجود مثقفين داخل الحزب وخارجه.أن اللقاءات الأولى أو بالاحري اللقاءات الحقيقية
يجب إلا تتم بين مثقفين خارج الحزب السياسي لما تفتقد إليه مثل تلك اللقاءات إلي لغة
مشتركة. بيد انه إذا كان المثقفون داخل الحزب ، فإنهم يصبحون سياسيون قد يفضلون المساومة
المطلقة، إذا تركوا لأمرهم داخل الحزب ، ويتنازلون عن الهدف من اجل التكتيك، ويقبلون
الانحرافات خضوعا للنظام وحفاظا علي الوحدة ومن ناحية أخري إذا ظل المثقف خارج الحزب
فهو قد يمارس بنزوة في نفسه ، حقه في النقد أما إذا كان هناك مثقفون بجانب الحزب وخارجه
، دون أن تكون لهم ادني سلطة وفي ذات الوقت مثقفون داخل الحزب مع قدر من السلطة، تلقي عليهم جانبا من المسئولية ، فان هاتان المجموعتان
تكيف كل منهما الأخرى ، أحداهما تدعو المثقف الذي خارج الحزب إلي التزام الروية
والثانية تذكر المثقف داخل الحزب بالهدف الحقيقي من انضمامه إليه .
واعتقد إذن أن الذي كون تلك الوحدة
الحية الثقافية هي هذا الجمع الذي تشكل في فرنسا مثلا من المثقفين تدور بينهم المنازعات
والتعارضات العنيفة أحيانا وعلاقات الصداقة أحيانا أخرى ،والأمران معا أحيانا ثالثة
، وهم في ذات الوقت داخل الأحزاب وخارجها ويعيشون في تنازع متبادل فيما بينهم .أن هذه
الوحدة التي تمثل الثقافة الآن ستضيء لنا الطريق لنفهم مجري الأمور التي تحدث بشان
((محكمة راسل )) التي حدثتكم عنها في بداية
المحاضرة. لماذا لا نعتبر أنفسنا متفوقين عن غيرنا من الناس ؟ ولماذا نحن مثقفون خارج
الحزب وليس بداخله ؟ وما هي علاقتنا بالمثقفين داخل الحزب؟
النقطة الأولى أن مثقفي المحكمة دون سلطة ، فهم إذن من فئة غير الحزبين
ولم يفوضهم احد.انطلاقا من هذا الواقع ولان المثقف هو بالتحديد الإنسان الذي تعلم أن
يعتبر نفسه إنسانا عاديا وليس إنسانا متميزا
بشكل أو أخر ، فان حكمنا ليس له من قيمة إلا بقدر ما تعتمده الشعوب في جميع
البلاد، فلسنا في هذه المحكمة سوي قوم يقترحون عليكم نتيجة أو نتائج معينة . هذا هو
السبب في جعل جلسات تلك المحكمة علنية إذ أن الغرض هو تشييد حركة للتحرر وتشدد التعاليم
للذين سوف يشاهدون تلك الجلسات سواء علي شاشة التليفزيون ، أو يسمعون في الإذاعة ما
يدور فيها أو يحضرون تلك الجلسات بأنفسهم أو
يقرءون محاضرها في الصحف .سوف نعرض مجموعة الوقائع والوثائق والأفلام والأدلة المادية
والتقارير والشهود الفيتناميين الخ… كل هذا حتى تستطيعون ويستطيع البشر جميعا أن يكونوا
أولا بأول ومن خلال تلك الجلسات فكرة عما يدور هناك في الفيتنام ، وحتى يستطيعون بذواتهم
وكل عن نفسه تقرير ما يجب عمله في هذه الحالة ، وتقرير إذا كان من السليم ومن العدل
أن نقيس ما يقوم به الامبرياليون الأمريكيون بتلك المجموعة من الاتفاقات التي كانوا
هم أول الموقعين عليها مثل ((مبادئ نور مبرج)). فهذا العمل هو بالفعل عملا تربويا لأنفسنا
ولغيرنا من الناس نقوم به معا .وبالإضافة إلي ذلك فلقد بدأنا في حملة لجمع التوقيعات
بحيث ما كان في بادئ الأمر حكما صادرا من البعض يصبح حكما عاما للكل ، بمعني انه في
النهاية لن نكون نحن القضاة بل نجعل الناس تشعر بما قاله رجل ليس من ديني ولا من دينكم
وهو((لوثر))الذي أعلن يوما أن (الناس جميعا أنبياء )
نريد بهذا العمل أن نحاول إفهام الجماهير الشعبية أن البشر جميعا قضاة
وان من حق الناس جميعا ومن حقهم معا أن يحكموا
علي عمل صادر من حكومة ما ترون إذن أن عملنا ليس له من معني إلا إذا استردته الجماهير ،فالمثقف ليس بالتالي
من يظن أن من حقه إصدار الأحكام بل هو من يعتقد أن حكمه لن يكون صحيحا وسليما إلا إذا
تبناه الجميع.
والنقطة الثانية هي كما قلت لكم إنها مهمة المحكمة ، ليست سهله ولا تظنوا
أننا لا نثير عند بعض أصدقاء أعزاء مجموعه
من المتاعب .نحن مثقفون دون سلطه قمنا بأجراء تلك المحكمة من تلقاء أنفسنا ونطالبكم
بإقرار واعتماد ما نصدره من حكم ونعتقد أنكم سوف تقرون هذا الحكم . ليس هناك أي شئ
يثير الانتباه إذا اقتصر الأمر علي مجموعه من الأشخاص اجتمعوا في أحدا القاعات وقالوا
أن الأمريكيين مجرمين0 ولكن الوضع يختلف تماما إذا كان هؤلاء الأشخاص مزودون بتأييدكم ، وإذا
قال الجميع ما قالوه هم . لا شك أن هذا من شانه أثاروا الصعوبات لنوع معين من السياسيين . حقا يستطيع الناس التعايش سلميا مع مجرم الحرب فإذا ما تبنت الجماهير الحكم
باعتبار الأمريكيون من مجرمي الحرب.
(
علي فرض انه سوف يصدر علي هذا الأساس ) ،فما لا شك فيه أن هذا الأمر سيزيد من صعوبة
سياسة التعايش السلمي . أن الراديكالية كما ترون الآن –وهي تعني التساؤل عن كل شي-لا تكتفي بمحاربة الإمبريالية بل من مقتضياتها أن تعرف إذا كانت تلك
الحرب شيئا يتعدى الإمبريالية وليست مجرد نمو لها . هل هذا الشيء الإضافي جريمة أم
لا ؟ وهل هو جريمة القتل بالجملة؟ ولا شك من وقوع الجريمة إذا كان هناك تعذيب وكانت
هناك أسلحة ضد الأفراد .
فإذا ما نحن قررنا هذا استنادا إلى الراديكالية وإذا ما تبنيتم انتم هذا
الحكم فلا شك أن سياسة التعايش السلمي ستكون في موضع حرج .ولكن هل يعني هذا انه علينا
أن نغض الطرف؟ كلا لأننا أولا مزودون بالموافقة التامة والتشجيع الكامل من (هوشي منه)
ومن (الفيت كونج )، وعليه لم نسلك طريقا قد يؤدي بنا إلي الموقف الصيني، فنحن فقط علي
مستوي أناس يكافحون ويقولون لنا: نعم يجب بحث الأمور من زاوية الجرائم لأننا نعاني
منها ونتعذب. أستطيع أن أقول انه ليس علي (هوشي منه) ولا علي (الفيت كونج) أن يتخذا
في هذه اللحظة أي موقف بشان التعايش.أنهم يقصرون
عملهم علي التأكيد بان الحرب المفروضة عليهم تكون وتشكل الجريمة،ويبغون أن نكون نحن
الذين نصرح بذالك.
فالصعوبة للمثقف كما ترون هو أن يكون راديكاليا كما يجب وبالا يقف مع
ذلك قبل اخذ كل الأمور في الاعتبار موقفا في القضايا السياسية الواسعة المدى .إلا انه
كما سبق أن أوضحت فإننا نستطع نحن المثقفين المجردين عن كل سلطة والمؤيدين أدبيا من
المثقفين الذين يحاربون في الفيتنام أن نقول –لهذا السبب بالتحديد –أن من شان الرباط
الذي يربط بيننا وبين الفيتناميين عبر المحكمة تجريد الأجراء الذي قد نتخذه آنذاك في
صف التعايش السلمي أو ضده ، ومع الصينيين أو ضدهم من أي أثار سيئة. أرادت في الواقع
التدليل علي انه يمكن طرح قضية المثقف كشيء مطلق وهي قضية وقوع الجريمة في الفيتنام
أو عدم وقوعها ، بغير أن ينبني –علي الرغم من الصعوبة التي شرحتها – موقفا مع التعايش
السلمي أو ضده. فإذا تعثر التعايش السلمي من اجل ذلك فهو الدليل علي أن شيئا ما يجب
أن يصحح فيه للإبقاء عليه بمعني أن الإفراط في التعايش السلمي قد يفيد الأمريكيين أكثر
مما يفيد السوفيتيين .
أن لطرح هذا التعريف الذي سوف نقدمه عن جريمة الحرب أهمية خاصة إذا كان
من شانه إجراء بعض التغير في التعايش السلمي ، إلا أن هذا الأمر لا يدخل في عملنا.فنحن
علينا أن نقوم فقط بشيء واحد ذو مراحل ثلاثة ،أولها المبادرة من بعض الأشخاص لاتهم
مثقفون ، ولاتهم يعرفون ما هو التناقض الثقافي ، ثم عليكم انتم إصدار حكمكم عن القضاة
أي أن توافقون أولا توافقون علي حكمهم، وأخيرا يأتي الربط بيننا وبين الفيتناميين الذين
يرون أن الأمر جاد ولا يريدون شيئا سوي الرد
علي العدوان الأمريكي بدون مناقشة السياسة السوفيتية مما يجعلنا نتأكد أننا لسنا سائرين نحو راديكالية غبية .
لقد أردت هنا أن أبين لكم أنواع الأعمال التي يمكن أن يقوم بها المثقفون
سواء المجردين من السلطة أو الذين يتمتعون بقدر منها في بعض الأحزاب أردت أن أبين لكم أن هؤلاء المثقفين ليسوا روادا ولكنهم بشر لا يشعرون بالطمأنينة في نفوسهم
إلا إذا اشتركوا مع الأخرين من اجل الاشتراكية
ومن اجل السلام .
ليس الأمر بالنسبة للمثقفين أن لديهم ما يقولونه بل أن كل الأمر هو في أنهم يبحثون عن راحة الضمير في الكفاح الذي يخوضونه بجانب الطبقات
الكادحة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق