الخميس، 5 سبتمبر 2013

المسار الفلسفى لبول ريكور

الربيع ميمون

تكريم أستاذنا بول ريكور من خلال الحديث عن مساره الفلسفي يقتضي التدليل على القيمة المتعددة لأعماله الغنية ، وإبرز كيف أن هذا المسار قد قاده تدريجيا ليصبح واحدا من كبار مفكرى عصرنا ، بفضل بحثه الشغوف بالمعنى ، وتأمله الفلسفي الأصيل ، العميق والمقنع، وحبه للحقيقة ، وكذا جهوده من أجل الدفاع عن كرامة الإنسان ، وإسهامه المتميز فى الفلسفة العالمية ، فضلاً عن كل ما يحمله مشروعه الفلسفي الكبير ويوجهه كرسالة للإنسانية فى حاضرها ومستقبلها .
ولد الفيلسوف بول ريكو فى فالونس سنة 1913 ، ولم تمض سنتين على ولادته حتى توفى والده ، تلقى تعليمه الأولى فى مؤسستى Dalbiez ef de Nabert . رفيق درب كل من غابرييل مارسيل وإيمانويل مونيى . بعد أن حصل على الإجازة وتم تبريزه شارك فى الحرب العالمية الثانية ما بين سنة 1937 و 1939 ، حيث وقع أسير حرب ، وعلى إثر ذلك ثم نفيه إلى بوميرانى سنة 1945. بعد الإفراج عنه التحق بالمعهد الوطنى للأبحاث الإجتماعية (CNRS ) واستمر فيه إلى غاية 1948 . وفى سنة 1950حصل على الدكتوراه فى الآداب ، وبعدها حصل على الدكتوراه فى الثيولوجيا .. كما مارس التدريس فى المؤسسات الثانوية قبل أن يلتحق بجامعة ستراسبورغ ، السربون ، نانتير وأخيرا جامعة شيكاجو .
فضلا عن كل ذلك ، فقد شغل منصب عميد كلية الآداب بجامعة نانتيرا Nanterre ومدير مجلة "الميتافيزيقا والأخلاق" ، ورئيس المعهد الدولى للفلسفة ، وكذا رئيس مركز الأبحاث الفينومينولوجية والهيرمينوطيقية التابع ( CNRS) . كما شارك بفاعلية وبإيمان راسخ فى الحياة الفلسفية والدينية والثقافية والسياسية لزمانه ..
إن مقالات بول ريكور فى المجلات الوطنية والدولية ، ومؤلفاته المتعددة ، والملتقيات الفكرية التى ساهم فيها ، وتدريسه فى فرنسا وخارجها عبر العالم ،والطلبة الذين أسهم فى تكوينهم ، وهاهم الآن يواصلون رسالته ملهمين بأستاذيته ، فى بلدا فهم المختلفة كل حسب إمكاناته ، فضلا عن مواقعه الشجاعة فى سبيل القضايا العادلة ورفعة وكرامة الإنسان ..
كل ذلك يمثل برهانا ناصعا على عالميته الفعالة Son umiversalite agissante يعد بول ريكور شاهدا على قرن عرفت فيه الإنسانية حربين "عالميتين" ، وتطور علمى غير مسبوق ، وتقنيات خارقة ، وثورات غير متوقعة imattendus فى كل مجالات البحث والحياة .. إلى جانب أزمات عميقة ومؤلمة لم تتوقف عن التأثير على الإنسان المعاصر الذى لم يتردد ، بول ريكور فى التحرك بكامل إيمانه لحدمته كفارس كبير للفكر graud chevalils de lezpiut .
علما أن الإنسان كائن هش etne Boragile ومعقد يفر من ذاته ليعود إليها بأستمرار، يعود لذاته على امتداد حياته من أجل أن يفهمها ويجعلها تتعرف على نفسها كما هى فى بعدها الحقيقى ، ويعلمها كيف يمكن التصرف بمسئولية .
بعد أعماله حول فينومينولوجيا إدموند هوسرل Husserl ووجودية جابريل مارسيل Marcel وكارل ياسبرز gasperis حاول بول ريكور جاهدا تحديد مفهوم "القابلية للخطأ" la faillibilite فى الجزء الثانى من مؤلفه la philosophie de la valonte "فلسفة الإدارة " الذى يوجه كل أبحاثه اللاحقة ، بعد أن درس فى الجزء الأول من نفس الكتاب "اللإإرادى والإرادى le volintaie et l’involontaire . وليعالج فى الجزء الثالث رمزية الشر la symbolique du mal . من خلال تأملنا فى المفاهيم والمقولات التى درسها ريكور فى هذا المؤلف ، وكذا تلك التى تضمنها نفس المؤلف ، نلاحظ أن الإنسان لديه ليس كائنا بسيطا Etre simple وإنما كائن خاضع دوما لقطبي الإرادي واللاإرادي ، أو الأخرى كائن محدد ولا يتطابق مع ذاته un etre limite qui ne concide pas avec lui meme كائن القابلية لخطأ التى تميزه مع هشاشته وضعفه الأصلى الذى يمكن فى أصل الشر المستشري فى العالم .
إن هذان القطبان هما اللذان سمحا لريكور أن يطور ، بعد رمزية الشرح التى عالج فيها رمز بدائية primitifs التى هى القدرة ( la souillure ) ؛ الخطيئة ( la peche ) والذنب la oulpabihite من قبيل أساطير البدء والختم ، هيرمينوطيقا أوحى له بها الفكر الروحي والفلسفي la pensee spiuitueple et philosophqueهيرمينوطيقا يتجاور فيها العلم والدين والعقل والإيمان فى علاقة من التعاون والمساءلة والتصحيح المتبادل والعمل فى نهاية المطاف على إرساء رؤية لإنسان جميل " كدر " وواقعى phomme belle, trouble et realiate تعمل هيرمينوطيقا ريكور على تقديمه كما هو فى محدوديته sa limitude فى مواجهة اللانمائى وما يحيط به من أسرار وغموض .. بعد رمزية الشر حيث كشف ، بول ريكور ، أن الرمز " يسلم " عادة إلى التفكير ، شرع فى مسيرة تأمل طويلة حول . التحليل النفسى ، واللغة ، والتأويل ، والهيرمينوطيقات وصراعاتها les hermeneutiques et leus conflits ، والتاريخ وحقيقة المؤرخ ، السياسة ، التربية ، والدين . كل ذلك بهدف تسليط الضوء على الواقع الإنسانى وعلى كل ما يند عن سيطرة الإنسان الذاتية ..
لقد انطلق ريكور من هيرمينوطيقا الرموز والأساطير ، ومنها انتقل إلى هيرمينوطيقا النصوص ، ومن هذه الأخيرة انتقل إلى هيرمنوطيقا الفعل Action ، ليصل إلى أخلاق وسياسة قادرة على الرد على انتقادات الكائن الهش الذي هو الإنسان ...
وهكذا ، فإن الإنسان لدى بول ريكور ليس "بالسيبيرمان" النيتشوى ، ولا الإنسان - الحيوان الذى تحدث عنه ابن عربى ، وإنما الإنسان الذى يعد فعلا وحقيقة إنسان ..
أن تكون إنساناً مجرد إنسان تشكل قيمة حقيقية فى ميزان الوجود. رغم أن الإنسان كائن هش وضعيف إلا أن بامكانه أن يغدو قويا إذا ما استطاع أن يتجاوز العطب الأصلى الذى يمنعه من أن يكون هو نفسه ، وإن يحطم الزوايا المظلمة التى تحاصر وجوده ، وأن يدرك طبيعته فى حقيقتها الأرضية ، كما يدرك أصوله وغاياته النهائية ، وأن يعيش وفقا لحكمة تمكنه من أن يكون فى منتهى الإنسجام مع ذاته ومع أقرانه ، ومحيطه ، وهذا العالم الذى يتحداه ، وكذا مجموع عالم الموجودات .
هذه هى رؤية الإنسان التى توصلنا إليها من خلال تتبعنا للمسار الفلسفى لبول ريكور فى تفاعله مع مختلف تيارات الفكر المعاصر .. رؤية محكومة وموجهة بنظريته التأويلية التى سمحت له الدخول فى حوار مستمر مع كبار عقول الثقافة الإنسانية ، كما سمحت له أن يصبح من الأسماء الفلسفية العالمية التي يصعب تجاوزها أو تجاهلها ، وشخصية مركزية فى الفلسفة المعاصرة .
بفضل "الإرادي و اللإارادى" كنقطة انطلاق لتأمله وتفكيره الفلسفى ، وبفضل مفهومه لقابلية الإنسان للخطأ ورمزيته للشر ، وبفضل نظريته التأويلية كمنهج بحث ، وهيرمنوطيقا الرموز ، وألاساطير ، واللغة ، والنصوص ، والفعل لديه ، وبفضل رؤيته للتاريخ وللإنسان ككائن هش مستمر بفضل الأمل ، وبفضل فلسفته التى لا تلغى إسهام ودور الدين بالنسبة الإنسان ، وبفضل عقيدته التي لا تلغى ، بأى حال من الأحوال ، الفلسفة التى يرسيها العقل ، لأن العقل هو الملاذ الأخير الذي يركن إليه الإنسان ليقرر كلما وجد نفسه فى مأزق .. بفضل كل ذلك بلغ بول ريكور ، إلى قمم وحقق إنجازات قل من وصل إليها وحققها ..
لا شك أن أستاذنا ، بول ريكور ، يعد ، تبعا لذلك ، من كبار المفكرين الذين دافعوا بإيمان من أجل الإنسانية ورفعتها وكرامتها باستمرار ..
وإذ نجتمع اليوم من أجل الإحتفاء به وتكريمه فلأنه يمثل ، بالنسبة إلينا ، أستاذا بلا نظير ! تعلمنا منه كثيراً .. ولأنه حكيم ذو بصيرة وبعد نظر le sage clairvoyant، الفلسفة لديه أكثر من مجرد مادة تدرس أو علم يحصل ، وإنما هى ، فوق ذلك ، رسالة تنويرية موجهة لكل النساء وكل الرجال تدعوهم ليعيشوا إنسانيتهم بنبل وكرامة كما يدعوهم ليحبوها فمن كل قلوبنا ، وبكامل احترامنا وتقديرنا الكبير ، وعرفاننا العميق ، وتعلقنا الثابت بشخصه وبأعماله نتقدم اليوم بتكريم بول ريكور ، والاحتفاء به تحت سقف الأكاديمية التونسية للعلوم والأداب والفنون ، الشهيرة رغم حداتتها ، فى قرطاج التى أتم فيما سانت أوغسطين دراساته العليا ، وعلى بعد بضع كيلو مترات من تونس حيث ولد ابن خلدون .

التأويل والتاريخ : بول ريكور نموذجا


سواريت بن عمر


العقل يفكر المعنى ، التأويل يترجم المعنى الزائد الذي يمر بالوجود والذي قد يتجاوزنا ، بداية من أصله الأول ، لهذا يجب أن نقبل التأويل كموقف فلسفي تجاه عالم الرموز والنصوص وكل ما يقبل الفهم والتفسير ، أنه وسيلة إظهار لهبات وغنى الوجود لهذا الفكر ، يعتمد على ما يعطى له لتوضيحه وبالتأويل يحقق ذلك ، إن التأويل هو بمثابة علاج للفكر من أوهام التحكم إنه يأتي ليبين له الجانب الهارب (Evasif, Fugitif)  عنه. من هنا ولضرورة معرفية منهجية وجب أن نتساءل ما التاويل عند ريكور بشكل خاص ؟ وما هي جملة العلاقات التي يؤسسها مع الوجود والحقيقة ، وما علاقته بالعلوم التاريخية (الإنسانية) ؟ والتاريخ بشكل متميز ؟.

ولد بول ريكور في 27 فبراير بفالنسيا (Valence) فرنسا يتيم الأب والأم ، بدأ بدراسة الفلسفة بثانوية رانس  من خلال الاستاذ الكبير رولان دلبيز .   بداية من  1930 يتابع تعليمه الفلسفي بصحبة صديقيه الفيلسوف جبريل مارسيل والإنساني إمانويل مونييه. بعد عودته من سجنه من ببمورانيا Bomeranie  (1940 ، 1945) يصبح أستاذا بجامعة ستراسبورج (1946 ، 1956 ) بعدها بجامعة باريس ـ السوربون. من 1956 حتى سنة 1970 سيكون استاذا للفلسفة وعميدا بكلية نانتير للآداب هذه السنوات التي ستكون ساخنة ومليئة بالاضطربات على مختلف الجبهات (السياسية،الفكرية الثقافية، الاجتماعية والاقتصادية).

من 1970 إلى 1985 سيدرس بجامعة شيكاغو وفي 1995 سلسلة أعمال The library of living philosophers  ستضع مؤلفا حول فلسفته سيكون له صدى عالميا سيعرف بالفيلسوف الفرنسي وأعماله الفكرية وكذلك سيتتبع مساره الأصيل في مجال الفكر والفلسفة الذي بدأ منذ 1950 تحت رمز فلسفة الإرادة (1) . هذا العمل الذي سيتواصل لمدة 50 سنة بجهد كبير يتوج في نهاية الأمر بفلسفة للفعل ذات المرجعية الأخلاقية والسياسية وبالخصوص مشكلة العدل كفضيلة ومؤسسة في نفس الوقت هذا الكتاب سينفتح حول بيوجرافيا (سيرة ذاتية) ثقافية نشرت بالفرنسية تحت عنوان "أفكار جاهزة" هذا العنوان الذي يعبر عن دين مجدد تجاه تقاليد الفلسفة التأملية الفرنسية ، وذلك بالمتموقع تحت أسس وأبعاد الظواهرية والتأويلية.

الكوجيتو (أنا أفكر) المناضل والمجروح :

السيرة الذاتية لبول ريكور تمثل أهمية القطائع الثلاثة المؤسسة التي تحكم بكاملها فكر الكاتب . فإلى مدرسة رولان دلبيز ، نجد هذه الروح الفضولية والقلقة (2) ، قد تعلمت تحمل ضربات الإدعاءات ، المباشرة ، المطابقة والوضوح الحاملة لخصائص العالمية وضرورة المطلق والتي تميز بها بالخصوص الكوجيتو الديكارتي وأنا أفكر الكانطية . وهذا ما يحاول فعله ريكور "بتغيير هذا المنعكس إلى وضعية فلسفية فكرية بتوضيحه لماذا يجب أن تترك المباشرة مكانها التوسيطة (La mediation)  وكيف يمكن أن نتجاوز المطابقة L’adepuatio دون أن نرجع إلى فكرة الحقيقة وكيف يمكن كذلك أن نضع محل الوضوح فكرة الاتهام (Le soupcon) كلحظة أولى للشهادة L’attestation "(3). هذه الثلاثية تمثل جوهر الكوجيتو المناضل والمجروح لدى ريكور .

 ولفهم هذا الكوجيتو وبالتالى كل فلسفة بول ريكور يجب العودة الى هذه الرموز الفكرية الكبرى في تاريخ الفلسفة والمتمثلة في فلسفة أدموند هوسرل ، كارل ياسبرز وجابريل مارسيل ، هذا من جهة ومن جهة أخرى يجب قراءة كل مؤلفات وأعمال الفيلسوف ريكور حتى يستنتج أنه قد امتنع كلية عن تأسيس نسق فلسفي بالمعنى الهيجيلي وامتنع عن كل فلسفة تريد أن تكون حرة من الافتراضات والافكار المسبقة من لا يملك مصادر ليس له فيما بعد استقلالية(4) فكل أعماله اللاحقة تشير إلى القناعة عندما كان شابا يبحث عن هاجس نظري لفلسفته التأويلية.

فبأي معنى يمكن أن نتكلم عن كوجيتو مناضل إذا لاحظنا أن ريكور عبر مساره الفلسفي وشكل كتابته الفلسفية لا يحمل طابع الجنس الأدبي الساخر (Pamphlet)  ولا الفلسفة الملتزمة كما نفهمها عادة . فذكر صداقته لأيمانويل مونييه وحركة Esprit  غير كاف لإدراجه ضمن قائمة الفلاسفة الملتزمين . لكنه لم يتوقف أبدا في النضال من أجل الأفكار الفلسفية التي لا تنفصل عن النقاشات العلمية والتي تهتم كذلك بمشاكل المدينة وفي خدمة مفيدة على الدوام للسياسة ومؤسساتها والجامعة والمؤسسات القانونية وذلك من خلال كتابه الكبير التاريخ والحقيقة (Histoire et verite 1994)  .

ماذا يعني الكوجيتو المجروحLe Cogito blesse  ؟ لمعرفة معنى هذا يجب العودة إلى الفضاءات الواسعة لفلسفة الإرادة كما وضعت عام 1949 من خلال كتاب الإرادي واللارادي Le volontaire et l’involontaire  ، فالوصف الظواهري لمجال الإرادي ينطلق من المشروع إلى الاقتراح ثم إلى القبول (5) . أما الإرادي فيحمل الطابع الثلاثي للطبع ، الحياة واللاشعور التي تتركب جدليا في قواعد التحكم والقبول والتي أخذها من مدرسة جبريل مارسيل . فريكور أثناء تفكيره عبر مساره الفلسفي يكتشف علم اخلاق متضمن وغير مكتشف سيحمل طابع الخير لاحقا . وفلسفة الإرادة هي التي ستعطي لذلك مفاهيم تحتية أنطولوجية وأنثروبولوجية ، وتتجلى في اللاتناسب والذرائعية المحددة والمشكلة لثلاثة مواضيع هامة في تاريخ الحقيقة الإنسانية (6) هي : الهشاشة (الأنثروبولوجيا ) الانتقاذ (الشر الأخلاقي) ، اللاتكافؤ (الأنطولوجيا) والتي تشير بدورها إلى ثلاثة مراكز مكونة للذرائعية(7) .

هذه المراكز بدورها تمثل مؤشر وسطي غير كامل بين النهائي واللانهائي .

من خلال الخيال في خضم وأفق محاولة إدراك القصدية اللانهائية للكتابة ، احترام تقاطع الطبع مع القصدية اللانهائية باتجاه السعادة . ثم العاطفة التي تعبر عن أنطولوجية المعيش والتي تجعلها في تأثر أو انسجام مع الكون بكامله.

الرمز هبة التفكير :

على مستوى الانثروبولوجيا (الأنسنة) المتعالية تمثل فكرة الخطيئة La Faillibilite   الوجه الأساسي للكوجيتو المجروح . والثقب الذي سيحدثه الإنسان الخطأ L’homme faillible  1960 ورمزية الشر La symbolique du mal  1963 باتجاه فلسفة تأويلية قد ارتبط بمحاولة إدخال في دائرة التفكير مضيق طويل من الرموز والأساطير الموجهة من طرف الثقافات الكبرى . فإذا كان الكوجيتو المفكر يتصف بثلاثية المباشرة L’immediatete  ، الشفافية La Transparence   والوضوح L’apodicticite  فإن الكوجيتو التأويلي (المؤول) والمجروح بالضرورة يمتاز بالتوسطيةLa mediation  بضبابية L’opacite الرموز والشهادة L’attestation(8) . من هنا يدخل بول ريكور إلى التأويل ومن بابه الضيق بالتأمل حول لغة الاعتراف بالخطأ الذي يكشف له إمكانية وصعوبة التأويل الفلسفي لرموز الخطيئة Le peche  ، التلطيخ والتأنيب La culpabilite  التي ارتبطت بالأساطير الكبرى التي تروي كيف دخل الشر إلى الإنسانية : كالأساطير الكوسمولوجية ، التراجيدية ، الأدمية والأورفية .(9)

هذا التأويل الذي وجد في الرمزLe symbole   مركز ثقله  وكتعبير مزدوج المعنى. هذا التصور للتاويل هو الذى سيخضعه ريكور للاختبار البنيوى من خلال البحث عن الشروط التى جعلت من التحليل البنيوى مدرجا داخل الفلسفة التأملية ، بهدف ترميمها اى اعادة بنائها . لهذا سيهتم بنفس الدرجة بالتحليل النفسي كنشاط تاويلى من خلاله تتحقق عملية تحطيم اشكالية الذات كوعى وذلك من خلال كتابه عن التاويل . محاولة حول فرويد (De L Interpretation .Essai sur freud,)

عالم النص:  فى سنوات 1960-1970 صورة " الكوجيتو المجروح" "توجيهنا اساسا إلى موضوع صراع التأويلات التي لا يمكن إيجاد حل لها ولا تجاوزها من خلال تأويلات الاتهام (ماركس ، نيتشه ، فرويد) وتأويلات المعنى الزائد (هيجل ، مرسيا إلياد )(10) ففي أعماله الأخيرة سيحدث عليها ترميمات نظرية مهمة ،  ففي أواسط 1970 بالفعل سيتحول تأويل الرموز إلى تأويل النصوص . فالاهتمام الكبير الذي يوليه ريكور للتوسطيات النصية يفتح الطريق لأبحاث جديدة كبيرة ومنتجة أنطولوجيا وعمليا.

وباعتباره النص خطابا (أحد ما يقول شيئا ما لشخص ما حول شئ ما )(11)  سيكتشف ريكور ثلاثة حقول فلسفية : التوسطية من خلال موضوعية إمبراطورية الإشارات، الاعتراف بالآخر المتضمن في فعل المتكلم . والعلاقة بالعالم وبالوجود .

من النص إلى الفعل :

دافع ريكور بصرامة عن تصور لغوي يعيد الاعتبار لقصديته المرجعية . فتحليل معطيات الصور المجازية يبين أن اللغة الأقل مباشرة مرجعيا هي التي تقول بشكل أفضل وأحسن سر الأشياء . فالصورة الحية تجعل ممكنا "النظر مثل"Voir comme الذي يجد امتداده الأنطولوجي في "الوجود مثل" والذي يجعلنا نتصور العالم كعالم مملوء(12)

لهذا فإن التحليل السردي يتجاوز بقفزة إضافية في اكتشاف إبداعية اللغة . فدسائسLes intrigues  السرد تعطي معنى إنساني للزمن باكتمال تركيب اللاتجانس(13) فبالرغم من أن الاستعارة  الحية La metaphore vive  1975 والزمن والسرد 1980-1983 Temps et recit l – III   تمثل توأما فكريا. فإن التحليل للوظيفة السردية يعبر عن تقدم نظري مهم . لهذا فبالرغم من أن دسائس السرد لحكايات الخيال تعتبر أنها تاريخية فهي تعني ثلاث عمليات مرتبطة فيما بينها هي :

ما قبل التجسيد La prefiguration  ـ التجسيد  La configuration  ـ ما بعد التجسيد La refiguration  . هذه الأخيرة هي العملية التي تعبر أكثر عن القصدية المرجعية والبعد الأنطولوجي للحكايات (14) فإذا كان المثل القائل الرمز هبة للتفكير (15) يسيطر على التأويل الأول فإن الجملة الصعبة القائلة التفسير أكثر ، هو فهم أحسن (16) سيلعب دورا رئيسيا في تأويل النص . وهذا كله يفترض جدلية مزدوجة من التفسير والفهم التي لا تفتح فقط التأويل على علوم النص بل تؤسس طريقا جديدا  لفلسفة الفعل والتي من خلالها يحتل الفعل الإنساني وضعية وسطية بين النص والتاريخ .

الحياة الخيرة ، المعيار الأخلاقي والحكمة العملية :

الاتصال بين المقاربات التحليلية والظواهرية ـ التأويلية للفعل يتلقى تعبيره الأكثر نضجا في كن أنت مثل الآخر Soi meme comme un autre  1990 . بنشر الأسئلة المتواصلة : من يتكلم ؟ من يفعل ؟ من موضوع التهمة الأخلاقية ؟(17)

يترك ريكور وراءه مجموع فلاسفة الكوجيتو الذين أعطوا وضعية مؤسسة للذات المؤسسة مهملا في نفس الوقت ثرثرة فلاسفة اللاكوجيتو Anti – cogito  ويأخذ في كل هذا كرائد له التمييز بين وجهين للهوية هما : الهوية المتماثلة والهوية الغيرية التي تتلاحق على مستوى الهوية السردية ، فداخل هذه الخانة ستتطور جدلية المثل والأخر وتتحول إلى نظرية حول الفعل الأخلاقي متضمنة ثلاثة قواعد متصلة فيما بينها(18) هي : الغائية والمؤسسة (الأخلاق التي تأخذ الرغبة في حياة خيرة محورا لها) ديونيطولوجية (الأخلاق التي تعني سلطة المعيار وخاصية العالمية) والحذرية لأنه إلى الحكمة العملية تعود القدرة للتفاوض حول أحسن وأفضل توازن بين عالمية وخصوصية الحالات والمواقع الإنسانية(19) فالحكمة التراجيدية لا تتوقف عن تذكيرنا بالطابع المأسوي واللانهائي للصراعات التي يتضمنها كل فعل إنساني(20) ، ومن هنا يرتسم أخر وجه للكوجيتو المجروح، فالغيرية لا تضاف من الخارج للذات بل مكونة لهويته ووحدته نفسها. وهذا ما يجعلنا بالضرورة نحدد وجوها كثيرة للسلبوية ـ الغيرية عبر التاريخ في الأخر في الدم وصوت الضمير الأخلاقي الذي يمثل في نهاية الأمر الغيرية القصوى.

لقد وعد ريكور قراءة بتطوير فلسفة متعالية من خلال ياسبرز التي ستكون في نفس الوقت تعبيرا شعريا عن الإرادة الملتزمة لكنه لم يف  بذلك ولاحقا ومع مرور السنوات تحولت فلسفته إلى فلسفة بدون مطلق(21) ، فالكتابات الأخيرة تندرج ضمن اللاإرادية L’agnosticisme  (22) التي تنصت للمفهوم عوض ما هو إلهي ديني مطلق.

سارتر بين الوجوديين