الخميس، 5 سبتمبر 2013

المسار الفلسفى لبول ريكور

الربيع ميمون

تكريم أستاذنا بول ريكور من خلال الحديث عن مساره الفلسفي يقتضي التدليل على القيمة المتعددة لأعماله الغنية ، وإبرز كيف أن هذا المسار قد قاده تدريجيا ليصبح واحدا من كبار مفكرى عصرنا ، بفضل بحثه الشغوف بالمعنى ، وتأمله الفلسفي الأصيل ، العميق والمقنع، وحبه للحقيقة ، وكذا جهوده من أجل الدفاع عن كرامة الإنسان ، وإسهامه المتميز فى الفلسفة العالمية ، فضلاً عن كل ما يحمله مشروعه الفلسفي الكبير ويوجهه كرسالة للإنسانية فى حاضرها ومستقبلها .
ولد الفيلسوف بول ريكو فى فالونس سنة 1913 ، ولم تمض سنتين على ولادته حتى توفى والده ، تلقى تعليمه الأولى فى مؤسستى Dalbiez ef de Nabert . رفيق درب كل من غابرييل مارسيل وإيمانويل مونيى . بعد أن حصل على الإجازة وتم تبريزه شارك فى الحرب العالمية الثانية ما بين سنة 1937 و 1939 ، حيث وقع أسير حرب ، وعلى إثر ذلك ثم نفيه إلى بوميرانى سنة 1945. بعد الإفراج عنه التحق بالمعهد الوطنى للأبحاث الإجتماعية (CNRS ) واستمر فيه إلى غاية 1948 . وفى سنة 1950حصل على الدكتوراه فى الآداب ، وبعدها حصل على الدكتوراه فى الثيولوجيا .. كما مارس التدريس فى المؤسسات الثانوية قبل أن يلتحق بجامعة ستراسبورغ ، السربون ، نانتير وأخيرا جامعة شيكاجو .
فضلا عن كل ذلك ، فقد شغل منصب عميد كلية الآداب بجامعة نانتيرا Nanterre ومدير مجلة "الميتافيزيقا والأخلاق" ، ورئيس المعهد الدولى للفلسفة ، وكذا رئيس مركز الأبحاث الفينومينولوجية والهيرمينوطيقية التابع ( CNRS) . كما شارك بفاعلية وبإيمان راسخ فى الحياة الفلسفية والدينية والثقافية والسياسية لزمانه ..
إن مقالات بول ريكور فى المجلات الوطنية والدولية ، ومؤلفاته المتعددة ، والملتقيات الفكرية التى ساهم فيها ، وتدريسه فى فرنسا وخارجها عبر العالم ،والطلبة الذين أسهم فى تكوينهم ، وهاهم الآن يواصلون رسالته ملهمين بأستاذيته ، فى بلدا فهم المختلفة كل حسب إمكاناته ، فضلا عن مواقعه الشجاعة فى سبيل القضايا العادلة ورفعة وكرامة الإنسان ..
كل ذلك يمثل برهانا ناصعا على عالميته الفعالة Son umiversalite agissante يعد بول ريكور شاهدا على قرن عرفت فيه الإنسانية حربين "عالميتين" ، وتطور علمى غير مسبوق ، وتقنيات خارقة ، وثورات غير متوقعة imattendus فى كل مجالات البحث والحياة .. إلى جانب أزمات عميقة ومؤلمة لم تتوقف عن التأثير على الإنسان المعاصر الذى لم يتردد ، بول ريكور فى التحرك بكامل إيمانه لحدمته كفارس كبير للفكر graud chevalils de lezpiut .
علما أن الإنسان كائن هش etne Boragile ومعقد يفر من ذاته ليعود إليها بأستمرار، يعود لذاته على امتداد حياته من أجل أن يفهمها ويجعلها تتعرف على نفسها كما هى فى بعدها الحقيقى ، ويعلمها كيف يمكن التصرف بمسئولية .
بعد أعماله حول فينومينولوجيا إدموند هوسرل Husserl ووجودية جابريل مارسيل Marcel وكارل ياسبرز gasperis حاول بول ريكور جاهدا تحديد مفهوم "القابلية للخطأ" la faillibilite فى الجزء الثانى من مؤلفه la philosophie de la valonte "فلسفة الإدارة " الذى يوجه كل أبحاثه اللاحقة ، بعد أن درس فى الجزء الأول من نفس الكتاب "اللإإرادى والإرادى le volintaie et l’involontaire . وليعالج فى الجزء الثالث رمزية الشر la symbolique du mal . من خلال تأملنا فى المفاهيم والمقولات التى درسها ريكور فى هذا المؤلف ، وكذا تلك التى تضمنها نفس المؤلف ، نلاحظ أن الإنسان لديه ليس كائنا بسيطا Etre simple وإنما كائن خاضع دوما لقطبي الإرادي واللاإرادي ، أو الأخرى كائن محدد ولا يتطابق مع ذاته un etre limite qui ne concide pas avec lui meme كائن القابلية لخطأ التى تميزه مع هشاشته وضعفه الأصلى الذى يمكن فى أصل الشر المستشري فى العالم .
إن هذان القطبان هما اللذان سمحا لريكور أن يطور ، بعد رمزية الشرح التى عالج فيها رمز بدائية primitifs التى هى القدرة ( la souillure ) ؛ الخطيئة ( la peche ) والذنب la oulpabihite من قبيل أساطير البدء والختم ، هيرمينوطيقا أوحى له بها الفكر الروحي والفلسفي la pensee spiuitueple et philosophqueهيرمينوطيقا يتجاور فيها العلم والدين والعقل والإيمان فى علاقة من التعاون والمساءلة والتصحيح المتبادل والعمل فى نهاية المطاف على إرساء رؤية لإنسان جميل " كدر " وواقعى phomme belle, trouble et realiate تعمل هيرمينوطيقا ريكور على تقديمه كما هو فى محدوديته sa limitude فى مواجهة اللانمائى وما يحيط به من أسرار وغموض .. بعد رمزية الشر حيث كشف ، بول ريكور ، أن الرمز " يسلم " عادة إلى التفكير ، شرع فى مسيرة تأمل طويلة حول . التحليل النفسى ، واللغة ، والتأويل ، والهيرمينوطيقات وصراعاتها les hermeneutiques et leus conflits ، والتاريخ وحقيقة المؤرخ ، السياسة ، التربية ، والدين . كل ذلك بهدف تسليط الضوء على الواقع الإنسانى وعلى كل ما يند عن سيطرة الإنسان الذاتية ..
لقد انطلق ريكور من هيرمينوطيقا الرموز والأساطير ، ومنها انتقل إلى هيرمينوطيقا النصوص ، ومن هذه الأخيرة انتقل إلى هيرمنوطيقا الفعل Action ، ليصل إلى أخلاق وسياسة قادرة على الرد على انتقادات الكائن الهش الذي هو الإنسان ...
وهكذا ، فإن الإنسان لدى بول ريكور ليس "بالسيبيرمان" النيتشوى ، ولا الإنسان - الحيوان الذى تحدث عنه ابن عربى ، وإنما الإنسان الذى يعد فعلا وحقيقة إنسان ..
أن تكون إنساناً مجرد إنسان تشكل قيمة حقيقية فى ميزان الوجود. رغم أن الإنسان كائن هش وضعيف إلا أن بامكانه أن يغدو قويا إذا ما استطاع أن يتجاوز العطب الأصلى الذى يمنعه من أن يكون هو نفسه ، وإن يحطم الزوايا المظلمة التى تحاصر وجوده ، وأن يدرك طبيعته فى حقيقتها الأرضية ، كما يدرك أصوله وغاياته النهائية ، وأن يعيش وفقا لحكمة تمكنه من أن يكون فى منتهى الإنسجام مع ذاته ومع أقرانه ، ومحيطه ، وهذا العالم الذى يتحداه ، وكذا مجموع عالم الموجودات .
هذه هى رؤية الإنسان التى توصلنا إليها من خلال تتبعنا للمسار الفلسفى لبول ريكور فى تفاعله مع مختلف تيارات الفكر المعاصر .. رؤية محكومة وموجهة بنظريته التأويلية التى سمحت له الدخول فى حوار مستمر مع كبار عقول الثقافة الإنسانية ، كما سمحت له أن يصبح من الأسماء الفلسفية العالمية التي يصعب تجاوزها أو تجاهلها ، وشخصية مركزية فى الفلسفة المعاصرة .
بفضل "الإرادي و اللإارادى" كنقطة انطلاق لتأمله وتفكيره الفلسفى ، وبفضل مفهومه لقابلية الإنسان للخطأ ورمزيته للشر ، وبفضل نظريته التأويلية كمنهج بحث ، وهيرمنوطيقا الرموز ، وألاساطير ، واللغة ، والنصوص ، والفعل لديه ، وبفضل رؤيته للتاريخ وللإنسان ككائن هش مستمر بفضل الأمل ، وبفضل فلسفته التى لا تلغى إسهام ودور الدين بالنسبة الإنسان ، وبفضل عقيدته التي لا تلغى ، بأى حال من الأحوال ، الفلسفة التى يرسيها العقل ، لأن العقل هو الملاذ الأخير الذي يركن إليه الإنسان ليقرر كلما وجد نفسه فى مأزق .. بفضل كل ذلك بلغ بول ريكور ، إلى قمم وحقق إنجازات قل من وصل إليها وحققها ..
لا شك أن أستاذنا ، بول ريكور ، يعد ، تبعا لذلك ، من كبار المفكرين الذين دافعوا بإيمان من أجل الإنسانية ورفعتها وكرامتها باستمرار ..
وإذ نجتمع اليوم من أجل الإحتفاء به وتكريمه فلأنه يمثل ، بالنسبة إلينا ، أستاذا بلا نظير ! تعلمنا منه كثيراً .. ولأنه حكيم ذو بصيرة وبعد نظر le sage clairvoyant، الفلسفة لديه أكثر من مجرد مادة تدرس أو علم يحصل ، وإنما هى ، فوق ذلك ، رسالة تنويرية موجهة لكل النساء وكل الرجال تدعوهم ليعيشوا إنسانيتهم بنبل وكرامة كما يدعوهم ليحبوها فمن كل قلوبنا ، وبكامل احترامنا وتقديرنا الكبير ، وعرفاننا العميق ، وتعلقنا الثابت بشخصه وبأعماله نتقدم اليوم بتكريم بول ريكور ، والاحتفاء به تحت سقف الأكاديمية التونسية للعلوم والأداب والفنون ، الشهيرة رغم حداتتها ، فى قرطاج التى أتم فيما سانت أوغسطين دراساته العليا ، وعلى بعد بضع كيلو مترات من تونس حيث ولد ابن خلدون .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

سارتر بين الوجوديين