الخميس، 23 أبريل 2015

بول ريكور وفن القراءة

بول ريكور وفن القراءة
أحمد أبو زيد
من التعبيرات الرشيقة التى التصقت بذهنى عبارة جاءت فى مقال كتبه منذ سنوات الناقد البريطانى جون ويتمان عن الحياة الفكرية فى فرنسا ويقول فيها إنه رغم كل ما مرت به فرنسا فى السنوات الأخيرة من تغيرات جذرية وسريعة فإنها لا تزال تحتفظ بقدراتها الفائقة على "إنتاج" الشخصيات الكاريزمية التى يمكن وصف أصحابها بأنهم "أبطال الفكر" بنفس الطريقة ونفس المعنى اللذين يقال بهما روسيا "تنتج أبطال الشطرنج" . ويلاحظ جون ويتمان بهذا الصدد أن عبارة ديكارت المشهورة "أنا موجود ما دمت أفكر" لا تزال قائمة وتمثل إحدى ركائز العقل الفرنسى وأحد مبادئه العامة الأساسية . فقبل الحرب العالمية الثانية كان هناك ثالوث رائع من كبار :أساتذة الفكر" وهم :  أندريه جيد وبول فاليرى وألان ، ثم ظهر بعد الحرب ذلك "الثنائى المتعادى" المؤلف من جان بول سارتر وألبير كامى . ولوسرنا نحن فى هذا الطريق الذى حدده ويتمان لأمكن لنا القول إنه جاء من بعد ذلك مزيج من الكتاب والعلماء والفلاسفة يضم ليفى ستروس وجاك لاكان وميشيل فوكو ورولان بارت وجاك دريدا وغيرهم من المفكرين الذين حملوا – ولا يزال بعضهم يحمل – لواء البنائية وما بعدها ، كما لحق بهم بعد قليل رعيل أخر من "أبطال الفكر" الذين يعطون أهمية قصوى للغة والبناء اللغوى ويهتمون بتأويل "النص" وتفسيره فيما يعرف باسم الهرمنيوطيقا ، وهى حركة فكرية ترتبط بالفكر الألمانى وإن كانت أصولها الأولى ترجع إلى عصور سابقة . وتضم هذه الحركة الفكرية فى فرنسا أعدادا من المفكرين – من أمثال بول ريكير – الذين يغلب عليهم الطابع الأكاديمى الذى يختلف تماما عن الطابع الذى كان يميز حياة المفكرين السابقين عليهم والذى كانوا يشغلون أنفسهم بمشكلات الإنسان والمجتمع ويشاركون فى أحداثه الاجتماعية والسياسية.

وتطلق كلمة "هرمنيوطيقا" فى العادة على الاتجاهات المختلفة التى يعتنقها بعض الفلاسفة والمفكرين الذين يعطون اهتماما خاصا لمشكلات "الفهم" و "التأويل" أو التفسير . فالكلمة تصدق إذا على نظرية التفسير ومناهجه . واللفظ اليونانى المستمد منه الكلمة يشير فى وقت واحد إلى عملية الكلام وعملية التفسير مما قد يعنى أن الكلام هو طريقة "يفسر" بها الشخص أفكاره للآخرين – وإن كانت الهرمنيوطيقا تعنى فى الاستعمال الفلسفى والأكاديمى تفسير النصوص .
وقد ارتبطت الهرمنيوطيقا فى البداية بمحاولات تفسير أعمال هوميروس والشعراء الإغريق ، وبذلك ارتبط التفسير بالفيلولوجيا ( علم اللغة ) وبنقد النص ثم انتقلت المحاولة إلى تفسير النصوص المقدسة . فالحركة بدأت إذن على أيدى علماء الكلاسيكيات واللاهوت الذين حاولوا وضع قواعد تحكم التفسير الصحيح للنصوص الكلاسيكية والدينية الأساسية، ولكنها لم تلبث أن اتسعت وامتدت لتشمل النصوص الأدبية وغيرها ، بل وتجاوزت هذا المجال إلى مجالات علم النفس والاجتماع والأنثروبولوجيا والتاريخ وبقية العلوم الإنسانية على أساس أن الحياة الإنسانية عملية تضفى معنى على الأشياء ولذا تحتاج إلى أن تقرأ بقصد الفهم والتأويل والتفسير .
وبقول آخر أبسط وأوضح فإنه يمكن تعريف الهرمنيوطيقا بأنها "فن القراءة" أى فن حل النصوص وتفكيكها وتفسيرها والكشف عن معانيها . والذى أضافه المفكرون الهرمنيوطيقيون المحدثون – ومنهم الفيلسوف الاجتماعي الديني الفرنسي بول ريكير – هو أنهم عملوا على مد فكر "النص" إلى كل مجالات الوجود الإنساني واعتبار الحياة الإنسانية ذاتها نوعا من النص – أو على الأصح شيئا يشبه النص – الذي يمكن قراءته ، على أساس أن الحياة تجسد معنى يمكن – من حيث المبدأ – توضيحه وإبرازه ، وأن ذلك يتم بطريقة تشبه الطريقة التي يفسر بها التحليل النفسي معنى الأحلام .
ويقوم منهج التفسير فى أساسه على افتراض أن الكلام له معنيان أحدهما هو المعنى الظاهر والآخير هو المعنى الخفي أو المستتر أو الباطن ، مما يعنى أن اللغة لها هى أيضا وظيفتان إحداهما هى التعبير والأخرى وظيفة رمزية تتطلب البحث عما ترمز إليه . وقد أدت هذه التفرقة إلى قيام اتجاهين كبيرين فى التفسير : الاتجاه نحو استرجاع المعنى وإعادة بنائه وهو الذى يتبعه رجال الدين الذين يهتمون باسترجاع المعنى الأصلى للرموز فى "العهد الجديد" . والاتجاه الآخر يقوم على الشك ويضم مفكرين من أمثال : نيتشه وماركس وفرويد وغيرهم ممن يهتمون بتحليل ـ أو تجزئة ـ المعنى ، وليس تجميع الأجزاء كما هو الشأن في الاتجاه الأول، ورد ذلك المعنى إلى عوامل ودوافع كامنة وخفية.
تكشف أعمال الفيلسوف بول ريكير عن تأثيره بالوجودية والفنومنولوجيا والبنائية، وإن  كان اسمه ارتبط ارتباطا وثيقا بالاتجاه التأويلى أو الهرمنيوطيقى . وقد اهتم اهتماما كبيرا بدراسة وتقديم فكر الكثيرين من الفلاسفة السابقين عليه ، لدرجة أنه كثيرا ما كان يخصص أثناء تدريسه بالجامعة سنه كاملة لتقديد فكر فيلسوف واحد فقط من الفلاسفة الذين تأثر بهم من أمثال :  هيدجر وهوسرل وياسبرز . ومع ذلك فإن كتاباته تتميز بالأصالة والتجديد الناجمين عن موقفه النقدى من أعمال الآخرين كما تغطى هذه الكتابات مجالات متنوعة تتراوح بين الدراسات الفلسفية والاجتماعية والدينية والثقافية العامة ، بل إن بعض المقالات التى كتبها أثناء فترة رئاسته لجامعة نانتير تعرضت لمفارقات القوى السياسية والعلاقة بين الدولة والمواطن ، وبين الحياة والفن وبين الحياة والموت واكتشاف مناطق الالتقاء بين الدين والفلسفة .
كان مولد بول ريكير فى فالانس بغرب فرنسا فى السابع والعشرين من فبراير عام 1913. فظل طول حياته نشيطا ومنتجا بنفس القوة والقدرة والدقة تقريبا . وقد اشتغل بعد تخرجه فى جامعة باريس عام 1937 بالتدريس فى المدارس الثانوية ، حتى شارك فى الحرب العالمية الثانية ، ووقع أسيرا فى أيدى القوات الألمانية وظل فى المعتقل من عام 1940 حتى نهاية الحرب ، وبعدها عمل فى المركز القومى للبحث العلمى بباريس حتى عام 1948 ، ثم انتقل ليعمل أستاذا بجامعة ستراسبورج حتى عام 1957 ثم انتقل إلى السوربون ، ثم شغل بعد ذلك – بناء على طلبه – منصب العميد لجامعة باريس العاشرة المعروفة باسم نانتير التى لعبت دورا كبيرا فى أحداث الطلاب عام 1968. وقد دفعته تلك الأحداث إلى الاستقالة من منصبه لكى يعود بعدها إلى نفس الجامعة كأستاذ متفرغ ، وفى الوقت ذاته تم تعيينه أستاذا غير متفرغ بجامعة شيكاغو .
وقد تأثر منذ أيام الدراسة بتفكير جابرييل مارسل الذى كان يقود تيار الوجودية "المسيحية" كمقابل لوجودية سارتر ، كما تأثر بتفكير ياسبرز وبالفنومنولوجيا الألمانية "هوسرل وهيدجر" . وقد انعكست هذه التأثيرات الفكرية فى كتاباته ، إذ ظهر تأثير جابرييل مارسيل فى اهتمامه بالكتابة عن المشكلات الدينية واللاهوتية ، كما ظهر تأثره بالفنومنولوجيا ومشكلات التفسيرات فى اتجاهه الهرمنيوطيقى الذى يعرف عموما باسم الهرمنيوطيقا الفنومنولوجية . وكما يقول الأستاذ جون طومبسن – وهو أحد المهتمين بدراسة فكر ريكير – إن بول ريكير كان خلال كل حياته الفكرية يهتم بمشكلة الذات الإنسانية الفاعلة أو الشخص الإنساني الفاعل وأن الدافع الأساسي وراء كل أعماله الفلسفية كان هو الاقتناع الوجودي بأن الوجود الإنسانى له معنى ، وأنه بصرف النظر عن وجود الشر والألم والاستعباد ( أو عدم الحرية ) فإن ما فى الوجود "مما له معنى" يفوق بكثير جداً "ما ليس له معنى" ، فالمعنى والوجود هما الطرفان اللذان يلخصان مشروعه الفلسفى مما يعنى أن فكره الفلسفى فكر وجودي إلى حد كبير لأن موضوعه هو الوجود الإنسانى ، كما أنه فكر فنومنولوجى تأويلى بفضل المنهج الذى يتبعه فى حل وفك وتفسير طلاسم "العلامات" التى تستخدم فى التعبير عن نظرتنا وتصورنا بل ورغبتنا فى وجود تلك العلاقات .
وتمثل مشكلة الإرادة موضوعا محوريا فى الفكر الوجودى والفنومنولوجى على السواء ولذ كان ريكير يوليهما أهمية كبرى منذ أوائل إنتاجه بحيث كان يعتزم تكريس عمل ضخم لدراسة المشكلة ونتج عن ذلك كتابه "فلسفة الإرادة" . وكان ريكير ينوى فى أول الأمر يصدر هذا الكتاب فى ثلاثة أجزاء ، وظهر الجزء الأول بالفعل عام 1950 عن "الإرادى واللاإرادى" ثم توقف عن العمل فى المشروع ووجه اهتمامه إلى تعريف مجال الوجدان والمشاعر والاختيار وظهر حول ذلك كتابه عن "الإنسان المعرض للخطأ" وهو دراسة فى الأنثروبولوجيا الفلسفية ، ومن بعده كتابه عن رمزية الشر الذى يعتبره البعض البداية الحقيقية لاهتمامه بالهرمنيوطيقا ، أو بالأخرى البداية الحقيقية للهرمنيوطيقا لمسيرته فى ذلك الطريق التى بلغت ذوروتها فى كتابه عن "التفسير : دراسة عن فرويد" وقد ظهر الكتاب عام 1965 وتمت ترجمته إلى الإنجليزية عام 1970 تحت عنوان "فرويد والفلسفة" وقد اهتم فيه بتبين الجوانب النقدية واللانقدية فى التفسير من خلال وضعهما فى نوع من التقابل الجدلى المتمثل فى تقابل ما يسميه هرمنيوطيقا الإيمان وهرمنيوطيقا الشك . فإن كانت نظرية التأويل ارتبطت فى أول الأمر بقراءة الكتاب المقدس – على ما ذكرنا – وهو ما يطلق عنه ريكير اسم هرمنيوطيقا المقدس  ويرد إليه إدراك المعنى أو تذكر المعنى بقصد تفسير الإيمان وهو الأمر الذى يهم رجال الدين فى المحل الأول ، فإن هرمينيوطيقا الشك تربط بأعمال فئة معينة من المفكرين الذين يعتبرون النص مجرد واجهة أو "سطح علوى" تكمن تحته الحقيقة الجوهرية ، مما يعنى أن هرمنيوطيقا الشك تهتم بالبحث عن المعنى الأصلى أو الأساسى عن طريق "نزع القناع" والكشف عن "الوعى الزائف" وهو ما يتحقق فى عمليات نقد الأيديولوجيات – كما هو الشأن فى التحليل الاقتصادى عند ماركس ، والتحليل النفسى عند فرويد .
ويعتبر ريكير هذه الهرمنيوطيقا نوعا من التأويل "الأركيولوجى" لأنها "تنقب" فى الماضى للكشف عن المعانى "التحتية" البدائية والمتخفية وراء الأعراض المدركة شعوريا والدفينة تحت المظاهر السطحية وذلك على العكس تماما من هرمنيوطيقا الإيمان التى تتجه نحو المظاهر ذاتها لمعرفة قدرتها على الكشف وليس على الإخفاء .. فهى تهدف إلى الكشف عن ما يعنيه صاحب النص الحقيقة حتى وإن لم يفصح عنه بوضوح . وعلى ذلك فإنه بدلا من أن تتوغل هرمنيوطيقا الإيمان فى "الأسرار المظلمة" للنص فإنها تحاول أن ترى النص فى ضوئها هى ذاتها ، ولذا تتجه تأويلاتها نحو المستقبل ، فهى تأويلات "غائبة" وليست تأويلات "أركيولوجية" .

ولقد اتهم بعض النقاد ريكير بأن أعماله لا تتبع خط تفكير واحدا مستقيما منطقيا ومحددا وأنه لا تكاد توجد علاقة منطقية فى تتابع هذه الأعمال التى زادت على المائة "منها اثنا عشر كتابا أساسيا" . وينفى ريكير عن نفسه هذه التهمة فى حوار أجرته معه جريدة " لموند" الفرنسية ونشر فى أول فبرايل عام 1981 ، وذهب فيه إلى أن كل عمل من أعماله الكبرى كان يهيئ الأذهان فى نهايته للعمل الذى يليه ، مما يعنى أن ذلك الإنتاج الضخم صدر عن عملية فكرية متحركة ومتطورة ينتقل فيها الذهن بشكل طبيعى ، ليس فقط من موضوع إلى آخر ، ولكن أيضا من مجال لآخر فى ترتيب معقول ومقبول . فنهاية كل عمل من تلك الأعمال كانت تترك وراءها مساحة خالية تحتاج إلى استكمال . فحين انتهى مثلا من كتاب "الإرادى واللاإرادى" وجد أنه يتعين عليه أن يعالج مشكلة الإرادة الشريرة فكتب "الإنسان المعرض للخطأ" ، وهذا بدوره ترك فى نهايته الباب مفتوحا لدراسة مشكلة الرمز "رمزية الشر" وظهر له أثناء ذلك أن هناك أسلوب لدراسة تلك المشكلة ، إما من خلال الأساطير وإما من خلال التحليل النفسى أى من منظور باثولوجى وأنه توجد بناء على ذلك قراءتان مختلفتان لفهم الرموز وتفسيرها ، إحداهما تتوخى البحث عما فى هذه الرموز من إشارة إلى معاني الارتفاع والارتقاء والسمو والأخرى ترمى إلى الكشف عن ما تشير إليه هذه الرموز والأساطير من انحطاط وتدهور . وهذا معناه أن إحدى القراءتين تسلك الخط الدينى اللاهوتى الذى يتلاءم مع هرمنيوطيقا الإيمان، بينما تسلك القراءة الثانية طريق هرمنيوطيقا الشك التى تجدها فى أعمال نيتشه وفرويد. وثمة صراع بين هذين الاتجاهين كرس له ريكير كتابه عن "التأويلات : مقالات فى الهرمنيوطيقا"
وعلى أى حال فإن بول ريكير ظل طيلة الوقت وفى كل كتاباته يهتم اهتماما خاصا بالنواحى الأخلاقية والسياسية للوجود الإنسانى ، وببعض المشكلات الأساسية المتعلقة بهذا الوجود مثل مشكلة العدالة ومشكلة المسئولية . وكما يقول الأستاذ جون طومبسون إن أهم إسهام باق أسهم به ريكير فى الفسفة هو الطريقة التى استطاع بها أن يجعل قراءه يفكرون من جديد فى السؤال المركزى القديم فى الفلسفة وهو : من نحن ؟

وحياة بول ريكير هى حياة الأستاذ الأكاديمى الخالية من الإثارة ومن المفاجآت والبعيدة حتى عن المشاركة فى الأحداث الكبرى التى تحدث فى المجتمع ، فهو يختلف عن جان بول سارتر مثلا وعن بعض الفلاسفة البنائيين وما بعد البنائيين من أمثال دريدا الذين شاركوا فى حركة الطلاب عام 1968 ، وهو نفسه يقول فى ذلك إن حياته كانت دائما حياة عقلية داخلية وباطنية . وقد وصف نفسه فى الحوار الذى أجرته معه صحيفة " لموند" بأنه ابن يتيم لأحد ضحايا الحرب العالمية الأولى التى قتل فيها أبوه وهو طفل صغير ، وأنه نشأ لذلك فى بيت أجداده الذى يصفه بأنه بيت كان فيه كثير من الصرامة ولكنه لا يخلو من الحب . وذهب فى ذلك الحديث إلى حد القول : "ليس هناك  من قيمة لحياتي .. فحياتي كانت دائما هى عملى ، أعنى كتبى ومقالاتي .. إن كتبى هى آثارى الباقية ، وقد يكون تاريخ آرائى الفلسفية طريقا ولكن ليس الأمر كذلك بالنسبة لتاريخ حياتى"

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

سارتر بين الوجوديين