العقل يفكر المعنى ،
التأويل يترجم المعنى الزائد الذي يمر بالوجود والذي قد يتجاوزنا ، بداية من أصله
الأول ، لهذا يجب أن نقبل التأويل كموقف فلسفي تجاه عالم الرموز والنصوص وكل ما
يقبل الفهم والتفسير ، أنه وسيلة إظهار لهبات وغنى الوجود لهذا الفكر ، يعتمد على
ما يعطى له لتوضيحه وبالتأويل يحقق ذلك ، إن التأويل هو بمثابة علاج للفكر من
أوهام التحكم إنه يأتي ليبين له الجانب الهارب
(Evasif, Fugitif) عنه. من هنا ولضرورة
معرفية منهجية وجب أن نتساءل ما التاويل عند ريكور بشكل خاص ؟ وما هي جملة
العلاقات التي يؤسسها مع الوجود والحقيقة ، وما علاقته بالعلوم التاريخية
(الإنسانية) ؟ والتاريخ بشكل متميز ؟.
ولد بول ريكور في 27
فبراير بفالنسيا (Valence) فرنسا يتيم الأب والأم
، بدأ بدراسة الفلسفة بثانوية رانس من
خلال الاستاذ الكبير رولان دلبيز . بداية
من 1930 يتابع تعليمه الفلسفي بصحبة
صديقيه الفيلسوف جبريل مارسيل والإنساني إمانويل مونييه. بعد عودته من سجنه من
ببمورانيا Bomeranie (1940 ، 1945)
يصبح أستاذا بجامعة
ستراسبورج (1946 ، 1956 ) بعدها بجامعة باريس ـ السوربون. من 1956 حتى سنة 1970
سيكون استاذا للفلسفة وعميدا بكلية نانتير للآداب هذه السنوات التي ستكون ساخنة
ومليئة بالاضطربات على مختلف الجبهات (السياسية،الفكرية الثقافية، الاجتماعية
والاقتصادية).
من 1970 إلى 1985 سيدرس
بجامعة شيكاغو وفي 1995 سلسلة أعمال The library of
living philosophers ستضع مؤلفا حول فلسفته
سيكون له صدى عالميا سيعرف بالفيلسوف الفرنسي وأعماله الفكرية وكذلك سيتتبع مساره
الأصيل في مجال الفكر والفلسفة الذي بدأ منذ 1950 تحت رمز فلسفة الإرادة (1) . هذا
العمل الذي سيتواصل لمدة 50 سنة بجهد كبير يتوج في نهاية الأمر بفلسفة للفعل ذات
المرجعية الأخلاقية والسياسية وبالخصوص مشكلة العدل كفضيلة ومؤسسة في نفس الوقت
هذا الكتاب سينفتح حول بيوجرافيا (سيرة ذاتية) ثقافية نشرت بالفرنسية تحت عنوان
"أفكار جاهزة" هذا العنوان الذي يعبر عن دين مجدد تجاه تقاليد الفلسفة
التأملية الفرنسية ، وذلك بالمتموقع تحت أسس وأبعاد الظواهرية والتأويلية.
الكوجيتو (أنا أفكر)
المناضل والمجروح :
السيرة الذاتية لبول
ريكور تمثل أهمية القطائع الثلاثة المؤسسة التي تحكم بكاملها فكر الكاتب . فإلى
مدرسة رولان دلبيز ، نجد هذه الروح الفضولية والقلقة (2) ، قد تعلمت تحمل ضربات
الإدعاءات ، المباشرة ، المطابقة والوضوح الحاملة لخصائص العالمية وضرورة المطلق
والتي تميز بها بالخصوص الكوجيتو الديكارتي وأنا أفكر الكانطية . وهذا ما يحاول
فعله ريكور "بتغيير هذا المنعكس إلى وضعية فلسفية فكرية بتوضيحه لماذا يجب أن
تترك المباشرة مكانها التوسيطة (La
mediation) وكيف يمكن أن نتجاوز
المطابقة L’adepuatio دون أن نرجع إلى فكرة
الحقيقة وكيف يمكن كذلك أن نضع محل الوضوح فكرة الاتهام
(Le soupcon) كلحظة أولى للشهادة L’attestation "(3). هذه الثلاثية تمثل جوهر
الكوجيتو المناضل والمجروح لدى ريكور .
ولفهم هذا الكوجيتو وبالتالى كل فلسفة بول ريكور يجب
العودة الى هذه الرموز الفكرية الكبرى في تاريخ الفلسفة والمتمثلة في فلسفة أدموند
هوسرل ، كارل ياسبرز وجابريل مارسيل ، هذا من جهة ومن جهة أخرى يجب قراءة كل
مؤلفات وأعمال الفيلسوف ريكور حتى يستنتج أنه قد امتنع كلية عن تأسيس نسق فلسفي
بالمعنى الهيجيلي وامتنع عن كل فلسفة تريد أن تكون حرة من الافتراضات والافكار
المسبقة من لا يملك مصادر ليس له فيما بعد استقلالية(4) فكل أعماله اللاحقة تشير
إلى القناعة عندما كان شابا يبحث عن هاجس نظري لفلسفته التأويلية.
فبأي معنى يمكن أن
نتكلم عن كوجيتو مناضل إذا لاحظنا أن ريكور عبر مساره الفلسفي وشكل كتابته
الفلسفية لا يحمل طابع الجنس الأدبي الساخر
(Pamphlet) ولا الفلسفة الملتزمة
كما نفهمها عادة . فذكر صداقته لأيمانويل مونييه وحركة
Esprit غير كاف لإدراجه ضمن
قائمة الفلاسفة الملتزمين . لكنه لم يتوقف أبدا في النضال من أجل الأفكار الفلسفية
التي لا تنفصل عن النقاشات العلمية والتي تهتم كذلك بمشاكل المدينة وفي خدمة مفيدة
على الدوام للسياسة ومؤسساتها والجامعة والمؤسسات القانونية وذلك من خلال كتابه
الكبير التاريخ والحقيقة (Histoire et
verite 1994) .
ماذا يعني الكوجيتو
المجروحLe Cogito blesse ؟ لمعرفة معنى هذا يجب العودة إلى الفضاءات الواسعة لفلسفة الإرادة
كما وضعت عام 1949 من خلال كتاب الإرادي واللارادي
Le volontaire et l’involontaire ، فالوصف
الظواهري لمجال الإرادي ينطلق من المشروع إلى الاقتراح ثم إلى القبول (5) . أما
الإرادي فيحمل الطابع الثلاثي للطبع ، الحياة واللاشعور التي تتركب جدليا في قواعد
التحكم والقبول والتي أخذها من مدرسة جبريل مارسيل . فريكور أثناء تفكيره عبر
مساره الفلسفي يكتشف علم اخلاق متضمن وغير مكتشف سيحمل طابع الخير لاحقا . وفلسفة
الإرادة هي التي ستعطي لذلك مفاهيم تحتية أنطولوجية وأنثروبولوجية ، وتتجلى في
اللاتناسب والذرائعية المحددة والمشكلة لثلاثة مواضيع هامة في تاريخ الحقيقة
الإنسانية (6) هي : الهشاشة (الأنثروبولوجيا ) الانتقاذ (الشر الأخلاقي) ،
اللاتكافؤ (الأنطولوجيا) والتي تشير بدورها إلى ثلاثة مراكز مكونة للذرائعية(7) .
هذه المراكز بدورها
تمثل مؤشر وسطي غير كامل بين النهائي واللانهائي
.
من خلال الخيال في خضم
وأفق محاولة إدراك القصدية اللانهائية للكتابة ، احترام تقاطع الطبع مع القصدية
اللانهائية باتجاه السعادة . ثم العاطفة التي تعبر عن أنطولوجية المعيش والتي
تجعلها في تأثر أو انسجام مع الكون بكامله.
الرمز هبة التفكير :
على مستوى
الانثروبولوجيا (الأنسنة) المتعالية تمثل فكرة الخطيئة La
Faillibilite الوجه الأساسي للكوجيتو المجروح . والثقب الذي
سيحدثه الإنسان الخطأ L’homme
faillible 1960 ورمزية الشر La symbolique du mal 1963 باتجاه فلسفة تأويلية
قد ارتبط بمحاولة إدخال في دائرة التفكير مضيق طويل من الرموز والأساطير الموجهة
من طرف الثقافات الكبرى . فإذا كان الكوجيتو المفكر يتصف بثلاثية المباشرة L’immediatete ، الشفافية
La
Transparence والوضوح
L’apodicticite فإن الكوجيتو التأويلي
(المؤول) والمجروح بالضرورة يمتاز بالتوسطيةLa mediation بضبابية L’opacite الرموز والشهادة L’attestation(8) . من هنا يدخل بول ريكور
إلى التأويل ومن بابه الضيق بالتأمل حول لغة الاعتراف بالخطأ الذي يكشف له إمكانية
وصعوبة التأويل الفلسفي لرموز الخطيئة Le peche ، التلطيخ والتأنيب La
culpabilite التي ارتبطت بالأساطير
الكبرى التي تروي كيف دخل الشر إلى الإنسانية : كالأساطير الكوسمولوجية ،
التراجيدية ، الأدمية والأورفية .(9)
هذا التأويل الذي وجد
في الرمزLe symbole مركز ثقله
وكتعبير مزدوج المعنى. هذا التصور للتاويل هو الذى سيخضعه ريكور للاختبار
البنيوى من خلال البحث عن الشروط التى جعلت من التحليل البنيوى مدرجا داخل الفلسفة
التأملية ، بهدف ترميمها اى اعادة بنائها . لهذا سيهتم بنفس الدرجة بالتحليل
النفسي كنشاط تاويلى من خلاله تتحقق عملية تحطيم اشكالية الذات كوعى وذلك من خلال
كتابه عن التاويل . محاولة حول فرويد (De L
Interpretation .Essai sur freud,)
عالم النص: فى سنوات 1960-1970 صورة " الكوجيتو
المجروح" "توجيهنا اساسا إلى موضوع صراع التأويلات التي لا يمكن إيجاد
حل لها ولا تجاوزها من خلال تأويلات الاتهام (ماركس ، نيتشه ، فرويد) وتأويلات
المعنى الزائد (هيجل ، مرسيا إلياد )(10) ففي أعماله الأخيرة سيحدث عليها ترميمات
نظرية مهمة ، ففي أواسط 1970 بالفعل
سيتحول تأويل الرموز إلى تأويل النصوص . فالاهتمام الكبير الذي يوليه ريكور
للتوسطيات النصية يفتح الطريق لأبحاث جديدة كبيرة ومنتجة أنطولوجيا وعمليا.
وباعتباره النص خطابا
(أحد ما يقول شيئا ما لشخص ما حول شئ ما )(11)
سيكتشف ريكور ثلاثة حقول فلسفية : التوسطية من خلال موضوعية إمبراطورية
الإشارات، الاعتراف بالآخر المتضمن في فعل المتكلم . والعلاقة بالعالم وبالوجود .
من النص إلى الفعل :
دافع ريكور بصرامة عن
تصور لغوي يعيد الاعتبار لقصديته المرجعية . فتحليل معطيات الصور المجازية يبين أن
اللغة الأقل مباشرة مرجعيا هي التي تقول بشكل أفضل وأحسن سر الأشياء . فالصورة
الحية تجعل ممكنا "النظر مثل"Voir
comme الذي يجد امتداده
الأنطولوجي في "الوجود مثل" والذي يجعلنا نتصور العالم كعالم مملوء(12)
لهذا فإن التحليل
السردي يتجاوز بقفزة إضافية في اكتشاف إبداعية اللغة . فدسائسLes intrigues السرد تعطي معنى إنساني
للزمن باكتمال تركيب اللاتجانس(13) فبالرغم من أن الاستعارة الحية
La metaphore vive 1975 والزمن والسرد
1980-1983 Temps et recit
l – III تمثل توأما فكريا. فإن
التحليل للوظيفة السردية يعبر عن تقدم نظري مهم . لهذا فبالرغم من أن دسائس السرد
لحكايات الخيال تعتبر أنها تاريخية فهي تعني ثلاث عمليات مرتبطة فيما بينها هي :
ما قبل التجسيد La prefiguration ـ التجسيد La configuration ـ ما بعد التجسيد
La refiguration . هذه الأخيرة هي العملية
التي تعبر أكثر عن القصدية المرجعية والبعد الأنطولوجي للحكايات (14) فإذا كان
المثل القائل الرمز هبة للتفكير (15) يسيطر على التأويل الأول فإن الجملة الصعبة
القائلة التفسير أكثر ، هو فهم أحسن (16) سيلعب دورا رئيسيا في تأويل النص . وهذا
كله يفترض جدلية مزدوجة من التفسير والفهم التي لا تفتح فقط التأويل على علوم النص
بل تؤسس طريقا جديدا لفلسفة الفعل والتي
من خلالها يحتل الفعل الإنساني وضعية وسطية بين النص والتاريخ .
الحياة الخيرة ،
المعيار الأخلاقي والحكمة العملية :
الاتصال بين المقاربات
التحليلية والظواهرية ـ التأويلية للفعل يتلقى تعبيره الأكثر نضجا في كن أنت مثل
الآخر Soi meme comme
un autre 1990 . بنشر الأسئلة المتواصلة
: من يتكلم ؟ من يفعل ؟ من موضوع التهمة الأخلاقية ؟(17)
يترك ريكور وراءه مجموع
فلاسفة الكوجيتو الذين أعطوا وضعية مؤسسة للذات المؤسسة مهملا في نفس الوقت ثرثرة
فلاسفة اللاكوجيتو Anti –
cogito ويأخذ في كل هذا كرائد
له التمييز بين وجهين للهوية هما : الهوية المتماثلة والهوية الغيرية التي تتلاحق
على مستوى الهوية السردية ، فداخل هذه الخانة ستتطور جدلية المثل والأخر وتتحول
إلى نظرية حول الفعل الأخلاقي متضمنة ثلاثة قواعد متصلة فيما بينها(18) هي :
الغائية والمؤسسة (الأخلاق التي تأخذ الرغبة في حياة خيرة محورا لها) ديونيطولوجية
(الأخلاق التي تعني سلطة المعيار وخاصية العالمية) والحذرية لأنه إلى الحكمة
العملية تعود القدرة للتفاوض حول أحسن وأفضل توازن بين عالمية وخصوصية الحالات والمواقع
الإنسانية(19) فالحكمة التراجيدية لا تتوقف عن تذكيرنا بالطابع المأسوي واللانهائي
للصراعات التي يتضمنها كل فعل إنساني(20) ، ومن هنا يرتسم أخر وجه للكوجيتو
المجروح، فالغيرية لا تضاف من الخارج للذات بل مكونة لهويته ووحدته نفسها. وهذا ما
يجعلنا بالضرورة نحدد وجوها كثيرة للسلبوية ـ الغيرية عبر التاريخ في الأخر في
الدم وصوت الضمير الأخلاقي الذي يمثل في نهاية الأمر الغيرية القصوى.
لقد وعد ريكور قراءة
بتطوير فلسفة متعالية من خلال ياسبرز التي ستكون في نفس الوقت تعبيرا شعريا عن
الإرادة الملتزمة لكنه لم يف بذلك ولاحقا
ومع مرور السنوات تحولت فلسفته إلى فلسفة بدون مطلق(21) ، فالكتابات الأخيرة تندرج
ضمن اللاإرادية
L’agnosticisme (22) التي تنصت للمفهوم عوض
ما هو إلهي ديني مطلق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق