الجمعة، 2 ديسمبر 2016

نقد العقل الخالص لإيمانويل كانط

رونالدسث    ترجمة : ماهر شفيق

     ولد إيمانويل كانط فى كوينجسبرج ( واسمها الآن كاليننجراد ) فيما كان سابقاً شرق بروسيا فى 22 ابريل 1724 . وكان الابن الرابع لصانع أطقم أفراس أستاذ فى حرفته . وإذ تعلم أولا فى المدرسة الابتدائية الملحقة بمستشفى القديس جورج ، فإنه - فى خلال فترة قصيرة - دخل كلية فردريك ، المدرسة البروتستانتية العليا ، حيث سرعان ما أبان عن أنه واعد بارز . ورغم أن كلية فردريك كانط قد اكتسبت شهرة معينة ، فإن التعليم العام الذى كانط تقدمه كان هزيلا بعض الشئ ولا يمكن القول بأن تعليم كانط قد بدأ قبل التحاقه بالجامعة فى 1740، وهى خطوة جعلها ممكنة عطف عم له موسر .
  وفى الجامعة درس كانط الكلاسيكيات والطبيعة والرياضيات ، وحين غادرها فى 1747 غداً معلما خصوصيا ، وهى مهنة تابعها حتى عام 1755، عندما حصل على شهادة الدكتوراه برسالة فلسفية طبيعية عنوانها "عن النار" . وفى احتفال خلع الدرجة عليه
ألقى حديثا باللاتينية عن "العرض الأبسط والأكثر جذرية للفلسفة" ، أثر تأثيرا كبيرا فى كل جمهوره المثقف ، وكان عاملا مهما فى كونه قد قدمت له وظيفة محاضر فى الرياضيات وعلم الطبيعة والفلسفة بالجامعة . وقد ظل محتفظا بهذه الوظيفة حتى عام 1770 عندما قبل منصب أستاذ المنطق والميتافيزيقا ، وهى وظيفة ظل يشغلها إلى أن أجبره التقدم فى السن على الاستقالة فى 1797.
كانط سنواته السبع الأخيرة - كالستين سنة التى سبقتها - منظمة بدقة كالساعة، وخالية من الأحداث الهامة بصورة مطلقة . لم يتزوج قط ، ولم يبتعد قط عن مدنيته التى مات بها أكثر من أربعين ميلا .
وعلى النقيض من هذا الوجود الخالى من الأحداث الهامة ، والذى يمكن مع بعض الحق أن ندعوه رتيبا ، كان التأثير الذى أحدثه فى علم الفلسفة الذى قدم له خدمة كبيرة بمحاولته أن يجد رابطة من الوحدة بين الواقعية ( المادية ) والمثالية ، وكلاهما قد أعلن أنصارها أنها النسق الصادق الوحيد .كان الواقعيون ينظرون إلى المادة ، والمثاليون إلى العقل ) ( الأنا ) على أنه المطلق . وكان الأولون ينظرون إلى الأنا على أنه معتمد كلية على عالم الحس ، والأخرون ينظرون إليه على أنه مستقل كلية عن عالم الحس . وكانط - على حين أنه يقر بأن الخبرة وحدها تزودنا بمادة المعرفة - يؤكد أنه توجد قبليا فى العقل أفكار معينة مستقلة عن الخبرة ومستعدة لأن تطبق على المادة التى تقدمها الخبرة .
إن الفقرة السابقة ، وإن تكن بسيطة من حيث التعبير الفلسفي ، كافية - رغم ذلك - لكى ترى الدارس غير المتخصص فى الفلسفة أن الفلسفة - ككل العلوم - قد اكتسبت رطانتها الخاصة  التى لا يستطيع سوى المدربين أن يفهموها بسهولة . ولو كان لنا أن نبحث عن مثل بارز حقيقة لعدم التواصل ، فلا يكاد يوجد ما هو أفضل من مثل الفلسفة . هاهنا ، على نحو ربما كان أهم مما هو الشأن فى أى علم أخر ، قد أوجد العالم حاجزا من المصطلحات به يعبر عن أفكار وخواطر عن شئون تؤثر فينا جميعاً كأصول المعرفة والحكمة ، ولكنها على نحو فعال تقطع صلة الرجل العادى بالمفكر ، وهو الرجل الذى - عن طريق تسميته ذاته فليسوفا - واضح أنه ينظر إلى ذاته - كما تتضمن الكلمة - على أنه ينبوع الحكمة .
ولسوء الحظ ، كما هو الشأن مع باقى العلوم ، فإن الراغب فى تفسير الفلسفة يجد ذاته  وقد زج به فى تعقيدات تعبير لا تحل تقريبا ، إن لم يستخدم بعضا من الرطانة أو المصطلحات الخاصة التى بها ينقل الفلاسفة - بضرب من الاختزال - أفكارهم الخاصة لزملائهم فى المهنة . وفى هذه الحالة الخاصة ، حيث يتعين على الموضوع أن يفسر على أبسط الأنحاء الممكنة نظريات فلسفية وضعت منشئها مع الفلاسفة الأولمبين أفلاطون وأرسطو وسلالتهم الحقة عبر العصور ، فإنه من أجل تجنب هذه الورطة ، ننوى أن نقدم لهذا الموضوع المحدد بتفسير عام وجيز لأهداف الفلسفة وتعريف بضعة مصطلحات  أساسية هى الحد الأولى اللازم لتجنب التعقيدات
ما هو هدف الفلسفة ؟ تسعى الفلسفة إلى تنسيق النتائج العامة للفكر والعلوم الفردية  فى نظرة موحدة إلى العالم وإلى الحياة ، وإلى أت تفحص الافتراضات المسبقة لكل العلوم ، بقدر ما تكمن داخل الإنسان ذاته . ومنذ أزمنة سحيقه قد وجد رجال اجتذبهم القيام  بمثل هذه الأبحاث ، وإن أبحاثا جديدة ليضطلع بها على الدوام 0 وكثير منها – لسبب أو لآخر – لا ينتهى إلى نتيجة قط ، لأنه كما كتب فيلسوف ألمانى آخر عظيم هو شوينهور :  " إنما الفلسفة درب عال بين جبال الألب . ومدخلها الوحيد درب منحدر عبر أحجار  حادة وأشواك نافذة . إنه درب متوحد وكلما توقل فيه المرء مصعدا، غدا أكثر جدبا . وكل ما يتابعه لا يجب  أن يرهب شيئا ، وإنما – إذ يهجر كل شئ يرتاد طريقه عبر الجليد البارد .
وتعالج الفلسفة – قبل كل شئ – ثلاث مشكلات رئيسية هى : الحق والخير والجمال،  فبالنظر إلى الحق تسعى إلى الأجابة عن هذه الاسئلة : هل يوجد الإدراك الحقيقى ( أو فعل أو ملكة المعرفة أو قسم من المعرفة ) ؟ وكيف يتوصل إلى الإدراك الصادق الصائب عالميا ؟ وأين تقع حدوده ؟ إنها بالنظر إلى الخير تسأل : ما المبادئ التى تحكم السلوك الطيب الصائب خلقيا؟ وما الخطوط الهادية للسلوك الإنسانى ؟ وبأى المعايير تقيم الأخلاق ؟ على حين  أنها فى صدر الجمال تسأل : أثمة قوانين يتعين على موضوعات الطبيعة والفن أن تستوفيها لكى تكون قيمة جماليا ، أى جملية ؟ وما طبيعة الجميل الاستاطيقى ؟
قام كانط بتحليل مفصل لكل هذه المشكلات ، وبذلك أنشأ فلسفة جديدة . وأول أعمال ثلاثة عظيمة يفحص فيها طبيعة المعرفة البشرية وحدودها ومداها هى "نقد العقل الخالص".
إن نمو كانط العقلى ، الذى يمكن أن يقال إنه بدأ فى 1740 ، كان فى البداية – كما هو طبيعى – معتمدا على مذاهب سائر الفلاسفة . وفيما بين 1740 و 1760 انجذب أساسا إلى عقيدة العصر المقبولة عامة كما شرحتها أعمال الفلاسفة لا ينبتز وولف ، وإليهما ضم فلسفة نيوتن الطبيعية . ومن 1760 إلى 1770 ركز على فكر الفلاسفة الإنجليز ، خاصة لوك وهيوم، رغم أنه عندما رأى نقاط ضعفهم جاوز فلسفتهم التجريبية ، أى فلسفتهم المشتقة من خبرتهم الخاصة . وفى المقالات القصيرة العديدة التى نشرها أثناء هذه الفترة ، من الواضح أنه قد انجذب بعمق إلى العقيدة الفلسفية المعاصرة المعروفة باسم روح التنوير .
كان ثمة رأيان متصارعان فى أصل معرفتنا وإدراكنا فى هذه الفترة . أولها هو تجريبية جون لوك الذى كان يعتقد أن كل معرفة وكل إدراك ينبعان من الخبرة ، أى أنه ليس ثمة أفكار أو لمحات فطرية . والفهم لا يتضمن شيئا لم يكن سابقا فى الحواس ، ولكنه يعمل على هذه الانطباعات المكتسبة خلال الحواس ويقارن ويفرض ويجمع .
وكان الرأى الثانى هو عقلانية ديكارت الذى كان يعتقد أن كل إدراك نابع من العقل الإنسانى أى من الفهم . وعلى هذا فإن من الممكن أن نكون كل الحقائق من الفكر الخالص مستقلا عن الخبرة . وقد أفضى التضاد الذى تمثله هاتان النظريتان بالتطور الفلسفي إلى طريق مسدود لاح أنه لا مخرج منه ، حيث لم تلح الحلول التى تقدمها التجريبية والعقلانية مرضية تماما . ولمدة عشر سنوات كرس كانط كل قواه العقلية لفحص مشكلة الإدراك . وعند ذلك ، فى عام 1781 ، أخرج نتائج أفكاره ونتائجه فى كتاب " نقد العقل الخالص". ( وبـ " العقل " فى هذا السياق ، يعنى كانط " ملكة الإدراك " مستخدما كلمة " إدراك " بالمعنى الذى عرفناه سابقا على أنه " فعل أو ملكة المعرفة " ) .
إن السؤال الذى تنبغى الإجابة عليه : أى دور تلعبه الخبرة والفهم ( " العقل " بالمعنى الكانطى ) فى مدركاتنا ؟ أو بمعنى آخر، ما هى الادراكات ؟
يجيب كانط بأن الإدراك حكم ضرورى أى حكم يقينى وراء كل شك . وكل الإدراك أنما يعبر عنه فى شكل أحكام فمثلا : الماء ساخن ، الصندوق ثقيل ، الليل ثقيل ، وما إلى ذلك . لفظيا تنطوى الأحكام فى المحمولات .
ومهما يكن من أمر ، فإن كل الأحكام السابقة مشتقة من الخبرة ، وبالتالى فهى ليست لازمة ولا كلية . فعندما تقول : " هذا الماء ساخن " ينبغى عليك حقيقة  أن تقول: " هذا الماء يلوح لى أنه ساخن " ، لأن ما قد تجده ساخنا قد يجده شخص آخر باردا . وعلى ذلك فإن هذه الأحكام قائمة على الشعور الشخصي ( الذاتى ) وهى بالتالى ليست كلية ولا لازمة ، وإنما عارضة حيث أن الليل ليس دائما أسود ، ولا الماء دائما ساخن .
إن الأحكام الكلية اللازمة – أى الأحكام التى يعترف بأنها صادقة وصائبة عند كل امرئ فى كل الأوقات – موجودة فى الفيزياء والرياضيات و، فى المحل الأول ، فى الهندسة .
والقول بأنه عندما يلتقى خط مستقيم بخط آخر فإن الزوايا المتكونة نتيجة لذلك تعادل زاويتين قائمتين مثل لهذا النوع من الأحكام ، ما دمنا نعترف بأنه صائب دون إشارة إلى خبرة، كليا "ومن البداية" (قبليا) . نحن نعرف على وجه اليقين ، مقدما ، ان هذه القضية وكل القضايا المشابهة ذات صحية كلية ، وهى تصل إلى هذا لأنها من خلق ملكتنا فى الحدس (وبالحدس نعتنى شيئا مدركا خلال الحواس ، دون استدلال ) .
ومن هذا يمكن أن نحتج على نحو ناجح بأن الهندسة تثبت أن إدراك العالم لا يحتاج بالضرورة إلى أن يكون نتاجا للخبرة وعمل الحواس . فمن الحواس نحصل يقينا على حدوس أو أفكار مباشرة ولكن هذه – فى حد ذاتها – خليقة أن تكون أشياء ميتة عمياء ، أذهاننا من حيث علاقتها بها سلبية تماما . وإنها تشتمل على المواد الخام للمدركات ولكنها ، فى ذاتها ، لا تشكل مدركات . وهذه الحدوس العمياء تغدو مدركات صادقة من خلال النشاط المنتج للعقل ، الذى – عن طريق الفكر – يخلق مفهومات .
إن كل علم يعمل بالمفهومات . ولكن المفهومات من نتاج العقل الإنسانى والفكر لا توجد فى الواقع . إن مفهوم " دائرة " منطقة مسطحة يحف بها خط واحد منحنى مستمر . والدائرة التى تمتلك هذه الخصائص وحدها لا تتصور ، لأنها لا توجد إلا بالفكر وللفكر .
إن الشخص غير المدرب على الفلسفة أو المفتقر إلى الملكة النقدية يتخيل أن العالم ومحتوياته هى كما يرى ويخبر . ويبين كانط اننا لا نعرف على الإطلاق ماهية الموضوع أو "الشيء فى ذاته" ، وإنما نعرف فقط الطريقة التى يبدو بها لنا على أساس من القوانين التى تحكم تكويننا العقلى وهى موجودة قبليا (من البداية) وإليها تضاف الخبرات بعديا (وكلمة "قبليا " هنا لا تتضمن أن الإنسان يولد بها . فالإدراكات القبلية هى تلك التى تخرج إلى حيز الوجود مستقلة عن الخبرة ، على حين أن الإدراكات البعدية إدراكات يرجع مصدرها إلى الخبرة) .
يقول كانط : " لا يمكن أن يشك فى أن كل إدراك لنا يبدأ بالخبرة ، وإلا فكيف يمكن استشارة ملكة الإدراك إلى العمل . ومهما يكن من أمر ، فإن القول بأن كل إدراك لنا يبدأ بـ الخبرة لا يتضمن أنه ينشأ من الخبرة " .
وهكذا ينبع الإدراك من مصدرين يعملان متضامنين – من عمل الحواس والفهم ( العقل بالمعنى الكانطى ) . فالموضوعات إنما تقدمها لنا الحواس ويفكر فيها تصوريا الفهم . وبدون الحواس لا نعى أى موضوع ، غير أنه بدون الفهم لا يكون لدينا تصور له . ولكل حدوسنا طبيعة مزدوجة : فالموضوعات يلوح انها خارج أنفسنا وأنها متعايشة خارجية فى المكان . ويلوح أيضا أنها موجودة داخل عقولنا ، إما فى آن واحد أو متتابعة ، وهكذا فهى فى الزمان . وعلى هذا فإن المكان والزمان هما الشكلان اللذان ترتبط بهما كل حدوسنا . ولما كانط أفكارا مرتبطة مباشرة بالموضوعات ، فإنهما فى ذاتهما حدوس .
والسبب فى أن كل حدوسنا مرتبطة بهذين الشكلين يكمن فى الطريقة التى تتلقى بها ملكة الخيال عندنا انطباع الموضوعات . وعلى هذا فإن الزمان والمكان حدوس خالصة ، ماثلة قبليا ومتقدمة على أى إحساس حقيقى ، كامنة فى ملكة الخيال فى أرواحنا ، وهى على ذلك ليست إلا أفكار لازمة قبليا ، تكمن تحت كل الحدوس .
إن الفكرة القائلة بأن المكان مشتق قبليا ، وليس من الخبرة ، واضحة من الحقيقة الماثلة فى أن المكان لا متناه ، وهو ما لا يستطيع أحد لأن يخبره أو يثبته . ليس المكان مفهوما كليا لعلاقة الأشياء عموما ، وإنما هو حدس خالص ، مستمد من الفكر ، ونمط لازم للحدس قبليا . وليس الزمن مفهوما مشتقا من الخبرة . وإنه ليس سوى شكل الحدس بأنفسنا ووضعنا الداخلى . وهو فكرة لازمة كامنة وراء كل الحدوس. وكما هو الشأن مع المكان ، فإن من الممكن أن نتصور غياب الظواهر من الزمان ، ولكن ليس غياب الزمان ذاته ، وهو بالتالى معطى قبليا .
إن الفكرة الأساسية التى يقربها كانط من الأذهان باتساق فى كتاب "نقد العقل الخالص" هى أن عقولنا كائنات عضوية حية ، عاملة على نحو نشط ، تستمد مادة عملها من الخارج ، خلال الحواس وخلال الخبرات ، ولكنها تشكل هذه المادة طبقا لقوانينها الخاصة وهكذا تشكل إدراكاتها بنفسها .
وهو يبين أن العمل النشط لأذهاننا ذاتها هو الذى يقيم هذه القوانين على أساس العدد الكبير من الانطباعات الخارجية . والنظام الذى يسود العالم ، ويقدم على مبادئ العلة والمعلول، يضرب بأسسه فى تفكيرنا الذى ، إذ ينظم إدراكاتنا ، يفضى إلى العلوم . والمبدأ العام للعلوم ناشئ من قوانين الفكر ، ومن تركيب أذهاننا .
ومهما يكن من أمر فإن العقل الإنسانى لا يقنع بأن يعطى للانطباعات التى تصله خلال الحواس مكانها الملائم فى المكان – الزمان . إن تنمية الإدراك الموحد ، من قلب الفوضى العمانية للاحساسات  و الإدراكات ، تتطلب من هذه الأخيرة أن ترتبط من طريق المفهومات(مركب) . وكل الانطباعات يحكم عليها بقواعد محددة تفترض صحتها قبليا ، مستقلة عن الخبرة تماماً . ويعرف كانط اثنى عشرا من هذه المفهومات الرابطة أو المقولات مرتبا إياها تحت أربعة رءوس :
الكم الكيف الحافظة الجهة
الوحدة الواقع الميراث والجوهر الامكان والاستحالة
الكثرة التأكيد العلية والاعتماء الوجود والعدم
المجموع النفى أو الحد الاتصال أوالتبادل بين الإيجابى والسلبى الضرورة والامكان
ولا تنطبق هذه المقولات إلا على الظواهر  داخل نطاق وعينا . وعلى هذا فنحن الذين نصف القوانين للطبيعة وليست الطبيعة هى التى تمنحنا إياها . إن فهمنا البناء يشكل العالم من المجموع الكبير للانطباعات ، حسب قوانينه الفكرية الخاصة . ومن هنا فإن صورة العالم لدينا ليست صورة للواقع تراسل الأصل بالضبط . وليس بوسعنا أن نعرف قط ولا ان نتعلم قط طبيعة العالم " فى ذاته " .
ومع ذلك فلابد أن تكون هناك صلة بين الحساسية والفهم . ومن المحقق أن هذا أمر قد أثبتته إمكانية الخبرة فى العلوم الطبيعية . ولما كانط نتائج التأمل والحساب يمكن اختبارها عمليا بالتجربة ، فلابد أن تكون هناك أرض مشتركة بين ما هو حسى والفهم .
بيد أن ثمة أيضا إدراكات ( كلية ولازمة ) للأشياء التى تقع فوق نطاق الحس . فعلى سبيل المثال ، هل يمكن أن نثبت وجود الله أم أن هذه مسألة اعتقاد فقط ؟
من الحق أن مثل هذه الأشياء يمكن التفكير فيها ولكن لا يمكن جعلها معقولة . فالأشياء التى فوق الحس لا تعدو أن تكون قابلة للتفكير فيها أو " قابلة للفهم " ومع ذلك فلابد أن ثمة شيئا باطنا في بنية العقل الإنسانى  يفضى إلى الانشغال المستمر فى اللاهوت كما فى الفلسفة بالأشياء التى فوق الحس . وعند كانط أن العقل – إذ يعترف بالصلة بين الظواهر الخارجية – يستمد نتيجة مؤداها أن أشياء العالم الخارجى لابد أن تشكل ايضاً كلاً مطلقا وتكون لها علة مطلقة . وهذا التأمل يفضى إلى فكرة الكون . بيد ان العالم الداخلى والخارجى – النفس والطبيعة – يؤديان معا إلى افتراض أساس نهائى مشترك ، يشمل كلاً منهما . ويؤدى هذا إلى فكرة الله الذى يمسك ويوحد كل شئ .
وفكرة الله نابعة بالمثل من حاجة للعقل . ليست هناك أدلة عقلية على وجود الله .
والله فكرة مفيدة ولازمة يتطلب العقل التشبث بها . ونحن مضطرون إلى أن نؤمن بالله وبالخلود لأسباب عملية ، لأنه ما من علم ولا ذكاء سينجيان قط فى الكشف عن عدم قابلية هذه الأفكار لأن يذاد عنها . إن العقل يدفعنا إلى أن نتصرف كما لو كان الله والخلود حقائق .
وإنما عند هذه النقطة يخطو العقل العملي . وفي عمله التالى " نقد العقل العملي" يذهب كانط إلى أنه إذا كان العقل النظري ، في مسألة المعرفة ، شرطيا تتحكم فيه الخبرة فإن العقل العملي  يتجاوز الخبرة أو يمضى إلى ما وراءها . إن حقائق معينة كان العقل العملي يفكرها أو كان عاجزا عن فهمها إنما تقررها مبادئ العقل العملى . و " نقد الحكم " ، ثالث عمل عظيم، يعالج الجليل والجميل ، ونظام الطبيعة ( الأحكام الغائية ) . وهذه الأحكام بمثابة الحد الأوسط بين العقل الخالص والعملى .
أدخل كانط فترة جديدة فى الفكر الفلسفى . وليس بوسع أى امرئ مهتم بالفلسفة أن يتجاهل نظرياته التى مازال نموها مستمرا حتى اليوم . ومن الأمور ذات الأهمية الخاصة تقيمه العام للواجبات الخلقية وتأكيده لكرامة الإنسان . ومهما يكن من أمر ، فإنه كان أكثر من فيلسوف عظيم ، لقد كان شخصية خلقية بحق ، تنبع معتقداته من لب شخصيته المخلصة والنبيلة . 

هناك تعليق واحد:

سارتر بين الوجوديين