جمال محمد أحمد سليمان
انتهى هيدجر إلى أن الدين والعلوم والفلسفة قد عجزت جميعها عن الإحاطة بماهية الزمان ذاته، ومن ثم كان عليه هو أن يقوم بهذه المهمة.لقد اعتبر هيدجر الزمان متناهياً؛ إذ يقول: "إن الزمان أصلاً متناهٍ". (1) وبما أن الزمان كذلك فإن الموجود الذى يمكنه أن يكشف عن تناهى الزمان هو ذاته الموجود الذى يكشف وجوده عن الوجود، أى الموجود الإنساني.
وبناءً على ذلك فقد فهم هيدجر الزمان "بوصفه الوجود الذى يمكن أن يوجد فى كلية الموجود الإنساني"(2) ؛ فالزمان الممكن من وجهة نظر هيدجر هو الزمان الزمانى Zeitlich، أو هو تزمن الزمانية؛ لأن "الزمان أصلاً هو تزمن من الزمانية"(3)، وهذا التزمن الذى يكون للزمان فى الزمانية "لا يأتى من توالى التخارجات الزمانية لكنه يتحقق فى أصالته الداخلية" (4) ، وتزمن الزمانية هذا هو الذى يحقق وجود الموجود فى العالم؛ فـ " بقدر ما يتزمن الموجود الإنساني نفسه يكون فى العالم".(5) ، فماذا عساها تكون هذه الزمانية، وعلى أى نحو تتزمن؟
قبل الإجابة على هذا السؤال ينبغي أن نتذكر أن هيدجر قد قسم كتابه (الوجود والزمان) إلى قسمين: تناول فى القسم الأول تحليل حالات الموجود الإنساني الثلاث؛ الوقائعية والتواجدية والسقوط، ويشكل الهم وحدة أولية لهذه الحالات الثلاث.
لكن بما أن غاية بحث حالات الموجود الإنساني هى الكشف عن الوجود القارّ فى وجود هذا الموجود "فإذا كان ينبغي لتأويل وجود الموجود الإنساني بوصفه أساساً لتعميق السؤال الأنطولوجي الأساسي (أى السؤال عن الوجود) أن يصبح أصيلاً، فيجب عليه قبل ذلك أن يحضر وجود الموجود الإنساني فى خصوصيته الممكنة وفى كلية مكونه الأساسي للنور"(6)؛ فإن هذه الغاية لا يمكن القيام بها على الوجه الأكمل إلا من خلال الكشف عن زمانية الموجود الإنساني، وكان هذا هو موضوع القسم الثاني من كتاب (الوجود والزمان). هذه الزمانية "التى ينبغى أن تؤكد فى كل البنيات الماهوية للحالات الأساسية للموجود الإنساني".(1)
وإذا ما حاولنا الكشف عن الزمانية داخل حالات الموجود الإنساني فسنكتشف أن هذه الزمانية لا يقتصر دورها فقط على أنها تجعل حالات وجود هذا الموجود وحدة واحدة، أو تكشف عن خصوصيته الشديدة، بل إنها أيضاً تبدو كأفق يمكننا أن نطل منه على وجود هذا الموجود؛ "فالزمانية … تملك شيئاً ما مثل الأفق".(2) وإلى الزمانية أيضاً تعزى "الإمكانية الأساسية للتواجد الأصيل وغير الأصيل"(3)، وهى أخيراً تكشف عن أن حياة الموجود الإنساني تمتد بين حدى الميلاد والموت، أى أنها بمثابة الأساس الماهوى لتاريخية الموجود الإنساني.
وإذا أردنا أن نعرف ماهية هذه الزمانية فإن علينا أولاً أن نتخلى عن الفهم التقليدى للزمان، والذى يتصور أن الزمان ما هو إلا توالٍ محض للآنات دون بداية أو نهاية (إنه) يسطّح Nivelliert الخاصية التجاذبية للزمانية الأصيلة".(4)
كما ينبغي علينا أيضاً أن " نستبعد كل المعانى التى يحتشد بها مفهوم الزمان المبتذل عن المستقبل والماضى Vergangenheit ( * ) والحاضر"(5)؛ لأنها فى حقيقة الأمر تتأسس على التفرقة الميتافيزيقية بين الذاتى والموضوعى، وكم تغلغلت هذه الثنائية حتى أحالت الزمان إلى سيف ماضٍ حين تصورته على أنه عبارة عن توالٍ من الآنات المتعاقبة فى اتجاه واحد.
فإذا ما استبعدنا كل ذلك فستتبدى لنا الزمانية ذاتها، والتى ماهى إلا تزمن ماكان والحاضر والمستقبل، وخاصيتها التى تميزها عن التصور الشائع للزمان هى أن الزمانية ماهوية تجاذبية Ektatisch ؛ فهو يسمى الظواهر التى تصف المستقبل وما كان والحاضر تجاذبية الزمانية"، أى أنها تجذب ما كان والحاضر والمستقبل فى وحدة واحدة، ومن ثم لا يكون هناك ماضٍ منقضٍ ومستقبل غائب وحاضر مستغرق فيه بوصفه الزمان الكائن على الأصالة وما عداه لا وجود له، إما لأنه لم يعد موجوداً (الماضى)، أو لأنه لم يأت بعد (المستقبل) لكن "وحدة التخطيطات الأفقية للمستقبل وما كان والحاضر تتأسس فى الوحدة التجاذبية للزمانية"فكيف تتم هذه التجاذبية ؟ ومن أى طرف تبدأ؟
يقول جونتر فيجل :" إن التجاذب يعني ـ بما أنه تجاذب شيئين ـ القدرة على ترك شيء ما ، أو تجاوز شيء ما ، وهذا يعني فيما يتعلق بظواهر الزمان أن كلا منهما يكون فقط عندما يكون خارج ذاته ، وبحيث يلتف مع الظواهر الأخرى ، ولا يكون بدون هذه الظواهر الأخرى".(3) ويرى هيدجر أن نقطة البدء في الزمانية هي الحاضر؛ فالزمانية " تزمن نفسها أصلاً من المستقبل"(4)؛ فالمستقبل هو ما له الصدارة في مفهوم الزمانية وليس الحاضر كما كان الحال فى التصور التلقيدي لفهم الزمان. ومن المستقبل "ينبثق كل ما ينبثق، ليس بوصفه الأفق الملقي هناك،والذى منه تتدحرج الآنات آناً تلوالآخر.ولكن الـ "ماكان" Die gewesenheit ينبثق من المستقبل بطريقة أكيدة".(5) وفى انبثاقه من المستقبل يزمن نفسه معه، إنه يتواجد بشكل ما فى المستقبل وبقدر ما يحمل من عمق الأصالة؛ يمكنه أن يقيم في الحاضر ليس باعتباره اللحظة المضيئة الوحيدة،وإنما من حيث قدرته على التعاصر مع الحاضر والامتداد إلى المستقبل من حيث إن استشراف المستقبل يتم على أساس من الماضي والحاضر.
وينبثق الحاضر هو الآخر من المستقبل شأنه شأن "ماكان"، وذلك حين يستشرف المستقبل، ولا يبقي فى انتظار ما لا يجيء أبداً ولو انتظر الدهر كله، بل إن الحاضر ينبثق كذلك من الـ "ماكان" بما أنه ما هو إلا استشرافه الذى تحقق فأصبح حاضراً "ومثلما ينبثق الحاضر فى وحدة تزمن الزمانية من المستقبل وما كان كذلك فإن الحاضر يزمن نفسه بأصالة مماثلة مع أفق المستقبل وما كان".(1)
وحين يتزمن ماكان والحاضر والمستقبل، أى حينما يصبح ماكان واقفاً فى الحاضر وقادراً على الوقوف فى المستقبل؛ وحينما يصبح الحاضر واعياً بماضيه ومبوّئاً إياه المكان اللائق فى ذاكرته، وعندما لا يغدو المستقبل هو ذلك الذى لم يأت بعد، وإنما هو مانلتقي به في التصميم المستبق الذي يتبدى في المشروع؛ حينئذ تتحقق الوحدة الأصيلة للزمانية التى ليست مجرد تجميع صورى لا علاقة بين أجزائه سوى على مستوى الفكر؛ لأن "الزمانية لا تجمع نفسها من المستقبل وماكان والحاضر فى مجرى الزمان Mitzeit"(2)، وإنما هى تلاحم أصيل ماهيته الانبثاق والتزمن مع بعضها البعض.
وإذا كانت الزمانية تزمن نفسها من المستقبل فإن الزمانية " لا تزمن نفسها باستمرار من المستقبل الأصيل. وعدم الاستمرارية لا يعنى أن الزمانية يعوزها المستقبل فى بعض الأحيان، ولكن التزمن هو الذى يمكن أن يتحور"(3)، أى أن الزمانية ذاتها لا تتحور، وإنما هى أفق هذا التزمن، وإن كان من الصحيح كذلك أنها "تزمن نفسها بطرق ممكنة".(4) فهى إذن تتزمن عبر الإمكان الذى يتميز بالثراء الذى لا ينضب، ولكنها فى نفس الوقت لا تتحور لأن "الزمانية بشكل عام ليست موجوداً"(5) ما بين الموجودات التى تخضع للتغير والتحور.
غير أن الزمانية بما هي تزمن الزمان المتناهي متخارجة فهي متناهية ؛ لأن الزمانية المتخارجة بالرغم من أنها تكوّن الزمان الأصيل فهي ليست إلا زمانية متناهية.(6) والزمانية من حيث هى التخارج الأصيل فى ذاته ولأجل ذاته Das ursprunglich Außber sich an und für-sich-selbst"(7) ، وهى أخيراً إطار ما يوحد ظواهر الزمان الثلاث "وهذا الشكل Der gestalt بوصفه ظاهرة موحدة للحاضر وماكان والمستقبل نسميه الزمانية".(8
ويعتبر هيدجر أن هذه الإمكانيات المتعددة التى يعزوها إلى الزمانية هى التى "تجعل من الممكن تعدد حالات وجود الموجود الإنساني".(1) لكنها فى نفس الوقت هى التى تؤلف الوحدة الأصيلة للوقائعية والسقوط والتواجد وتجعلها ممكنة؛ لأنها المعنى الأنطولوجي للهم الذى يعد المؤلف الأوّلى لوحدة حالات الموجود الإنساني، ومن ثم فإن "الوحدة الأصلية لبنية الهم تقع فى الزمانية"(2)
وبناءً على ذلك تكون الزمانية هى الأصل الحقيقي الذى تقوم عليه كل حالات الموجود الإنساني؛ " فما هو سابق لنفسه Das sich-vorweg يتأسس فى المستقبل، وما هو بالفعل schon وجود (فى) … يتبدى فى "ما كان"، والوجود (عند) … يصبح ممكناً فى الحاضر".(3)
بيد أننا لا يجب أن نفهم (قبل vor) الواردة فى كلمة سبق Vorweg، وكلمة بالفعل schon على نحو ما تفهم بالمعنى الدارج لفهم الزمان؛ لأن " قبل لا تعنى السابق Das Vorher بمعنى أنه آن ليس بعد Noch- Nicht – Jetzt. وبالمثل فإن المتأخر لا يعنى ما هو "بالفعل" ما لم يعد آناً، لكنه يعنى متقدماً. وإذا كانت تعبيرات "متقدم" و"بالفعل" لها هذا المعنى الزمانى Zeithafte، والذى يمكنها أيضاً أن تملكه، عندئذ يمكن أن نقول عن زمانية الهم كما لو كانت شيئاً ما، والذى هو متقدم ومتأخر، ليس بعد، ولم يعد".(4)
وتتعمق آفاق الزمانية فى الموجود الإنساني بحيث تبدو أفقاً له فى كل منحى من مناحى وجوده؛ "فأفق الزمانية الكلية يحدد ما عليه Woraufhin ينفتح الموجود المتواجد الوقائعي. ومع الوجود - هناك Da-sein الوقائعي تكون قدرة وجود فى كل تشريع فى أفق المستقبل، وفى أفق الـ "ما كان" ينفتح الوجود بالفعل، وفى أفق الحاضر يتكشف الاهتمام".(1)
ومن ثم تتعاصر الوحدة التجاذبية للزمانية مع وحدة حالات الموجود الإنساني؛ بحيث يتعذر الفصل بينهما، لأن حقيقة الزمانية هى الموجود الإنساني؛ فالموجود الإنساني "ليس هو الزمان ولكنه الزمانية".(2)
لكن إذا كان هذا النحو الذى تؤلف به الزمانية كلية حالات الموجود الإنساني، فعلى أى نحو تؤلف الزمانية الكلية الخاصة للموجود الإنساني وأصالته وتاريخه؟ لكى يتسنى لنا الإجابة عن هذا السؤال ينبغي علينا أن نتناول وجود الموجود الإنساني بوصفه وجوداً للموت، والزمانية الأصيلة وغير الأصيلة، والزمانية التاريخية.
أ – الموجود الإنساني بوصفه وجوداً للموت Sein zum tode :
إن موت الموجود الإنساني هو الإمكانية القصوى التى تستحيل معها كل إمكانية أخرى. ومن ثم فإن الموت يكشف عن كلية هذا الموجود بوصفه كُلاً. لكن الكلية التى يفصح عنها الموت هى الكلية المفقودة التى لم تعد قدرة وجود "إن الوصول إلى كلية الموجود الإنساني فى الموت هو فى نفس الوقت فقد للوجود هناك ".(3) لكن هذا الفقد "الذى يفض به الموت إمكانيات الموجود الإنساني هو الذى يجعل من الممكن الإحاطة الأنطولوجية بكلية الموجود"(4) فعلى أى نحو تكون هذه الكلية التى يكشف عنها الموت بالنسبة للموجود الإنساني؟
إن الموت يكشف عن كلية الموجود الإنساني بوصفه" وجودا لم يعد، أى لم يعد بعد – فى العالم ".لكن هذا لا يعنى بأى حال من الأحوال أن الموت يعنى الخروج من العالم، بل يعنى فقد الوجود – فى – العالم؛ فطالما ظل الموجود الإنساني وجوداً فى العالم فإنه يظل منفتحاً على إمكانيات الوجود الثري، والتى يحققها بقدر ما يستبق ويشرع لوجوده، ولا يتوقف تشريعه لنفسه واستباقه للمصمم إلا بموته الذى فيه وحده تتبدى كلية الموجود بما هو فقد. لكن الفقد بما أنه فقد لما كان يظل أيضاً على علاقة ما بالموجود من حيث إنه الوجود الذى فقد.
إننا يمكن أن نجد فى موت الآخرين معرفة أولية للموت من حيث إن الموجود الإنساني الميت يملك نفس نمط وجود الموجود.لكننا " لا نتعرف على موت Das streben الآخرين بالمعنى الحقيقي، بل إننا على أقصى تقدير نكون بالقرب منهم dabei"(1)؛ لأن معاناة الميت موته ليست بأى شكل من الأشكال شبيهة بمعاناة أهله الذين يعانون فقد وجوده، فشتان بين أن تعانى الموت وأن يموت لك أحد؛ لأن الموت هو دائماً الإمكانية "بالغة الخصوصية من حيث إنه يخصنى أنا"، وهو إمكانية لا يملك موجود كائناً ما كان أن يفضها عنى. صحيح أن بإمكان المرء أن يجود بنفسه فداءً للآخرين أو دفاعاً عن الوطن، غير أن هذا يعنى دائماً أن يضحى بنفسه من أجل الآخرين، لكن "لاأحد يمكنه أن يدرأ الموت Streben abnehmmen عن الآخرين"(3)، وذلك لسبب بسيط هو أن الموت إمكانية تقبع فى الموجود الإنساني نفسه وليست شيئاً يأتيه من الخارج هذا يعنى أن الموت "تكويني بالنسبة لوجود الموجود الإنساني"(4)، بمعنى أن الوجود الإنساني لا يلتقي بالموت فى نهاية حياته، وإنما هو يموت فى كل لحظة تسقط من لحظات حياته، إنه على وجه الدقة "يحيا موتاً"، والموت هو الذى يكون وجوده، بل هو حبل الوجود؛ إن "الموت صرخة اللا شيء … وبما أنه صرخة اللاشيء فهو حبل الوجود".(5) فبأى معنى يكون الموت حبل الوجود؟ هل هو ما يثبت الوجود ويجعله راسياً أم يكون الحبل تعبيراً مجازياً عن الإمكانية التى لا تنفض؟ على أية حال يظل الموت إمكانية فريدة لا تخص إلا الموجود الإنساني، أما الكائنات الأخرى فإنها تنفق Verenden.
لكن حياة التوسط التى يحياها الناس تلغى كل خصوصية للموت "إن الناس يقولون إن الموت آت يقيناً، لكنه لم يأت بعد".ومن ثم فهم يمارسون الهروب من مواجهة الموت، وينظرون إليه على أنه حدث ملقى فى نهاية حياة الموجود الإنساني. وكى يمارسوا الخداع على أنفسهم وعلى بعضهم البعض ينظرون إلى الموت على أنه حادث يصيب الآخرين. وعلى أفضل حال يتصورون أنه قدر محدد ينتظرنا فى نهاية الطريق، ولكنهم فى الغالب الأعم يعتبرونها حادثاً مجهولاً وهم بذلك دون أن يشعروا ينفون الطابع الزمانى للموجود الإنساني الذى يكشف عن الموت بجلاء سواءً من حيث أنه يكشف عن كونه إمكانية لا يمكن فيه التبديل، ومن ثم يتميز بالخصوصية الشديدة أو من حيث إن كل موجود له زمانه الذى يجيء فيه ويذهب بقدر ما يسمح له الزمان بالإقامة فيه. وإذا كان بسكال يقول فى إحدى عباراته: "إن الناس حين عجزوا عن أن يعالجوا الموت والبؤس والجهل قرروا لكى يعيشوا سعداء ألا يفكروا فيهم على الإطلاق". فهل حقاً يكون المرء سعيداً بنسيان الموت؟ وهل يشكل هذا نمط الوجود الأصيل ؟ أم أنه وجود غير أصيل؟ وهل بإمكان الزمانية أن تكشف عن الأصالة وعدم الأصالة؟ يستدعى هذا بالضرورة معرفة الزمانية الأصيلة.
ب – تزمن الزمانية الأصيل وغير الأصيل:
تتحدد الأصالة وعدم الأصالة عند هيدجر على أساس من المستقبل. والمستقبل يتزمن على نحو أصيل بوصفه استباقاً "والاستباق فى إمكانيته القصوى والأكثر خصوصية هو العودة Zurückkommen الواعية إلى ماكان Gewesen الأكثر خصوصية، والموجود الإنساني يمكنه أن يكون (ماكان) أصيلاً بقدر ما يكون مستقبلياً Zukünftig".(4) أى أن الاستباق، أو على نحو أدق التصميم المستبق vorlaufende entschlossenheit يفتح الموجود الإنساني على وجوده، وهذا الانفتاح على الوجود الملقى هناك لا يكون انفتاحاً أصيلاً إلا حين ينفتح على الماضي، ولا يعنى هذا الاستغراق فى الماضي بقدر ما يعنى الكشف عن الإمكانيات المضيئة للماضي، والتى لا شك أنه يحملها. ويعنى أيضاً – وكما سبق القول – أن الخطوة للوراء ضرورية لكى نتطلع للأمام ونستشرف المستقبل. فماذا عن المستقبل غير الأصيل؟
إن المستقبل غير الأصيل لا يستبق، ومن ثم لا ينفتح على إمكانيته المستقبلية ولا التى كانت "إن المستقبل غير الأصيل له خاصية التوقع Gewärtigen ".(2) والتوقع لا يملك أفقاً للرؤية، وإنما هو دائماً يتوقع. وحين يضع الموجود الإنساني نفسه رهن التوقع يجعل وجوده تحت رحمة ما يسوقه التوقع، ولا يكون بإمكانه درء ما يجيء به المتوقع منه من تهديد؛ فنحن مثلاً نتوقع أن يسود طقس بارد ممطر غداً دون أن يكون بإمكاننا أن نحول دون برودة الجو أو المطر، ، لكن التوقع ليس هو الحالة الوحيدة للمستقبل غير الأصيل. بل إنه يحوى فى جعبته أشكالاً أخرى ومنها الترقب Erwarten "إن الترقب هو حالة لها أساس قوى فى التوقع للمستقبل"(3)، وإن كانت أصالته تتضمن درجة أقل من التوقع؛ لأن الموجود الإنساني فى حالة الترقب يمارس نوعاً ما من الاهتمام بالموضوع أو الموجود الذى يراقبه.
أما الـ "ماكان" الأصلى فهو عند هيدجر التكرار Wiederholung"، هو العود الأبدى لنفس الشيء، أى استعادة الوقوف فى المنفتح، أى الانفتاح على الوجود.
أما الـ "ماكان" غير الأصيل فهو النسيان.Vergessenheit والنسيان بوصفه "ما كان" غير أصيل يتعلق بالوجود الأصيل الملقي، أى أنه إمكانية موجودة فى وجود الموجود ولها أصالتها الوجودية كمكون سلبي. إن "النسيان ليس لا شيء ولا هو خطأ التذكر ، وإنما هو حالة تجاذبية إيجابية خاصة بـ ( ما كان)"(4)، بمعنى أن الموجود الإنساني يظل مرتبطاً بالماضى حتى حين ينساه، إنه قدره الذى يصاحبه أينما اتجه، والذى لا يمكنه أبداً أن يهرب منه، بل يجده وراءه أينما ذهب.
ويعبر هيدجر عن الحاضر الأصيل باللحظة Augenblick؛ فكيف تكون اللحظة تعبيراً عن الحاضر الأصيل؟ أليست اللحظة تمت بنسب أصيل للملاحظة التى قد ينظر إليها على أنها فعل سلبي غير أصيل ؟ بطبيعة الحال ليس الأمر كذلك، لأن هذا يعود إلى لغتنا العربية فحسب، أما كلمة اللحظة فى اللغة الألمانية فهى مكونة من مقطعين؛ Augen وتعنى عين، blick وتعنى نظر، فهم، بصر. وإن كان هيدجر يقدم لها تعريفاً من خلال التواجد فيقول: "إن التواجد اللحظى يزمن نفسه بوصفه امتداداً Erstrektheit قدرياً كلياً بالمعنى الأصلى، أى ديمومة مطلقة لنفسه".(2) فكأن اللحظة إذن هى بمثابة مداومة تلقى ما يلمح لنا عن نفسه بوصفه القدر الذى يملك وجودنا، إنه الوجود.
أما الحاضر غير الأصيل فهو الآن. ولا يفوت هيدجر أن يؤكد على أن التوقع والنسيان والترقب بل والسقوط هى جميعاً مكونات أساسية لوجود الموجود الإنساني، بمعنى أنه إمكانية يمكن أن يكونها. وهى بالطبع إمكانية أصيلة من حيث إن لها وجوداً، ولكنها غير أصيلة من حيث إنها مكون سلبى يمثل الحالة التى يكون فيها وجود الموجود الإنساني غير أصيل.
وإذا كان هذا شأن الأصالة وعدم الأصالة فماذا عن التاريخية والزمانية؟
الزمانية والتاريخية Zeitlichkeit und )Geschichtlichkeit:
( * تمتد حياة الموجود الإنسان بين نهايتين الميلاد، الموت. والموجود الإنساني بما هو موجود زمانى متناه يحقق تاريخيته بين هاتين النهايتين؛ فالوجود الأصيل للموت الذى يكشف عن الزمانية والتناهى هو الأساس المتحجب لتاريخية الموجود الإنساني. فعلى أى نحو تتشكل تاريخية الموجود الإنساني؟ هل حياة هذا الموجود عبارة عن حشد للوقائع والأحداث التى تملأ ما بين النهايتين؟يقول هيدجر: "الموجود الإنساني لا يتواجد بوصفه مجموع الحقائق الواقعية الراهنة التى تقع بعد بعضها البعض، أو الحوادث Eilebnissen المختفية" (1)، وإنما تتشكل حياة الإنسان بوصفها همًّا " وبوصفه هماً فإن الموجود الإنساني يكون هذه الـ بين والتى تمتد Erstreckt من الميلاد إلى الموت.بيد أن الأساس الممكن للهم يجد وحدته فى الزمانية، ومن ثم فإن حركة الموجود الممتدة بين الميلاد والموت يجب أن توضَّح فى أفق الحالة الزمانية لهذا الموجود.
ومن ناحية أخرى فإن الموجود الإنساني هو موجود وقائعي Facktisch، ومن ثم فإن تاريخيته لا يمكن أن تحددها الوقائع المادية أو حتى الثقافة ومظاهر التقدم، أو عبر ما يحققه من إنجازات فى فروع العلم المختلفة؛ لأن الربط بين تاريخ هذا الموجود ومثل هذه الوقائع والحوادث يقوم على أساس من فهم علاقة الذات / الموضوع، تلك الثنائية المتغلغلة فى كل شيء حتى التاريخ ولا يمكن بأى حال تصور التاريخ على هذا النحو فإذا جاز لنا أن نصف الوقائع الماضية بأنها تاريخية فإننا نتعرف لماذا ننعت بهذه الصفة نفسها الوقائع الحاضرة التى يجب أن تحدد التاريخ والواقع أن هذا ما نفعله أيضاً. فالصحف لا يفوتها أن تعلن مقدماً أن هذا الحدث حدث تاريخي".(3)لكن هذا لا يعنى أن نستبعد هذه الحوادث والوقائع من تاريخ الموجود الإنساني، بل يجب "النظر إلى وقائع التاريخ على أنها وقائع للوجود فى العالم".(4)
وفقاً لهذا الفهم وحده يمكننا أن نقول: "إن تاريخية الموجود الإنساني هى تاريخية ماهوية للعالم، والتى تنتمى للتزمن على أساس الزمانية الأفقية المتجاذبة ".(1)ولما كانت الزمانية الأصيلة تزمن نفسها أصلاً من المستقبل فكذلك الحال بالنسبة للتاريخية، فالتاريخية الأصيلة ما هى إلا الوقائع التى وقعت نتيجة للتصميم المستبق، وبهذا المعنى وحده تكون التاريخية أصيلة؛ إذ يرى هيدجر أن ما قدمناه حتى الآن فى الوقائع الملقاة فى التصميم المستبق يسمى التاريخية الأصيلة للموجود الإنساني.(2)
وغنى عن القول أن التاريخية التى يريد هيدجر أن يؤسسها هنا تاريخية فردية، وكل الأحداث والوقائع التى تحدث إنما تكتسب قيمتها التاريخية فقط بوصفها وقائع للموجود وليس بوصفها تاريخية فى ذاتها، أى أنها تكتسب تاريخيتها من الموجود.ويحاول هيدجر الربط بين التاريخ والمصير Schiksal . والمصير عند هيدجر لا يفهم إلا انطلاقاً من الانفتاح؛ إذ يقول " إن المصيرية Schiksalhaft فى انفتاحها التقليدي التواجدي تفتح الموجود الإنساني بوصفه وجوداً للعالم على ما يقابلنا فى الأحوال السعيدة وقسوة المصادفة" (2)؛ فالموجود الإنساني وإن كان يشكل تاريخه بانفتاحه على الوجود وباستباقه لذاته فى التصميم المستبق لابد أن يكون أيضاً عرضة لما يجابهه فى المصير؛ ربما لأن التاريخ والمصير ينتميان إلى أصل واحد من حيث اللغة؛ فالتاريخ Geschichte والمصير Schiksal من وجهة نظر هيدجر يعودان إلى الفعل Geschehen.
وعلى أية حال، إذا كانت الزمانية قد أوضحت لنا – بغض النظر عن اختلافنا مع هيدجر أو اتفاقنا معه – الأنحاء التى يكون بها الموجود كلياً وله خصوصيته الشديدة ومصيره الذى يجعله عرضة للانفتاح بين حدى الميلاد والموت؛ فقد آن الأوان لنرى كيف يكون الزمان عند هيدجر أفقاً للوجود.
الزمان بوصفه أفقاً للحضور Anwesen:
إذا كان هيدجر قد رفض استخدام كلمة الماضى Vergangenheit التى يعود أصلها إلى الفعل vergehen بمعنى ينقضى أو يزول، وفضل استخدام التصريف الثالث من الفعل Sein يكون أو يوجد Gewesen الذى يعنى "ماكان" ليحتفظ بمعنى الوجود أو الكينونة حتى فى الماضى، وقام بتقسيم كلمة الحاضر Gegen-wart على هذا النحو ليعبر عن أصلها الذى تعود إليه، فالمقطع الأول من الكلمة يعنى نحو أو تجاه، بينما المقطع الثاني من الكلمة يعنى حفظ أو صيانة أو حراسة، وكأن الحاضر صيانة أو حراسة أو حفظ ظاهرتى الزمانية الأخريين أى ماكان والمستقبل. كما قام بتقسيم كلمة المستقبل إلى Zu-kunft أى ما يقبل إلى؛ فقد كان هيدجر يسعى من وراء ذلك فى حقيقية الأمر إلى التقاط حدس لم يكن قد تكشف بعد بشكل كامل.
وإذا كان هيدجر قد قدم تأويلا للموجود الإنساني فى الزمانية فقد كان عليه أن يقدم تأويلاً للنحو الذى به يكون الزمان أفقاً للوجود. وفى محاضرته "الزمان والوجود"- التى تعيد إلى أذهاننا عنوان الفصل الثالث من القسم الأول من كتاب (الوجود والزمان) قدم هيدجر تناولاً لمشكلة الزمان وعلاقته بالوجود.
فعلى أى نحو تكون العلاقة بين الزمان والوجود؟ ومن أين تكون نقطة البدء لتناول هذه العلاقة القديمة الأصيلة فى نفس الوقت؟
يقول هيدجر:"إننا نسمى الزمان عندما نقول إن كل شىء له زمانه، هذا يعنى أن كل ما يوجد بالفعل وكل موجود يأتى ويذهب فى الزمان المناسب"(1)؛ و"ما يكون فى الزمان ويعرض نفسه ويتحدد من خلال الزمان نسميه زمانياً zeitlich"(2)، وهو ما يزول وينقضي بوصفه شيئاً. ؟ لكن ماذا عن الزمان ذاته؟ هل ينقضي مع الشيء الذى يزول؟ أم أن الزمان لا يتبدل ولا يتغير؟
إن اللغة عموماً لا تحدد بدقة ما إذا كان الزمان نفسه يمضى أم أن الموجود هو الذى يزول والزمان باقٍ.
والواقع أن "الزمان الأصيل Eigentlich هو ماهوياً خارج نفسه … إنه وجود خارج ذاته ولذاته"(1)، لكن كونه خارج ذاته لا يعنى بأى حال من الأحوال أنه شيء ما، وإنما هو وجود خارج ذاته خالص وبسيط. إن الزمان " أمر ما Sache ( * ) ربما يكون موضوعاً للتفكير، … لكنه ليس شيئاً زمانياً"(2)؛ إذ ليس بمقدورنا أبداً أن نقول إن الزمان موجود؛ لأنه لا يتعين ولا يتشخص، ونحن على أقصى تقدير نقول "هناك gibt Es زمان"(3)؛ فعلى أى نحو يكون الزمان المفهوم انطلاقاً من العطاء ؟ وكيف يعطى ؟ ومن الذى يعطيه؟ وعلى أى نحو يعطيه؟
إن ما يُعطَى فى هناك Es gibt هو الزمان نفسه فى خصوصيته، لكنه لا يعطى بوصفه شيئاً، وإنما بوصفه هبة، فمن الذى يهب الزمان بوصفه هبة ؟ إن ما يهب الزمان بوصفه هبة هو الضمير "هو " Es فى قولنا هناك زمان. وعلينا إذا أردنا أن نعرف الزمان فى خصوصيته sein eigen أن نفهم الإعطاء das beben فى هذا الـ هو Es. لكن علينا فى الوقت ذاته أن نتعجل الإجابة، فما حقيقة الضمير هو Es الذى يهب الزمان؟ إنه يعبر عن ذلك الحضور الذى لا يغيب أبداً ولا يحضر مطلقاً، والذى يبقي الزمان نفسه هبة له. ولكى يتضح هذا – علينا أن نبدأ من أمورنا الحياتية ولغتنا المستخدمة والتى تكشف عن إمكاناتها الثرية كلما اقتربنا منها بفهم؛ إننا نقول: "أقيم الحفل فى حضور in Anwesenheit جمع غفير من الضيوف".(4) ويمكننا أن نقول هذه العبارة بطريقة أخرى فنقول: " أقيم الحفل فى وجود imbeisein … جمع غفير من الضيوف؛ فما الذى يمكن أن يعن لنا من هذا القول عن الزمان؟
إن الحديث عن الحضور بطبيعة الحال يستدعى الحديث عن الحاضر Gegenwart، فما إن يذكر الحاضر إلا أخذنا نفكر فيه انطلاقاً من الماضى Vergangenheit والمستقبل zukunft ، أى بوصفه الآن الحاضر فى اختلافه عن الآن المتقدم früher والآن المتأخر Später؛ فهل يمكن أن يفهم الزمان انطلاقاً من الآن والذى " لا يكون ثلاثة أو مائة بل يكف لكى نفهمه أن نتصور اثنين: المتقدم والمتأخر"(2) ، بمعنى آخر هل يمكن أن تقرأ العبارة سالفة الذكر على النحو التالي: " أقيم الحفل ( فى آن im jetzt" جمع غفير من الضيوف"؟(3) بطبيعة الحال لا يمكن ذلك، فهنا لا يكون الحاضر الذى نفهمه من معنى حضور الضيوف مماثلاً لمعنى الحضور الذى يتبدى من "الآن"، ومن ثم فحين نتابع سبل الميتافيزيقا فى التفكير فإننا فى الحقيقة نسد الطريق أمام معرفة الزمان الأصيل.
والواقع أن "الزمان المعروف بوصفه آنات متتابعة بعضها تلو البعض هو ما يعنيه الناس عندما يقيسون أو يحسبون الزمان."(4) والزمان المحسوب أو المَقيس "لا يمكنه بأى حال من الأحوال أن يقربنا زلفى من ماهية الزمان؛ لأنه لا يفهم الزمان إلا انطلاقاً من المكان، ومن ثم يتصور الزمان على أنه نقاط من الآنات. والفهم العام للزمان – المكان zeitraum بمعنى المسافة المقيسة بين نقطتي زمان ما هو إلا نتيجة للزمان المحسوب. ومن خلال الحساب يتصور الباروميتر (أداة قياس الوقت) الزمان خطاً".(5) وهو يفعل ذلك على هدى من تصور أرسطو، والذى من العجيب أن يظل التصور الوحيد حتى بداية القرن العشرين، وهو فى نفس الوقت لا يعدو كونه تصور رجل الشارع للزمان.
فكيف إذن ينبغي أن نفهم الزمان ؟ إنما يجب أن نفهم الزمان بمعنى الحاضر كأفق للحضور "فما الذى يعنيه الحاضر كأفق للحضور؟ وما الأمر الذى نفكر فيه عندما نقول (حضور)؟"(1) غالباً ما يستدعى تأملنا لمعنى الحضور معنى الدوام Währen ، بيد أن الدوام قد يفهم من الاستمرار dauern الذى يعود إلى التصور المألوف للزمان بوصفه انسياباً مطلقاً؛ فكيف نفكر إذن فى الدوام؟
إننا يجب أن نفكر فى الدوام بمعنى البقاء Verweilen،( * ) صحيح أن الزمان يمر ويصير لكنه يبقى ليس بوصفه شيئاً ما أو موجوداً ما وإنما بوصفه البقاء الذى يهب ولكنه لكى يهب لابد أن يوجد من يوهب له وهنا يتبدى دور الإنسان؛ وإذا كان هيدجر قد قال فى كتابه (مفهوم الزمان) : " الموجود الإنساني هو الزمان والزمان زماني(2) فإنه عاد فى الزمان والوجود ليقول : إن الزمان لا يُعطى بدون الإنسان "(3) وعلى الرغم من الاختلاف الجوهرى الذى طرأ على تفكيره فالواقع أن الحاضر هو حاضر الإنسان والحضور هو الآخر ينسب إلينا "والإنسان يقف فى دنو Angang الحضور Antwesenheit، بل إنه هو الحضور بوصفه المستقبِل للهبة التى تعطى فى هناك Es gibt"(4)، وما لم يكن الإنسان على الدوام مستقبلاً للهبة من "هناك – زمان " فلن يصل أبداً إلى فهم معنى الهبة، وعندئذ "لن يكون الإنسان هو الإنسان Der mensch wäre nicht der mensch ".(5) إذ الواقع أن الإنسان وإن كان يقترب من فهم الزمان عندما يقول (ليس لدى وقت) فإنه فى اللحظة ذاتها قد ينظر إلى ساعته ويقول : "إنها الآن الساعة الثانية عشرة والنصف بعد الظهر مثلاً، فهل لا يخون الإنسان نفسه على هذا النحو؟
وإذا أردنا أن نعرف الحضور فعلينا أن نفهم أنه "ليس بالضرورة كل حضور حاضراً؛ لأن الحضور أمر نادر".(6) إنه من الممكن تماماً أن يكون الحضور غياباً، و "الغياب شأنه شأن كل حضور ينسب إلينا دائماً".(7) فكيف ينسب الغياب إلينا؟ وكيف يكون الحضور غياباً؟
إن نسب الغياب إلينا بمعنى " ليس بعد حاضراً Gegenwärtigen فى نمط حضور بمعنى ما يصل إلينا auf – uns – zukommens".(1)، أى أن الغياب الذى ينسب إلينا هو المستقبل الذى لم يصل إلينا بعد والمستقبل الذى لم يأت إلينا بعد " بوصفه ليس بعد حاضراً يمتد، وفى نفس الوقت يجيء ما لم يعد حاضراً، أى الماكان، بل ويمتد الماكان للمستقبل نفسه"(2) ، وهذا يعنى ببساطة أن "غياب ماكان (أى الماضى) كغياب المستقبل يظل نمطاً للمجيء فى الحضور الذى يواجهنا (3). وإذا كانت أبعاد الزمان الثلاثة تحضر فى الحضور "فليس من الممكن إسناد هذا إلى الحاضر وحده"(4) ، وإن كان من الصحيح أيضاً أن خاصية التبادل تمتد لكل منهما وتجيء فى نفس الوقت للحاضر".(5)
وإذا ما انتبهنا إلى تعبير (فى نفس الوقت Zugleich)، هذا التعبير الذى قلنا إنه من الواجب حذفه إذا أردنا أن نقف على الفهم الأصيل لمفهوم الزمان عند كانط؛ فسوف نجد أنه لا غنى عنه لفهم العلاقة بين المستقبل وما كان والحاضر "إننا نقول ( فى نفس الوقت) ونتحدث عماد يمتد لبعضه البعض Sich –einander-reichen – من المستقبل و ماكان والحاضر، هذا يعنى وحدتهم الخاصة بخاصية الزمان".(6) فكيف يمتد المستقبل وماكان والحاضر لبعضهم البعض؟ إن كلمة الامتداد Reichen الألمانية "تعنى حرفياً مدّ ، أى العرض بعمنى العطاء فى حركة عدد إلى الأمام والتى تحيل إلى فكرة قدرة ممتدة لسيطرة… الزمان. وكلمة Reichen هى من نفس جذر الكلمة اللاتينية Reg التى أعطت dirigere, Rex "(7).
وعلى هذا فالامتداد هنا هو الامتداد الذى يتيح للحضور أن يحضر وأن يهب هبته. وعبر هذا الامتداد وحده "تتأسس وحدة أبعاد الزمان الثلاثة فى مرور zuspiel كل منهم لكل منهم".(8) لكن هذا المرور الذى يمارسه المستقبل وماكان والحاضر "يبدو وكأنه البعد الرابع لهم، ليس فقط وكأنه، بل إنه فى حقيقة الأمر كذلك؛ فالزمان الأصلى Eigentliche ذو أربعة أبعاد".(1)
وهذا البعد الذى يعد البعد الرابع " إذا ما تأملنا حقيقته ملياً فسوف نجد أنه فى حقيقة الأمر البعد الأول، هذا يعنى أنه الامتداد المحدد للكل ".(2)؛ لأنه يقرب المستقبل وماكان والحاضر لبعضهم البعض، لذلك فهو فى حقيقة الأمر "المبدئ Anfänliche، وبالمعنى الحرفى الامتداد المبدئ An- fangend-Reichen، والذى فيه تتأسس وحدة الزمان الأصيل، أى القرب القريب، أى القرابة Die nähende nähe, nahheit".(2)
لكن الامتداد وإن كان يقرب هذه الأبعاد الثلاثة من بعضها البعض فإنه فى نفس الوقت يبعدها عن بعضها البعض؛ "لأنه يبقي ماكان مفتوحاً، ومن ثم فإنه يمنع verweigert مستقبله بوصفه حاضراً".(4) كما أنه "يبقي ما يجيء
x
هايدغر فيلسوف وجودي وتلميذ هوسرل الذي أخذ سارتر عنه بعض أفكاره له كتاب الحقية الفنية وبض الكتب الفلسفية الرائعة ومنها كتاب الوجود والزمان ، مدونة جميلة اتمنى أن تنشر المزيد عن هايدغر ، تحياتي لكم وشكرا لكم على موضوعكم
ردحذف